ان إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .
ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..
لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .
ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :
أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .
ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .
والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .
وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :
أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات
ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو
كتاب تساعيات إفلوطين :
وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :
ن إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .
ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..
لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .
ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :
أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .
ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .
والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .
وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :
أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات
ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو
كتاب تساعيات إفلوطين :
وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :
لوجود (الثالثة) (تسع 6 ميم 3)
45 – في الآبدية والزمن (تسع 3 ميم 7) .
ومن ثم يعلق فرفريوس :
وهكذا يكون في حوزتنا أربعة وعشرين رسالة ، تم تأليفها خلال السنوات الست التي لازمت فيها إفلوطين . والعناوين تدل على إن مثل هذه المشكلات قد أُثيرت في جلسات النقاش . وإذا أضفنا إليها الرسائل الإحدى والعشرين التي كتبها قبل وصولنا ، فإننا نمتلك خمس وأربعين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ؛ الفقرة رقم 5) .
ويضيف فرفريوس إليها خمس رسائل أخرى ، أرسلها إليه إفلوطين حينما كان يعيش (فرفريوس) في سيسلي . وجاءت بالشكل الآتي :
46 – في السعادة (تسع 1 ميم 4)
47 – في العناية (الإلهية) (الرسالة الأولى) (تسع 3 ميم 2)
48 – في العناية (الإلهية) (الثانية) (تسع 3 ميم 3)
49 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل (تسع 5 ميم 3)
50 – في الحب (تسع 3 ميم 5)
ويقول فرفريوس معلقاً على هذه الرسائل الخمس :
كتب إفلوطين هذه الرسائل الخمس ، وأرسلها إلي ، حيث كنت أعيش في سيسلي ، وقد كان حكم كالينيوس في السنة الخامسة عشر (فرفريوس الصوري المصدر السابق ، الفقرة رقم 6) .
وبحسابات التاريخ وإعتماداً على رواية فرفريوس المتعلقة بحكم الإمبراطور الروماني كالينيوس . فإن السنة التي أرسل له الرسائل ، كانت 268م
أي قبل وفاة الأستاذ إفلوطين بسنتين (ومعلوم إن وفاته كانت في العام 270م) . ولكن هذه التواريخ لا تتناغم مع التواريخ التي ذكرها فرفريوس سابقاً ، وخصوصاً تاريخ لقائه الأول بالمعلم إفلوطين والذي حدث عندما كان إفلوطين في التاسعة والخمسين وبالتحديد في السنة العاشرة من حكم كالينيوس كما ذكر فرفريوس .(وإن حكم كالينيوس إستمر خمسة عشر سنة إمتدت من عام 253 وإلى موته في العام 268م) أي إن فرفريوس إستلم الرسائل الخمس قبيل موت أستاذه بسنتين .
ومن الثابت لدينا وفقاً لرواية فرفريوس إنه لازم إفلوطين في روما مدة ست سنوات ، وسافر إلى سيسلي وظل بعيداً عن الأستاذ مدة خمس سنوات ، وثم عاد إلى روما عندما سمع أخبار موت إفلوطين في العام 270 م . ويبدو لنا إن هناك مشكلة تاريخية ليس لها حل حسب رواية فرفريوس .
وللتبسيط نبينها بالشكل الآتي :
إنه قابل إفلوطين وكان عمر المعلم :
59 عاماً + 6 سنوات ملازمة في روما + 5 سنوات في سيسلي وعاد إلى روما عام 270 م وهو تاريخ موت المعلم إفلوطين والذي مات وعمره حسب رواية فرفريوس 66 عاماً .
والحقيقة إن عمر إفلوطين لحظة موته حسب التواريخ التي ذكرها فرفريوس أعلاه ، كان سبعين عاماً وليس كما ذكر فرفريوس الصوري .
أو حل التناقض بقبول الرأي القائل بأن هناك شك حول السنوات الست التي لازم فيها فرفريوس إفلوطين في روما . أو ربما إن فرفريوس وقع في خطأ عندما ذكر إنه عاش في سيسلسي مدة خمس سنوات أو إن فرفريوس أخطأ في حساب الفترتين ؛ فترة الملازمة في روما والفترة التي قضاها في سيسلي . ولذلك كله نحن نقتنع بأن فرفريوس مات عام 270 وعمره ست وستين عاماً وخلاف ذلك هو محض تقدير خاطئ للتواريخ من قبل فرفريوس .
وبعيد سطر واحد فقط ، يقول فرفريوس ما نصه :
وتلك الرسائل الخمس ، قد أرسلها إفلوطين في السنة الأولى من حكم كلوديوس (وهو الإمبراطور الروماني كلوديوس الثاني (213 – 270) وكان إمبراطوراً من 268 وإلى 270) (المصدرالسابق) أي سنة 268 وهي سنة موت كالينيوس وصعود كلوديوس .
ثم يتابع فرفريوس قائلاً :
وفي الأشهر الأولى من السنة الثانية (من حكم كلوديوس ، أي عام 269) وقبيل موته بقليل (وللصدفة فإن الأثنين ؛ كلوديوس وإفلوطين ماتا في عام 270) إستلمت الرسائل الأربعة الآتية :
51 – في الشر (تسع 1 ميم 8)
52 – فيما إذا كان للنجوم فعاليات سببية (تسع 2 ميم 3)
53 – في الحي (أو الأحياء) (تسع 1 ميم 1)
54 – في السعادة (تسع 1 ميم 7) (المصدر السابق) .
وفي نهاية هذا الطرف من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، بين حقيقتين :
الأولى – إن مجموع رسائل إفلوطين التي في حوزتنا الآن هي أربع وخمسين رسالة . وبلسان فرفريوس ” إذا أضفنا الرسائل التسع الأخيرة إلى الرسائل الخمسة والأربعين ، وهي رسائل المجموعتين الأولى والثانية ، فإن المجموع أربعة وخمسين ” (المصدر السابق) .
الثانية – إن رسائل إفلوطين تتفاوت في قوتها ودرجة نضوجها . وعلى هذا الأساس وزعها فرفريوس في ثلاث مراحل مرت بها عملية الكتابة الإفلوطينية ؛ أولاً رسائل المرحلة المبكرة ، والتي شملت الرسائل الإحدى والعشرين الأولى . وحسب رأي فرفريوس إنها كشفت عن قدرة بدرجات ما ، ودللت على صور من الذكاء . ولكنه لم يصل إلى درجات عالية من النضوج . مع قوة تصاحبها حساسية وتوتر. ثانياً رسائل المرحلة المتوسطة ، والتي ضمت رسائل المجموعة الثانية ، والتي تكونت من أربع وعشرين رسالة ، تميزت بالقوة العالية . ما عدا الرسائل القصيرة التي إتصفت بالكمال . ثالثاً رسائل المرحلة المتأخرة ، والتي تكونت من الرسائل التسع الأخيرة . وقد حملت هذه الرسائل شواهد على بداية الضعف في قوى إفلوطين العقلية . بل ويرى فرفريوس بأن هناك إختلافاً ملحوظاً حتى ما بين الرسائل الأربع الأخيرة مقارنة بالرسائل الخمسة التي تتقدم عليها . فمثلاً نلحظ إن الحماس كان أقل في الرسائل الأربعة الأخيرة مما هو عليه في الخمسة الأولى (المصدر السابق) . كان هذا هو تاريخ تأليف الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين ، والتي كونت محتوى كتاب التساعيات الستة حسب رواية فرفريوس . أما قصة الخطة التي إقترحها فرفريوس لترتيب كتاب التساعيات ، فهي موضوع المحور القادم .
