ألا نعيش زمن “البلطجة الدولية”؟ ألا نختبر حالياً قانون الغاب، في أبشع تجلياته؟ ألم تعد الدول والأوطان والهويات، مجرد صفقات قابلة للمضاربة في بورصة البشاعة والجشع؟
أهذا هو النظام العالمي الجديد الذي بشرت به “أطروحة” نهاية التاريخ؟ أم هو “نظام العالم الجديد” وعهد السيطرة المطلقة لصالح قوى الشر، لا غير؟
لا نكاد نتفاوض مع كارثة حتى نَنْصَفِع بأخرى أكثر إيلاماً، وما أن نقول بأن صوت الحكمة قد انتصر، ولم ينزلق “الكبار” نحو حرب إقليمية/عالمية أخرى، حتى يلوح “التنفيذ الإجرائي” لصفقة القرن، ويرعبنا الفيروس القاتل “كورونا”، في تأشير إلى الموت القادم إلينا من الشرق الأقصى.
لا شيء يعلو على أخبار الموت والقتل والحرب والاحتلال، لا شيء يعلو على “البلطجة الدولية” في الهنا والهناك. فمن يحكم هذا العالم المنفلت؟ من يدير لعبة “الروليت”؟ من يقامر بحقنا في السلام والأمن العالميين؟ من يدفع بهذا “الكون المشترك” إلى أفظع المآلات وأوسخ الاحتمالات؟ حتماً هناك مستفيدون مما يحدث ويتواصل، ألماً وموتاً وتقتيلاً، حتماً هناك مستفيدون من هذه الأزمات والكوارث والجوائح.
لا نميل إلى نظرية المؤامرة، التي تنبني على اعتقاد مركزي قوامه، ألا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعض، وفقاً لما انتهى إليه مايكل باركون، ومع ذلك فما يتسارع حالياً في المشهد الدولي يوجب استدعاء هذه النظرية، طلباً للفهم، فالجاري فوق مسرح الأحداث يدفع إلى الاقتناع بأن هناك ما/من يحرك اللعبة بدهاء تام ويتلاعب بمصائر الشعوب ويشعل الحرائق وينشر الأمراض، ويفيد من حالات الالتباس والرعب واللا استقرار.
يوماً ما طرح نعوم تشومسكي نفس السؤال: من يحكم العالم؟ وإن كان قد نبه إلى أن الإجابة تستوجب العودة إلى آدم سميت، الذي أكد في كتابه “ثروة الأمم”، أن “التجار وأصحاب المصانع والشركات” هم “أسياد البشرية”.
فمن يحكم العالم اليوم؟ هم هؤلاء الأسياد الذين باتوا اليوم، مُلَّاكاً لكبريات “التكتلات والشركات المتعددة الجنسيات”؟ من الذين يتحكمون في “خيرات” العالم، ويتحكمون في “مصائر” الحكومات والشعوب؟ هؤلاء هم “الأسياد الجدد”، الذين ينتصرون لمبدأ واحد وهو “المال”، والذي يمكنهم، من أجل إثرائه واكتنازه، أن ينتجوا الفيروسات ويشعلوا الحروب ويغرقوا الجميع في تفاهة التفاهة.
في كل أزمة يعيشها العالم، وبدل أن ننشغل بالأطراف، علينا أن ننصرف إلى التفكير في “المستفيدين”، حتى تنكشف مسارات الفهم والتأويل، فمن يفيد من بيع “مضادات الفيروسات المعلوماتية”، هو من يحتضن المتخصصين في “تصنيع” الفيروسات ذاتها، وعليه، فمن يصب الزيت على نار الحرب، هو المستفيد الأول من صفقات السلاح ومشاريع الإعمار واتفاقات الحماية التي تسبق وتلي أي أزمة عسكرية.
والأمر ذاته ينطبق على الجوائح والأوبئة، ففي السنوات القليلة الماضية، حققت شركات: “روش هولدينغ” السويسرية و”غلاكسو سميت كلاين” البريطانية و”باكستر” و”إيفر غرين” و”نوفاريكس” الأمريكية أعلى الأرباح، بحكم احتكارها لبيع الأمصال المضادة لفيروسي أنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير، بدعم من منظمة الصحة العالمية، والتي أرغمت الدول على إبرام صفقات بالملايين، مع الشركات ذاتها، مُعتمدةً في ضغطها هذا على حملة ترعيب وهلع غير مسبوقة، حققت المطلوب منها وأكثر.
لا شيء يمنع السؤال عن دلالة الوقائع والأشياء، خصوصاً وأن التوقيت له معناه ومبناه في “زمن البلطجة الدولية”، ولا شيء يمنع من إقامة علائق ممكنة ومستحيلة، بين فيروس كورونا في الصين، والصراع الأمريكي الصيني، وصفقة القرن، و”السياسة الترمبية”، وربيع الشعوب المغتال، كل ذلك في اتصال مباشر مع شركات السلاح والأدوية والميديا، وصفقات الاستبداديات السياسية والعسكرية. ثمة خيط رفيع، لا مرئي في الغالب، يصل هذا بذاك، ويؤكد أن المقامرة بمصير العالم مستمرة، وبدم بارد.
