أجد نفسي مضطراً لكتابة هذه الكلمات إبراءً للذمة وبدافع الواجب تجاه أبناء وبنات هذا الوطن. دخلَت أمي رحمة الله عليها المستشفى – مولاي يوسف بالدار البيضاء – الشهر المنصرم، قضت فيه 13 يوماً، في الأيام الأربعة الأخيرة ساءت حالتها جداً وقررنا حينها أن أشاركها غرفتها لأعتني بها (ليتنا علمنا بهذا قبلاً لدخل أحدنا عندها منذ أول يوم وضعت فيه رجلها في ذلك الجحيم). دخلتُ عندها بعد عصر الاثنين رغم أنني كنت حاضراً مع أخي منذ الثامنة والنصف صباحاً أمام المستشفى… ثم دخلت، لا أريد الحديث عما حصل حينها. أخبرتني أنها لم تأكل شيئاً منذ 4 أيام، وأنها كانت تعيش فقط على الماء، حتى قنينات الماء لم تجد من يفتحها لها، أو بالأحرى لم يرد أحد ذلك رغم طلبها، فكانت غالباً تفتحها بأسنانها. كانت عاملات النظافة يأتين بالأكل صباحاً، يضعنه في مكان ليس بقريب من أمي، مكان لم تقدر على الوصول إليه، ثم يرجعن عند الـ 2 زوالاً، يضعن الغذاء في نفس المكان ويخرجن رغم نداء أمي، يعدن في المساء ويقمن بنفس العملية ويخرجن متجاهلين نداء أمي، ثم في الصباح يأتين على الساعة السابعة للتنظيف، يجدن الأكل كما هو لم يُفتح، يرمينه ولا يبالين بشيء كأنهن آلات. ظلت أمي هكذا بلا أكل 4 أيام! أين الأطباء والممرضات من هذا؟ لا أعلم. الغريب أن إحدى الممرضات أخبرتني أن أمي ضعفت مقارنة بأول يوم دخلت فيه المستشفى، عجيب! ولم تُحركوا ساكناً؟ الممرضات تدخلن 3 مرات في اليوم، صباحاً، زوالاً وقبيل منتصف الليل، يفعلون شيئاً واحداً لا غير، قياس نسبة الأوكسيجين ومعدل ضربات القلب والسكر، إعطاء حقن للمريض، والخروج. مجرد آلات مبرمجة على فعل معين كل فترة من الزمن خلال اليوم، لا أقل ولا أكثر. الأطباء بدورهم مجرد آلات، غير أنهم يقضون يومهم على مكاتبهم ولا يزورون المرضى إلا مرات معدودة في الأسبوع.
أغلب المرضى لا يستطيعون التنفس بدون أقنعة الأوكسيجين التي تحتاج من يراقبها كل 3 ساعات لملئها بالماء، طبعاً عندما ينتهي الماء يظل المرضى كذلك حتى تدخل الآلات مجدداً للقيام بعملها المُبرمَج.
بعد أيام قليلة دخل رجل له قرابة بطبيبة من الطاقم – فيما وصلني -، وفي مسائه جاءت الممرضات على غير عادتهن هذه المرة، لم يأتين محملات بالأدوية بل بالأكل – والتي هي في الأساس وظيفة عاملات النظافة -، وزعن الأكل على الغرف، ودخلن تحديداً لغرفة ذلك الرجل ليطعمنه بأيديهن، هذا لم يخبرني به أحد بل شاهدته.
فيما حدث أيضاً، على الساعة الخامسة والنصف صباحاً، استيقظت لأملأ قنينة الماء المرتبطة بقناع الأوكسيجين ولتشرب أمي، سمعتُ أحدهم يصرخ: “عتقو الروح”، غرفته كانت بعيدة عنا وقريبة من الممرضات، سمعته ولم يسمعنه!!! خرجت من غرفة أمي لأرى ما يحدث، المكان فارغ، لا أحد مبالٍ بما يحدث، في طريقي إلى الطاقم الطبي خرج رجل من الغرفة المقابلة لنا ليخبرني أن مريضاً معه انتهت قنينة الماء وأنه توفي. بعد طرقي للباب بمدة، أخبرتهم بما يجري وعدت إلى غرفة أمي. سألتني رحمها الله أين كنت، فقلت لها إن رجلاً كان يصرخ فذهبتُ إلى الممرضات (ولم أخبرها بالرجل الذي توفي رحمه الله)، ردت رحمها الله: “ما تمشيش، ديك النهار مرضت بزاف مشات فلانة عيطت لهم جاو بقاو يخاصمو عليها وقالو لها ما تبقايش تعيطي علينا ودگو ليها برا”. كلمات أمي هذه كانت تعبيراً عن خوفها أن يطردوني فتبقى وحدها. وكانت دائماً تعبر عن هذا الخوف إذا قلت لها سأذهب لأناديهم عندما تشعر بتعب ما، تصبر على تعبها وتطلب ألا أذهب، لكني كنت أذهب على كل حال. مما أخبرتني به، أن رجلاً كان معها في المستعجلات (أول يوم دخلت مولاي يوسف) توفي، فجاء رجلان، قال أحدهما للآخر بكلمات أمي: “حيد عليا هاد البوگليب”، طبعاً قال كلمة قبيحة لكن كعادة أمي رحمها الله تعوضها بـ”البوگليب” . مما أتذكره، أنها قالت لي: “كون ما جيتيش كون مت”، وهذه الكلمات لها دلالة قوية جداً، فأمي رُزِقت صبراً لم أرى له مثيلاً أبداً، وإذا قالت هذه الكلمات فهذا يعني أن الوضع جد كارثي.
ثم قبل أسبوع، تدهورت صحة أمي وكانت في حاجة للإنعاش، طاف إخوتي حينها بالدار البيضاء كلها لم يجدوا مكاناً، كذلك بعض الأحبة بالرباط، كنا حينها نجهل أن أسرة الإنعاش بمولاي يوسف للبيع، نعم، للبيع وليست بالمجان.
والحديث يطول جداً في هذا الموضوع، لستُ أعمم، فقد كان بعض الممرضين/الممرضات وطبيبة في قمة الطيبة، لكن 99٪ مجرد آلات حاشا لله أن يكونوا إنساناً.
ملاكي وحبيبتي الغالية التي كانت تضيء دنيتي تركت هذا العالم البائس وظلمته لتلتحق بجوار ربها…
تقبلك الله يا أمي من الشهداء، كنت في مرضك صابرة محتسبة كما عهدتك، كنت كأنك الصلاح يمشي على الأرض، حزت رضى والديك، وأبي، وأولادك، وإخوتك الذين اعتبروك أماً لهم، ورضى كل من قابلك يا أمي… سامحينا يا أمي على تقصيرنا في حقك فمهما فعلنا لم نكن قط لنوفيك حقك، ولن نفعل أبداً مهما فعلنا. يوم دخلتُ المستشفى عندها، وهي طريحة الفراش، ونسبة الأوكسيجين لا تتجاوز 70٪ وشبه مستيقظة بعد أن تُركت بلا أكل مدة 4 أيام – انتقم الله منهم – لم تفكر في نفسها بل ظلت تطلب من عاملات المستشفى أن يجلبن لي غطاء وأكلاً. فكيف نوفيك حقك يا أمي وما هذا الذي ذكرت إلا حبة رمل في صحراء حنانك وعطائك وتضحياتك؟ رحمك الله يا غاليتي، فقد كنت لي ولإخوتي الأم المثالية، والأخت المثالية، والصاحب المثالي، والحبيبة المثالية وكل شيء يمكن أن يتمناه الإنسان في هذه الدنيا المظلمة، رحمك الله وجعل مثواك الجنة بغير حساب يا حبيبتي. شكر الله لكل من اتصل ومعذرة ممن لم أستطع أخذ اتصاله.
جمعة طيبة عليكم أصدقائنا ها نحن نعود لكم بعد فترة إنقطاع عن النشر كنا فيها في رحلة علاجية مع مرض كرونا وقاكم الله من شره وجنبكم إبتلائه
حجج الغزالي
للغزالي حيث يقول لماذا تنكرون على خصومكم الاعتقاد بالارداة القديمة وما المحيل له, أي الاعتقاد بمبدأ التراخي: كان الله ولم يكن معه شيء, ثم تعلقت ارادته القديمة بخلق الكون في وقت دون وقت غيره. أي ان ليس هناك علاقة ضرورية بين العلة والمعلول, وحيث تكون العلة موجودة والمعلول غير موجود. وهذا يتنافى مع ما يعتقد به الفلاسفة: وهو التلازم الضروري بين العلة والمعلول. أي انهم يعتقدون بانه اذا وجد الموجُب (العلة) بتمام شروطه (العلة التامة), فلا يجوز ان يتأخر الموجَب (المعلول). أو بالاحرى يرى الفلاسفة ان وجود المَوجب عند تحقق المُوجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال.
فإن قيل: القديم صفاته عين ذاته, وقبل وجود العالم كان المريد موجوداً والارادة موجودة ونسبتها الى المراد موجودة ولم يتجدد لا مريد ولا ارادة ولا نسبة, فلا بد بالضرورة من حصول المعلول. او بالاحرى كيف يحصل العالم ؟ و لماذا لم يتجدد شي من هذه من قبل, اي المرجح. فان لم يحدث اي تغير لا في المريد و لا في الارادة ولا في النسبة ولا في اي حال من الاحوال فهذا قول متناقض . اي بقيت حال القديم هي هي قبل و بعد. ويعني ان عدم وجود تمايز بين حال الترك و حال الشروع امر محال.
الغزالي كان يعتقد بمبدا تخلف المعلول عن علته التامة, اي مبدا التراخي الذي هو اصل من اصول الاشاعرة. وهذا المبدأ ينص على انه ليس هناك علاقة ضرورية بين العلة و المعلول. ولكن الغزالي ادخل مواضيع على لسان الفلاسفة لم يقولوها ليضعف اقوالهم و اثارة الشك فيها (أسافينُ[2]), اي انه ادخل امور وضعية (وهي الامور المتعارف عليها من قانون او شرع او تقليد …الخ) [3].
و يقول “وهذا ليس استحالة الجنس في الموجب والموجب له بل في العرفي والوضعي ايضا” . اي إذا وجدت العلة فلابد من حصول المعلول بالضرورة.
وينطبق هذا مثلا على ان الرجل عندما يطلق زوجته فان البينونة تحصل فورا لان لفظ الطلاق هو علة الحكم وصفا و اصطلاحا و شرعا , و بالتالي لا يُعقل ان يتاخر الطلاق (المعلول ) عن اللفظ ( العلة ) . و هذا هو واحد من الاسافين التي ادخلها الغزالي على لسان الفلاسفة ليشوش ويضعف اقوالهم امام حشد المعجبين بهم
. ويتابع الغزالي بالقول انه “اذا علق الزوج الطلاق بمجئ الغد او بدخول الدار كما القول ” اذا خرجت من هذا المنزل فانت طالق , فان الطلاق فلا يقع في الحال لانه علقه على امر منتظر . و هذا هو المثال الشرعي, و اما في العرف و العادة فهناك نوعين من الفعل :
الاول هو القصد على الفعل
والثاني هو على الفعل العزم
و وهنا يريد ان يقول الغزالي انه اذا لم نقبل هذه الامور في العرف و العادة فكيف نقبلها في الامور الضرورية ؟ اي تخلف المعلول عن علته التامة.
في العرف و العادة ما قد لا يحصل عن القصد بوجود المقصود سببه وجود مانع. اي لا يتاخر حصول المقصود عن وجود القصد الا بمانع, لان القصد موجب للفعل بينما العزم غير كافي لوجود الفعل مالم يحصل باعث في النفس يجدد حال في الفعل .و اذا كانت الارادة قديمة فلا يتصور تاخر المقصود الا لغاية . و هذا في مجال قياس الغائب على الشاهد , و هذا ما نقضه ابن رشد: لا يجوز قياس ارادة القديم الى ارادتنا.
و يتابع الغزالي ” ثم لا يمكن تصور تاخر القصد زمنيا عن المقصود الا اذا كان هناك العزم بدلا من القصد , اي اذا كانت الارادة قديمة في حكم العزم فلا تكون كافية لحصول المعزوم عليه لان العزم بحاجة الى انبعاث يجدد حال الفعل . و هذا لا يمكن ان يحصل للقديم لانه يعني تغير في احواله . فمهما سميت الامور قصدا او ارادة فالسؤال يبقى هو هو ,, لماذا حدث الان و لم يحصل من قبل ؟؟؟ خلاصة : اذا وجود الموجب بتمام شروطه و لم يكن قد حصل عنه شئ ثم انقلب بغتة من غير امر تجدد او شرط تحقق فان هذا قول محال متناقض بنفسه, اي يستحيل ان يحصل شي بعد ان لم يكن وإن لم يتغير شئ ما بالفعل .
ماذا يقول ابن رشد ؟
عندما رائ الغزالي عدم جواز القول بمبدا التراخي ( تراخي المفعول عن فعل الفاعل ) قال بجواز تراخيه عن ارادته . لقد قلنا انه منذ كان الله كان عالما و قادرا و مريدا و بالتالي فاعلا ولكن عندما رائ الغزالي انه لا يجوز تراخي المفعول عن فعل الفاعل اي تراخيه عن ارادته و هذا لكي لا ينفي على الله ان يكون فاعلا ابدا . اي اذا كان المفعول يتاخر عن فعل الفاعل فهذا يعني ان الله لم يكن فاعلا ابدا . يقول ابن رشد ان الفلاسفة اعتقدوا بامرين : فعل الفاعل بحاجة الى تغير وان كل تغير لابد له من مغير, ولكن القديم لا يتغير. وهذه من اصعب الامور برهانا كما يقول ابن رشد. اي ان الفلاسفة لا يستطيعوا برهنة ان الله لا يتغير و ان فعل الفاعل يلزمه تغير و ان كل تغير بحاجة لمغير وان القديم لا يتغير . ابن رشد لا يكتفي ويضيف بأن كلام الغزالي سسفسطة [4] بل يريد ان يرشده الى الطريق الصحيح و هو بان ينزل فاعلا اولا او ينزل فعل له اول. ويقول ابن رشد ان هناك خلل في اعتراض الغزالي على دليل الفلاسفة في قدم العالم لأنه لا يمكن مقارنة الارادة الازلية ( الغائب ) على الارادة الحادثة ( الشاهد) اي ان الاشتراك الاسمي في كلمة ارادة لا يعطيه الحق لعمل مقارنة بينهما. والاشتراك المعنوي بين الارادة الازلية و الحادثة غير ممكن لان الارادة الازلية مختلفة تماما عن الارادة الحادثة و يشتركان فقط بالاسم , لا بل وبينهما تضاد أيضا. الارادة في الشاهد هي الحادثة و كما يقول ابن رشد “هي قوة فيها امكان فعل احد المتقابلين على السواء” . اما ان تفعل او ان لا تفعل , اما ان تسرق او ان لا تسرق . و فيها امكان الفعل و القبول على السواء, فيها شوق الفاعل الى فعله واذا فعله حصل المراد وكف الشوق. و يقول ابن رشد ان ارادة الفاعل يمكن ان تكون لا ارادية و لا طبيعية , مثل قولنا عن القديم انه خارج العالم و داخل العالم. [5] اذا كان حال التجدد لم يتميز عن الاحوال السابقة او اللاحقة فكيف يحدث اي شئ ؟. اذا كان المريد موجود و الارادة موجودة و نسبة الارادة الى المراد موجودة فما الذي تغير ؟ فلا بد ان يكون هناك شئ قد تغير و هذا غاية الاحالة لان القديم لا يتغير , و ليس استحالة هذا الجنس (التضاد, التغير …) بالعلاقة بين العلة و المعلول , الموجب و الموجب الضروري الذاتي , فهل يصح في العرف و الوضع لان الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحدث البينونة في الحال , لم يكن ليتصور انها ستحدث !!!. اي اذا قال الرجل : طالق و لم تحدث البينونة في الحال فهذا يعني انها لن تحدث بعد ذلك, لانه جعل اللفظ علة الحكم في الوضع و الاصطلاح , فلا يعقل تاخر المعلول (الطلاق) الا اذا عُلق بمجئ الغد او دخول الدار, أي علقه بشيء منتظر. فان لم يكن حاضرا بالوقت توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضرا فلا يحصل الموجب الا وقد تجدد امر ما, مثل مجئ الغد او دخول الدار. فان لم يقبل هذا في الامور الوضعية فكيف نقبله بين الامور الضرورية (العلاقة بين الموجب و الموجب الذاتي الضروري ). او ان هناك اشياء تُحدث تغييرات و لا يحدث فيها تغيير ؟. و يقول ابن رشد ان خصوم الغزالي و هم الفلاسفة قالوا ان فعل الفاعل يلزمه تغير و ان كل تغير له مغير و الاصل الثاني ان القديم لا يتغير و ان هذا كله عسير البيان على الفلاسفة . وما يجب ان يفعله الاشاعرة هو انزال الفاعل اولا او انزال فعل له اول. ويشرحها ببساطة بانه لا يمكنهم ان يضعوا ان حالة الفاعل في المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي نفسها في حالة عدم الفعل .!!! فاذا اوجبنا لكل حالة متجددة فاعلا فلا بد ان يكون الفاعل لها فاعلا اخر , اي انه حال الترك هي نفسها حال الشروع و هذا ما لا يعقل و لا يمكن قبوله , فلا بد من حالة متجددة او نسبة لم تكن اما في الفاعل او المفعول او في كليهما و ان كانت كذلك اما ان يكون الفاعل هو فاعلا اخر غير القديم لانه ليس الفاعل الاول و لا يكون مكتفي بفعله بنفسه بل لأن غيره الزمه على الفعل او ان تكون الحال التي هي في فعله هي نفسه, فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا اولا عنه هو الاول بل يكون الفعل الاول لتلك الحال التي هي شرط حصول الفعل منه . للتوضيح اذا سالتني ماذا غير رأيك ؟ فاما : ان يكون التغيير غير حاصل عني, و انما حصل من تاثير خارجي. وهذا يعني انني لست الفاعل الاول او انني غيرت رايي لانها تغيرت حالة ما كشرط لكي افعل و عندما حصلت هذه الحالة فعلت . و هذا يعني ان الفعل الاول هو تغير الحال .ثم كتب ابن رشد كتاب ماجي (محمود ابن محمد ابن عبد المعبود ابن الصباغ) وهو من سوفا يعرفكم مامعنا الفلسفه والمنطق في المستقبل .وهذا الكتاب التي قال الغزالي ان ابن رشد يكفر وينظر الي المستقبل.وياتدخل في شوأ الله وعلم الله عز وجل
بالضرورة العقلية (البديهيات) او بالنظر العقلي (القياس) ؟
يقول الغزالي على لسان الفلاسفة اذا وجد الموجب بكامل شروطه و لم يكن قد حصل عنه شيئا ثم انقلب بغتة من غير امر تجدد او شرط تحقق فانه محال بنفسه اي انه متناقض . الغزالي يريد ان يوضح لنا ان اقوال الفلاسفة المتعلقة بالارادة القديمة هي من قبيل التحكم, اي انها وجه نظر تحكمية. فكيف تعرفتم على ان استحالة الارادة القديمة باحداث اي شئ , عن طريق ضرورة العقل (اي البديهيات) او بالنظر العقلي (بالقياس) ؟. الذي هو بحاجة لحد اوسط .
فاذا عرفتموه بطريقة العقل عليكم ان تاتوا بالبرهان
او اذا عرفتموه بضرورة العقل فيجب ان يعترف به كل الناس . و بما ان هناك الكثير من الناس يعتقدون خلافا لما تعتقدون به فهذا يستثني انكم استخدمتم الضرورة العقلية.