خطة فرفريوس في ترتيب ونشر كتاب التساعيات :
في الفقرة الرابعة والعشرين من كتابه ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” أفصح فرفريوس عن خطته الشاملة في ترتيب كتاب التساعيات ومن ثم إعداده للنشر . وهذه الخطة تكشف عن رؤية التلميذ الأكاديمية العالية لعمل الأستاذ المعلم . وهنا نسعى إلى توفير بعض الحقائق المتعلقة بخطة فرفريوس ، وبالنقاط الآتية :
أولاً – يعلن فرفريوس بصراحة إن المعلم إفلوطين طلب منه أن يقوم بترتيب التساعيات ، وكان ذلك بالتحديد ” في حياة إفلوطين ” . وبالمقابل إن فرفريوس تعهد لإفلوطين ” والحلقة المحيطة به ، على إنه سيقوم بإنجازها ” (فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله / الفقرة رقم 24) .
ثانيا – يعترف فرفريوس بأنه قام بمراجعة جميع رسائل المعلم إفلوطين . كما إنه ضمناً إعترف بأن هناك أمامه خيارين في الترتيب تقدمهما الرسائل بحد ذاته . الخيار الأول منطقي (أي هناك إمكانية لترتيبها وفق الإعتبارات المنطقية أو التتابع المنطقي) . والخيار الثاني تاريخي زمني (اي ممكن ترتيب الرسائل وفقاً لزمن كتاباتها) . والذي حدث إن فرفريوس أهمل الخيارين ، فلم يأخذ بالتتابع المنطقي ولا بتاريخ كتابة الرسائل معياراً منهجياً في الترتيب (المصدر السابق) .
حقيقة إن نشرة فرفريوس قد تجاهلت التاريخ الذي كتب فيه إفلوطين رسائله . والتاريخ مفتاح مهم في فهم درجات التطور والنمو الفلسفي الواقع خلال عملية التأليف . وهذه مسألة مهمة قد لا يجدها الباحث في نشرة فرفريوس لكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس وفر لنا بنفسه فرصة لقراءة التساعيات من وجهة نظر تاريخية ، خصوصاً في الفقرات الرابعة والخامسة والسادسة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله (أنظر المحور السابق من هذا البحث) .
ثالثاً – إعترف فرفريوس بصدق بأنه بعد إن أهمل الخيارين ؛ التتابع المنطقي للرسائل ، وتاريخ كتابتها ، فأنه أخذ وتابع المنهج المتوافر في بعض النصوص السائدة . فقد كانت أمام ناظريه حالات تشبه حال مؤلفات إستاذه إفلوطين . وقد رتبها ونشرها تلاميذ وحواريين مثل حال فرفريوس الصوري . وحقيقة إن فرفريوس قدم لنا كشفاً عن هذه المؤلفات . منها أعمال الشاعر اليوناني ” باكروس ” (عاش مئة عام وللفترة مابين 550 و450 ق.م ، وقد جاء ذكره عند إفلاطون في محاورة جورجياس ، وعند أرسطو في كتاب الشعر . أنظر: أم برنارد ؛ تاريخ كيمبريدج للأدب الكلاسيكي (الأدب اليوناني) 1985 / الفصل الثاني عشر ، ص 367) . والتي قام بنشرها المؤرخ الإسكندراني – الأثيني ” أبلودورس ” في عشرة مجلدات (ولد عام 180 ومات بعد عام 120 ق.م ، وهو عالم نحوي وباحث يوناني ، وكان من طلاب الفيلسوف العراقي ديوجانس البابلي (الرواقي ورئيس المدرسة الرواقية في أثينا ، وأبلودورس هرب من الأسكندرية وإستقر في أثينا . أنظر: سيمون هورن بلور : أبلودورس الأثيني ؛ معجم أكسفورد الكلاسيكي ، نشرة مطبعة جامعة أكسفورد 1996 ، 124 وما بعد) .
وكذلك كانت أمام أنظار فرفريوس أعمال الفيلسوف أرسطو (384 – 322 ق.م) وأعمال خليفته على المدرسة المشائية الفيلسوف المشائي ثيوفروتس (371 – 287 ق.م) والتي قام بتصنيفها ونشرهما على أساس الموضوعات الفيلسوف المشائي إندرنيقوس (إزدهر عام 60 ق.م ، وهو فيلسوف من رودس ، ورئيس المدرسة المشائية في روما حوالي عام 58 ق.م أنظر: هيك كسهولم ؛ الموسوعة البريطانية ، نشرة مطبعة جامعة كيمبريج 1911 ، ط 11) .
وفعلاً فإن كل من أبلودورس وإندرنيقوس قد وفرا سوية نصوصاً رتبت ونشرت على أساس الموضوعات . وهذا المنهج سيتبناه فرفريوس الصوري ويشتغل عليه في ترتيب ونشر رسائل المعلم إفلوطين . يقول فرفريوس صراحة :
لقد تبنيت خطة مشابهة (فرفريوس الصوري : المصدر السابق) .
أما عن خطته في ترتيب ونشر التساعيات ، والتي ركز الحديث عنها في الفقرات الثلاثة الأخيرة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله ، وهي الفقرات الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين والسادسة والعشرين ، فيقول بلسانه :
كانت رسائل إفلوطين الرابعة والخمسين أمامي ، فقمت بتقسيمها إلى ست مجموعات . وكل مجموعة تألفت من تسع رسائل . وهو ترتيب أسرني كثيراً ، وذلك لأنها سعادة مرتبطة بالتكامل ما بين العددين 6 و 9 . وكل تساعية عالجت موضوع واحد
وبصورة عامة . ولهذا تميزت النشرة ببساطة في تقديم موضوعات الرسائل (المصدر السابق) . وهكذا كانت هناك تساعية عالجت موضوعات الأخلاق ، وأخرى ركزت على الفيزياء … وهذا ما سنبينه بالشكل الذي رتبه فرفريوس الصوري :
التساعية الأولى : وإعتماداً على الخطة ، فأن معظم رسائل هذه التساعية تركز على الأخلاق ، وهي :
1 – في الحي والإنسان
2 – في الفضائل
3 – في الجدل
4 – في السعادة
5 – هل السعادة تعتمد عل طول الوقت
6 – في الجمال
7 – في الخير الأولي والأشكال الثانوية للخير
8 – في الشر
9 – في هوامل المعقولات من الحياة
التساعية الثانية : وهي ذات طبيعة فيزيائية ، وتتكون من رسائل حول العالم وما يتعلق به . وهي :
1 – في العالم
2 – في الحركة الدائرية
3 – هل للكواكب تأثيرات سببية
4 – في نظامي المادة
5 – في الإمكانية والواقعية
6 – في الكيفية والصورة
7 – في الوحدة (أو الإتحاد)
8 – لماذا تظهر الأشياء البعيدة صغيرة
9 – ضد الذين يدعون إن خالق العالم ، والعالم ذاته هما شران
التساعية الثالثة : وهي إستمرار لموضوع العالم ، وتتضمن معالجة فلسفية لبعض مظاهره . وهي :
1 – في القدر
2 – الرسالة الأولى في العناية
3 – الرسالة الثانية في العناية
4 – في أرواحنا الحارسة
5 – في الحب
6 – في عدم إمكانية اللامادي من الشعور بالألم
7 – في الزمن والأبدية
8 – في الطبيعة ، والتأمل والواحد
9 – أسئلة متنوعة (المصدر السابق) .
