*أيمن فلاق أستاذ باحث بجامعة ابن زهر أكادير :
يقتضي الحفاظ على ما تبقى من بحث علمي رصين وإعادة بنائه للالتحاق بركب من سبقونا في هذا المجال القطع الفوري مع مجموعة من الظواهر العبثية المنتشرة بشكل لا يمكن حصره، ومنها ظاهرة الشَنَّاقة “الباحثين”، فإذا كان التزام الباحثين تجاه مجتمعاتهم يقتضي التحلي بروح المسؤولية والأمانة وتطوير البحث العلمي للرقي والتسلق في سلم التنمية الذي نتذيله لسنوات، فإن هذه الفئة ببلادنا -على قلتها- أسهمت ولا تزال في إحداث تشوهات وعاهات علمية، بمخالفتها لأخلاقيات البحث العلمي أولا، وإنتاجها للرداءة ثانيا. وهكذا لم تعد ظاهرة الشناقة المرتبطة بسوق البهائم مقتصرة على محترفي عملية المضاربة الذين يسعون لإفساد البيع أو التغرير بالمشتري –من منظور عامي- بل تعدت ذلك لتطال مجال البحث العلمي، فظهر الشنَّاقة الذين يحشرون أنفسهم في مختلف المواضيع التي تظهر في الساحة العلمية وإن كانت خارج تخصصاتهم، ليتسابقوا ويحكموا قبضتهم عليها، وحيث ما دارت فهم يدورون. إنهم صنف يسقطون أي موضوع كان في حديقتهم المؤثثة بكثرة شهادات المشاركة والحضور والتنظيم…، والتي يجمعونها من كل التظاهرات سواء تلك التي تنظم داخل الفضاءات العلمية، أو من خارجها في المهرجانات أو جمعيات أو النوادي والمقاهي بل أحيانا في أماكن يستحيل توقعها، ولا تمت إلى فضاءات العلم والثقافة بصلة. وبقدرة قادر فهم مستعدون للخوض في أي موضوع ظهر كمهنة موسمية تنعش الرواج العلمي الرديء. : إن محاولة الإدلاء بدلوهم المثقوب أصلا في كل جديد، مع عدم مراعاة مبدأ التخصص والمشاركة المبنية على التراكم العلمي والمعرفي والمستندة على نتائج البحث الرصين ومقايضة ما لديهم مع الآخر الذي بنى ما لديه لسنوات على أسس متينة، لا يسهم إلا في إنتاج التعجيف الفكري والتوجهات الجوفاء الغارقة في الترقيع والمعالجات السطحية الهزيلة، وغير المبنية على أسس وقواعد علمية رصينة. وهم بذلك يؤطرون ويستقطبون أشخاصا من صنفهم، لهم قابلية بسبب ضعف التأطير، يجندونهم لتكريس الرداءة العلمية والمعرفية، والتي من بين نتائجها كثرة الإصدارات على شكل كتب ومؤلفات جماعية رقمية أو منشورة، حيث يكفي أن يؤدي الكاتب مساهمته المادية التي يتطلبها النشر لعرض بضاعته دون تحكيم علمي، وهنا لا أعمم. إن هذه الظاهرة الموسومة بالوصولية والبحث عن وهم النجاح السهل يشكل بيئة خصبة لتفريخ أشباه الباحثين، والاستمرار في هذا التهور والضلال من شأنه أن يؤثر بشكل مميت على جودة البحث العلمي وكبح عجلة التنمية بالبلاد، وهو ما يفرض وضع حد فاصل بين الجد والعبث. وفي سياق هذا الانحطاط، ظهرت فئة جديدة –قديمة: إنهم “الندوجيون” الممتهنون للندوات، مشاركة وتنظيما، فالندوجي هو ذاك الذي يهرول بين أكبر عدد ممكن من اللقاءات العلمية والندوات في حقله المعرفي أو خارجه وبعيدا عنه دونما اعتبار للتخصص. وقد يحدث أن يشارك في ندوتين في اليوم الواحد، همه في ذلك انتزاع شهادة المشاركة التي قد يسأل عنها في جلسة الافتتاح، كما تجده أحيانا يشارك بأكثر من مداخلة في الندوة الواحدة في إطار عملية “تويزة” مع متدخلين آخرين قد يتجاوزون الخمسة. ولا عجب في بعض الحالات أن تجد اسمه يتكرر في البرنامج لأكثر من سبع مرات، في التنسيق، واللجنتين التنظيمية والعلمية، والمداخلات الشفهية والملصقات، ويختمها بالإشراف العام، دون أن ننسى الصفة التي يتقمصها في كل ندوة: فهو حربائي، يكون خبيرا هنا، ومتخصصا هناك، ودكتورا في مناسبة أخرى، فلكل مقام مقال كما يقال. كل هذا خلف مزاجا عاما مطبوعا بالاشمئزاز والتشاؤم لدى المتتبعين وكل ذي إدراك. :
وكما هو معروف ويوثقه الواقع اليوم، انتشرت بشكل كبير ولأسباب واضحة مرتبطة بالفراغ الذي ترتب عن الحجر الصحي موضة الندوات واللقاءات التفاعلية عن بعد. فالمتتبع يجد أن الكثير منها فعلا هو بعيد كل البعد عن أدبيات وأبجديات الندوات العلمية بأهدافها وعناصرها، وهي بذلك لا تعدو أن تكون مجرد “بريكولاج”، فأصبحنا نتفاجئ بالإعلان عن برامج للندوات بعناوين كبرى، دونما الإعلان عن دعوات المشاركة المتضمنة للورقات المنظمة والتأطيرية وإتاحة الفرصة للمهتمين بالمشاركة، وهذا لا يجد إلا تفسيرا واحدا، هو أن ذوي هذه السلوكات لا يرغبون في مشاركة مأدبتهم إلا مع أصحاب نعمتهم أو المقربين منهم من مستواهم طبعا. وهكذا تناسلت الغرف الالكترونية التي تتميز بالعفوية التي تسمح بتمرير كل ما يخطر على بال مستعمليها، تناقش كل شيء وتستضيف أيا كان، فيتوارى بعضهم لتقمص صفات لا يمكن أن يتقمصها إلا من وراء الشاشات الالكترونية في مثل هذه المناسبات داخل العالم الافتراضي. فبرزت على الساحة مهنة الهندسة الرقمية، لا ندري كيف يحصل أصحابها على شهادة تضاف لملفات ترقيتهم. كل هذا يكرس لوضع الفوضى العلمية التي باتت جزءا من واقع جامعتنا ومؤسساتنا البحثية والثقافية، فضربت عرض الحائط أخلاقيات البحث العلمي التي من سماتها التواضع والرصانة والموضوعية، والصبر والتأني والنقد البناء الذي يغيب بشكل كبير في مثل هذه المناسبات. فهذه السلوكيات لا تضرب مصداقية أصحابها وحدهم، بل أيضا مؤسساتهم العلمية التي ينتمون إليها بشكل يضر صورتها. إن التصدي لهذه الآفة موكول بالأساس إلى الباحثين أنفسهم للقطع مع هذا النوع، من خلال احترام الضوابط الأخلاقية للبحث والتركيز على المواضيع النافعة، وتطويع ما أتيح من إمكانيات لتحقيق التقدم المجتمعي الذي تشكل جودة البحث العلمي ركيزته الأساسية، وحفاظا على قيم العقل والمعرفة والعلم. هناك مرص ما ينخر جسم البحث العلمي، يفوق خطورة ومدى كوفيد19.