اذن ماذا فعلتم ايها الفلاسفة ؟. لقد قمتم بالاستبعاد و التمثيل , لقد مثلتم الارادة الالهية بالقصد الحاصل منا . و هذا لا يجوز قياس ما له علاقة بالله مع ما له علاقة بالانسان. أما الاستبعاد فهو بحاجة لبرهان لانكم استبعدتم ان تكون الارادة الالهية قد تعقلت باحداث اي شئ . فاذا ادلتكم ليست مبنية على القياس او على الضرورة العقلية فما هو الفصل بينكم و بين خصومكم الذين يدعون بان الارادة القديمة تعلقت باحداث الكون ؟.
تعدد العلم يؤدي الى تعدد المعلوم ؟
الفارابي و ابن سينا قالوا بان الله عقل و عاقل و معقول , و هو عقل يعقل ذاته و ذاته معقولة له من غير تكثر . فيقول الغزالي انتم مثلكم مثل غيركم الذين يقولون ان هذا مستحيل بان يكون العلم و العالم و المعلوم امرا واحدا !! فلا بد ان يكون هنالك تمايز , كيف يمكن ان يكون هناك ذات واحدة تعرف كل الكليات والجزئيات بدون ان يكون فيها كثرة . لان تعدد العلم يؤدي الى تعدد المعلوم و بالتالي فصفات الله زائدة عن الذات الالهية و ليست عين للذات الالهية كما تقولون يا فلاسفة . اي انكم تقولون ان الله عالم بعلم هو عين ذاته مريد بارادة هي عين ذاته قادرة بقدرة هي عين ذاته . و مع انها صفات كثيرة الا انها لا تؤدي الى تكثر في الذات الالهية.
و عندما تناول الفلاسفة قصة العلم قالوا ان هناك معلومات كثيرة فكيف يمكن ان يعلمها جميعا دون ان يكون هناك تكثر في الذات الالهية. وقالوا ان الاشياء في الكون اما ان تكون من مادة او من غير مادة, أي العقل . و وبما ان الله لا يمكن ان يكون من مادة فهو بالتالي عقل, والعقل يعقل ذاته فتكون معقولة له
. و هنا ارادوا المحافظة على احادية الذات الالهية وان ليس فيها تكثر.
وعندما اتى ابن سينا قال ان هناك جزئيات كثيرة و ان الله لا يعلمها و يعلم فقط الكليات. كما رؤية افلاطون الذي يقول ان هناك هرمية للاشياء تنتهي الى شيء واحد و هو راس الهرم. فجميع الحيوانات بمفهوم الحيوان و النباتات بمفهوم النبات و كل هذا بمفهوم الكائن الحي. كما تترتب هرمية المُثل الافلاطونية التي تنتهي الى مثال المثل و هو الله. اي ان الله يدرك الكليات الانسان و الحيوان و النبات على نحو الاجمال و لا يعلم الجزئيات. و هذا ما اخذوه على ابن سينا بالرغم من انه وجد مخرجا عن كيف ان الله يعلم الكليات و الجزئيات .
يقول الغزالي للفلاسفة لا يمكن ان يكون هناك ذات واحدة تعرف الكليات و الجزئيات من غير ان يكون فيها تكثر , اي يقول للفلاسفة لا فصل بينكم و بين خصومكم الذين يقولون ان الارادة القديمة تعلقت بحدوث لعالم , وكلا الفرضيتين مصاغتين بطريقة تحكمية . لانهما لا يعتمدان على قياس او ضرورة عقلية .
الفلاسفة قالوا بانه لا يجوز قياس الاول القديم على الحادث لان علمنا متكثر يتعدد بتعدد المعلوم. و هذا ما اجبر الفلاسفة, كما يقول الغزالي, على القول بان الله عقل و عاقل و معقول. ولكن بهذه الطريقة فهو لا يعلم الا نفسه. ولذلك كان هدف الفلاسفة هو المحافظة على احادية الذات الالهية. يرد الغزالي: ان اتحاد العقل والعاقل والمعقول يؤدي بالضرورة الى ان الله لا يعلم صنعته, وهذا محال. فكيف يمكن ان يكون الصانع لا يعرف صنعته, وهذا هو قول الزائغين عن الحق. فكما انتم تقولون ان الارادة القديمة لا يمكن ان تتعلق باحداث اي شيء, فنحن ايضا نقول وبنفس الطريقة التحكمية, ان العلم لا يمكن ان يكون واحد بتعدد المعلوم. ولذلك فصفات الله زائدة عن الذات الالهية.
ابن رشد ومسالة المعروف بنفسه (او الضرورة العقلية)
يصف ابن رشد اقوال الغزالي بانها ركيكة الاقناع. كما عندما طلب الغزالي من الفلاسفة برهنة مقولتهم بان المفعول لا يتأخر عن الفاعل الموجود بكامل شروطه, بواسطة قياس الحد الاوسط او ان يكون من المعارف الاولية, أي يجب ان يعترف به كل الناس. ولكن الامر ليس كذلك, يقول ابن رشد, لانه ليس من شرط المعروف بنفسه ان يعترف به كل الناس, بل على الاغلب يكون مشهورا.
جميع الفلاسفة قالوا بتعدد العلم بتعدد المعلوم, وبالتالي قالوا ان هناك اتحاد بين العالم المعلوم, للمحافظة على احادة الذات الالهية. فهل عندهم برهان على ذلك ؟. ويقول ابن رشد ان ليس لدى الاشاعرة ايضا البرهان على تخلف المعلول عن علته التامة.
بعد عقود متعاقبة من الوجود والأداء، ما فتئ كثير من المتدخلين التربويين والإداريين ينظرون بعين الريبة والاتهام إلى المفتش التربوي؛ تارة ينسبونه إلى الكسل والخمول، وتارة أخرى يسِمونه بمياسم بالتسلط والاستبداد ؛ وبين طرفي هذين الوصفين أشكال وألوان أخرى يضيق المقام عن بسطها. غير أن الموضوعية تقتضي الإقرار بوجود مساحات واسعة تتحرك فيها أغلبية محترمة من أطر التفتيش بتجرد وتضحية وإنكار للذات، رغم إكراهات المنظومة وضعف وسائل العمل فيها.
أمام الهشيم اليابس الذي يخطو عليه المؤطر التربوي إذن، تكبر الحاجة إلى تفادي كل احتكاك غير تربوي، قد تؤدي شرارته إلى اضطرام نيران الاصطدام والقطيعة والمواجهات التي تدمر الذات التعليمية، وتهدر أمامنا فرصا كثيرة لمعالجة الاختلالات المختلفة. إن أهم علاقات المفتش التربوي داخل مجال اشتغاله.. تلك التي تجمعه بأساتذة منطقته التربوية؛ ولذلك من اللازم أن ينظر في بنائها وتقويتها، والسهر على حمايتها من أنواء التوتر والاضطراب..فقد مضى عهد المفتش التربوي المسكون بوسواس التربص وإحصاء أنفاس المدرسين.. والذي تتحول معه العملية التربوية إلى مطاردات بوليسية يستمرئ فيها ممارسة أدوار التحقيق والاستجواب، ويتلذذ بنصب الفخاخ وكشف العثرات؛ إنه نموذج ضمُرت مسوغات وجوده، بما عرفته الحياة العامة من انفتاح ونزوع نحو تكريس الحقوق الذاتية، والمناداة بالتشاركية في مقاربة كل القضايا المجتمعية. فإذا كان المفتش التربوي حريصا على تأطير المدرسين وفق النظريات التربوية الحديثة التي تعلي من شأن التعلمات الذاتية، وتحرص على تمكين المتعلم من أدوات اشتغال مناسبة، مراعية قدراته وميولاته التعلمية، وفي احترام كامل لكينونته الإنسانية، وتقدير واع للسياقات الاجتماعية والنفسية التي يعيشها.. فإنه على الوزان نفسه مطالب بتنفيذ هذه الرؤية التربوية المتنورة في علاقته مع مدرسي منطقته التربوية؛ بل هي من باب أولى، لأنه يدخل في حوارات تأطيرية مع موظفين في أعلى هرم النضج المعرفي والتربوي والاعتباري. إن مفتاح نجاح الجيل الجديد من المفتشين التربويين رهين بمدى فهمهم للمتغيرات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي انهمرت بها أمطار العولمة مؤخرا، مما وسع هوامش الحرية في التفكير والتعبير، وجعل الحنين إلى ممارسة السلطة بمعناها الضبطي في مجال التربية أمرا يقود إلى الباب الموصد حتما؛ ههنا إذن يمكن الحديث عن مقاربة تأطيرية تستند إلى تعاقدات تربوية بين المفتش ومدرسي منطقته التربوية؛ إنها تعاقدات تنسجم مع العصر، وتمتح من نظريات التواصل الحديثة في احترام تام للأدوار الوظيفية التي توزعها الوثائق الرسمية على مختلف المتدخلين. يمكن إذن رص مكونات هذه التعاقدات في العناصر الآتية: 📍 1- الإنصات: حيث ينبغي للمؤطر التربوي أن يصغي باهتمام وتركيز تامين للبوح المؤلم الذي يغلي في صدور المدرسين، الذين لا يجدون فرصا كثيرة لبث ما يجدون من ألوان المعاناة التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية التي يكابدون في علاقاتهم البينية، أوفي علاقتهم مع متعلميهم، أوبغيرهم من المدبرين الإداريين والتربويين.. غير أن هذا الإنصات ينبغي ألا يتحول إلى بكائيات سوداء للتعويض النفسي.. بل هو إنصات مؤسس على احترام ذات راشدة في نيل حقها كاملا في التعبير، وبسط رؤيتها للمشاكل الواقعية التي تضطرب بها الفصول الدراسية.. مما يساعد المفتش التربوي على تكوين صورة واقعية للمنظومة من داخلها، بعيدا عن التشخيصات المفارقة للحقيقة؛ إنه إنصات يميز بين الإكراهات الكبرى التي تعانيها المنظومة برمتها، والتي يتم توجيه النقاش حولها إلى سياقات أخرى مناسبة، وبين إكراهات من صميم الممارسة التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية للمدرسين، والتي يحرص المفتش التربوي على استثمار لحظات البوح بها في أفق استشراف حلول مناسبة لها. 📍2- الإشراك: إن التأطير التربوي الناجح هو الذي يكون بأصوات متعددة متناغمة؛ فقد مضى عهد الديكتاتورية المعرفية التي كانت تؤله المفتش، وتلبسه أردية القداسة خوفا وطمعا؛ نحن اليوم أمام انفجار معرفي شتت المعلومات وجعلها تتطاير في كل اتجاه.. وليس بين الإنسان المعاصر وطوفان المعرفة سوى نقرات قليلة على النت. في المدرسة المغربية اليوم مدرسون من فئة المبدعين والباحثين، وبعضهم يجر خلفه مسارا حافلا من العطاء والإنجاز؛ وسيكون من الحيف تغييب هؤلاء عن الفعل التأطيري إساءة للظن بقدراتهم وكفاياتهم العلمية والتربوية، أو حرصا على شيء تواضع المهتمون على تسميته بالسلطة المعرفية للمفتش. إن النجاح في التأطير يعني تحفيز هذه الفئة المجتهدة من الأساتذة للمشاركة في برامج التأطير والتكوين، مما سيشكل تثمينا لمجهوداتهم وتحفيزا لبقية زملائهم، وسيحول المنطقة التربوية إلى خلية نحل نشطة، تتحرر فيها المبادرات، وتنفتح فيها أوراش العمل، وتتحرك في دروبها فرق البحث.
📍3 – احترام الأدوار والمسؤوليات: لا يعني العنصران السابقان تعويم الدور الفعال الذي يقوم به المفتش التربوي، كما لا يعنيان تخليه عن مسؤولياته المحددة قانونا؛ بل هما تأكيد نوعي على ممارسة المهام التأطيرية بوعي تام، واستبطان كامل للتحولات التي شهدتها الساحة التربوية في السنوات الأخيرة. ولذلك، فإن المفتش التربوي مطالب بتفعيل كل اختصاصاته، وأداء مختلف أدواره التأطيرية والتكوينية والبحثية والتدخلية والرقابية، بما تتطلبه الحكامة التربوية الجيدة، مع نزوع حقيقي نحو رعاية الحس الجماعي في كثير مما يتيحه السياق، ويقتضيه نوع المهام. إن المشرف التربوي وهو يؤدي مهامه المختلفة، يجب ألا تفوته حقيقة محورية في عمليات هذا الأداء: إنها أمواج متلاطمة من النفسيات المختلفة، وميولات متباينة من الأفكار والاتجاهات الثقافية.. مما يجعل الحركة محسوبة الخطوات، محاطة بالانتباه الشديد، والتركيز الكبير. لقد رأينا كثيرا من حالات الانسداد التربوي بين المفتش والمدرسين بسبب تغييب هذه الحقائق المؤثرة؛ ولذلك سيكون النجاح في بلورة العناصر أعلاه رهينا بقدرة المفتش التربوي على نسج علاقات تواصلية مع مكونات منطقته التربوية، تقوم على إدراك حقيقي لتفاصيلها، ومعاملة تقوم على العدل والمساواة بين عناصرها دون محاباة زمالة سابقة، أو قرابة فكرية أو سياسية تغض الطرف عن الاختلالات. إن تجسير الهوة بين المفتش التربوي والسادة المدرسين لا يقوم إلا على قواعد الثقة المتبادلة التي تمتح من تقدير الذات التربوية، والانتصار لمظالمها المختلفة، مع اعتماد الصراحة والوضوح في تقييم المهام المنوطة بالشركاء جميعا، وتقبل الاختلاف والتنوع في الآراء والاجتهادات مادامت جميعها تحترم المدخلات القانونية والمنهجية للمنظومة التربوية. تبدو إعادة النظر في علاقة المشرف التربوي بالمدرسين والنحو بها مناحي التكامل والتعاون والانسجام، بابا كبيرا لزرع الأمل في مستقبل المدرسة المغربية، واجتثاث فكر التيئيس الذي ينشر الإحباط، ويدعو إلى نفض اليد من المدرسة المغربية.
أمّة تختزل “مفهوم الفساد” في الجنس، وتختزل “مفهوم التعدد” في الزوجات، وتختزل “مفهوم الشرف” في العذرية، وتختزل “مفهوم الإلتزام” في لحية وحجاب وسائر لوازم الشغل.. أمّة خارج التاريخ.
اختبار الماستر.. ورؤية الأستاذ.. بعد أخذي لشهادة الإجازة من كلية الشريعة بفاس ، بدأت أتسبب فيما يتسبب به الناس من أمر اتمام الدراسة العليا، فدفعت ملفا في فاس في وحدة” المصطلح الأصولي” وكان بي شوق أن أتابع فيها لشغفي بعلم الأصول، لكنهم لم ينادوا علي حتى للانتقاء الأولي ، ثم أخبرني بعض الأصدقاء أن ماسترا جديدا بمكناس قد فتح، فدفعت إليه، ونودي علي للمقابلة الشفاهية، فوجدت جمعا من الطلبة أمام القاعة قد وضعوا ورقة ترتب فيها الأسماء، ولأني مستعجل أن أعود إلى العمل في الحصة المسائية، فسجلت نفسي الثاني بعد الأول، فدخلت على اللجنة وكان فيها الدكاترة الفضلاء: د عبد الرحمن حيسي، ود خالد ميقالي، ود عبد الله لخضر، ود عبد الحق حنشي، ود عبد الرحمن اقشيش، ولا أعرف فيهم أحدا، وهؤلاء أعيان شعبة الدراسات الإسلامية بمكناس؛ ثم لما بدأ الاختبار بقليل دخل الدكتور فريد رحمه الله، بطلعته البهية معتذرا للأساتذة عن التأخر، فواصل الأساتذة السؤال، والعرف الجاري في مثل هذه المقابلات أن الطلبة الأفاقيين يشدد عليهم في الأسئلة ما لا يشدد على أبناء الكلية..فكان امتحانا حامي الوطيس، لا تلمس فيه أدنى مساحة من الانبساط، لكن الله عندما يأذن بشيء يهيء أجوبة لا تخطر على بال المرء، فسالني الدكاترة الأجلاء كل في تخصصه، واسترسلت مع الدكتور ميقالي في التصحيح والتضعيف عند المعاصرين،- وكما قلت في منشور سابق إن اللباس والهيئة يصنف الشخص بمجرد رؤيته- فظنني من أولئك، فذكرت له ما قاله ابن الصلاح في مقدمته، واستشهدت عليه بنظم الحافظ العراقي في الفيته؛ فانبسط وانشرح واسترسل معي.. فلما جاء دور الأستاذ فريد قالوا له : اسأل. قال هذا الذي سمعته فيه كفاية جدا..ثم أخذوا بطاقة تعريفي الوطنية يوثقون الاسم في المحضر، فرأى الأستاذ أن مهنتي ” أستاذ” ، وأنني أقيم ببلدة نزالة بني عمار، فهنا سألني ماذا تدرس؟ قلت له : التربية الإسلامية، فقال لي أعطني رقم هاتفك، فإنك أريدك لأمر، ولكن لا علاقة له بهذا الامتحان، فقلت له هذه الجملة بنبرة قوية : “الامتحان أمره إلى الله إن شاء أمضاه أمضاه”..فأعطيته الرقم، ثم خرجت..