قدم فرفريوس في الطرف الأول من الفقرة الخامسة والعشرين ، بياناً كشف فيه الأسباب ، وعرض التبريرات التي حملته على نقل بعض الرسائل إلى التساعيات الثلاثة الإولى . فيقول :
إن التساعيات الثلاثة الأولى تؤلف وحدة منسجمة . فمثلاً إن رسالة في أرواحنا الحارسة ، قذ نقلت إلى التساعية الثالثة ، وذلك بسب إن الروح لم تعالج كموضوع بحد ذاته ، وإنما جاءت مقالة تصنف تحت مضمار أصل الإنسان . والشئ ذاته فيما يتعلق برسالة في الحب . أما رسالة في الزمن والأبدية ، فقذ نقلت إلى التساعية الثالثة بسبب إنها ركزت على الزمن . والحال كذلك بالنسبة لرسالة في الطبيعة ، والتأمل والواحد ،فكان نقلها بسبب تركيزها على الطبيعة ( المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .
أما التساعيتان الرابعة والخامسة ، فلهما قصة أخرى . وهذا ما سيتم معالجته .
التساعية الرابعة : وتتضمن رسائل عالجت موضوع النفس . وهي :
1 – في جوهر النفس (رسالة رقم 1)
2 – في جوهر النفس (رسالة رقم 2)
3 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 1)
4 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 2)
5 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 3)
6 – في الحواس والذاكرة
7 – في خلود النفس
8 – في هبوط النفس إلى الأجسام
9 – هل النفوس واحدة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .
التساعية الخامسة : وتكونت من عدة رسائل درست مضمار النفس ؛ منها رسائل ركزت على المبدأ العقلي . وفيها معالجة لصعود الكل إلى المبدأ العقلي في النفس ، وإلى الأفكار . وهي:
1 – في الأصول (المبادئ) الثلاثة الأولية (الشرح منا : وهي عند إفلوطين : الواحد ، العقل والنفس)
2 – في أصل نظام عالم ما بعد الأوليات
3 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل
4 – كيف يصدر ما بعد الأولي عن الأولي ، وفي الواحد
5 – إن المعقولات لا توجد خارج المبدأ العقلي ، وفي الخير
6 – إنه لا يوجد فعل عقلي يتعالى على الموجود الحقيقي ، وفي الطبيعة فهناك فعل عقلي أولي وأخر ثانوي
7 – هل هناك أفكار للجزئيات
8 – في الجمال العقلي
9 – في المبدأ العقلي ، في الأفكار ، والموجود الحقيقي (المصدر السابق )
ومن ثم يعلن فرفريوس بأنه رتب التساعية الرابعة والخامسة على أساس إنهما يبحثان في مضمار واحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) . ووفقاً لفرفريوس فإن التساعية السادسة تؤلف لوحدها مضماراً مستقلاً . وعلى هذا الأسس ذهب إلى إن عمل إفلوطين برمته يتوزع تحت ثلاثة مجالات ؛ الأول ضم التساعيات الثلاثة الأولى . والثاني تكون من التساعية الرابعة والخامسة . والثالث جاء ليشمل التساعية السادسة (المصدر السابق) .
التساعية السادسة :
ونود هنا أن نلفت أنظار القارئ إلى إن أرباكاً قد أصاب أرقام أقسام أو ميامر التساعية السادسة أو ترتيب رسائلها . ففعلاً قد وقع خطأ في ترتيب الرسالة الأولى والتي تبحث في أنواع الوجود ففي الترتيب التاريخي منحها رقم 6 (ومنح رقم 6 لرسالة في الأعداد كذلك والتي جاءت في الترتيب التاريخي تحمل الرقم 34). ولعل الخطأ أصبح واضحاً وهو إن الرسالة الأولى في أنواع الوجود كان من المفروض أن تحمل الرقم 1 بدلاً من 6 الذي سبب الأرباك . وفعلاً إن فرفريوس في خطته الخاصة في ترتيب التساعية السادسة منحها الرقم 1 . ونحسب إن الخطأ وقع في الترتيب التاريخي (ولذلك ندعو القارئ والباحث إلى مقارنة الترتيب التاريخي للرسائل التي تحمل الأرقام 42 ، 43 ، 44 ، والخطأ وقع في رقم رسالة 42 . وقارن ذلك بمكونات التساعية السادسة ، الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله). ويبدو لنا إن فرفريوس أدرك هذا الإرتباك ولكنه حله بدمج رسائل أنواع الوجود الثلاثة في ثلاثة أرقام متتالية (1 ، 2 ، 3) .
وتكونت التساعية السادسة حسب ترتيب فرفريوس ، من الرسائل الأتية :
1 ، 2 ، 3 – في أنواع الوجود . وأفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ووضعها بما ينسجم وخطة فرفريوس التي خرج عليها هنا وبالشكل الآتي :
1 – في أنواع الوجود (الرسالة الأولى)
2 – في أنواع الوجود (الرسالة الثانية)
3 – في أنواع الوجود (الرسالة الثالثة)
ومثلما حدث مع الرسائل الثلاث الأولى ، حدث مع الرسالة الرابعة والخامسة والتي دمجهما معاً وبالشكل الآتي :
4 ، 5 – الموجود الحقيقي كلي وواحد ، والوحدة الذاتية للمتشابهات (وفي الترتيب التاريخي جاءتا مستقلتين (أنظر الترتيب التاريخي أعلاه ، وبالتحديد الرسائل التي تحمل الأرقام : 22 ، 23 والذي نهض على إتفاق بين فرفريوس وإميليوس تلميذ إفلوطين لمدة ثمانية عشر سنة قبل أن يأتي فرفريوس إلى روما ويقابل إفلوطين . إن دمجهما معاً يثير سؤال مهم يتعلق بمصداقية رواية فرفريوس حول الإتفاق بينه وبين إميليوس . ويبدو هنا إن فرفريوس تخلى عن قواعد الإتفاق . وهذه مسألة ثانية تثير الحيرة ؛ فهناك ضاع دفتر ملاحظات إميليوس ، وهنا تخلى فرفريوس عن الإتفاق بينهما في تحديد هوية الرسالة 22 و الرسالة 23 وهي الرسائل التي كتبها إفلوطين عندما تمتع بإجازة صيفية حسب إميليوس الحاضر وفرفريوس الغائب) . ونحن نفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ، وترتيبهما حسب خطة فرفريوس في ترتيب رسائل التساعية السادسة وبالشكل الآتي :
4 – الموجود الحقيقي كلي وواحد
5 – الوحدة الذاتية للمتشابهات
6 – في الأعداد
7 – في وجود الوفرة في الأفكار ، وفي الخير
8 – في الإرادة الحرة ، وإرادة الواحد
9 – في الخير أو في الواحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) .