لقد أشار الباحث والإعلامي نبيل عودة، غير ما مرة، من خلال موقع TRT، إلى أن الحرب القادمة، لن تكون إلا عبر الألياف البصرية الحاملة للمعلومات، بحيث يمكن لفيروس بسيط أن يدمر دولة ما، بواسطة نقرة على الماوس، ويمكن أن نضيف بأن الحرب القادمة، ولربما الراهنة، يمكن أن تتم عبر “هجومات فيروسية بيولوجية”، تضرب العدو المفترض في مقتل، ومن غير تحريك، لا للجيوش البرية ولا الأساطيل البحرية.
فهل يصير، والحالة هاته، فيروس كورونا، استكمالاً للحرب الاقتصادية والسياسية ضد الصين؟ أم هو “ترهيب” جديد للعالم، للتغطية على صفقة القرن؟ أم هو “صفقة” تجارية لإنعاش مداخيل شركات الأدوية والتأمينات والخدمات الكبرى؟
لقد اتهمت وزيرة الصحة الفنلندية السابقة روني كيلدا، الولايات المتحدة الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات مباشرة، بالوقوف وراء اختراع فيروس إنفلونزا الخنازير، وإن كان تصريحها هذا قد كلفها الإقالة من دفة التدبير الحكومي، فإنه فتح باب النقاش على مصراعيه أمام تأثيرات اللقاحات المعروضة للبيع، والأبعاد الجيواستراتيجية لهذه الصفقات والتهويلات التي يُساق إليها العالم، بإيعاز من “قوى الشر” الخفية والمعلنة.
لقد تعودت الرأسمالية المتوحشة، ومنذ أزمة الخميس الأسود لسنة 1929، أن تلجأ إلى خيار التدمير والإهدار، لتجديد الدورة الاقتصادية، وإعادة التوازن ومراكمة الأرباح، ولا يهم أن يكون التدمير باتجاه الخيرات الطبيعية أو الموارد البشرية، فما يهم بالنسبة للنيوليبرالية المتوحشة، هو الربح، ولو كان من طريق الفجيعة والمقامرة بصحة الشعوب.
لنعد قليلاً إلى الوراء، ونستحضر كل التهويل الذي رافق “الجمرة الخبيثة” و”الحمى القلاعية” و”جنون البقر” و”أنفلونزا الطيور”، ولنتساءل عن حجم ضحايا كل هذه الفيروسات، إن كان قد وصل إلى عدد ضحايا العراق وفلسطين واليمن وليبيا وسوريا وأفغانستان؟ أو أنه وصل إلى عدد ضحايا الإبادة العرقية في الشيشان والبوسنة والهرسك؟ فلماذا لا نصادف ذات “الضجيج الدولي” عندما يتعلق الأمر بضحايا العالم العربي والإسلامي؟ لماذا تنخرس هذه “الآلة الدولية” لما تنتهك البلاد العربية والإسلامية، من طرف القوى الغربية، ويغتصب تاريخها وتسرق خيراتها؟
إن المقامرة الجارية حالياً، تستهدف صرف الانتباه العام، عما يُحاك ضد فلسطين المحتلة، من “بلطجة دولية” تروم “تهويد” القدس، لأجل استكمال بنود صفقة القرن المقيتة، وفي الآن ذاته، تستهدف إعادة ترتيب الأوراق، على أساس الفارقية الغربية والتبعية العربية، وكذا القطبية الغربية في مقابل “الذيلية” الشرقية، ولو تعلق الأمر بقوى كبرى كالصين، فالكل يفترض فيه أن يكون دائراً في فلك “نظام العالم الجديد”، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المال والسلاح والدواء والفيروسات والنرد ودوران لعبة الروليت.
إلى ذلك كله، ليس مطلوباً، من الدول العربية والإفريقية على وجه التحديد، إلا أن تكون “مختبراً” للفيروسات و”مطرحاً” للنفايات و”طاولة قمار” لتجريب السيناريوهات الاستبدادية وإعادة إنتاج السلطوية، من أجل مزيد من التحكم في مصائر شعوبها، عن طريق الشركات متعددة الجنسيات، و”الدول الكبرى” الراعية لفسادها و”فيروساتها” والمسوقة لأمصالها ومخططاتها.
وعلى طول هذا المسار المرعب والمربك، لن يكون في مقدورنا إلا توقع، ما يصرف الانتباه عن الخطر السياسي الذي يحيق بنا، وما يبعدنا عن صفقة القرن ويغرقنا في الخطر الصحي، وما يشغلنا عن الخطر الاقتصادي، ويرعبنا بكورونا والأنفلونزا؛ فأسياد البشرية بحاجة إلى إلهائنا وترويعنا، لينعموا باغتصاب تاريخنا وهوياتنا، واستنزاف ثرواتنا وخيراتنا، وبدم بارد. ولا عجب، إنها المقامرة والبلطجة الدولية.
عبد الرحيم العطري كاتب وباحث مغربي،
أستاذ علم الاجتماع بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس.
نشر عددا من الكتب تراوحت بين القصة والشعر وأدب الرحلة والمقالة والدراسات الاجتماعية..