ما بعد الاختبار.. مر اليوم الأول من الاختبار، عدت إلى بلدتي، استرجعت أنفاسي وسكن رُوعي، وهذه عادتي بعد أن أفعل سببا شرعيا أحاول الابتعاد عن التفكير في آثاره الإيجابية- في ظني- ما أمكن، وأربط القلب بالله إلى درجة أن يقل السبب في الظهور، ولا أتذكر منه إلا الهنات التي يمكن أن أوتى من قبلها، وأنا على إدراك تام بضررها وأثرها إن لم يتداركني الله بلطفه ورحمته.. وفي اليوم الثاني بعد رجوعي من المسجد من صلاة الظهر، وأنا أتهيأ للذهاب إلى العمل رن هاتفي على رقم من أرقام الثابت، فخطر في بالي كل متصل إلا أن يكون المتصل الأستاذ رحمه الله، فكان هو، ولما رأى ارتباكي وتلعثمي في الكلام آنسي بكلمات رقيقات لطيفات، ثم شرع يتحدث فقال: لقد أعجبت اللجنة بجوابك أمس أيما إعجاب؛ إلا أن هناك إشكالا وهو أن الإدارة أسرت إلينا أن الإصلاح الجديد للدارسات العليا يتطلب الحضور التام مما يعني تحاشي قبول الموظفين، وقال لي: سأعمل بتنسيق مع منسق الماستر الدكتور الفاضل عبد الرحمن حيسي على حل هذا الإشكال مع الإدارة، أما المقصود من الاتصال، وهو أن تلك البلدة التي أنت فيها هي تابعة لنفود المجلس العلمي، ولا أحد عندنا فيها يقوم بنشاط وعظي، فهل عندك تزكية في الوعظ ، قلت نعم من المجلس العلمي بالقنيطرة وفاس، قال: فاقدم علي غدا إلى المجلس صباحا لأتذاكر معك في هذا الشأن.. مر علي اليوم فرحا مسرورا أن كلمي الأستاذ الدكتور، وفي شوق لأن يطوى بقية اليوم والليلة لأقابله عيانا.. في الصباح الباكر جدا خرجت صوب مدينة مكناس ، فوصلت التاسعة صباحا إلى مقر المجلس، وبينما أنا هكذا التفت يمنة وبسرة في مدخل المجلس بالمقر القديم، إذا بالأستاذ يصل فييمم اتجاهي وبادلي التحية، ويمسك بيدي يحاذيني في المشي حتى فتح مكتبه وأدخلني.. ثم بدا يطلب مني أن أحكي له عن أحوال البلدة مذكرا إياي بتاريخها القديم؛ أنها كانت بلاد حفظة القرآن وتلقين العلوم الشرعية، خصوصا بعض المداشر فيها، فهل ما تزال كذلك؟، قلت له لا : الحال تغير كثيرا، فقال مهمتنا أن نحيي فيها على الأقل تحفيظ القرآن كما كان.. ثم نادى على الكاتبة وقال لها انظري وثائق الأستاذ؛ فإني أريد أن أكتب له إذنا بالوعظ والإرشاد بمنطقة نزالة بني عمار…يتبع
مداولات الماستر وبدء الدراسة.. كان الماستر الذي أجريت المقابلة الشفاهية فيه اسمه:” ماستر الاجتهاد والتجديد والتواصل الحضاري”، وهو أول ماستر بشعبة الدراسات الإسلامية بمكناس بعد إلغاء الدولة لنظام ” دبلوم الدراسات العليا المعمقة”، واستبداله بنظام الماستر؛ فشدد الإصلاح الجامعي على قضية الحضور، وأدخلت مواد متنوعة، وحصص كثيرة ، وفصول أربعة بتقويماتها، بخلاف نظام ” المعمقة” ، وهكذا حددت اللجنة التربوية للماستر يوما للمداولة، وأخبر الأستاذ الأنصاري به، وكان عازما على حضوره[ هذه المعطيات حكاها لي مشافهة بعد مدة من ظهور النتائج]، لكن القدر سبق بإخباره باجتماع عاجل بالمجلس العلمي الأعلى بالرباط، وحضوره ضروري، فقال لي: ذهبت وعقلي في اجتماع اللجنة؛ أتابع سير أعمالها بالهاتف خطوة خطوة، فلما وصلوا إلى قضية الموظفين، ألقى علي منسق الماستر هذا الإشكال، لأبحث له عن حل، فقلت له: أحصرتم لائحة الناجحين بالاستحقاق؟ ، قال: نعم. فقلت: كم خرج لكم من موظف؟ ،قال: اثنان: ذاك الأستاذ بنزالة بني عمار، وأستاذة هنا بمكناس، فقلت حُلَّ الإشكال بإذن الله، هذا عدد قليل جدا، ثم الموظفان يعملان بإقليم مكناس، إذا اكتبوا تقريرا بهذه الحيثية، وسأدخل به على السيد العميد لما أرجع، وفعلا تم ذلك، وقبلت الإدارة تخريج الأستاذ، وأعلنت النتائج، وبدأت الدراسة. ومن أقدار الله أن لجنة هذا الماستر ألزموا أنفسهم ألا يقبلوا إلا أهل الاستحقاق، ومن هنا نعلم لماذا كان امتحانه شديدا، ولم تكن فيه أدنى مساهلة كما اخبرتكم سابقا؟، فخرج في هذا الفوج طلبة مجدون بزيادة، ومن كليات ومناطق مختلفة من المغرب. وعقده الجوهري منسقه السيد الفاضل الدكتور عبد الرحمن حيسي، هذا الرجل أمره عجيب جدا؛ إذ له نظرة خاصة للعمل الوظيفي؛ قلما وجدتها ، وهو أنه ينظر إليه على أنه عمل تعبدي، فلا هَمَّ له إلا العمل بالجامعة وبيته، فيحمل هم العمل كما يحمل همومه الأخرى على درجة واحدة، بل لا أبالغ إذا قلت أن هم العمل عنده أغلب من أموره الخاصة، ويكرر هذه الجملة” هادوا اولداتنا بغينا الله اينفع بهم في هذه البلاد”؛= ” هؤلاء أبناؤنا نيتنا وقصدنا أن ينفع الله بهم في هذه البلاد”؛ فكان يحرص على الطلبة كأنهم أبناؤه، يسأل عن أحوالنا، يختار لنا أفضل الأساتذة للتدريس، يرفع من هممنا في محاضراته، يدافع عنا أمام الإدارة، لأنه في الحقيقة خرج فوجنا كأننا” طلبة ديال الجامع” الجلابيب أو الأقمصة، واللحي في الغالب، مع كبر السن.. فجزاه الله خيرا، وكثر من أمثاله. وكذلك أمر آخر وجدته في مكناس أن أساتذته في الغالب تقل بينهم وبين الطلبة المسافات، هذا طبعا مع الأدب والاحترام، فلا تكاد تجد تلك” الرسميات والحدود” بينهم وبين الطلبة، كما في كليات أخرى؛ فكان ماسترا حافلا بكل شيء، محاضرات مركزة، وعروض متقنة، ومناقشات حامية ومفيدة، وفيه من النكتة والدعابة أيضا، وخصوصا من طالب موريتاني، وطالب من الدار البيضاء، ولا أخفيكم أن فكرا ما جديدا تولد عندي في هذا الماستر، فكان لحظة فارقة بين ما كنت عليه سابقا، وما صرته لاحقا…
يوم أن زارنا الأستاذ فريد الأنصاري- رحمه الله- بالبلدة الوادعة نزالة بني عمار.. هذه البلدة أفاضت علينا من بركاتها، وعلمت يقينا قوله تعالى:” وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا”، فكانت سببا في فتوحات كثيرة، وذات يوم اتصل بي السيد منسق الأنشطة بالمجلس العلمي بمكناس، وقال لي إن الأستاذ يطلب منك أن تجمع أئمة المنطقة وفقهاءها، وتعلن في الناس أن السيد رئيس المجلس العلمي سيأتي في زيارة رسمية- يوم كذا مع صلاة العصر- لمسجد البلدة؛ مع الأعضاء وبعض الوعاظ المتعاونين مع المجلس، وفعلا قمت بما طلب مني، وبدأت بالإعلام، هذا يعلم هذا، وذاك يعلم ذاك، إلا أن الأستاذ كان عنده نشاط آخر في نفس اليوم بمدينة زرهون، فأخروه عن الوصول إلينا قليلا، فنادى علي بالهاتف بعد أن صلينا العصر، وتعذر عليه الوصول قبله، وقال لي: اعتذر لعموم الناس واتركهم يمشون، وامسك لي الأئمة والفقهاء، فحاجتي بهم أكثر من عموم الناس، فبقينا في المسجد ننتظره إلى أن سمعنا بوصول سيارات الضيوف، فخرجنا لاستقبالهم والترحيب بهم، ودخلنا إلى المسجد، وقال لي في أذني، وقد قصدنا المحراب ليجلس من إجل إلقاء كلمته، نجلس على مذهب مالك : أن لا صلاة بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، وشرع في إلقاء كلمته.. فتحدث عن أهمية القرآن، وواجب الأئمة في المحافظة عليه، وعلى الأعراف المتعلقة بتحفيظه، ومنها عرف “ترتيب الطلبة” من أجل حفظ القرآن؛ كما كانت هذه البلدة ونواحيها معروفة به في السابق، بل مما جاء في كلامه :” أن كل إمام لو جمع عنده أربعة من الطلاب فصاعدا، فليسجل أسماءهم، وليقدم إلى الأستاذ بها من أجل أن يرصد له إعانات من المحسنين تشجع الطلاب على ملازمة الحفظ ، وتوفر لهم بها ما يحتاجونه من مؤنة”، ثم أنهى كلمته ، وأخرج من جيبه قدرا من المال، وقال للفقهاء : “هذا من مالي الخاص، اقسموه بينكم بالسوية ، وادعوا لي بظهر الغيب، فإني مريض هذه الأيام..”، ثم أخرج قدرا آخر من المال ، وقال: انه من أحد المحسنين، وزاد مؤكدا على قسمة المال بالسوية لما رأى طالبا حديث السن، قال لهم بالحرف الدارج “كيف الكبير كيف الصغير”. = أي حق طالب القرآن الصغير من المال، كحق الحافظ أو الفقيه الكبير.. ثم ختم المجلس ؛ فكان ختما مؤثرا ،ودعا له الجميع وتأثروا، وبكى بعضهم، ثم خرجنا وقال لي: إلى أين الآن يا عبد المنعم؟ ، فقلت له يا أستاذ إلى مقر عملي بالإعدادية؛ فإن السيد المدير قد اغتنم المناسبة، وجمع لك التلاميذ من أجل أن تلقي فيهم كلمة توجيهية، فانطلقنا إلى الإعدادية، ووجدنا السيد المدير والأساتذة في استقبالنا، فرحبوا ترحيبا حارا بالأستاذ وضيوفه، ودخل إلى المؤسسة؛ فرأي ساقية الماء، فقصدها، وقال: نشرب من هذا الماء المبارك لعله يكون شفاء، ثم انطلق إلى أن وصل إلى قاعة اجتماع التلاميذ، وكانت كلمته من وحي المكان: أنْ رأى الإعدادية في غابة من أشجار الزيتون، مرافقها متباعدة لشساعة مساحتها، فتحدث عن قضية ” التلوث الضوضائي في المدن وأثره على الفكر النفسي والعقلي ” ، وذكرنا بنعمة موقع المؤسسة والبلدة؛ فأحيا فينا شكرا بنعم، ربما جحدناها لكثرة إلفنا لها، وحصلت نفحات ربانية، وسكن الجميع كأن على رؤسهم الطير، وأمنوا على أدعية نورانية صدرت من الأستاذ في ختام الكلمة، وتنمى الكل أن لو لم يختم الأستاذ كلمته.. ولكن كما قال الشاعر: ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا **ولكن لا خيارَ مع الزمانِ! ثم شيعه الجميع في موكب مهيب إلى باب المؤسسة، فودعناه ثم افترقنا..
قصتي مع المدير.. في القرية الوادعة ” نزالة بني عمار” إقليم مكناس، الحياة بطيئة جدا، لكنها غير مملة، غالب الأساتذة على قلتهم ينتقلون يوميا إلى مكناس عبر مجموعات، تكون عندهم سيارة يتعاونون على مصاريفها، وقلتهم مستوطن تلك البلدة، منهم أنا والمدير الجديد للعام الثاني من تعييني سي محمد بركان، وهذا المدير أمره عجيب جدا؛ إذ هو منعزل تاما عن الناس، ولا يندمج مع أي أحد، غير متزوج مع تقدمه نسبيا في العمر، لكنه اندمج معي، وكونا صداقة، نجلس في المقهى، ونخرج بين الفينة والأخرى، هذه الصداقة اشغلت القرية والمحيط العام لأيام وأشهر أو أكثر لتفسيرها، ولم يجدوا لها جوابا، هو منعزل بطبعه، وأنا منعزل بطبعي، ومع ذلك تصادقنا..، ولكن في حقيقة الأمر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ” الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. “فما رأيت طيبة ونقاء صدر، وتركا لما لا يعنيه من هذا المدير.. ففي عامي الأول من التعيين، لم أكن أعرفه جيدا بعد، وكان هو حارسا عاما للخارجية، وتعرفون أن أجرة الأستاذ الجديد تتوقف لأشهر أو سنة ، وربما أكثر .. فيبحث الأستاذ الجديد عمن يقرضه.. ،وصادف أن تذاكر الأساتذة في طريقة لاقراضي، فقال لهم اتركوا هذا الأمر لي، وناداني يوما إلى مكتبه، وأغلق الباب، وقال لي بأدب: أمحتاج إلى مال؟؟ وكان عيد الأضحى على الأبواب، وكنت متزوجا وعندي ابن، قلت نعم، فقال لي كم تريد في الشهر؟، قلت كذا، فقال لي سأوفر لك هذا المبلغ عند رأس كل شهر، وتكلف أنت بتدوين مبلغ الإقراض عندك، إلى أن تتسلم راتبك، وفعلا؛ كأني كنت آخذها من الصراف الآلي، يتحين الفرصة ألا يكون أحد، ويضعها في ظرف ويسلمها إلي.. وتوطدت علاقاتنا بعد، فصادقته طيلة عملي بالإعدادية، شجعني على اتمام الدراسة الجامعية، وكان متهمما بها، ويقول لي : “الحياة لا تساوي شيئا بدون المعرفة”، كان يعرض علي مشاكل العمل، ومشاكله الخاصة،فأبذل وسعي في إعطائه الرأي، وكثيرا ما كان يأخذ به ، ويعجبه، وكنت أتعاون معه في إنجاز أعمال الإدارة، واستفدت منه كثيرا في الضبط الإداري، والاقتصاد، وغيرها من الأعمال الإدارية.. ومن الغرائب أنه كان يحمل همي لأداء الصلاة أكثر من نفسي، أكون معه في المقهى أو الإدارة، يسمع الأذان فيقول لي : أستاذ عبد المنعم، نوقف كل شيء إلى أن تؤدي الصلاة.. ومن أوصافه النادرة العفة عن المال العام، والحرص على عدم تضيعه، فكان ينفق من ماله الخاص على ما هو من اختصاص المديرية الإقليمية للتربية الوطنية.. ثم انتقل عن إعداديتنا ، لأنه في الحقيقة كان مكلفا بالإدارة فقط؛ مع مهام الخارجية، ولا يريدها رسميا، فلما جاء مدير جديد رسمي، اقترحت عليه النيابة أن يطلب إدارة إعدادية بزرهون، فقبلها على كره، ثم ذهب للاشتعال فيها، لكن مع الأسف عورض معارضة شديدة من طرف متنفذين لا يريدون الإصلاح، ولا يتورعون عن المال العام، وهو لا يساعدهم على ذلك، وخصوصا جمعيات (كذا)، فعنده من المستحيلات أن يتواطأ مع أحد على تبذير المال العام، فبدأوا يكيدون له المرة تلو الأخرى، فكان أن جاء متأخرا ليلا من مكناس، فختموا باب سكنه باللاصق ، فبدأ يكسر الباب للدخول، فجاءوا بطالبات الداخلية وجمعوا الناس ليشهدوا أنه في حالة سكر، وأنه يريد كيت وكيت.. ودخل معهم في صراع في المحاكم، وضاعت له أموال كثيرة؛ ومع الأسف لم ينصره أحد ، كما هي سنة الله في المصلحين؛ يتواطا الناس عليهم شرا، وقلما يجدون الظهير والنصير، ولقد آلمني وضعه، ولم أقدر على نصرته بشيء محسوس، إلا ما كان من زيارته والجلوس معه لمواساته، فاقترحتْ عليه النيابةُ أن يشارك في الحركة الجهوية ليترك تلك المؤسسة خروجا من الصراع، وفعلا فعل وانتقل، لكن أولئك النفر كان غيظهم لم يشف بعد؛ فكانوا يحرضون عليه إلى أن تم إعفاؤه.. وأعطي مهمة إدارية- قسم الأرشيف- بالمديرية الإقليمية، وكان أن وصله إلى مكتبه الترخيص النهائي لالتحاقي بالتعليم العالي، ففرح به فرحا شديدا، وهاتفي مهنئا؛ كأنه نجح هو، أو ولد من جديد .. فجزاه الله خيرا.
القرية الوادعة.. مذهب المغاربة في القدر أنهم يقولون” دير للقدرة عواضها” بمعنى إذا نزل القدر؛ وإن كنت له كارها، فرتب نفسك للعيش معه، واجعل من المقدور نافدة للأمل”. ذهبت إلى بلدة التعيين نزالة بني عمار”، لاكتشفها وأوقع محضر الالتحاق بالعمل بها، فصادف أن ركب معي في سيارة النقل العمومي أستاذا جديدا أيضا لمادة الاجتماعيات هو سي أحمد البوقرعي ..فنزلنا من النقل، فلم نجد شيئا، قرية مكشوفة، كل مرفق فيها على قلته يطل على الفضاء الواسع من الأراضي الفلاحية وأشجار الزيتون، فكان ما يدور في أنفسنا ” يارب أن نجد مكانا للكراء بهذه البلدة” . فذهبنا إلى الإعدادية المسماة باسم البلدة،” إعدادية النزالة” فاستقبلنا المدير، وسلمنا محاضر التوقيع، فوقعنا وكان التاريخ 13/10/2003 ، ولأن الدراسة كان منطلقة لأكثر من شهر؛ استعجلنا السيد المدير للالتحاق بالأقسام، ولم يعطنا وقتا طويلا لتدبير أمر الكراء والاستقرار. ثم استقررت بهذه البلدة ، فيها مسجد واحد لا يخفى، وسوق أسبوعي وحوانيت.. وأجمل ما فيها الفضاء المفتوح في كل شيء،هذا في السكن والإقامة، أما في العمل فوجدت تلاميذ من أظرف ما درست في مسيرتي التعليمية إلى الآن، وكذلك إدارة طيبة وخصوصا بعد السنة الأولى، وسأحكي في منشور لاحق بعض مستظرفاتي مع المدير الجديد.. وكذلك وجدت أساتذة رغم اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم إلا إنهم متحدون في مطالبهم متضامنون في ملماتهم.. وفي هذه البلدة عدت إلى اتمام دراستي الجامعة، لأني توظفت بشهادة السلك الأول من الإجازة، أما أمر مكناس؛ فما كنت أدخل إليها إلا لماما، واستعجل العودة؛ لأنه بعد العصر ينعدم النقل إلى تلك البلدة، لكن أخبار الأستاذ فريد كانت تأتيني من طرف أستاذين جليلين يدرسان معي، ويتنقلان يوميا إلى مكناس، هما سي أحمد البوقرعي وسي ياسر بوعسرية..إذ كانا يحضران خطبته بمسجد محمد السادس وبعض دروسه.. كما كانت تصلنا أشرطة الأستاذ المدمجة عن طريق ناشر دعوة الأستاذ الصوتية ” تسجيلات أبو هاجر” ..
قضية التزكية أو التزكيات.. تأملت الكاتبة شهادات التزكية التي عندي ثم قالت ، هذه لا تنفع، تحتاج إلى تزكية المجلس العلمي لمكناس، وهذا اجتهاد منها خاطئ في تفسير القانون، لأن المجالس العلمية المحلية بالمملكة وحدة واحدة، فأيها زكى سرى على الجميع، فقط يبقى التأكد من صحة الوثيقة؛ لكن الأمر هكذا، وعلي أن أقبله، ثم دخلتْ عند الأستاذ وخرجتْ فخرج معها إلي ، فقال لها إذا كان لا بد فلنهيء له ملفا مستعجلا لاختبار التزكية، ثم تذكرت أنني اختبرت للتزكية بهذا المجلس لسنوات مضت وبالضبط 1997م ، وإني نجحت؛ لكن المجالس ذلك الوقت ما كانت تعطي شهادة التزكية، وهذا الاختبار له قصة، ذلك أنني في السنة المذكورة كنت خطيبا بأحد القرى الكبيرة بمنطقتنا، وهذه القرية فيها إخوة ملتزمون من شتى الاتجاهات، وكانت السلطة المحلية تراقب حركية هذا المسجد، وتنادي على الخطيب بعد أن تقبله القرية لمهمة الخطابة، فيرسله القائد لاختبار التزكية، وفعلا جاءني عون السلطة، وقال لي إن القائد يطلبك للحضور يوم كذا، فذهبت عنده، وسجل معلوماتي، وكتب رسالة ختمها، وقال لي خذها إلى ناظر الأوقاف بمدينة وزان، وهي مدينة تبعد عن محلتنا بما يقرب من 80 ك، فذهبت إلى النظارة ، وأخذوا مني الرسالة، وأعطوني رسالة أخرى ختموها، وقالوا لي اذهب إلى المجلس العلمي بمكناس يوم كذا للاختبار، فرجعت إلى محلتي ، ثم سافرت لمكناس إلى المجلس، فأخذوا مني الرسالة واختبروني، وقالوا لي انصرف، فقلت لهم ما نتيجة الاختبار؟، قالوا سنرسلها إلى النظارة، مرت أيام ذهبت إلى النظارة، فقالوا لي لا نعطي شيئا، إلا أنك قد قال المجلس: لا بأس بإسناد مهمة الخطابة لك، ولقد أرسلنا هذا التقرير إلى قائد المنطقة.. هذه قصة التزكية.. فقلت للموظفة والأستاذ: إني عندي ملف قديم هنا لاختبار التزكية، أخبرت أني قد نجحت فيه.. فأمر الأستاذ عون الخدمة بالمجلس أن يبحث عن ملفي في أرشيف السنة المذكورة.. فاستخرج الملف، لما قرأته الكاتبة، قالت إن هذه تزكية في الخطابة، وهو يريد الوعظ والإرشاد ، فقال لها الأستاذ وهو يضحك ” اسمعي آبنتي راه الخطابة أخص من الوعظ، راه هو عندو ما فوق الوعظ”، وأخذ قرار اللجنة السابق وأضاف بيده الكريمتين- رحمه الله- كلمة والوعظ بعد الخطابة ، وقال لها اكتبي له الآن الإذن..