وفي ختام الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، أعلن فرفريوس عن بعض الأفكار البالغة الأهمية ، والمتعلقة بدوره في ترتيب كتاب التساعيات ، والإضافات التي ضمها إليه ، ووضع الشروح عليها . كما إنه صرح بأن في ترتيب رسائل التساعيات ، عاد إلى الترتيب التاريخي . ومن ثم راجع عمل إفلوطين بشكل شامل ، ووضع الفواصل بين جمل النص ، وصحح بعض الأخطاء في الأفعال . فقال :
وهكذا فإن ما قمت بترتيبه من (عمل إفلوطين برمته) أربع وخمسين رسالة . وقمت بترتيبها في ست مجموعات ، وكل مجموعة ضمت تسع رسائل . وقد أضفت لبعض الرسائل شروحاً معمقة ، وذلك إستجابة لطلب الأصدقاء ، وسؤالهم عن إيضاح هذه النقطة أو تلك . وأخيراً وضعت موجزاً لكل رسالة من مجموع رسائل إفلوطين (ما عدا رسالة في الجمال) . وقد رتبت الرسائل إعتماداً على المنهج التاريخي . وسيجد القارئ إضافة إلى الموجزات ، نمواً وتطوراً . كما أني إتبعت المنهج التاريخي في ترقيمها . ومن ثم قمت بمراجعة العمل برمته ، فوضعت الفواصل (الفوارز) وصححت الأخطاء في الأفعال وما ورد في النص . والقارئ سيلاحظ ذلك بنفسه (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وعمله ، الفقرة رقم 26) .
ولعل من الملفت للنظر إن النشرات المعاصرة لكتاب التساعيات ، قد إستسلمت لرؤية التلميذ فرفريوس ، ولم تتمكن أن تتجاوز خطته المنهجية الأكاديمية العالية قيد أُنملة على الإطلاق ، سواء في نشرته اليونانية (ومعلوم إن المعلم والتلميذ كانت ثقافتهم ولغتهم اليونانية) أو الترجمة الإنكليزية . فمثلاً نشرها باليونانية الأستاذ ” كيرشوف ” في لايبزك عام 1856 . كما نشره باليونانية مع ترجمة مقابلة بالإنكليزية وشروح مضافة الأستاذين ستيفن ماكينا وب. أس بيج ، وبعدة مجلدات وللفترة الواقعة ما بين عامي 1917 و 1930 . ثم توالت النشرات لأجزاء من التساعيات وتحت عناوين منتخبة من نشرة فرفريوس الأصلية الأولى . حقيقة إن أقل ما يقال عن التساعيات إنها موسوعة فلسفية كبيرة عكست تطورات فلسفية ، أسهم فيها نومنيوس الأفامي السوري ، وأمونيوس ساكس الإسكندراني ، وتتوجت في رسائل هذه الموسوعة التي كتبها إفلوطين ، والتي لعب التلميذ البار فرفريوس الصوري ، دوراً غير إعتيادي في جمعها ، وترتيبها ووضع الشروح لها ، وكتابة مقدمة لها .
فعلاً لقد كانت التساعيات الإنجيل الروحي للحركة الفلسفية الجديدة التي سيقودها التلميذ فرفريوس الصوري بعد موت الأستاذ ، والذي كان يحمل الأمل في قلبه وضميره في قيام هذه الحركة – المدرسة الفلسفية التي ستملأ القرون الثالث والرابع والخامس .. وحتى إغلاق جوستنيان لمدارس الفلسفة عام 529م ، وإتهام الفلاسفة بالهرطقة ، ومن ثم طردهم خارج الإمبراطورية .. ورغم فعل جوستنيان السلبي على الفلسفة والفلاسفة ، فإن أثر الحركة الفلسفية التي ولدها كتاب التساعيات إمتد إلى عصر النهضة (الرينسانس) الإيطالية على أقل تقدير ، والتي سيطلق عليها كتاب العصر الحديث إصطلاح الإفلاطونية المحدثة .
تعقيب :
هذا هو أصل التساعيات التي كتبها إفلوطين أو ” الشيخ اليوناني ” كما يطلق عليه العقل العربي الإسلامي في عصور ما يسمى بالوسطى . ولكن الذي وصل إلى دائرة التفكير الفلسفي العربي الإسلامي في المشرق ، بعض من التساعيات تحت عنوان منحول ، أو كتاب منحول هو أثولوجيا أرسطو . وتعامل الفلاسفة (الكندي والفارابي وإبن سينا .. ) أو ما أطلق عليهم خطأً بالفلاسفة الإسلاميون المشائيون ، على إنه كتاب ألفه فيلسوف إسطاغيرا . وخصوصاً الفارابي الذي قارب على أساسه بين الحكيمين أرسطو وإفلاطون ، وبين الفلسفة والشريعة أو العقل والوحي . ولعل كتاب الفارابي ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” شاهد على دور المنحول في مشروع الفارابي الفلسف
ثانياً – مضمون كتاب التساعيات :
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
نحاول أولاً أن نذكر بعض الحقائق المتعلقة بالمؤلف إفلوطين وكتابه ، ومن ثم ننتقل للإشارة إلى بعض الملاحظات التي تركها فرفريوس الصوري حول نظام نشر الكتاب واخيراً ننتقل إلى مضمون كتاب التساعيات .
بعض الحقائق عن المؤلف إفلوطين وكتابه :
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تلقى إفلوطين تعاليم أستاذه الفلسفية “أمونيوس ساكس” الشفهية وعمل على تطويرها في محاضراته التي كان يلقيها على طلبته وخصوصاً تلميذه فرفريوس الصوري ، والتي تركها على شكل ملاحظات غير كاملة وغير منشورة . مات إفلوطين وفرفريوس الصوري كان مريضاً يعاني من حالة إعتلال صحي ، وترك إفلوطين في روما وذهب إلى سسيلي للعلاج والراحة بناءً على نصيحة أستاذه إفلوطين ، وظل هناك بعيداً عن إفلوطين مدة خمس سنوات .
إن من الشائع عن إفلوطين ، إنه كان مهملاً في ترتيب محاضراته ، ولم يعتني بتصحيح الأخطاء التي تقع فيها . إضافة إلى إنه لم يخطط إلى ضمها في كتاب ، فتركها على صورة ملاحظات (مشروع مقالات وكان إفلوطين حريصاً على سرية تداولها بين طلابه ومحبيه) يعتمد عليها في إلقاء محاضراته . كما إنه غالباً ما يترك مهمة تصحيحها وترتيبها على عاتق تلميذه فرفريوس الصوري .
عاد فرفريوس إلى روما فقام بإلقاء المحاضرات في الفلسفة . ومن ثم بدأ بجمع رسائل أستاذه إفلوطين ، ونقحها ووضع لها مقدمة ونشرها مع سيرة إفلوطين في العام 270 م . وفرفريوس هو الذي وضع لها عنوان ” التساعيات ” وهو العنوان الذي أستنبطه من رسائل إفلوطين ذاتها . وفعلاً فأن كتاب التساعيات جاء بنشرة فرفريوس يتألف من ستة تساعيات ، وأحسب إن لمسات فرفريوس واضحة على الكتاب . كما إن مقدمة الكتاب التي كتبها فرفريوس ، هي في الحقيقة بيان بعث للإفلاطونية المحدثة على يديه وبعزمه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ حقيقة تساعيات إفلوطين وإسطورة أثولوجيا أرسطو ، قيد الإنجاز) .
إن فرفريوس أسس تقليداً فلسفياً سيتبلور لاحقاً في صورة مدرسة فلسفية ، هي المدرسة الإفلاطونية المحدثة ، فبعد العودة من سيسيلي ، ونشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية لإفلوطين ، أخذ يقدم المحاضرات في الفلسفة ، وبدأ يتهافت عليه الطلاب من روما أو من الخارج ، فمثلاً مارسللا زوجته كانت طالبة مواضبة على حضور محاضراته ، بالإضافة إلى حضور طالبتين أخريين . كما أن أمبيلكوس السوري كان طالباً مواضباً على حلقته الفلسفية . ومن المعروف إن الفيلسوف الإفلاطوني المحدث إمبيلكوس سيقود المدرسة بعد موت فرفريوس ، وبعد موت إمبيلكوس سيسير على الدرب الإفلاطوني المحدث عدد من ورثة إمبيلكوس .
وعلى هذا الأساس يصبح فرفريوس الصوري هو المسؤول تاريخياً عن الإعلان الفلسفي عن إنبثاق حركة فلسفية جديدة ، هي الإفلاطونية المحدثة وذلك عندما قام بنشر كتاب ” التساعيات ” (أنظر: أرمسترونك ؛ إفلوطين ، نشرة مطبعة جامعة هارفارد 1966- 1988 وهو سبعة مجلدات) ، والذي تحول لحظة نشره إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة ، والتي سيطلق عليها إصطلاح ” الإفلاطونية المحدثة ” .
ومن زاوية المصادر الغربية الحديثة ، وعلى الأقل المصادر الأنكليزية وما ترجم إليها ، فأنها ترى إن فرفريوس قد لعب دوراً تاريخياً في التعريف الواسع بإسم أستاذه إفلوطين وذلك من خلال كتابة سيرته ومن خلال نشر كتاب التساعيات والشرح الممتاز الذي قدمه لفلسفة إفلوطين سواء في المقدمة التي كتبها لكتاب التساعيات أو في محاضراته وكتبه الأخرى . ولعل الشاهد على ذلك الأثر الذي تركه فرفريوس على الفيلسوف الإفلاطوني المحدث أمبيلكوس وورثته ، والذي درس الفلسفة على يد فرفريوس الصوري ، ونحسب إن محور دروس فرفريوس كانت فلسفة إفلوطين .
وأخيراً فقد لاحظ روبرت بيركمان إن هناك عدداً من الكتاب في عالم الثقافة الرومانية ، وعالم الثقافة اللاتينية ، والثقافة البيزنطية المسيحية ، من يعبر عن إعجابه وخوفه في الوقت ذاته من فرفريوس الصوري . كما وإن رؤية فرفريوس الخاصة للفلسفة الإفلاطونية المحدثة قد فرضت هيمنتها على دوائر التفكير الفلسفي في العالم الغربي وحتى القرن التاسع عشر (أنظر: فرفريوس ضد المسيحيين ، الفصل الأول ، ص 2) . ونحسب إن كل هذه الجوانب تركت أثارها على كتابات التساعيات ، الذي جمعه ونشره تلميذ إفلوطين ” فرفريوس الصوري ” هذا طرف من القضية ، والطرف الثاني سيأتي الحديث عنه في الفقرة الآتية .
دور فرفريوس الصوري في ترتيب كتاب التساعيات :
☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆
كتب فرفريوس الصوري سيرة إفلوطين ، وملاحظات حول الكيفية التي إتبعها في ترتيب كتاب التساعيات . وكان عنوانها المترجم إلى اللغة الإنكليزية ” فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله ” (ترجمه عن اليونانية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة الأمريكية 1984) . وإن المتصفح لهذا الكتاب ، يقف على الحقائق الآتية :
أولاً – إن إفلوطين حسب رواية فرفريوس منحه تفويضاً في مراجعة مايكتب . يقول فرفريوس الصوري :
أنا فرفريوس الصوري ، واحد من أصدقاء إفلوطين المقربين ، وكان إفلوطين يفوضني على مراجعة ما يكتب (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله ، ترجمه من اليونانية إلى الإنكليزية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة 1984 ، الفقرة رقم 7) .
ثانياً – إن المعلومات التي قدمها لنا فرفريوس ، تؤكد بشكل واضح على إن هناك عدداً من الطلبة قد سبقوا فرفريوس في ملازمة الأستاذ إفلوطين . منهم ” إميليوس ” ، والذي كان أحد المصادر المهمة لكتابة ” حياة إفلوطين وترتيب أعماله ” . خصوصاً في ناحيتين : الأولى إن إميليوس كان شاهد عين على حياة إفلوطين ولمدة ثمانية عشر عاماً حتى لحظة وصول فرفريوس إلى روما ، ومقابلة المعلم إفلوطين . الثانية إن فرفريوس الصوري بنفسه يذكر بإن إميليوس قد ألف كتاباً عن أستاذه الأول ” نومنيوس الأفامي السوري ” ، وإشتغل على ترتيب أعماله ، وهذا الكتاب تكون من مئة رسالة ، وبعد إكماله قدمها لولده بالتبني ” هوستيالينوس الأفامي السوري ” .