حامل ومحمول..2 أيها الفضلاء: أسترسل في الكلام السابق .. جلست مع الشاب أمين أسبوعا انتظر التعيين الإقليمي فلم أظفر بشيء؛ لكني ظفرت بمعرفة هذا الشاب عن كتب، لأني فقط كنت أسمع عنه من صديق لي بسلا، وهو الذي أرسلني إليه، لأحل عنده بمقر الجمعية التي كان قيما عليها، وفعلا نزلت عنده؛ فعرفني الشاب أمين على مشروع الأستاذ فريد الأنصاري، وأماكن إلقاء دروسه، وحضرت بعضها ، كما أنه رتب لقاء لي مع الأستاذ بعد إلقائه لدرسه بالمسجد الكبير، لكنه كان خاطفا لكثرة من يريد لقاء الأستاذ، ولأمر آخر هو طبع الانقباض فيَّ عن الحديث بلقاء من هم في مقام الأستاذ.. وحمل معي هذا الشاب هم التعيين؛ إذ طال أمره لأكثر من شهر، فكان يتصل ويمشي برجليه إلى بعض الأساتذة ممن عرفوا بالعمل النقابي، وفعلا رتب لي لقاء مع الكاتب الإقليمي للجامعة الوطنية لموظفي التعليم آنذاك الأستاذ أحمد المنجره – شافاه الله وعافاه. فاستقبلنا هذا الأخير في بيته، ورحب بنا ،وشرح لنا إكراهات الحركة المحلية، وصراعات النقابات ومساوماتهم وكيت وكيت، وأنها هي السبب في تأخير تعيين الخرجين الجدد.. فرجعت إلى بلدتي ناحية” مشرع بلقصيري”. وهمي كيف أقنع الوالد بأن التعيين لم يقع بعد، والحال أنه يرى أن الدراسة قد انطلقت بجميع المدارس، لكن حقيقة الأمر أني ما زلت في عطلة، وهي مع كامل الأسف غير مدفوعة الأجر؛ كما يعلم الأساتذة الفضلاء، لأن الأجر يبدأ من توقيع محضر الدخول، فضيع علينا النيابة والنقابات- ظلما وعدوانا- أجرة شهر ونصف مع كامل الأسف!!!!!!! ثم بعد أيام عدت إلى مكناس، ونزلت على الشاب ضيفا فوجدته على الحال التي تركته عليها؛ “الأستاذ ومشروع الأستاذ “من القرآن إلى العمران”، فزاد شوقي أن يكون تعييني بمدينة مكناس” وهو مستبعد” أو محلة قريبة منها؛ لأستقر بها.. وذهبت إلى النقابي سي المنجرة لأسأله عن جديد ” طبخة” التعيين، فقال لي إن الأمر قريبا سيحل؛ لكن النقابات ألزمت النيابة بكون تعيين الجدد سيكون عبر نقطة التخرج، والحال أن مادة التربية الإسلامية، فيها مكانان شاغران: الأول بمدينة زرهون؛ تبعد 25 ك عن مكناس، والثاني بقرية نزالة بني عمار؛ تبعد 54 ك والنقل إليها متعثر يكون عبر مرحلتين: مكناس – زرهون، ثم إليها، فعلمت تلقائيا أن تعييني بأبعدهما؛ لأنني كنت في الترتيب بعد الأستاذ الآخر الجديد الذي عين معي بإقليم مكناس..
لوثة الانتماء في وجهة نظر.. أيها الفضلاء: أعلم أن جمعا كبيرا منكم مشتغلا بالعلم والتعليم النظامي، مما يعني أنه يرصد وظيفة عمومية أو هو فيها، وأن مسارات التربية والتكوين قد تجعل من الإنسان منتميا إلى حركة دعوية من الحركات الإسلامية، وهذا إن كان ايجابيا في مرحلة ما قبل الباكلوريا لحماية النشء من الأفكار الإلحادية أو الضلالية التي تعترض من هم في هذه السن؛ فإنه يصبح عائقا ما بعدها ، ذلك أنه؛ إما أن يوفق الله المرء فيكون عنده أفق واسع يأخذ من الجميع ما عنده من الصواب، ويرد ما عنده من الخطأ، ويتوقف في المشتبه؛ وإما أن يبقى مقيدا بأطروحة التنظيم مما يفوت عليه فرصا كبيرة في الإصلاح والتعلم والتعليم والاندماج، بل يجعله يهتم بأمر تصنيف الناس وتكثير سواء تنظيمه أكثر من أي أمر آخر، ولقد عانيت كثيرا من هذا الأمر في دراستي الجامعية، وبدرجة أقل في عملي بالتعليم العمومي، وبدرجة أكثر في التعليم الجامعي، إذ الناظر إليك في أول وهلة ، والمتلقي عنك أول ما يعنيه منك؛ من أي تيار أنت؟ فأمر تصنيفك يشكل له قلقا فكريا كبيرا قبل أي أمر آخر؛ ومن الطرائف أن أخا لي حكى لي عن صديق له دكتور في الجامعة مهتم بالفكر الإسلامي، فقال له كنت أظن أخاك” كذا” حتى رأيته ينشر في صفحته اقتباسات للدكتور عبد الوهاب المسيري.. فانظروا كيف يصنع أمر الاهتمام بالتصنيف المواقف والأحكام المسبقة عن بعضنا البعض؛ فإذا حكم عليك بأنك سلفي فيعني أن يجد فيك صورة طبق الأصل لما يُقَوّم به السلفي عنده، هذا إن كان سلفيا، وإن كان غير ذلك فللمفاصلة بينك وبينه، وإذا حكم عليك بأنك حركي فكذلك، والحركات والسلفيات مشارب، وهكذا، ثم إن الأمر يصبح في درجاته المتقدمة مثل طائفية العراق، لا يدور في فلكك إلا من تنتحل نحلته، بل حتى المشاركة فيما يسمى بالأنشطة العلمية والندوات والنشر في المجلات سرت إليه هذه اللوثة، وإن لم أجازف حتى الحصول على مقعد لدراسة الدكتوراه أو منصب للتدريس بالجامعة، وقل من الناس من يعلي من شأن العلم لذاته من غير قيد آخر، وهذا كله لا يخدم العلم والتعليم والإصلاح، بل تداخله أهواء النفوس بكثرة، والأمزجة لا ضابط لها، خصوصا إذا لبست لباس الحق والصواب؛ ومن ثم فرأيي- وأحترم آراء الآخرين- أن لا ينتمي طالب العلم لتيار من التيارات؛ لأن المفاسد المترتبة على الانتماء أكثر من المصالح ، ولينتم إلى العلم والمساهمة في الإصلاح مع جميع من ينشده من أي مشرب كان.. والله الموفق
ابتذال الخطبة.. أيها الفضلاء: هناك بعض الخطباء ما يزال لم يستوعب بعد ما معنى أن تخطب على الناس في يوم الجمعة، هذا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يوم الجمعة الذي اختلفت فيه الأمم وهدانا الله إليك، وإذ يقصد مسجدك الناس بالمئات والآلاف فللمعاني الاعتقادية والعملية من هذا الفعل، فلا ينبغي أن تتخذ من إلقائك ما يجلب سخط الناس عليك ولغوهم أثناء خطبتك، قبل سخط الله من عدمه، نعم ما يُشترط في هذا المقام من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى معلوم ومطلوب ، لكن ليس أن يخرج الخطيب إلى نقيض هذا الأمر، فإذا كان الإطار العام للخطيب هو دليل الإمام والخطيب والواعظ، فإن مضامينه واضحة، وأن العلماء الذين كتبوه طائفة منهم كانت تشتغل بالخطابة كالدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، فليتخذ الخطيب هؤلاء أعلام العلم والدعوة في بلدنا قدوته، فخطبهم المسموعة والمرئية موجودة، وليتخذ من الخطب المنبرية المكتوبة المعممة من طرف الوزارة- أحيانا- قدوته أيضا في منهج صياغة الخطبة، أما وأن يخرج إلى الضد من هذا، فهذا من ابتذال الخطبة قبل الكلام في لغو المستمعين. والمغاربة يقولون كلمة حكمة وهي :” آمين تتخوي، وآمين تتعمر” ولا حول ولا قوة إلا بالله .
كلام من القلب في موطن الانقطاع.. قال العلامة الدكتور سيدي مصطفى بن حمزة في كلمة له بالمقبرة عند دفن الأستاذ الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله:”…نحن الآن أشد ما نكون إحساسا بعلمائنا الذين يقفون على حدود حماية هويتنا، ويدافعون عن إيماننا، ويبلغون القرآن بالأسلوب الذي كان فقيدنا الأستاذ فريد الأنصاري يبلغ به، كان رحمه الله يتذوق القرآن، ويحلق في أجوائه، ويحببه للناس. وكانت دروسه دروسا نورانية. دروسا تخاطب القلوب والعقول معا، فلذلك تكون الحاجة إليه ماسة في مثل هذه اللحظات التي نودعه فيها…”
حامل ومحمول.. هذا الشاب ذو النظارة، الذي يحمل نعش الدكتور الرباني سيدي فريد الأنصاري رحمه الله، هو أول شاب اتعرف عليه في مدينة مكناس بعد أن عينت في اقليمها استاذا للتعليم الاعدادي 2003م،
فوجدته متأثرا بالشيخ فريد ايما تأثير، ويتحدث معي بيقين الصادقين أن بعثة التجديد قد بدأت، وان مشروع الشيخ القرآني قد انطلق. وان الراكبين على استعداد تام لحمل رسالة القرآن، فكان يجوب بي المدينة على القدمين، يتبع الشيخ في مجالسه الربانية بدون كلل أو ملل،فجلست معه أسبوعا؛ كنت مهموما أين سترمي بي مساومات النقابات مع النيابة في تعيين الخريجين الجدد؟، وهو في عالم آخر ..، فغبطته ايما غبطة ، وهو أول شخص عرفني على الأستاذ فريد وصفا ومعاينة وتقريبا..فجزاه الله خيرا ونفع به…، وكأني به في هذه الصورة يعتصره ألمان: ألم الفراق، وألم عدم اكتمال مكاشفاته التي كان يستمدها من الشيخ ..،ولقد نمي إلى علمي أنه استقر به المقام فيما بعد قيما على أحد المراكز الإسلامية بألمانيا.. إنه الأستاذ الفاضل أمين الحلوطي، السلاوي منشأ، ثم المكناسي إقامة. أسأل الله أن يحقق له ما كان يحلم به من حمل رسالة القرآن على التمام والكمال، وأن يرحم أستاذنا العلامة سيدي فريد الأنصاري رحمة واسعة على ما بذله لبعث النفوس وإيقاظها لاكتشاف الحقيقة الغائبة بصائر القرآن الكريم .. آمين آمين آمين
الرحلة إلى مكناس..وبدء مجالس التعلم..
بعد أن من الله بالنجاح في ماستر الاجتهاد والتجديد والتواصل الحضاري موسم 2006م، وبعد اكمال التسجيل النهائي، وأخذ استعمال الزمن، ورؤية جمع من أسماء الأساتذة الأجلاء الذين انتقاهم منسق الماستر الدكتور الفاضل عبد الرحمن حيسي لتدريس الطلبة في الفصل الأول.. كان لزاما أن تُجدد النية، وأن يُؤكد العزم ، وأن يقول من هو مثلي في تلك القرية النائية :” يا خيل الله اركبي”، وفعلا كنت أخرج لصلاة الصبح فأحمل معي محفظتى التي فيها أدوات درسي وتدريسي، لأني لن أعود إلى البيت إلا بعد السادسة مساء.. ذلك أن النقل من نزالة بني عمار إلى مدينة زرهون -وهي المرحلة الأولى- ومنها إلى مكناس، يكون قليلا ومعدودا، وإذا فاتتك سيارات النقل التي تخرج باكرا، ستحتاج إلى دورة زمنية من ساعتين فأكثر، وبالتالي تكون قد ضاعت لي نصف حصة الحضور الصباحية، وكذلك بعد عودتي أرجع قبل الثانية زوالا ، فأذهب مباشرة إلى عملي إلى أن أخرج بعد السادسة، هكذا كان البرنامج في الغالب.، وإذا كنت أعمل صباحا أخرج من العمل إلى البحث عن النقل للوصول إلى مكناس.وفي أحايين كثيرة كنا نتسابق على السيارة الواحدة، وكل منها يتأول لنفسه أنه أولى بهذا المشترك من غيره، لما يترتب عن تأخيره من تعطل مصالحه الضرورية..فاتُفق أن أُسندت إلى الأستاذ فريد الأنصاري- رحمه الله- تدريسنا في الفصل الأول مادة:” أحاديث الأحكام وفقه الواقع”،وكان حصته من 10—12، فبعد أن تنتهي الحصة الأولى، فمن الطلبة من يبقى جالسا يقرأ ورده من القرآن، أو يرتب شيئا، ومنهم من يذهب للمكتبة، ومنهم غير ذلك؛ ولكنهم كلهم يراقبون وصول الأستاذ؛ فإذا بك تراه يمشي الهوينى ميمما وجهه تلقاء قاعة الدرس، يحمل محفظة سواد أصابها الزمن، ولباسا متواضعا؛ يحيط به جمع من الطلبة يشيعونه من موقف السيارات عند مدخل كلية الآداب إلى قاعة الدرس، وقد يغتنم طلابه في بحوث الدكتوراه أو دبلوم الدراسات العليا المعمقة هذا الزمن للسؤال عن إشكال، أو توقيع ورقة، أو إعطاء جزء من البحث أو غير ذلك، وقد يعترضه غير هؤلاء مستفتيا وسائلا، وكان رحمه الله يتلطف كثيرا مع مرتفقيه، ولما يصل إلى القاعة، ويدخل إليها يجد المجلس قد استوى، فيبدأ في الدرس بعد مقدمة موجزة هي مقدمته في دروسه الوعظية، وكانت حصته الأولى أن حدثنا بمحاضرة عالية في مضمونها، وطريق إلقائها: هي الأفكار الأساسية لكتابه مفهوم العالمية- من الكتاب إلى الربانية؛ فتحدث عن وظيفة العلم، والعالم الرباني، ومنهج الطلب، والتعبد بالعلم، والوراثة عن الله، وغير ذلك من المعاني السامية، الذي ترفع الأنسان عن عالم الأشياء إلى عالم المعاني والقيم والحقائق الناصعة..، وكان- رحمه الله – يرى بعض الطلبة يشتغلون بالكتابة ويسارعون الزمن لتدوين معلومات المحاضرة، فيقول لهم ” لا تكتبوا؛ بل اجمعوا قلوبكم فقط واسمعوا”، وتحدث في هذه المحاضرة عن الجهاد بالعلم، وأنه واجب الوقت، ولا يتحمل هذا الواجب أدنى درجة من التأخير، وأن الأمر قد تعين على كل من عرف هذه الحقيقة، وتحدث أيضا عن قضية الرزق، لما يُمكن أن يُستشكل في أمره مع قضية الجهاد بالعلم، ومما أذكره أنه قال :” لا توجد عطالة أو بطالة عند المسلم الذي يحمل هم القرآن”، هو في وظيفة عظيمة جدا، ولابد أن يهيئ الله له سببا لأعانته على حمل الرسالة وتبليغها..وتحدث عن معانى أخر، لكن حاصلها أن المستمع يخرج بخلاصة أن لا معنى للحياة إلا بالعلم من أجل العمل به والدعوة إلى الله على بصيرة، وأن العوائق كيفما كانت لا تساوي شيئا مع هذه الوظيفة الربانية التي دخل فيها المكلف اختيارا، وأن أمر الله تام رغم كل العوائق الموجودة، وكان رحمه الله تعالى عنده فراسة قوية يتصفح وجوهنا واحدا واحدا ، ويعطيك الجواب الشافي عما تريد أن تستشكله، أو تعارض به، فيخرج الجميع من درس إيماني قبل أن يكون معرفيا، ومن حمل مسؤولية وأمانة العمل والتبليغ قبل أن يفكر الطالب هل هذا الذي يقوله الأستاذ من المقرر أم لا؟، وهل سنمتحن فيه أم لا؟
الوظيفة ومتابعة الدراسة..2 أيها الفضلاء نواصل تبيان إشكال الوظيفة العمومية ومتابعة الدراسة ، وقد يبنا في المنشور السابق أنه يصعب علينا او يستحيل أن ننصح الطالب بترك طلب الوظيفة إلى أن يتم دراسته العليا، ولو في حدود الماستر. وبقي لنا السؤال الثاني: ماذا فعلت أنا في تجربتي الشخصية؟، لا شك أن الألطاف الإلهية كانت غالبة جدا؛ أن كان تعييني في إقليم مكناس، فرغم ما يمكن أن أكون بعيدا عن مركز المدينة، فإن المسافة قليلة جدا، لو قورنت بأقاليم أخرى ممن مساحاتها شاسعة، وأطرافها متباعدة، والأمر الثاني: أن قيض الله لنا فضيلة الأستاذ المربي الحكيم سيدي فريد الأنصاري- رحمه الله تعالى-، فشفع وتوسل وفكر بما ذكرت لكم سابقا من الإجابة على طلب الإدارة من تحاشي الموظفين، وإن كان غير مكتوب ، لكنه ملزم في الأعراف الجامعية، والأمر الثالث: أن العمل بتلك القرية وإن كانت بعيدة؛ فقد كانت بنيتها صغيرة لا تتعدي ثمانية أقسام، بمعنى أربعة أيام في الأسبوع.. ومع ذلك وهذا هو المهم؛ فإني لم أجعل قبولي لمتابعة الدراسة فرصة لتضيع عملي، أو الإخلال بمهمتي، بل لم يثبت علي أن تغيبت عن الحصص الرسمية للتلاميذ، رغم صداقتي القوية بالمدير، فما استعملتها لتسهيل متابعة الدراسة على حساب التلاميذ، بل بقيت ملتزما مع السيد المدير بالأعمال التي كنت أساعده فيها من أعمال الإدارة ، وتخصيص حصص للدعم في اللغة العربية خصوصا لطلبة القسم الداخلي، ولهذا قد ضاع لي حضور حصص لبعض الأساتذة لكونها لم توافق وقتي الفارغ ، وتحملت تبعتها، وأذكر لكم أن أستاذا حضرت عنده في الفصل حصة أو حصتين، وأنجزت عرضي المقرر، ومع ذلك فقد أعطاني نقطة موجبة للرسوب، لولا أنها كانت مع مادة أخرى فدخلت بالتكامل، ولقد ألمني هذا الأمر، وفي بداية الفصل الثاني ، طلب منا أن نناقش تقويم مادته للفصل الأول، فتكلمت.. واحتد النقاش، وغلبني بسلطة الأستاذية، وكدت أن أترك الماستر؛ لكوني ذا نفس لا تستسيغ مثل هذه السلوكات؛ لولا تصبيري من طرف مجموعة من الطلبة الصادقين، ومن الألطاف الإلهية أيضا: أن وافق وقت حصة هذا الأستاذ في الفصل الثاني عدم عملي صباحا، فكنت كما ذكرت لكم سابقا انطلق إلى مكناس بعد صلاة الصبح، وهذا الوقت في الشتاء يكون قريبا من الثامنة ،ولكنه في الربيع يبدأ النهار بالطول فأصل باكرا إلى الكلية، قبل أن يفتح العون بابها، فأكون أول الداخلين إليها، فأذهب إلى القاعة لأستريح وألتقط أنفاسي، وأقرأ شيئا إلى أن يأتي الأستاذ والطلبة ، والشهادة لله كان أستاذا منضبطا محافظا على الوقت، يدخل مع الثامنة بالضبط، ففتح الباب ورآني لوحدي، فاستحيا وخرج، وبقي واقفا في باب القاعة، وفي الأسبوع المقبل وقع له نفس الأمر، فخرج، ثم عاد بعد أن دخل الطلبة، فغضب عليهم عضبا شديدا، ولم يترك لهم شيء، وكان مما قال لهم :” كيف أن يأتي الأستاذ عبد المنعم من نزالة بني عمار، ويحضر في الوقت، وأنتم هنا في مكناس تتأخرون؟، والله الحصة المقبلة سأغلق الباب بالمفتاح مع الثامنة وخمس دقائق، ولن أسمح لأحد بالدخول…
مهنة الشرط:
ثم الرجوع إلى حياض الطلب والتلقي.. كان الوالد رحمه الله لما أتذاكر معه في أمر مهنة الشرط، وهي تعتبر حتمية في الغالب لأبناء المدارس العتيقة القديمة يقول لي :” الشرط سلاح العاجز” ، أي لا يفكر الإنسان في اللجوء إليه إلا إذا سدت في وجهه جميع أبواب التسبب بالأرزاق.. وهكذا شارطت السنة الأولى بمنطقة ” البحارة ” إقليم القنيطرة بدوار يسمي” بورماد”،ثم زدت سنة أخرى بدوار يسمى ” أولاد عبد الله” بمنطقة سيدي محمد لحمر، إقليم القنيطرة أيضا، فكأن أمر التفرغ الكلي لطلب العلم بدأ يعارضه أمر العمل بالعلم، والاشتغال بالدعوة وتعليم العوام، وإرشادهم، وتعليم القرآن؛ مع شراء الكتب والإدمان على المطالعة، وبدأ يكون أولى من الهجرة والتفرغ لطلب العلم، وربما كان نوع من الفرح بكون الناس يفهمون عنا خطبنا، ودروسنا الوعظية، والشباب يترغبون فيما نرغب فيه.. بعد الانتهاء من السنة الثانية من المشارطة، لم يترجح لي شيء ، هل أواصل في الدعوة وتعليم القرآن، أم أتفرغ لطلبة العلم؟ ، وأنا في حيرة من أمري، إذ زارني صديقان لي، فطلبا مني أن أشارط بمسجد قريتهم لكون جماعتهم في حاجة إلى فقيه مثلي، فقبلت عرضهما الأولى، لأن أمر الشرط لا يحسم في العرف إلا بعد رضا أهل القرية عن الفقيه عند سماع خطبته، وتوفر صفات خاصة، وهذا من غرائب التقويم.. فكان أن ألقيت الخطبة ، وبعد الانتهاء منها وأنا في المقصورة أسمع جلبة وضجيجا، وارتفاع أصوات، كأنهم في معركة حرب..، ومما وقر في أذني من تنازع الفريقين أن قالوا : إنه ما يزال صغيرا، وأنه غير متزوج.. ،وبرهة أطل علي أب أحد الصديقين ، وقال لي نذهب إلي البيت لتتغذى أولا ، وأمر اتفاق القرية اتركه لي، وكان رجلا شديدا إذا لاح له الحق يتقاتل بما يملك من أجل أن يكون ما يريد.. بعد الانتهاء من الغذاء؛ كأنه ترجح لي ألا انتظر اتفاق القرية ، وقلت للصديقين أذهب إلى زيارة قرية كذا القريبة منكم؛ لنسلم على الفقيه سي” إدريس اكتيب” الذي كان خطيبا بتلك القرية، وهو من الفقهاء الجلة عندنا بالمنطقة الذين نذروا حياتهم للعلم الشرعي تعلما وتعليما..