والسؤال : ماذا يعني هذا ؟ يعني إن إميليوس قد سبق فرفريوس في هذا النوع من الكتابة ، وإن كتابه عن أستاذه نومنيوس ، سيكون موضوع تفكير فرفريوس ، حين سيباشر في التأليف عن حياة إفلوطين وترتيب عمله ،إضافة إلى إن إميليوس كان يحمل معه دفتر ملاحظات ، يسجل فيه يوميات إفلوطين ، وبالتأكيد هذه اليوميات مصدر معرفي في غاية الأهمية . إلا إن فرفريوس يفاجئنا عندما يعلن عن ضياعه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ ملاحظات منهجية حول كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله “) . يقول فرفريوس الصوري ما نصه :
وصلت إلى اليونان في السنة العاشرة من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” وبرفقة إنطونيوس الروديسي ، ووجدنا إميليوس برفقة إفلوطين ما يقارب الثمانية عشر عاماً . وكان ينقص إميليوس القدرة على كتابة أي شئ ، ما عدا إنه كان يحمل دفتر ملاحظات ضاع وإنطمر بعد ذلك ، وكان إفلوطين في التاسعة والخمسين عندما قابلته كنت في الثلاثين (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق / الفقرة رقم 4) .
ثالثاً – يعلن فرفريوس الصوري عن مسألة في غاية الأهمية ، تتعلق بشخصية المؤلف إفلوطين ، فقد ناهز الخمسين من عمره ولم يكتب شيئاً (وصل إفلوطين إلى روما ، وهو في الأربعين زائداً عشر سنوات ، وهي الفترة التي لم يكتب فيها) . ونحسب إن في رواية فرفريوس إشكال ؛ ففريوس كان غائباً هذه الفترة ، وبعيداً عن روما وحياة المعلم إفلوطين . والسؤال : ما هي المصادر التي إعتمد عليها في كتابة هذه الرواية ؟ حقيقة إن فرفريوس كتبها دون أن يذكر شيئاً . ونظن إن مصدره إميليوس أو كتاب ملاحظات إميليوس الذي ضاع وإنطمر. وإن هذه المسألة تظل مفتوحة لقبول أراء أخرى .
يقول فرفريوس الصوري عن الكاتب إفلوطين :
☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆
عقد إفلوطين عهداً مع كل من أرنيوس وأوركن ، بأن لا يتكلموا عن عقائد أمونيوس (وهو أمونيوس ساكس معلم إفلوطين في الإسكندرية) . وفعلاً فقد حافظ إفلوطين على هذا العهد ، وحاول تجنب الحديث عن النظام الفكري للمعلم أمونيوس ، خصوصاً خلال مناقشاته مع زملاء الحلقة . إلا إن هذه السرية لم تستمر طويلاً ، فقد إنفرط العهد أولاً من قبل أرنيوس ، ومن ثم من قبل أوركن . حقيقة أوركن لم يكتب شيئاً . ولكن ذلك جاء في رسالة ” الموجودات الروحية ” .
أما فيما يخص المعلم إفلوطين ، فإنه ولفترة طويلة لم يكتب شيئاً . ولكنه بدأ يؤسس لقاعدة نقاش حول ما جمعه من دراسات تمت تحت إشراف أمونيوس . وفي ضوء ذلك فإنه لم يكتب شيئاً ، سوى التشاور والنقاش المستمرين مع جماعة من الزملاء ، وهذه الفترة إستمرت مدة عشر سنوات . (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 3) .
رابعاً – ووفقاً لرواية فرفريوس ، وحسابات السنين من حياة المعلم إفلوطين ، نحسب إن فترة السنوات العشرة الممتدة ما بين الخمسين من عمره والتاسعة والخمسين (وهي السنة التي قابل فرفريوس إفلوطين) هي فترة نشاط الفيلسوف في التأليف والكتابة . ومثلما واجهنا إشكال في أطراف من الروايات الفرفوريسية السابقة ، نرى إن الإشكال يتجدد مرة أخرى . خصوصاً إذا ما وضعنا في الإعتبار غياب التلميذ فرفريوس عن روما وعن حياة المعلم إفلوطين على حد سواء . وهنا لا يذكر فرفريوس أي مصدره زوده بهذه المعلومات ؛ وهل هو إفلوطين ذاته أو تلميذه وصديقه إميليوس أو زيثوس العربي … لا أحد يستطيع أن يقول شيئاً عن ذلك .
ويرى فرفريوس إن المعلم إفلوطين بدأ الكتابة ” في السنة الأولى من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) ، والذي شارك الحكم مع والده في العام 253م . وإذا قبلنا ذلك من فرفريوس ، فأننا نحسب إن هناك نوعاً من عدم التناغم بين سني عمر المعلم إفلوطين ، والتي إقترحها فرفريوس بنفسه ، وسنوات إعتلاء الإمبراطور ” كالينيوس ” سدة الإمبراطورية الرومانية .
يقول فرفريوس الصوري عن فترة الكتابة ، وعدد الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين :
بدأ إفلوطين في الكتابة ، في السنة الأولى من حكم كالينيوس ، وعن موضوعات أخذ النقاش يدور حولها . وحين وصولي لمقابلة إفلوطين ، كانت السنة العاشرة من الحكم (حكم الإمبراطور كالينيوس) . وقد بلغ مجموع ما ألفه إفلوطين إحدى وعشرين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 4) .
خامساً – كشف فرفريوس عن حقيقة هذه الرسائل التي كتبها الفيلسوف المعلم إفلوطين ، وبين مايحيط بها . فهي من ناحية رسائل مقيدة بطابعها الخاص ، ولذلك كان تداولها فيه تباطئ وحذر ، ونشرها كان يأخذ طابع السرية . وإن من حصل عليها قد خضع لتمحيص دقيق . ومن ناحية أخرى ، فإن هذه الرسائل كانت لا تحمل عناويناً لها . ولذلك كان كل فرد يقترح عناوين يعتقد مناسبة لها (أنظر : المصدر السابق) . ويقول فرفريوس معلقاً على عناوين الرسائل :
وأنا هنا إقتبستهم تحت عناوين وضعت لهم فيما بعد . وهذه العناوين ليست إلا الكلمات الأولى التي تبدأ بها كل رسالة ، وذلك لتسهيل مهمة التعريف بهويتها
(فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . ونحسب إن عناويين الرسائل تعبر عن مضمون التساعيات . وهذه قصة سنقوم بتناولها في المحور اللاحق . كما إن هذه الرسائل (21 رسالة) لا تشكل إلا جزء من نشرة التساعيات المتداولة
أولاً – السيرة الذاتية لإفلوطين :
☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆
نحسب أن تكون البداية ، هي التعريف بمؤلف الكتاب ، وذلك لأن الكتاب يعكس شخصية كاتبه ؛ فلسفته ومنهجه . ولعل السؤال المفتاح : من هو الفيلسوف ” إفلوطين ” ؟ وما هو إتجاهه الفلسفي ؟ عرف التراث الثقافي العربي الإسلامي عامة ، و دوائر التفكير الفلسفي في المشرق الإسلامي خاصة الفيلسوف ” إفلوطين ” وأطلقت عليه لقب ” الشيخ اليوناني ” . ولا أعرف مدى دقة تسمية النصوص العربية ، وإفلوطين حسب رواية تلميذه ” فرفريوس الصوري ” مات وعمره ست وستين عاماً . وهو المؤسس الحقيقي لما سيطلق عليه في بواكير العصر الحديث ” المدرسة الإفلاطونية المحدثة ” (أنظر: بحثنا القادم والمعنون : إشكالية الفلسفة الإسلامية : بين المشائية والإفلاطونية المحدثة) .
الحقيقة لم تأتي المعلومات عن سيرة إفلوطين ، من المصدر الأول ، وذلك إن إفلوطين ذاته لم يذكر أو يترك بيراعه معلومات عن إصول عائلته (أجداده) ، وعن طفولته ، بل ولم يتكلم عن مكان وتاريخ ولادته . ولكن جميع المصادر التي تتكلم عنه لاحقاً ، تتحدث عنه كرجل عاش حياته الشخصية والإجتماعية في ضوء معايير أخلاقية وروحية عالية جداً . ورغم هذا الحال ، فإننا محظظون جداً في معرفة شخصية الأستاذ إفلوطين من زاوية حواريه التلميذ الروحي ” فرفريوس الصوري ” (233 – 305 والبعض يرى إنه توفي في عام 309 تقريباً) الذي لازمه ودرس تحت يده في روما فترة ليست بالقصيرة (ست سنوات ركزها على دراسة فلسفة إفلوطين ومشروعه الفلسفي الدي سيعرف بالإفلاطوني المحدث) ، وإن كان بعيداً في السنوات الآخيرة من حياته (خمس سنوات كان فرفريوس بعيداً عن إفلوطين) ، ومات إفلوطين في روما ، وفرفريوس الصوري ذهب للعلاج إلى سيسلي الإيطالية (بعد حالة فرفريوس النفسية ، ومحاولته على الإقدام على الإنتحار..) بناءً على إقتراح أستاذه إفلوطين . وفعلاً بعد سماعه بأخبار موت أستاذه ، ركب البحر وعاد سريعاً . فجمع أوراق أستاذه ، وبدأ يرتبها ويفكر بطريقة نشرها . وهذه قضية سيكون الحديث عنها في المحور الخاص بكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس لم يكتفي بنشر كتاب التساعيات ، بل وكتب مدخلاً شرح فيه فلسفة إفلوطين ، وسيرة ذاتية له ونشرها مع التساعيات (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / المحور المعنون الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق) .
وعلى هذا الأساس فإن مصدرنا القريب للمعلومات عن حياة وسيرة إفلوطين ، هو حواريه وتلميذه فرفريوس الصوري . فقد كتب فرفريوس قائلاً : ” كان عمر إفلوطين ست وستين عاماً عندما جاءته المنية في عام 270 م ، وبالتحديد في السنة الثانية من إعتلاء الإمبراطور الروماني ” كلوديوس الثاني ” . وهذا كان دليلاً تاريخياً مكن الباحثون من إقتراح 205 سنة لولادة إفلوطين . وقد ولد حسب رواية المؤرخ السفسطائي ” يونبيوس ” (من كُتاب القرن الرابع والخامس الميلاديين) في مدينة يونانية ، تقع في دلتا مصر السفلى (أنظر : إفلوطين / موسوعة جامعة كولومبيا الإلكترونية / 2003) .
ونرجح إن موت إفلوطين كان في بداية عام 270 والسبب إن فرفريوس نشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية والمدخل الشارح لفلسفة إفلوطين في عام 270 كذلك . فبعد سماع فرفريوس أخبار موت أستاذه في العام 270 ، عاد من سيسلي ، وبالتأكيد يحتاج العمل إلى وقت لترتيب الملاحظات التي تركها إفلوطين لمحاضراته الشفهية ، وفرفريوس يحتاج إلى وقت للإتصال ببعض تلاميذ إفلوطين ليرى ما يمتلكون وما يحفظون من معلومات عن فلسفة الأستاذ إفلوطين . كما إن المدخل الشارح لفلسفة إفلوطين الذي كتبه فرفريوس يحتاج إلى وقت ، كما إن كتابة سيرة إفلوطين تحتاج إلى وقت لجمعها والتدقيق فيها وكتابتها ونشرها . وكل ذلك حملنا على القول إن فرفريوس عمل كل ذلك ونشره في وقت متأخر من عام 270م .
بدأ إفلوطين بدراسة الفلسفة عندما كان في السابعة والعشرين من عمره ، ولدراسته للفلسفة قصة ذات طعم خاص ، فبالتحديد في عام 232 ، شد الرحال إلى مدينة الإسكندرية . وهناك عاش تجربة معرفية ، إختبر فيها الكثير من معلمي الفلسفة ، وكان ساخطاً وغير راض على مادتهم الفلسفية ، وغير مقتنع بهم ، حتى شكى حاله لواحد من معارفه ، فإقترح عليه الإستماع إلى أفكار ” أمونيوس ساكس ” (القرن الثالث الميلادي) وهو المؤسس الروحي للحركة الفلسفية الجديد التي ستعرف بإسم الإفلاطونية المحدثة . وبعد إن إستمع إفلوطين لمحاضرته ، صرح لصديقه قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ثم بدأ بحماس ونشاط يدرس الفلسفة تحت إشراف هذا المعلم الجديد . والحقيقة إن أمونيوس كان معلماً لأفلوطين مدة إحدى عشر عاماً ، وبالتحديد إمتدت من عام 232 وحتى عام 243 . وكان لأمونيوس بالتأكيد تأثيراً كبيرا على إفلوطين في تطوير الإفلاطونية المحدثة . ولكننا اليوم لا نعرف إلا القليل القليل من وجهات نظره الفلسفية (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / المحور المعنون ” الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق ) .