فلما وصلنا إلى قريته سلمنا عليه فرحب بنا ، ثم وجدناه مشغولا بأمر بناء مرافق تابعة للمسجد هي عبارة عن سكن للطلبة؛ لأنه سيشرع في تدريس العلوم الشرعية بهذه القرية، وكنت أسمع عنه أن له علما نافعا وقدرة ومنهجا في تفهيم العلوم الشرعية لا يوجد عند كثير من الفقهاء المدرسين، وكان فيما قبل يدرس الطلبة في بيته فترة عددا. فطلبت منه أن يقبلني في الطلبة الذين سيتولى تدريسهم في هذه المدرسة الجديدة؛ فرحب، إلا أنه كان قد ألزم الطلبة قبل أن يشرع في التدريس أن يستظهروا كذا وكذا من المتون؛ منها ألفية ابن مالك في النحو وألفية العراقي في الحديث، والفية المراقي في الأصول.. وهنا جُددت النية أن لا شيء إلا التفرغ لطلب العلم، متحررا من أي اعتذار أو شبهة تأويل؛ فرجعت إلى بلدتي، وحملت أغراضي وكتبي، وجئت لأشرع فيما شرع فيه الطلبة ، وبدأنا الدراسة على يد هذا الفقيه الجليل، والشهادة لله؛ فإنه ما عندي من معلومات ومنهج وخصوصا في الأصول والفقه واللغة، وفقه الواقع، أصله وقاعدته وتطبيقاته من علم هذا الفقيه- أطال الله عمره ونفع به-. فوضع البرنامج وبدأ وكان برنامجه هكذا:
الفقه، متن ابن عاشر مع التدليل والتعليل.
الأصول : مذكرة أصول الفقه، مع تحقيق مباحثها من البحر المحيط.
النحو :متن الألفية بشروحها المعتمدة مع مناقشة تقعيد النحاة وتعليلاتهم.
الصرف: متن اللامية + الممتع في التصريف.
مصطلح الحديث: متن ألفية العراقي بشرح السخاوي.
قواعد التفسير : كتاب أصول التفسير وقواعده للشيخ عبد الرحمن العك.
التفسير وعلوم القرآن: مقدمة تفسير الطاهر بن عاشور.
الحديث: شرح الزرقاني على الموطأ. وعلى أي كانت الدراسة عنده ممتعة جدا نقلنا من مهنج إلى منهج آخر غريب عنه بالكلية؛ إذ نقلنا من العلم القاعدي أي الاهتمام بالقواعد فقط، إلى العلم الوظيفي، أي استثمار القواعد وتطبيقها اثناء الدرس مع الاعتناء غاية بالتعليل المنضبط بقواعده لأي شيء، ونقلنا أيضا من الاشتغال على كتب المتأخرين إلى الاشتغال على كتب المتقدمين، وقد أعطاه الله قدرة عالية في مطالعة كتب المتقدمين، واستخراج الفوائد والدرر منها؛ فكنت أتعجب منه في هذا الباب غاية العجب، ولهذا كنا نخرج من حصته بمعارف جديدة جدا، ولكونه كان في أوج شبابه، ومتقاربا لي في السن، لأنه كان بيني وبينه عقد واحد ونيف فقط؛ فكانت المجالس تطول جدا. وكان النقاش مفتوحا بلا تهيب، يتشعب ويحتد.. إلى درجة أن كان الطلبة يغمزونني أن توقف من الاسترسال مع الفقيه في النقاش إشفاقا عليهم قبل أن يشفقوا على الفقيه، وكان حفظه الله تعالى يؤسس لنظرية في العلم الشرعي تعلما وتعليما وامتثالا غاية، لكن مع الأسف أن قدر النوابغ أنهم يظهرون في أزمان غير أزمانهم، وفي أمكنة لا تحتضنهم، وبالتالي يزهد الناس فيهم، والملتقطون للإشارات تصدهم صدود من النوازع المختلفة، فتموت أفكارهم المتقدة ، أو تخفت خفوتا إلى أن تتنكر الفكرة لأصلها؛ وعلى العموم فإن الفترة التي قضيتها مع هذا الفقيه الجليل كان مهمة لي جدا في بناء المعلومات والمعارف الشرعية وتنظيمها؛ بل وفي بناء الشخصية أيضا، وعندي منشور في صفحتي(عبد المنعم اكريكر) قديم سميته “المرابطون في الثغر2” أتحدث فيه عن بعض من جوانب شخصية هذا الفقيه.. فليطلب من موضعه..
جمع القرآن.. وموافقة العرف.. ثم انتقل الوالد- رحمه الله تعالى- إلى قرية قريبة نسبيا من بلدتنا، فالتحقت به، وظهر له العجب من أمري؛ إذ لم أعد ذلك الكسول الخامل الذي يقرأ القرآن على هواه..، بل غيرت الطريقة بالكلية؛ إذ بدأت آتي إليه لأستظهر اللوح قبل محوه؛، واستظهر عليه ما معي من الأحزاب القديمة؛ فيبدا يستمع وأنا اقرأ، وهو يبتهج، ويقول لي مسابقا الزمن، هل الباقي كهذا؟. أقول نعم، فيفرح فرحا شديدا، وكنت أكلفه بأن يوقظني بساعتين أو ثلاث قبل الفجر، وخصوصا في أيام طول الليل..؛ بل كنت في العطلة أبقى بعده لوحدي، أو مع بعض الطلبة مشتغلين بمراجعة القرآن وتثبيته. انهيت معه تلك السنة، قد أكملت الختمة الأولى، وبدأت بالثانية، ثم الختمة الثالثة، وفيها بدأت أقرأ عليه بعضا من علوم الشريعة؛ ككتاب النحو الواضح، والأزهري بشرح الآجرومية ،وكتب أخرى في الفقه، واللغة العربية والتفسير، وكانت قراءتي عليه تطبيقا للقواعد أكثر منها استظهارا لها. بعد انهاء السنة الثالثة معه نادى علي ، وقال يا بني لقد استظهرت القرآن جيدا؛ ولك فهم لجملة من القواعد الشرعية، فإما أن تذهب لتكمل طلب العلم كما يفعل الطلبة، وإما أن تبحث لك عن تعلم حرفة.. أما أن تبقى مضيعا للوقت هنا معي، فهذا لا يصلح.. كان كلامه إذنا لي بأن مهمته قد انتهت، وبدأت مهمتي في تحمل مسؤوليتي ماذا أختار؟ . كانت الثقافة السائدة عند الطلبة العتيقين في منطقتنا آنداك التعمق في رسم القرآن، ومعرفة عدده وما يتعلق به” فيما يسمي عندهم بمصطلح : “التقشقيشة” ،أو تعلم حرفة خياطة الجلابيب ، أما طلب قواعد علوم الشريعة فكان قليلا. فحملت أغراضي=( التخنيشة)، وودعته ، فيممت وجهي إلى منطقة وزان، وبالضبط إلى دوار يسمى “الغويبة”، كان فيها فقيه يسمي لعله “سي البقالي” معروفا بضبط الرسم القرآني وما يتعلق به، فسكلت الطريق إلى القرية بالرجل من مدينة وازان إليها ، أحمل على ظهري أغراضي، فمر علي أحد أفراد القرية ممن رجع من المدينة، يركب على بهيمة، فأخذ مني الأغراض ليحملها معه ، وتبعته إلى أن دلني على المسجد بالضبط، فدخلت على الفقيه فوجدته شيخا كبيرا هرما ذا صوت خافت ؛ كأنه من زمن آخر، فذكرت له حاجتي = [طلبت منه ” الرتبة]، فنادى على مقدم الطلبة عنده، فسأله هل يوجد مكان ومعروف، فقال : لا. فاعتذر إلي أن المكان مملوء، وأنه لا يوجد ” معروف” [= شخص من القرية يتكفل لك بوجبة غذائية تذهب إليه تأخذها منه]، فدلني ذلك المقدم على قرية قريبة تسمى “أسجن”، ومن الطرائف إذا قال لك الجبلي هذا المكان قريب، فأحسب من العشر كليوميرات فما فوق؛ فانحدرت في شمس محرقة من هذه القرية إلى تلك القريبة ، وأخذ مني التعب مبلغه. ومررت بمنزل وحده، لعلي سألتهم شيئا آكله، أو أرسلوا لي شيئا أكلته، فاسترحت قليلا، ثم واصلت المشي إلى أن وصلت إلى القرية والشمس مائلة إلى الغروب، فوجدت فيها الرتبة والمعروف، لكن فقيهها رجل عادي، لا يوجد عنده علم مما أقصده.. فلبثت شهرا أو يزيد ثم استأذنته، إلى منطقة أخرى سمعت أن بها فقيها من فقهاء الرسم، قريبة من شاطي مولاي بوسلهام في قرية تسمى “بداوة” ، وفعلا كان هذا الفقيه “المسمي بسي الحاج البدوي” عنده من علم الرسم شيئا كثيرا، وتدينا وورعا كبيرا، وفتحا يجريه الله على يديه، فكان يقصده الطلبة لهذا الشأن؛ فوجدت جوا من تعلم القرآن أكثر مما كنت أظن أني وصلت إليه، إذ المسجد كان وسط القرية، وعنده مساحة كبيرة، فلا تبحث في ركن أو خلوة إلا وجدت طالبا يقرأ، وتستمر القراءة 24/24 ساعة، من الطلبة من يقرأ الليل كله، ثم يصلي الفجر فينام قليلا ، ومنهم من يواصل الليل بالنهار، ومنهم من يحفظ متونا، ومنهم ، ومنهم..؛ لكني وجدت جوعا مدقعا لم أقدر على الصبر عليه، فجاءت عطلة فذهبت إلى بلدتي، فحدثني أحد الطلبة ، بأن نذهب عند فقيه قريب من محلتنا عنده من رسم القرآن وتدريس بعض من متون العلم.. فذهبنا عنده، فرتبنا ، لكنا وجدنا مشكلة الجوع ، وأن لا بد لك من نفقة تسد بها النقص الحاد في التغذية.. فقال لي ذلك الطالب :ما فائدة هذه المشقة؟، نذهب إلى مسجد كذا نراجع القرآن، ونحفظ المتون، ثم نتفرغ إلى طلب العلوم الشرعية ، فذهبنا إلى المسجد الذي أشار به، فكان هذا الفقيه يدارس معنا بعضا من المتون، ولما رأى معرفتي متقدمة شيئا ما، قال لي يا ولدي لا أصلح لك، اذهب الي دوار” السواسين” وهو في منطقة الغرب؛ فإن فيها “الفقيه سي لحسن” فإنه متخصص في تدريس العلوم الشرعية، فستستفيد منه كثيرا، فعملت بنصيحته . وذهبت إلى الفقيه الذي أمرني بالذهاب إليه، وفعلا وجدت بغيتي عنده، فكان يدرس النحو والصرف والفقه والبلاغة والتفسير والأصول.. وكل المتون الأولية والمتوسطة المعلومة عند طلبة المدارس العتيقة. فقضيت معه سنتين أو أكثر، ثم بدا لي أن أشارط، وأجمع مالا أسافر به إلى مدينة طنجة أطلب العلم، وخصوصا عند فقيه كان صيته دائعا عند طلبتنا اسمه “سي عبد العزيز” بمدشر خندق الزرزور إقليم طنجة، توفي رحمه الله في ريعان شبابه، أو فقيه “طلعت الشريف”، العلامة سيدي محمد الانجري المعروف بالبيضاوي، أو الفقيه رياش، وقد توفي قريبا بعد أن أسن، أو فقيه مدرسة المنار، العلامة سيدي محمد مارصو الكرفطي ، بارك الله في عمره، فقد كان هؤلاء الجلة من الفقهاء يقصدهم طلبة منطقتنا للدراسة على أيديهم…
هذه الصورة تؤرخ للسنة الأخيرة التي انهيت فيها الدراسة مع الوالد رحمه الله، ومعي أحد الأصدقاء من الطلبة الذين كانوا يدرسون معي على الوالد..
محطة الدار البيضاء.. لبثت مع الفقيه العلامة سيدي إدريس اكتيب ما قدره الله لنا في هذه المرحلة الأولى؛ مع العلم أن مشيخته ولقاءه ما زال مستمرا عندي إلى يومنا هذا، مع اختلاف الكيفية في الطلب، ولكوني أعتبر نفسي في حياتي مدينا لأربع جهات أثرت في حياتي وصبغتها بما أنا عليه: الوالد والوالدة رحمهما الله، وهذا الفقيه سيدي إدريس، والأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله، والرابع سيأتي ذكره قربيا إن شاء الله.. ثم زارني صديق لي كان مدرسا للقرآن بأحد الكتاتيب بالدار البيضاء، فقال لي لو دخلت إلى الدار البيضاء، فإن فيها دروسا وحلقات علمية، وجمعيات متنوعة، وشيوخا، ومكتبات كثيرة تقرأ فيها وتشتري منها، وتستفيد وتفيد، وبعد مدة نجمع نفقة، ونسافر- أنا وأنت إلى موريتانيا- لطلب العلم، ومعلوم أن الرحلة عند طلبة العلوم الشرعية تقصد لذاتها، فتبقى آمالهم متعلق بالرحلة، وإن لم يحصل فيها من العلم ما يحصل بالبلد، فأغراني بالفكرة، فطالب بدوي مثلي يسمع بالدار البيضاء، ويراها في الصور، تتاح له الفرصة أن يستقر بها، فهذا أمر حسن.. فاقترح علي أن يترك لي مكانه في تدريس القرآن بالكتاب الذي كان يشتغل به؛ لأنه أراد أن يخرج من هذه المهنة، ويتعلم مهنة ” الخِبَاَزة”، = صنع الخبر وتوزيعه على الحوانيت مع مقاول، قد افتتح هذا المشروع. فسبقني إلى الدار البيضاء، ورتب الأمر مع القائمين على الكتاب قبل مجيئي، فقبلوا اقتراحه بما ذكر لهم من أوصافي، ووصلت إلى الدار البيضاء عن طريق الحافلة، فدخلت إلى مدينة كبيرة ذات صخب وضجيج وحركة سريعة دائبة لا تنتهي، وأجناس من مختلف الأنواع.. ، فوجدته في استقبالي بمحطة الحافلات، وأخذ يتنقل بي هنا وهنا إلى أن وصلنا إلى مقر الكتاب “بالحي المحمدي”، فعرفني على القائمين به، فرحبوا بي، واتفقنا على كيفية العمل والشروع فيه..، وهذا الكتاب فكرته رائعة وملهمة جدا؛ إذ اتفق إخوة من النسب 4 أو 5 من أهل سوس ،بعد أن بنوا مسكنا مشتركا أن يجعلوا الطابق الذي يلي المحلات الأرضية=(السُّدَّة)، كتابا قرآنيا، يحفظون فيه أبناءهم فقط القرآن، ويتعاقدون مع محفظ بأجرة يتقاسمونها فيما بينهم، يبدأ عمل المحفظ من بعد صلاة الصبح إلى العاشرة صباحا، ومن العصر إلى ما بعد العشاء، في حركية دائمة، والخميس مساء والجمعة عطلة؛ من عنده وقت فارغ من أبنائهم ينزل إلى الكتاب، ومن عنده المدرسة يذهب إليها، ومن عاد يرجع مباشرة إلى الكتاب، وفي العطلة يجتمع الكل في الكتاب. في الأيام الأولى كان هذا الصديق بعد أن ينهي عمله يأتي إلي ليؤانسني ، وليعرفني على ما ذكر من حلق العلم والدروس، فنرتب وقتا وجهدا لزيارة اسم معروف ، لكني أرجع أجر أذيال الخيبة؛ إذ قصارى ما يقوم به هذا الاسم المعروف الذي قصدناه قصدا أنه يعطي درسا وعظيا في عنوان علمي، لا علاقة له بقواعد العلم والمنهج، والتدقيق، وبناء المعرفة..، فأعتب عليه؛ لماذا اتعبتني هذا التعب؟، فيقول لي في المرة القادمة أذهب بك إلى الشيخ فلان فستجد عنده بغيتك؛ لكن مع الأسف يقع لي ما وقع مع سابقه.. إلى أن ذهب بي يوما إلى المسجد الكبير بعين الشق؛ فرأيت المتكلم الذي يعطي درسا على سنن العلماء، إنه العلامة المحدث الشيخ محمد زحل رحمه الله تعالى، الذي كان يشرح فيه الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله…
بين علم المتون وعلم المطويات.. بدأ يظهر لي أن الجعجعة التي نقلها لي صديقي عن الحركة العلمية والتعليمة في الدار البيضاء لا طحين فيها، ضجيجها أكثر من حقيقتها، ومع ذلك أحاول اتهام نفسي، أن أكون مغاليا في محاولة التشبث بالمنهج العتيق في العلم والمعرفة ، ولم لا تكون هذه المناهج الجديدة في التعليم أقدر وأقصر؛ لأن يصبح المرء طالبا شرعيا مجدا؟: أن يقرأ شروحا ميسرة ، ومطويات، ويستمع أشرطة ،ويسافر إلى شيخ معروف، فيجلس معه يوما وليلة، فيرجع وقد صار مزكى وذا إجازة، ويمكن أن يذهب إلى بعض دول المشرق، وينتسب إلى جامعاتها ومعاهدها بتلك التزكية والإجازة، أما إذا كتب ردا على عالم من علماء المسلمين، وقرضه فلان ، فذلك أبلغ في العلم والشهرة.. لكني أرجع إلى عقلي وأقول كيف يكون هذا هو منهج الطلب، والناس ضربوا أكباد الإبل من أجل أن يتحققوا بأقسام الكلام العربي فضلا عن غيره من قواعد الشريعة، وأنا أذكر أن طالبا كان معنا أعضله باب من النحو في الآجرومية، وسهر معه ليالي عددا، ولم يفهمه جيدا، ويوما غضب فأكل الورقة التي فيها ذلك الباب كما يأكل الخبز!!! ولهذا بدأت ألوم صديقي على توصيفه الخاطئ ، فاعترف لي أن الحركة التعليمية بالجمعيات المهتمة بالدروس الشرعية التي تسمى بدور القرآن قد تلوثت بمسألة تصنيف الناس إلى سلفيين ومبتدعة، وأهل السنة وأهل البدعة والضلالة، ونقل الأسئلة إلى أهل التصدر عندهم من المشايخ حول أفراد، أو جماعات دعوية، ليبينوا حالهم .. وأكثر هؤلاء الذين يملؤون الحلقات بهذا الهراء= العلم ، لا يعرفون الفعل من الفاعل والأمر من النهي، والبدعة من الضلالة.. واتفق أن كنت بعد إخراج التلاميذ من الكتاب في الحصة الصباحية أذهب لأجلس بجوار بائع للملابس التقليدية والعطور، يفرشها على الأرض قرب منطقة مكتظة تسمى ” الباطوار” ؛كان قد عرفني عليه صديقي، وكان هذا البائع اسمه عبد الفتاح أخا مؤدبا ذا أخلاق عالية، يظهر عليه سمة الصالحين، فكان يعجبني حديثه، ويعجبه حديثي، فتذاكرت معه على غياب طلب العلم الشرعي بقواعده في هذه المؤسسات التعليمية الأهلية المسماة بدور القرآن، فأقرني على هذه الحقيقة متأسفا، واشتكى لي أن غالب الإخوة شغلهم الشاغل تصنيف الناس من أي الطوائف هم، قبل كل شيء، ومن خرج عن هذا المنهج يهجر ويقصى ويحذر منهم، ويوسم بأن فيه لوثة حزبية أو صوفيه، بعبارتهم ” تيخلط”.” غير واضح”.” يشم منه كذا”،” فلان طبْ”.. ومثل هذا الألفاظ التي صارت تضاهي ألفاظ يحيى بن معين في الجرح والتعديل.. لكنه أرشدني إلى دار للقرآن لعلها بحي سيدي مومن، فقال لي ستجد فيها حلقات تعليمية قد تعجبك، فذهب إلى النعت الذي رسم لي، وسألت الناس فأرشدوني إليها، فصادفت صلاة العصر، وتقدم القيم على الدار ليصلي بنا، وبعد إقامة الصلاة ، تكلم بطريقة خشنة ، وقال : أيها المسلمون لقد ذكر الحافظ الذهبي في الكبائر أن إسبال الثياب من الكبائر، وأن صلاة المسبل لا تجوز أو قريبا من هنا، والحال أن غالب المصلين معه لا ينطبق عليهم هذا الوصف ، وإنما هم اثنان أو أربعة، فقلت يارب سلم سلم.. ، بعد أن سلم وخرج أغلب الناس قصدته فسلمت عليه بأدب، فرد ما يشبه نصفه، فقال لي ما شأنك؟، قلت له أسأل عن برنامج الدروس بهذه الجمعية.. فقال لي عرف بنفسك أولا، فذكرت موجزا جدا، فقال لي هل قرأت في المدارس العتيقة ، قلت أياما، قال لي إنك إذن أشعري، قلت وما علمك؟، قال لي قرأت عقيدة ابن عاشر فتشربت بها، وكل من تشرب البدعة يصير مبتدعا، والأشاعرة ضلال؛ لأنهم يعطلون الله عن صفاته، وقال فيهم فلان كيت وكيت.. وظن الغر الجاهل الغبي أنني ” بشر المريسي، أو الجهم بن صفوان” ، وأنه يتعبد الله بمناظرتي ، فغيرت لهجة كلامي، وشددت عليه في النقاش، وبينت له خطأه من وجوه، وأنه قبل ذلك خلاف الأدب مع إنسان غريب جاء يسأل ليتعلم، وأسمعته ما لم يكن يخطر على باله، فأفحم، وتركته وانصرفت ..ولقد نمي إلى علمي أنه انتكس وصار في عين الضلالة بالحقيقة .. لا كما كان يرمي بها مخالفيه من عموم المسلمين..
مسلك علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة القاضي عياض مراكش، ويسألون عن ماذا يدرس داخل هذا التخصص وماذا يوجد فيه، إليكم هذه اللائحة التي حاولت من خلالها أن أعرض عليكم كل المواد التي تدرس داخل هذا التخصص من الفصل الأول إلى الفصل السادس بجامعة القاضي عياض. وهي كالآتي:
بالنسبة للفصل الأول تجدون المواد الآتية :
أسس علم الاجتماع ميادين علم الاجتماع مبادئ التفكير الفلسفي مفاهيم ونصوص فلسفية مدخل إلى علم النفس ميادين وتيارات علم النفس _لغة ومصطلحات1
أما في الفصل الثاني فستدرسون المواد الآتية :
النظريات السوسيولوجية المعاصرة المؤسسات الاجتماعية المؤسسات السياسية سوسيولوجيا التنظيمات الديموغرافيا علم النفس الاجتماعي _لغة ومصطلحات 2
وفيما يخص الفصل الثالث فهناك :
المناهج الكمية المناهج الكيفية الإحصاء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية سوسيولوجيا الأديان سوسيولوجيا الثقافة
وفي الفصل الرابع ستدرسون ما يلي :
علم الاجتماع الحضري علم الاجتماع القروي سوسيولوجيا الفقر والهشاشة مدخل إلى الاقتصاد سوسيولوجيا التربية البيئة والتنمية
يليه في الفصل الخامس ما يلي :
الأبحاث الميدانية السوسيولوجيا المغاربية سوسيولوجيا المقاولات نظرية التنظيمات الأنثروبولوجيا الحضرية سوسيولوجيا الحراك الاجتماعي
وفي الفصل السادس والأخير من سلك الإجازة فيوجد ما يلي :
سوسيولوجيا المرض والصحة سوسيولوجيا العائلة سوسيولوجيا الشغل التغير الاجتماعي _ثم المشروع البحث المؤطر
من عظيمِ ما تُواظبُ عليه مع أهلِ بيتِك – ولو بالقليل وبحسب وقتِك وهِمّتك – مُدارسة :
القرآن من خلال :
*وِرد قراءة من أول القرآن نصف صفحة لكل فرد مع الاهتمام بضبط التلاوة *وِرد تفسير مختصر في معاني القرآن (من أي كتاب مختصر مُعتمد) نِصف صفحة {أو بحسب انتهاء موضوع الآيات أو الحُكم أو القصة} مثلا من كتاب (المُعين على تدبُّر الكتاب المُبين ) *قصص القرآن، وقصص السُنّة وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن خلالها تتكلّم معهم عمّا بها من معاني في الإيمان وتزكية النفس والآداب والأحكام وأنت بهذا لن تحتاج أن تُدرّسهم كتبا في العقيدة أو كتب التزكية والآداب بل سيكون مُنطلقك في بيان الإيمان وغيره من خلال الوحي نفسه، ولذلك ثمرات عظيمة مِن ربطهم بالوحي وهَدْي الأنبياء والصالحين المرضي عنهم، ووقايةُ من الوقوع في مُخالفاتٍ في تلك الأبواب فيكون ما جاء في الوحي هو المُحكَم و الميزانَ
وهذا كتاب مفيد (المستفاد من قصص القرآن)
الحديث
وِردٌ في ذلك الكنز الجامع المُبارك (رياض الصالحين) بمقدار (باب) أسبوعيّا مع شرح مختصر للمفردات وبيان المعاني {يمكن الإفادة من أي شرح مختصر كنُزهة المتقين. شرح رياض الصالحين . مثلا}
العربيّة
من خلال : القراءة-الكتابة والإملاء- القواعد من خلال كتاب النحو الواضح
وأي كتاب في قواعد الإملاء
والتدريب على القراءة والكتابة من خلال كتاب مثل صحيح البخاري أومسلم أو غيرهما..
الأذكار بأنواعها
أذكار الاستيقاظ،الصباح، النوم، الطعام والشراب، ودخول الخلاء مع التذكير المتكرر بفضل التسبيح والتحميد والاستغفار والتكبير والتهليل وغير ذلك
والنوم مبكرا، و الاستيقاظ قُبيل الفجر مع ركعات ودعاء واستغفار
وصلاة الفجر في جماعة وذِكر الله حتى تطلع الشمس وصلاة الضحى مع ممارسة قليل من الرياضة … نموذج لتمرينات منزلية سهلة هذه بداية مُباركة ليومِكم..كدا بقا صباحكم ورد وفُل وياسمين ونشاط تذكّرْ أهلُك وأولادُك مِثلُ نفسك، إنْ رأوا منك الجِدَّ والعزم والحرص على الوقت =جدُّوا، وكانوا عَونا لك والعكس بالعكس..
صرحُ المعرفة وجدارُ الإيمان يُبنى هكذا لبِنةً لبنة و الإنسانُ يُصلحه القليل المستمر أقوى من كثير مُنقطع هذه فقط نماذج لما يمكن أن ترفع به الحالة المعرفية والإيمانية لأهل بيتك و المواظبةُ بالقليل والاستمرار والصبر على ذلك من أعظم ما تُجلَبُ به البركات وتُفرَّج به الكُربات، ويُستعان به على الحياة وكَبَدِها فلا تعجِز عن مثل ذلك، ولا يشغلك عنها شاغلٌ فبِناءُ أهل بيتك بناءُ لك وهو من آكد الواجبات وأعظم القربات فاللهم أعِنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك وأنزِل البركة والسكينة والرحمة على بيوتنا واجعلها عامرةً بذكرك…
عندما أسمع تصريحات فرنسيين يقولون بخصوص المقاطعة: (لن نخضع للابتزاز، لن نتخلى عن مبادئنا)…أتذكر الجاهليين الأولين: (وانطلق الملأ منهم أنْ امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) ! مبادئكم التي جعلت 60% من مواليدكم الجدد في السنوات الأخيرة أبناء علاقات محرمة؟! مبادئكم التي جعلت امرأة تغتصب في فرنسا كل 7 دقائق حتى خرجت مسيرات عندكم تندد بذلك كما عرضت وكالة الأنباء الفرنسية. مبادئكم التي جعلت امرأة فرنسية تُقتل كل 3 أيام على يد زوجها أو رفيقها أو شريك حياتها حسب وكالة الأنباء الفرنسية؟! مبادئكم التي يتعرض بسببها كل النساء تقريباً للتحرش أو الاعتداء الجنسي في وسائل النقل العام حسب تقرير شاركت فيه وزارة الدولة لحقوق المرأة؟! مبادئكم التي جعلتكم تحتفظون بجماجم ضحاياكم الذين قطعتم رؤوسهم بعشرات الآلاف وتعرضونها مفاخرين للزوار في “متحف”؟! مبادئكم التي جعلتكم تسرقون ثروات إفريقيا وتتركون أهلها يموتون مرضاً وجوعاً؟! ثم “تَوَّجتم هذا كله بالسخرية بالله ورسوله”؟! لن تتخلوا عن مبادئكم؟! جتكم خيبة أنتم ومبادئكم!
طرح إيمانويل كانت منظورا جديدا في الفلسفة أثر ولا زال يؤثر في الفلسفة الأوربية حتى الآن أي أن تأثيره امتد منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الحادي والعشرين. نشر أعمالا هامة وأساسية عن نظرية المعرفة وأعمالا أخرى متعلقة بالدين وأخرى عن القانون والتاريخ.
أما أكثر أعماله شهرة فهو كتابه نقد العقل المجرد الذي نشره سنة 1781 وهو على مشارف الستين من عمره. يبحث كانت في هذا الكتاب ويستقصي محدوديات وبنية العقل البشري ذاته. قام في كتابه هذا بالهجوم على الميتافيزيقيا التقليدية ونظرية المعرفة الكلاسيكية. وأجمل وأبدع مساهماته كانت في هذا المجال بالتحديد. ثم نشر أعمالا رئيسية أخرى في شيخوخته، منها كتابه نقد العقل العملي الذي بحث فيه جانب الأخلاق والضمير الإنساني، وكتابه نقد الحكم الذي استقصى فيه فلسفة الجمال والغائية.
تطرح الميتافيزيقا أسئلة عديدة حول الحقيقة المطلقة للأشياء. اعتقد كانت أن بالإمكان إصلاح وتهذيب الميتافيزيقا الكلاسيكية عن طريق تطبيق نظرية المعرفة عليها. حيث زعم أنه يمكننا باستخدام هذه الطريقة مواجهة الأسئلة التي تطرحها الميتافزيقا، والأهم من ذلك أن نعرف المصادر التي نستقي منها معرفتنا وأن نعرف ماهية حدود المعرفة التي يمكن الوصول إليها.
اقترح كانت أنه بعد أن نفهم ونعرف مصادر وحدود المعرفة الإنسانية والعقلية يمكننا طرح أي أسئلة ميتافيزيقية والحصول على أجوبه مثمرة. وسأل كانت سؤالا خطيرا هو هل للأشياء والمواضيع التي نعرفها خصائص معينة سابقة على تجربتنا وعلى إحساسنا. وأجاب على ذلك بأن جميع المواضيع والأشياء التي يمكن للعقل معرفتها تتم بطريقة يختارها العقل. ويضرب مثالا على ذلك أنه إذا استعد العقل للتفكير قبل أي موضوع واختار العقل التفكير بطريقة السببية فإننا بالتالي نعلم قبل ان نتعرف على أي موضوع ان الموضوع سيكون إما سببًا أو نتيجة.
ويصل كانت إلى نتيجة مفادها أن هناك مواضيع لا يمكن للعقل معرفتها عن طريق السببية. ونتيجة أخرى هي أن مبدأ السببية هو طريقة في التفكير لا يمكن أن تستقل عن التجربة والإحساس. ولا يستطيع مبدأ السببية الإجابة عن جميع الأسئلة. ويضرب مثالا للتوضيح هو هل العالم أزلي أم له مسبب؟، وبالتالي فإن أسئلة الميتافيزيقيا الأساسية لا يستطيع العقل الإنساني الإجابة عنها. لكن العقل يفهم ويعرف ويجيب عن أسئلة العلوم العادية لأنها تخضع لقوانينه.
ابتدع ايمانويل كانت نظاما مبتكرا في نظرية المعرفة هو مزيج بين المدرستين التجريبية والعقلية. فأهل المدرسة التجريبية يرون أن المعرفة لا تكون إلا من طريق التجربة لا غير. أما أهل الطريقة العقلية فيرون أن نظام الشك الديكارتي وأن العقل وحده من يمدنا بالمعرفة. خالفهم كانت في ذلك حيث يرى أن استخدام العقل وحده دون التجربة لا يقود إلى المعرفة بل يقود إلى الأوهام. أما استخدام التجربة فلا يقود إلى معرفة دقيقة ولا تعترف بوجود مسبب أول الذي يعترف به العقل المجرد.
كان فكر ايمانويل كانت مؤثرا جدا في ألمانيا أثناء حياته وبعدها. فكانت نقل الفلسفة إلى مكان آخر أرفع من المناظرة والمجادلة بين الفلاسفة العقلانيين والفلاسفة التجريبيين. تأثر به الفلاسفة الألمان بعده. مثل يوهان جوتليب فيشته وفريدريك شلنغ والفيلسوف الكبير هيغل وآرثر شوبنهاور. وأسس هؤلاء ما عرف بالفلسفة المثالية الألمانية. كل هؤلاء الفلاسفة رأوا في أنفسهم مصححين وموسعين ومطورين للنظام والفلسفة الكانتية. وهكذا ظهرت نماذج مختلفة من الفلسفة المثالية الألمانية.[18] استمر تاثير كانت وامتد ليكون مؤثرا أساسيا في الفلسفات التي جاءت بعده. فقد كان له تأثير كبير على الفلسفة التحليلية والفلسفة الأوربية القارية.[19
” إذا حاول العقل أن يقرر فيما إذا كان العالم محدودا، أو لانهائيا من حيث المكان، فسيقع حتما في تناقض وإشكال، فالعقل مسوق إلى التصور بأن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لانهاية له. ومع ذلك فإن اللانهاية في حد ذاتها شيء لا يمكن إدراكه”
كانط، نقد العقل المحض، يطرح كانط الإشكال التالي:هل العالم أزلي أم له سبب أحدثه؟
في البداية العالم من حيث هو نسق مكتمل من الواقع هو وهم من أوهام العقل يصعد بشكل غير مشروع من خلاله من الشرطي المعطى إلى اللاّشرطي المفترض أي بعبارة ابن رشد يقيس الغائب على الشاهد.
العالم لا يمكن معرفته بطريقة استدلالية بالانطلاق من مبادئ ميتافيزيقية لأن ما يمكن معرفته هو الكون أي الظواهر المكانية والزمانية غير المعروفة التي يوحدها الذهن بواسطة مقولاته القيلية دون أن يصل بها إلى الوحدة النهائية. لكن اذا جاز الحديث عن عالم فيزيائي ومقاربة معرفية للعالم في الفلسفة النقدية عند كانط التي تحاول التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة،
من جهة أخرى يخضع كانط في كتاب نقد العقل المحض ظاهرات العالم بماهو فكرة كوسمولوجية الى المعالجة الريبية التي تطرحها الأفكار الترسندنتالية الأربع ويظهر وقوعها في جملة من النقائض المحتمة.