ومن النافع أن نشير إلى إن جميع المعلومات التي توافرت لدينا عن معلم إفلوطين الفيلسوف ” أمونيوس ساكس ، قد جاءت إلينا من طرف فقرات تركها فرفريوس الصوري عندما تحدث عن حياة أستاذه إفلوطين . حيث قال بالنص :
وعندما كان عمره ثمانية عشر عاماً (الحديث عن إفلوطين) شعر بالرغبة في دراسة الفلسفة ، وقد نُصح بالذهاب إلى الإسكندرية ، وإكتساب التعليم على يد معلمي الفلسفة هناك ، والذين كانت لهم سمعة مشهودة . ولكن محاضراتهم سببت له السأم ، فإنصرف منها حزيناً . وفعلاً فقد أخبر صديق له بالمصاعب التي يواجهها في تعلم الفلسفة . وفهم الصديق رغبة قلبه ، فأرسله إلى أمونيوس ، والذي لم يكن بعيداً ، وإقترح عليه إن يحاول حضور محاضراته . وعندما ذهب للإستماع إليه ، رجع وأخبر صديقه ، قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ذلك اليوم لازم إفلوطين أمونيوس ، وإكتسب منه المعرفة والتدريب الفلسفي الكاملين . وبعد ذلك إتصل بتعالم الفرس الفلسفية ، والتي كانت متداولة بين الهنود ” ( فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين / نقلاً من ج . ريل ؛ تاريخ الفلسفة القديمة / ج 4 والمعنون ” مدارس العصور الإمبراطورية ، مطبعة الشمس 1990 ، ص 298) بالإضافة إلى أمونيوس ساكس ، فأن إفلوطين تأثر بكتابات ” الإسكندر الإفروديسي ” وهو واحد من شراح أرسطو في القرن الثالث الميلادي . وجاء الإفروديسي إلى أثينا في نهايات القرن الثاني الميلادي . وكان تلميذاً لإثنين من الرواقيين ، أو ربما كان واحد من معلميه مشائياً . وفعلاً في أثينا أصبح الأفروديسي رئيس المدرسة المشائية (أنظر : ج . ب . لونش ؛ مدرسة أرسطو ، نشرة جامعة باركلي 1972 ، ص 215) . كما وتأثر بالفيلسوف الفيثاغوري الجديد الإفلاطوني ” نومينوس الآفامي السوري ” (إزدهر خلال النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي) . ويبدو إن نومينوس قد لعب دوراً في تاريخ التمهيد لتأسيس المدرسة الإفلاطونية المحدثة (أنظر : كتابات نومينوس الإفلاطوني المحدث ، ترجمة كينث كوثري ، نشرة دار سيلين للكتب ، بلا تاريخ) . وقرأ أثار عدد من الفلاسفة الرواقيين .
وبعد إن صرف أحد عشرة سنة أخرى ، قرر إفلوطين البحث عن تعاليم الفلاسفة الفرس والهنود ، وكان عمره يومذاك ثمان وثلاثين عاماً (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب كتبه ، الفصل الثالث) .ولإنجاز هذه الرغبة ، ترك الإسكندرية ، وإلتحق بجيش الإمبراطور الروماني ” جورديان الثالث ” (225 – 244م) ، وبعد تقدم الحشود نحو بلاد فارس ، فشلت الحملة ومات الإمبراطور فجأة ، فوجد إفلوطين نفسه معزولاً في بيئة معادية ، وبصعوبات مضنية ، تلمس طريق العودة إلى مدينة إنطاكيا .
وفي سن الأربعين ، وبالتحديد خلال حكم الإمبراطور الروماني ” فيليب العربي ” (204 – 244) ، عاد إفلوطين إلى روما (للإطلاع أنظر: ألين بومان ؛ تاريخ كيمبريدج القديم : إزمة الإمبراطورية من 193 وحتى 337 ، نشرة مطبعة كيمبريدج 2005) ، والتي قضى سنواته الآخيرة فيها . وفي روما جذب حوله العديد من الطلبة والرموز الثقافية يومذاك ، من أمثال فرفريوس الصوري ، وإميليوس جنتاليتيوس (إفلاطوني محدث وكاتب من النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي) ، وهو في الأصل تلميذ نومنيوس الآفامي . ولكنه بدأ يحضر محاضرات إفلوطين ، وبالتحديد في السنة الثالثة من عودة الآخير إلى روما (أنظر : وليم سميث ؛ معجم السير والآساطير اليونانية والرومانية ، نشرة مطبعة براون ، بوسطن 1867 ، ص 142 وما بعد) .
كما وكان السناتور كاستريوس فرموس (وهو إفلاطوني محدث من القرن الثالث) من المقربيين للفيلسوف إفلوطين . وكان حسب رواية فرفريوس الصوري ” يحترم إفلوطين بإجلال ، ولازمه إلى نهاية حياته ” (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين ، ترجمة ستيفن ماكينا ، لندن1917 – 1930) . والقائمة طويلة . ولكن من أهم حواريه وطلابه ، كان العربي ” زيثوس ” (إفلاطوني محدث من القرن الثالث) ، وهو حسب رواية فرفريوس ، من أصول عربية ومات قبل موت إفلوطين ، وكان مقرباً جداً إلى إفلوطين ، ويقضيان أوقاتهما في الريف (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . وكان للنساء حصة في التلمذة على يد إفلوطين ، فمثلاً كانت جيمينا تلميذة له ، وكان يعيش في بيتها خلال حياته في روما . كما كانت إبنتها جيمينا الثانية تلميذة لإفلوطين كذلك . والثالثة كانت إمفيسلا وهي زوجة أرستون إبن إمبيلكوس الفيلسوف الإفلاطوني المحدث ، ورئيس المدرسة السورية للإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان : الملك الفيلسوف إمبيلكوس السوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في المجلد الأول ، العدد الثاني من مجلة أوراق فلسفية جديدة / ربيع 2011) .
وفي السنوات الأخيرة من حياته في روما ، إكتسب إفلوطين إحترام كل من الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) وزوجته ” سالونيا ” (لا تذكر المصادر شيئاً عن حياتها ، سوى إنها تزوجت الإمبراطور قبل عشر سنوات من أن يصبح إمبراطوراً ، وإعدمت عام 268 م مع أفراد عائلتها بقرار من مجلس السناتورات (أنظر: بات سوذرن ؛ الإمبراطورية الرومانية من سيفريوس وحتى قسطنطين ، نشر دار روتلدج ، لندن 2001) .
ولعل المهم في علاقته بالإمبراطور ، إنه حاول إقناعه بإعادة تجديد مستعمرة كامبيا المهجورة ، والتي كانت تعرف بمدينة الفلاسفة ، والتي كان سكانها يعيشون في ظل دستور صاغه إفلاطون في محاورة القوانين . وحسب رواية فرفريوس الصوري ، فإن المساعدات المالية لهذا المشروع لم تحصل على الإطلاق ، ولأسباب غير معروفة حتى لفرفريوس الصوري الذي أخبرنا بهذه الحادثة .
بعد ذلك رحل فرفريوس إلى سيسلي ، وبعد خمس سنوات ، جاءت الأخبار عن موت إستاذه إفلوطين . ويذكر إن إفلوطين صرف أيامه الآخيرة في ضيعة في كمبانيا وهي الضيعة التي ورثها من حواريه العربي الإفلاطوني المحدث ” زيثوس ” بناءً على أساس وصية الأخير له قبيل موته .
ومات إفلوطين ولم ينشر اي شئ على الإطلاق . ولكنه حسب رواية فرفريوس الصوري ، ترك بعض المقالات الناقصة ، وملاحظات كان يعتمد عليها في إلقاء محاضراته (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / مصدر سابق) . ولذلك سنفضل التخلي عن المصادر الثانوية التي كتبت عن إفلوطين ، ونعتمد على ما كتبه فرفريوس بيراعه وهو المصدر الأول ، والذي عاش مع إستاذه مدة ست سنوات ، ورحل إلى سيسلسي والتواصل مستمر بينهما ولمدة خمس سنوات أخرى ، وفعلاً فإن إفلوطين كان يرسل إليه كل ما هو جديد مما يكتب . وهذه قصة سنتناول أطرافها لاحقاً .