” تلك هي حقا الحالة مع مفاهيم العالم ولعلها لهذا السبب بالضبط تدفع العقل، طالما هو معلق بها، الى نقيضة محتمة: أولا- لو افترضنا أن العالم ليس له بداية فإننا نقوم بتراجع متتال يبلغ الأزل المنقضي ، ولو سلمنا بأن له بداية كان من الضروري أن يفترض البدء زمنا يتقدمه . أما من جهة السؤال عن كم العالم فإن القول بكونه لامتناهي ولامحدود يفضي إلى الإقرار بأنه كبير جدا بحيث يصعب على الذهن البشري تصوره ، ولو قلنا بأنه متناهي ومحدود لكان صغير جدا وقريب من المكان الفارغ والمانع لكل تجربة ممكنة.
ثانيا- إذا كانت كل ظاهرة في المكان أي كل مادة تتألف مما لا يتناهى من الأجزاء فإن تراجع الانقسام هو أبداء كبيرا جدا على الأفهام. وإذا توقف الانقسام المكاني عند نقطة بسيطة فإن هذا التراجع سيكون صغيرا جدا على فكرة اللاّمشروط التي يتميز بها العالم وبالتالي يفسح المجال للتراجع نحو عدة أجزاء كامنة فيه.
ثالثا- اذا سلمنا بأن ما يحدث في العالم هو نتيجة قوانين الطبيعة ، فإن سببببية السبب هي بدورها شيئا يحدث ، وسنرغم على الصعود أثناء التراجع ضمن سلسلة الشروط حتى أسباب أعلى من دون توقف. أما إذ قلنا بأن العالم يتكون من مجموعة من الأحداث تكون محدثة بحرية وتلقائيا ، فإن العقل البشري سيهتم بالعثور على سبب وفق حتمية وجود قانون للطبيعة ولو جاء في صورة الاقتران الضروري بين الأحداث.
رابعا- لو سلمنا بكائن ضروري إطلاقا سواء كان العالمَ نفسه أو شيئا في العالم أم علة للعالم، فإننا سنضعه في زمن بعيد بلانهاية وإلا خضع لوجود آخر أقدم عصي عن الفهم ولا يمكن قط الوصول إلى إدراكه. من جهة مقابلة لو كان كل ما ينتمي الى العالم ( مشروط أو شرط) حادثا، فإن كل وجود معطى سيكون صغيرا جدا ولا يمكن إدراكه بالفهم البشري وسيضطر إلى البحث عن وجود آخر يخضع له. الخلاصة: أن فكرة العالم هي ، في جميع الحالات، هي صغيرة جدا على التراجع الخبري وعلى كل مفهوم ذهني. النتيجة: التجربة الممكنة هي وحدها قادرة أن يعطى لمفاهيم (العالم) واقعا ومن دونها ليس أي مفهوم سوى فكرة دون حقيقة واقعية وليست له أي صلة بأي موضوع خارجي. كما أن الأفكار الكسمولوجية هي مؤسسة على مفهوم فارغ ومتخيل وحسب وعن الطريقة التي بها يعطى لنا موضوع هذه الأفكار. (عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الانماء القومي، بيروت، طبعة ، صص253-254-255. “إن كل شيء في العالم المحسوس ذو وجود مشروط تجريبيا، وليس فيه أي محل بالنظر الى أي خاصية أي ضرورة لامشروطة…لا يتضمن العالم الحسي سوى ظاهرات، لكن هذه مجرد تصورات هي بدورها أبدا مشروطة حسيا، وبما أنه ليس لدينا البتة أشياء في ذاتها كموضوعات، فانه ليس مخول لنا القفز إلى الخارج والمغادرة للبحث عن علة لوجودها… ولا يؤدي إلى تراجع تجريبي يعين الظاهرات.” ص284. لقد عمل كانط على التقليل من قيمة الخلق الالهي للعالم والرفع من شأن الخلق الاستيطيقي للأعمال الفنية وذلك في كتابه نقد ملكة الحكم بعد أن بين في كتاب نقد العقل المحض المزاعم الخاطئة التي تمسكت بها الكوسمولوجيا والتيولوجيا العقلانية واستحالة اعطاء مضمون ايجابي الى فكرة الخلق وتعذر الصعود الى مفهوم الاله الخالق والاكتفاء بفكرة مهندس العالم architecte du monde أي الاله المنظم أو الموجه. لقد رفض كانط كليا مسألة خلق العالم والإله الخالق في الجدلية المتعالية وخاصة في لعبة النقائض وكان الحل الذي ارتضاه لمشكل الخلق يرتكز على تفسير السبب الذي يجعل المشكل لا يملك أي حل وبالتالي يدعو إلى إتباع الاستعمال المشروع للعقل الذي يسند له وظيفة توجيهية للبحوث التي يقوم بها الذهن. من تبعات النقد الكانطي هو بروز النظريات التطورية والمادية والوضعية وتأكيدها بصفة مجتمعة على أن مسألة خلق الله للعالم اتضح أنها غير صالحة من الناحية التاريخية وغير ممكنة من الناحية النظرية. فهل يمكن اعتبار الخلق الفني للعالم الذي ينسب إلى الله بالمعنى الكانطي هو بمثابة خلق نسبي للعالم؟ المرجع: عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الانماء القومي، بيروت، طبعة ، صص253-254-255.
المثالية المتعالية (بالإنجليزية: Transcendental idealism) عقيدة فلسفية أسسها الفيلسوف الألماني عمانويل كانت في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث برز مذهب كانط في كتابه نقد العقل المحض الذي تم نشره عام 1781، فيعتقد كانط بأن الشخص الواعي لا يُدرك الأشياء في حد ذاتها، ولكن من خلال ظهورها حسب ما ندركها بحواسنا، وبالتالي يُقيد كانط إدراكنا للمظاهر من خلال حواسنا فقط. لا نمتلك أي قدرة على إدراك الأشياء كما هي في حد ذاتها، أي استحالة إدراكنا للأشياء كما لو أنها مستقلة عننا ولا تتداخل مع معرفتنا. فالروابط التي تربط الظواهر مع بعضها مثل المكان والزمان والسببية ليس لها وجود خارج كيانتنا المعرفية وليست منفصلة عن الظواهر المحيطة بنا، فهذه الروابط تعتمد في وجودها على العقل الكلي وتنشأ من خلاله. فعقيدة كانط يتم تلخيصها على اعتمادها على فكرة أن الزمان والمكان والسببية ليست كيانات موجودة بشكل مستقل، ولكنها الروابط العقلية اللازمة للتداخل مع الظواهر والعالم المحيطخلفية عامة
(الكانطية الجديدة)
من المغامرة القول بأن المشروع الترانسنتدالي الكانطي قد تحول برمته الي أرشيف تاريخ الفلسفة , كما ليس من السهولة الذهاب الي ان النقد الكانطي الذي كون اقسي محاكمة للعقل الخالص قد أنهار لمجرد حلول النظريات اللانيويوتنية محل الفيزياء النيوتونية والهندسات اللااقليدية محل هندسة اقليدس (وإن كان الامر لا يخلو من هذا وذاك) لهذا دعي لفيف من العلماء في (شتوتجارت * الي العودة الي كانط بعد ان اعمل المعول (الهيغيلي ) في جسم البناء الكانطي ذلك ان فلسفة هيغل برمتها قامت علي انقاض النقد الكانطي فاذا كان كانط قد انتهي الي ان الكليات منطقة محرمة علي العقل المجرد اذ لا يستطيع ان يكون عنها افكار تركيبية بديهية كما يفعل في العلم الرياضي والطبيعي فان هذا ذات ما اراد ان يثبت عكسه هيغل من خلال الديالكتيك الذي يبدأ من العقل المجرد. ان سقوط نظرية ( الزمان والمكان المطلقيين) الذي بناهما كانط علي منوال الفيزياء النيوتونية والهندسة الاقليدية لا يمس جوهر النقد الكانطي الذي رصف الطريق لمدارس معاصرة في النقد في مقدمتها (مدرسة فرانكفورت التي انتهت بيورجين هابرماس وكتابه في (العقل الاتصالي ) الذي جاء بطريقة او بأخري قراءة ثانية ل ( نقد العقل المجرد) عند كانط. لقد جاءت فلسفة كانط شاملة لنظريتي ليبنتز ونيوتن و كان النقد اشد واعنف بالنسبة إلى ليبنتس، لان نظريته كانت هي السائدة في المدرسة الالمانية المعاصرة له أنذاك. يقول “كانط” ان المكان والزمان ليسا تصورين، بل هما صورتان .الزمان والمكان تصورات اولية، الا وهي “المقولات” الاثني عشر التي يستخلصها “كانط” “كانت” من اشكال القياس. وتقسم المقولات إلى اربع مجموعات كل منها إلى ثلاث: (1) لكم: الوحدة، التعدد، والمجموع الكلي (2) الكيف: الواقع، النفي، التقييد (3) العلاقة: الجوهر والعرض، والعلة والمعلول، التبادل (4) الضرب: الامكان، الوجود، الضرورة. فهذه ذاتية بالمعنى الذي يكون المكان والزمان، يعني هذ القول بان تكويننا العقلي يكون بحيث تكون قابلة للتطبيق على الاشياء في ذاتها، ومع ذلك، ففيما يختص بالعلة ثمة تضارب، وذلك ان الاشياء في ذاتها، يعتبرها “كانت” عللا للاحساسات، والارادات الحرة هي في تقديره علل للاحداث في الزمان. هذا التضارب لم يكن سهوا غير مقصود، بل هو جزء يكشف المغالطات الناجمة عن تطبيق الزمان والمكان أو المقولات على الاشياء التي لم تجرب. وعندما يتم ذلك نجد انفسنا ازاء متاعب “النقائض” (هذا ما يؤكده كانت) ويقدم لنا كانت اربعا من هذه النقائق، كلا منها يتألف من قضية ونقيضها.
ففي القضية الاولى تقول “القضية”: للعالم بداية في الزمان، وهو ايضا محدود من حيث المكان. “ونقيض القضية”: ليس للعالم بداية في الزمان، وليست له حدود في المكان فهو لا متناه من حيث الزمان والمكان.
وفي النقيضة الثانية يثبت ان كل جوهر مركب، فهو مؤلف من اجزاء بسيطة وهو غير مؤلف منها على حد سواء. وفي النقيضة الثالثة يؤكد ان ثمة نوعين من العلية، احدهما بمقتضى قوانين الطبيعة والنوع الاخر هو علية الحرية، وفي نقيضها يؤكد ان ثمة فقط علية بمقتضى قوانين الطبيعة. وفي النقيضة الرابعة تثبت ان هناك، وان ليس هناك، موجود ضروري ضرورة مطلقة. هذا الجزء من النقد، كان له نفوذ كبير على هيجل (1770-1831) الذي يسير جدله سيرا تاما على طريقة النقائض لقد كانت اهم جزء في كتاب “نقد العقل الخالص” هو نظرية المكان والزمان،
وليس من السهل ان نشرح نظرية “كانت” في المكان والزمان شرحا واضحا، فقد سيقت في كل من كتاب “نقد العقل الخالص” و”المقدمات”. ياخذ “كانت” كانط بان الموضوعات المباشرة للادراك تعزى في جزء منها للاشياء الخارجية، وفي الجزء الاخر إلى جهازنا الادراكي، ويجعل الكيفيات كيفيات ذاتية، و “كانط” لا يضع موضع التساؤل ان تكون لاحساساتنا علل، يدعوها “الاشياء بالذات” أو “النومينا”، فان ما يظهر لنا في الادراك، وهو الذي يدعوه “ظاهرة” يتألف من جزئين: جزء يعزى للموضوع، وهو الذي يدعوه “الاحساس”، وجزء يعزى إلى جهازنا الذاتي وهو الذي يجعل المتعدد ينتظم في علاقات معينة ويدعوه، صورة الظاهرة. هذا الجزء ليس هو نفسه احساسا، ومن ثم فهو لا يعتمد على ما تحدثه البيئة، فهو دائما، ما دمنا نحمله معنا، وهو اولى بمعنى انه لا يعتمد على التجربة. وتسمى الصورة الخالصة لحساسية “حدسا خالصا” (Anschawing). هناك اذن صورتان من هذا القبيل، اعني المكان والزمان، احداهما للحس الخارجي، والاخرى للحس الداخلي. وعند “كانط” فئتان من الحجج لاثبات ان الزمان والمكان صورتان اوليتان، احداهما ميتافزيقية والاخرى ابستيمولوجية. والفئة الاولى من الحجج قد اخذت مباشرة من طبيعة المكان والزمان ام الفئة الاخرى فاخذت بطريق غير مباشر من امكانية الرياضيات البحتة، والحجج عن المكان بسطت بافاضة اكبر مما بسطت به الحجج عن الزمان، اذ قد ظن ان الزمان مماثل للمكان في الجوهر. ). نبدأ بان نعرض المميزات الرئيسية لفكرة الزمان عند “كانت” فنقول ان كانت في عرضه لهذه الفكرة قد قسم هذا العرض إلى قسمين: عرض ميتافيزيقي، واخر متعال. والفارق بين العرض الميتافيزيقي والعرض المتعالي. ان الاول يحلل الفكرة أو الامتثال في ذاته، أي بما هو مضمونه، مبينا بهذا التحليل ان هذا الامتثال ليس مستعارا أو متوقفا على التجربة، بل هو قبلي. اما العرض المتعالي فنبينه كمبدأ على ضوئه يمكن ان نفهم امكان معارف تركيبية قبلية اخرى، أي انه يبين ان ثمة معارف اخرى مركبة تؤخذ من الامتثال، وان مثل هذه المعرفة ليست ممكنة الا إذا شرح الامتثال على نحو خاص، أي على انه قبلي. اما العرض الميتافيزيقي فيتضمن خمس حجج يمكن ان تقسم إلى قسمين: الاول يبرهن فيه على ان الزمان ليس امتثالا تجريبيا، بل هو قبلي. والثاني يبرهن على ان الزمان عيان، وليس تصورا.
الحجة الاولى تقول ان الزمان ليس تصورا تجريبيا، أي امتثالا اخذ عن اية تجربة. وهذه الحجة تتضمن امرين: الاول ان الاختلاف الزمني لا يمكن ان يرد إلى اختلاف في الكيف، بل هو اختلاف من نوع خاص به، يشترط وجود الزمان شيئا قبليا.والثاني ان الزمان ليس تجريدا من التجربة أو الموضوعات المحسوسة، كما يزعم ليبنتس .كما نجرد الالوان أو الطعوم، لكن هذه الحجة سلبية فحسب، اذ كل ما تقوله ان الزمان ليس امتثالا ماخوذا عن التجربة. ولذا اردف بها الحجة الثانية فقال:
٠ان الزمان ضروري يقوم عليه كل عيان، ويمكن ان يدرك مستقلا عن الظواهر. والنتيجة لهذا ان الزمان قبلي، والدليل على هذا اننا لا نستطيع ان نستبعد الزمان من الظواهر العامة، مع اننا نستطيع ان نفهم الزمان خاليا من الظواهر لا يمكن ان يتم الا فيه، والنتيجة لهذ اذن ان الزمان لا يقوم على الظواهر، بل الظواهر هي التي تقوم على الزمان لا يتصور تحقق الظواهر، أي ان الزمان اذن قبلي ضروري لكل حركة حسية.
اذن ذلك هو القسم الاول من العرض الميتافيزيقي، قد اراد كانت ان يبرهن فيه على ان الزمان امتثال قبلي. وهو يريد في القسم الثاني المكون من الحجتين الرابعة والخامسة في عرضه ان يبرهن على ان الزمان عيان وليس تصورا. يقول كانت في الحجة الاولى منهما ان الزمان ليس تصورا كليا، ولكنه شكل خالص للعيان الحسي. وذلك لان المرء لا يستطيع ان يتصور غير زمان واحد وحدي، اما الازمنة المختلفة فليست الا اجزاء لهذا الزمان، واذا كان الزمان واحد، فهو لا يقبل ان يكون ذا تصور بل ذا عيان. ما دام التصور يتركب من امتثال عدة اشياء، بينما العيان من امتثال شيء جزئي واحد. ويضيف إلى هذا دليلا اخر هو ان القضية القائلة بان الازمنة المختلفة لا يمكن ان توجد معا، هذه القضية الزمان عيانا. ذلك لان هذه القضية قضية تركيبية والقضية التركيبية لا تصدر عن التصور وحده، ولهذا فان هذه القضية متضمنة مباشرة في العيان الخاص بالزمان، أي امتثال الزمان. اما الحجة الخامسة فخلاصتها ان التغير بما فيه الحركة لا يمكن ان نفهم دون الزمان بوصفه عيانا قبليا. وذلك لان التغير معناه الجمع بين محمولات متناقضة في موضوع واحد بالذات، مثل الجمع بين الوجود واللاوجود شيء وةاحد في مكان واحد. انما يمكن في الزمان وحده ان يتلاقى محمولان متقابلان بالتناقض في موضوع واحد، وذلك بان يكون الواحد “بعد” الاخر. فالزمان اذن هو الشرط الضروري الكلي لفهمنا للتغير والحركة. وعن طريق هذا العرض اثبت “كانط” اذن ان الزمان عيان خالص وهذا العيان الخالص هو الشرط لكل معرفة قبلية لدينا عن الزمان بما في ذلك البديهيات العامة ثم يستخلص النتائج تتضمنها هذه الاقوال، فيجدها ثلاثة: •الاولى ان الزمان ليس شيئا موجودا بذاته قائما مستقلا، وليس شيئا باطنا في الاشياء كصفة موضوعية لها، وهو بالتالي لا يبقى حين نجرد كل الشروط الموضوعية لامتثاله. لانه لو كان قائما بذاته، لكان شيئا واقعيا وغير واقعي معا: واقعيا من حيث انه لا يوجد مستقلا عن الاشياء المتزمنة، وغير واقعي لانه سيكون شيئا ليس له من وظيفة في الوجود الا ان يتقبل كل شيء واقعي فيه، دون ان يكون ثمة شيء أي شيء واقعي، وفي هذا رد على نيوتن وينعت “كانت” الزمان –والمكان- وفي هذه الحالة بانه سيكون لا شيئا. •الثانية ان الاشياء في ذاتها لا تاتي إلى عقولنا كما هي دون تغيير، بل لابد ان تمر بهذا الاطار، اطار الزمان والمكان، فتترتب وفقا له، فكأنها بمجرد ان تصبح مدركة، لابد ان تظهر على هيئة الزمان و(المكان)، ونحن لا نعرفها كما هي في ذاتها، بل كما تبدو لنا ولهذا فنحن لا نعرف الا الظواهر (أي ما يظهر لنا نحن). ولا نعرف حقيقة الاشياء كما هي في ذاتها. والزمان اذن ليس الا شكل حس الباطن، اعني شكل عيان انفسنا وحالنا الباطنة بواسطة المماثلات بان نتصور توالي الزمان على هيئة خط يتقدم إلى ما لا نهاية ونستدل من خصائص هذا الخط على كل خصائص الزمان مع هذا الفارق الوحيد: “وهو انه بينما اجزاء الخط في حالة معية، فان اجزاء الزمان في حالة توال. ومن هذه الحقيقة عينها، اعني ان كل اضافات الزمان تسمح بالتعبير عنها في عيان خارجي، يكون من الجد ان الامتثال نفسه عيان”. •الثالثة هي ان الزمان هو الشرط الشكلي القبلي لكل الظواهر ايا كانت، وفي هذا يزيد الزمان عن المكان: اذ المكان بوصفه الشكل الخالص (أي الخالي والتجربة) لكل عيان “خارجي”. اما الزمان فانه شكل خالص لكل عيان باطن وخارجي معا، لان كل الامتثالات، سواء أكانت الموضوعات خارجية فحسب ام لغيرها ايضا، تنتسب إلى حالنا الباطنية، كصفات أو تحديدات لعقلنا، ولما كانت هذه الحال الباطنة تقع تحت الشرط شرط قبلي لكل الظواهر ايا كانت، فكل الظواهر اذن خاضعة للزمان، لان الزمان شكل للعيان الباطن، والعيان الزاهر يخضع للعيان الباطن، فالزمان اذن ليس شكل قبلي للظواهر كلها. هل معنى هذا انه ليس للزمان اية حقيقة موضوعية؟ كلا، بل له حقيقة موضوعية من حيث صلته بكل الموضوعات التي يمكن ان تقدم لنا بواسطة الحس، وهو موجود في كل امتثالاتنا عن الموضوعات الخارجية، ولكن ليس معنى هذا انه وجودا مطلقا مستقلا عن تجربتنا وامتثالاتنا أو ذا وجود مستقل قائم بنفسه هذه اذن نظرية كانت في الزمان.
المكان ليس تصورا تجريبيا، هو مجرد من التجربة الخارجية، وذلك لان المكان مفترض مقدما في دلالة الاحساسات على شيء خارجي، والتجربة ممكنة فقط من خلا مثول المكان.
المكان تمثل ضروري اولي، يشكل الاساس لجميع الادراكات الخارجية، اذ لا يمكننا ان نتخيل ان ليس هناك مكان، ومع ذلك يمكنا ان نتخيل اللاشيء في المكان. وهكذا يكتسب الزمان والمكان عند كانط قالبا تجريديا منافيا للواقع العلمي الذي رسخته فيزاياء اينشتين وميكانيكا الكوانت مع ماكسويل وبهلروهاينزبرج ’ لكن المنهج الذي اتبعه كانط في تحليل هانين المقولتين والوصول الي ان للعقل حدودا لا يقوي علي تجاوزها جعل من المستحيل نسيان النقد الكانطي و ولهذا ظهر الكانطيون الجدد من اجل العودة الي كانط وان استدعي الامر 0 نقد كانط نفسه). يُعدد الباحثون في تاريخ الكانطية الجديدة العديد من المدارس ، وصل عددها إلى سبعة مدارس أو مدارس فرعية . إلا إن من الملاحظ إن هناك مدرستين كانطيتين جديدتين كبيرتين فرضتا هيمنتهما على تاريخ الكانطية الجديدة وذلك بسبب إستمرارهما والتأثيرات التي تركتهما ؛ المدرسة الأولى هي ” مدرسة ماربورج ” . والثانية هي ” مدرسة بادن ” والتي يطلق عليها كذلك ” مدرسة هيدلبيرج ” أو ” مدرسة ألمانيا الجنوبية ” . مع الإشارة إلى إن هناك عدد من المفكرين الأخرين حاولوا إنعاش الروح في فلسفة كانط وتحت مظلة عامة ، هي ” الفلسفة النقدية ” . مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة إن مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة ، في الأصل هي حركة معارضة للتفسيرات الخاطئة التي تعرض لها كانط وفلسفته .. وترتبط هذه المدرسة الكانطية الجديد بإسم إثنين من فلاسفة الكانطية الجديدة ؛ الأول هو البرفسور ” فردريك ألبرت لانج ” الذي قبل عرض جامعة ماربوك ، وباشر عمله بروفسوراً في الجامعة عام 1872 . والثاني هو تلميذه في جامعة ماربوك ” هرمان كوهن ” . وإذا كان لانج هو الأب الروحي المبكر للمدرسة ، فإن هرمان كوهن هو المؤسس الحقيقي والقائد للمدرسة وهو من الجيل الأول من مفكري الكانطية الجديدة . أما الممثلون الأخرون للمدرسة ، فهم كل من ” بول نتورب ” (1854 – 1924) و ” إرنست كاسيرر ” (1874 – 1945) . وأخيراً ” نيكولاي هرتمان ” (1882 – 1950) . تميزت مدرسة ماربوك في كانطيتها الجديدة بالتأكيد القوي على توجهاتها العلمية والرياضية . لقد قام كوهن بنقد النزعة النفسية من وجهة نظر كانطية (وبالمناسبة ستتكرر هذه التجربة النقدية للنزعة النفسية مرة أخرى مع ” أدموند هوسرل ” (1859 – 1938) فيما بعد ولكن من زاوية فينومونولوجية تحمل نفساً ومذاقاً كانطيين) . والنزعة النفسية هي مشروع يختصر القوانيين المنطقية في عمليات تجريبية ونفسية . ولهذا فإن المعرفة عند كوهين كما يقول ” لا ترتبط بالفاعل فقط كما هو واضح في الرياضيات التي تعلمنا كل يوم بأنها موضوعية وليست لها علاقة بالفاعل (رجل الرياضيات) “. أما الكانطي الجديد ” بول نتورب ” فكان مشغولاً بشكل رئيس بالأسس المنطقية للعلوم الدقيقة (الرياضيات والفيزياء النظرية .. ) ، حاله حال أغلب الكانطيين الجدد . ونتورب رفض الوجود الفرضي ” للشئ بذاته ” (وهو واحد من مفاهيم كانط ، وهو عصي على المعرفة) والذي يقف خلف الظاهرة (التي هي بإصطلاحات كانت الشئ كما يبدو لنا) . ومن بين فلاسفة مدرسة ماربوك ، فيلسوف التاريخ ” كارل فورلندر ” (1860 – 1928) وكان أستاذاً في ” سولينكن ” ، ومن أهم مؤلفاته ” العلاقة بين الفكر الكانطي والفكر الإشتراكي ” ، وفي عام 1924 نشر كتابه المعنون ” سيرة كانط الذاتية ” والذي تحول إلى مصدر كلاسيكي تعتمد عليه كل الدراسات الأكاديمية . ومن ثم نشر أنواعاً مختلفة من الدراسات حول مؤلفات كانط ، من ضمنها الدراسة المعنونة ” أثر كانط على كتابات جوهان غوته ” (1749 – 1832) . وكان فورلندر مهتماً بالتركيز على ” الماركسية و ” رودلف ستاملر ” (1856 – 1938) ، وستاملر كان بروفسوراً في جامعة ماربوك والذي إشتغل على العلاقة بين القانون والمجتمع . في حين كان ” إرنست كاسيرر ” . الذي ترتبط معظم أفكاره بفلسفة القرن العشرين ، مهتماً بالسؤال الذي يدور حول فلسفة اللغة ، من مثل معاني الأسس الرمزية . وبمنظاره إن المقولات ما هي إلا تراكيب مشروطة من الزاوية التاريخية ، وتم التعبير عنها في إطار الصور (الرموز) اللنكوستية (بينما المقولات عند كانط هي قوانين العقل الأولية) . وحسب كاسيرر يمكن التعبير عن هذه المقولات بصور جمالية ودينية كذلك . والحقيقة إن نظرية الرموز عند كاسيرر مؤسسة على فينومنولوجيا المعرفة (وكاسيرر معارض لفيلسوف التاريخ ” إسولد شبنجلر ” (1880 – 1939)).) . ومن أخر أعضاء مدرسة ماربوج الكانطي الجديد ” نيكولاي هرتمان ” ، وهو في الأصل فيلسوف ألماني من البلطيق . درس الطب أولاً وتحول إلى الفلسفة . وفي جامعة ماربورك أكمل دراسته للدكتوراه ، ومن ثم كتب إطروحة دكتوراه أخرى للعمل في الجامعة (تسمى في ألمانيا دكتوراه التأهيل) ، ومن ثم أصبح بروفسوراً في ماربورك . ومن ثم طور له فلسفة خاصة توصف بكونها ” الوجودية المتعددة أو الواقعية النقدية ” . ولعل من أهم أعماله الفلسفية المبكرة ” فلسفة البايولوجيا ” . وكتب الكثير من المؤلفات ، ولكن ما لفت نظري ، هو كتابه المعنون ” الطرق الجديدة للإنطولوجيا ” والذي طبع في العام 1952 أي بعيد وفاته بسنتين . ونحسب إن نيكولاي هرتمان كان أخر حبة من عنقود العنب الكانطي الجديد . ويجري الحديث في الأوساط الأكاديمية وفي بعض الكتابات عن مدرسة كانطية جديدة روسية ، بداياتها كانت ترتبط بمدرسة ماربورج . وفعلاً وجدنا إن بعض الكانطيين الجدد كانوا روسيون من إصول ألمانية درسوا في جامعة ماربورك ، من أمثال الفيلسوف الروسي الثويني ” فازيلي سيسمان (1884 – 1963) والذي درس الفلسفة وعلم النفس والتربية على كل من الكانطيين الجدد ؛ ” هرمان كوهن ” و ” بول نتروب ” و ” إرنست كاسيرر ..)) .) . مدرسة بادن أو هيدلبيرج للكانطية الجديدة وعلى خلاف مدرسة ماربوج ، فإن مدرسة بادين أو هيدلبيرك للكانطية الجديدة (نسبة إلى ولاية بادن وهيدلبيرج نسبة إلى الجامعة) قد أكدت على أسئلة القيم أو الأكسيولوجيا . ومثل هذه المدرسة عدد من مفكري الكانطية الجديدة من أمثال ” ويلهلم وندلباند ” (1848 – 1915) ، و ” هنريخ ريكارت ” (1863 – 1936) ، و ” أميل لاسك ” (1875 – 1915) . فمثلاً ويندلباند يعتقد إن مهمة الفلسفة الأولى ، هي تعليم القيم الكونية السليمة ، والتي تتمثل بثلاثية القيم : الصدق في التفكير ، والخيرية في الإرادة والفعل ، والجمال في المشاعر . وهذه التقسيمات الثلاثية تعود في أساسها مباشرة إلى الفيلسوف كانط . لقد ميز وندلباند بين التاريخ والعلوم الطبيعية ، وألح على إن ” فهم كانط يتطلب العودة إلى خلفياته ” وهو الشعارالذي ظل مرتبطاً بالكانطية الجديدة .وفعلاً فإن خليفة وندلباند ” هنريخ ريكارت ” طور أكسيولوجيا خاصة به ، مع تأكيد على إن فلسفة كانط النقدية يجب أن تتوسع فتشمل كل العلوم ، ومن ضمنها علوم العقل وعلوم الحضارة (الثقافة) . ولهذا التأكيد إرتبط ريكارت بتراث المثالية الألمانية . ومن ثم كان تلميذه ” برنو باخ ” (1877 – 1942) كانطي جديد من أتباع مدرسة بادين ، وهو الذي جمع مؤلفات كانط ونشرها في الأكاديمية البروسية ، كما كان رئيس تحرير مجلة ” جمعية كانط ” ومجلة ” دراسات كانط ” حتى عام 1916 ، ولكنه نشر مقالاً معادياً للسامية ، فأحدث جدلاً داخل جمعية كانط ، وأُجبر على الإستقالة . والحقيقة إن برنو باخ وأستاذه ” هنريخ ريكارت ” كانا من الرموز القيادية في مدرسة بادين بعد ويلهلم ويندلباند . ومن المفيد أن نشير إلى إن باخ كان مشاركاً لكانطيي مدرسة بادين في إهتمامهم بفلسفة القيم (الأكسيولوجيا) ، ولكنه ركز إهتمامه حول فلسفة الرياضيات والمنطق . ولذلك كان على خلاف إستاذه ريكارت متعاطفاً مع صديقه عام المنطق الرمزي ” جوتلوب فريجه ” (1848 – 1925) . ونحسب إن في إرتباط مدرسة بادن بقضايا المعنى والقيمة بدلاً من أولوية العلوم الطبيعية ، قد منح هذه المدرسة إمكانية الإتصال والتأثير على عدد من كبير من المفكرين الذين بحثوا عن جواب للسؤال : لماذا عمت الفوضى الثقافية (أو الحضارية) ؟ وهذا شمل كل من ” ويلهلم ديلثي ” (1833 – 1911) و ” جورج ساميل ” (1858 – 1918) .. . كما ويرتبط بالمدرسة ” إرنست ترولتسج ” (1865 – 1923) والذي كانت كتاباته تتوزع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ . وجاء إلى الكانطية الجديدة من من مضمار اللاهوت البروتستانتي .) .. ثم جاءت محاولة الكانطي الجديد ” فردريك بيولسن ” (1846 – 1908) ، وهي متابعة لمثابرة كانط المثمرة ، ولو جزئياً وذلك من أجل الوصول إلى الميتافيزيقا التي تقف وراء الأبستمولوجيا . وفعلاً بيولسن زعم ” إن كانط دائماً كان رجل ميتافيزيقا في الأساس ” .. كما إن تأثير الكانطية الجديدة لم يقتصرعلى دائرة الثقافة الألمانية ، وإنما تعدت ذلك لتشمل الثقافة الأوربية برمتها ، فكانت لها مضارب في شرق القارة وغربها وجنوبها ، فمثلاً ظهرت بدايات مدرسة كانطية جديدة روسية ، حمل مشعلها الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي الرائد ” أفرايكن ألكسندروفش سبر ” في كتابه ” الفكر والحقيقة : محاولة لتجديد الفلسفة النقدية ” والذي ترك إنطباعاً قوياً على الروائي الروسي ” تولستوي ” بعد إن قرأه في العام 1996 وربط بينه وبين كتاب شوبنهور ” العالم إرادة وصورة ” ، ومن ثم جاء الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي (ألثويني) ” فازيلي سيسمان ” والذي ينتمي إلى مدرسة ماربورك ، فأنبت بذور مدرسة كانطية جديدة روسية ذات مذاق ماربوكية (نسبة إلى مدرسة ماربوك للكانطية الجديدة) . هذا حدث للكانطية الجديدة شرق ألمانيا . أما غرب ألمانيا فقد حدث التأثير في الثقافة الفرنسية مبكراً ، وذلك عندما أقدم الفيلسوف الكانطي الجديد ” أفرايكن سبر ” وهو الروسي الألماني الفرنس لغة ، بكتابة موجز لمؤلفه الموسوم ” الفكر والحقيقة : محاولة في تجديد الفلسفة النقدية ” باللغة الفرنسية ، وصدر بعنوان ” موجز للفلسفة النقدية ” في العام 1877 . وبعد وفاته بأربعين عاماً (أي عام 1930) صدرت طبعة جديدة للكتاب بمقدمة كتبها الفيلسوف الفرنسي ” ليون برنسيفك ” . )المصادر ( نقد العقل المجرد – كانط – ماهي الابستمولوجيا محمد وقيدي – مراجع اخري بتصرف)
على الرغم من تأثير عقيدة كانط على الفلسفة الألمانية اللاحقة بشكل كبير، فإن تفسير هذه العقيدة كانت محل جدال بين فلاسفة القرن العشرين. ابرز كانط عقيدته في كتاب ( نقد العقل الخالص) حيث وضح فكرته وميزها عن الأراء الفلسفية المعاصرة مثل الواقعية والمثالية، لكن الفلاسفة اللاحقون له لم يتفقوا على تميز فكرة كانط بشكل واضح عن الفلسفات المعاصرة له. يربط بعض الفلاسفة بين المثالية المتعالية والمثالية الشكلية على أساس بعض المقدمات النقدية الواردة في كتاب ‹‹مقدمة تمهيدية للميتافيزقيا المستقبلية« ( وهو مقالة قصيرة يشرح فيها كانط بعض أراءه عن كتابه نقد العقل الخالص)، بالرغم من أن الأبحاث الحديثة تعترض على هذه الرأي. وتبنى المثالية المتعالية بعض الفلاسفة الألمان اللاحقين على كانط مثل (يوهان غوتليب فيشت)، و(فريدريك فيلهلم جوزيف فون شيلينغ)، و(آرثر شوبنهاور)، وفي أوائل القرن العشرين بعض الفلاسفة مثل ( إدموند هوسرل) الذي تبنى شكل جديد من المثالية التجريبية المتعالية.
مثالية كانط المتعالية يستعرض كانط طرق استكشافنا للأشياء من حولنا وادراكنا للزمان والمكان والتفاعل معهما. فقبل كانط توصل بعض المفكرين مثل (ليبنتز) إلى استنتاج مفاده أن الزمان والمكان ليسا أشياءَ موجودة ولكن يتم استنتاجهما من خلال العلاقات بين الأشياء فقط. بينما أكد مفكرون آخرون ومن بينهم (إسحق نيوتن) بأن الزمان والمكان موجودان بشكل حقيقي. توصل (ليبينتز) إلى طريقة فهم مختلفة تمامًا للكون والأشياء الموجودة فيه، فحسب إحدى كتابات (ليبينتز) التي يشرح فيها أفكاره الفلسفية المتأخرة وهي مخطوطة «Monadology»، فإن كل الأشياء التي يعتقد البشر على أنها نتاج تفاعل الأفراد مع الأفكار العقلية مثل ( مواقعهم بالنسبة للزمان والمكان) تكون في الأساس في عقل الواحد المتعالي (الله) ولا يمكن أن نتصور وجودهم في الكون ككيانات مجردة.
حسب الواقعيين تتصل الأشياء الفردية مع بعضها عن طريق روابط وعمليات فيزيائية، وتربط تلك العمليات الأشياء مع الأدمغة البشرية، ومن ثَم توجه الدماغ البشرية نحو سلسلة من الأفعال المحددة تجاه تلك الأشياء وتصحح رؤية الدماغ البشرية نحوها، ومعرفتها بيها. ادرك كانط المشاكل الناجمة من تلك الرؤية الواقعية، فمع تأثره بفيزياء نيوتن، وإدراكه لوجود سلسلة من التفاعلات المادية بين الأشياء المُتصورة وتلك التي نتصورها بالفعل، إلا أن العقل يستقبل البيانات الواردة إليه ويحللها ويعالجها مما يُحدث اختلافا بسيطًا عن البيانات الخارجية الأصلية. [1]
«إذا ما حاولنا أن نبقى في إطار ما يُمكن إثباته بواسطة الحُجة الكانطية، فيُمكننا القول أنه من الممكن إثبات الواقع التجريبي من خلال الزمان والمكان، أي أن جميع الموضوعات التي تقع في إطار الفيزياء والرياضيات صالحة، إلا أن هذه الحقيقة التجريبية تتضمن المثالية المُتعالية التي تنص على أن الزمان والمكان مكنونات عقلية ناشئة من الحدس البشري، ويمكن إثبات فعاليتهما على أنهما مفيدان لإدراك الأشياء كما تظهر لنا وليس كما هي في ذاتها».[2]
من الواضح أن المكان والزمان بدلًا من كونهما أشياء حقيقية بحد ذاتها أو مظاهر يُمكن إدراكها تجريبيًا، إلا إنهما من أشكال الحدس ونستخدمهما لإدراك الأشياء، وبالتالي لا يُمكن إثبات وجودهما ككيانات جوهرية مستقلة، وبالرغم من أنها أشياء ذاتية أو شخصية لكل فرد على حدى إلا أنها ضرورية، شريطة أن يكون ذلك الكائن مظهرًا وليس شيئًا في حد ذاته. يتعامل البشر بالضرورة مع الأشياء المُحيطة بهم على أنها موجودة في حيز مكاني وزماني، وهذا شرط ضروري ليدرك الإنسان ويفهم ما حوله كأشياء مكانية وزمانية على حد سواء. «المثالية المُتعالية هي العقيدة التي تنص على أن المظاهر موجودة ولكن بشكل ظاهري وليس كما هي في حد ذاتها، وبالتالي فإن الزمان والمكان مجرد أشكال عقلية لحدسنا». ويناقش كانط ادعاءاته في قسم خاص من كتابه (نقد العقل الخالص) تحت عنوان (جماليات المثالية المُتعالية)،[3] حيث خصص هذا القسم للتحقق من الشروط السابقة لاستخدام الإنسان لحواسه كأدوات معرفية، بينما يتعلق القسم التالي من الكتاب والمُعنون بأسم (منطق المثالية المتعالية) بطرق التفكير في الأشياء وإدراكه