لقد كان للإنسان حضور بارز في الفلسفة العربية والإسلامية، تجسد هذا الحضور منذ النصوص الفلسفية الأولى، إذ نلمس في “رسالة في دفع الأحزان” العمل الأساسي للكندي (185- 256هـ) أول فلاسفة الإسلام، بعدًا إنسانيًا بارزًا، فقد كان يهدف من خلال هذه الرسالة إلى بيان السبل العملية التي تساعد الإنسان على تجاوز كربه وأحزانه، وهي تهدف في جانب آخر إلى تحقيق انسجام الإنسان مع الوجود و”رفع معنوياته” وتقريبه من السعادة، ولا تراعي الرسالة إلا حياة الإنسان الدنيوية، فلا تلجأ إلى دفع الأحزان بالتلويح بالجزاء الحسن في الآخرة، كما نلمح فيها مزيجًا من القلق على الإنسان والثقة به في آن معًا، والتعويل عليه هو نفسه في تجاوز أحزانه، وهذه بعض سمات النزعة الإنسانية.[1]
ويظهر هذا البعد بشكل أعمق عند أبي نصر الفارابي (260-339هـ)، إذ يرتفع من مستوى الحكمة العملية إلى الحكمة النظرية؛ أي إلى مستوى الرؤية الفلسفية للكون، والتي ستشكل الأساس النظري لما أبدعه أبو نصر في مجالات المعرفة المختلفة، فـ “لا يكفي القول بأن أعمال أبي نصر الفارابي تحتوي فكرًا ينطلق من النزعة الإنسانية، بل يمكن القول بأنه هو المؤسس الحقيقي للنزعة الإنسانية من الوجهة الفلسفية في الفكر العربي، وذلك لأنه أراد أن يحيط، قدر الإمكان، بتجلياتها المختلفة، وأن يضع لها الرؤية النظرية والأساس المنهجي اللازمين لها، ولقد ظهرت لديه في محاور مختلفة كاللغة والميتافيزيقا والسياسة والفن.”[2]
ويظهر هذا المنزع الإنساني في شخصية الفارابي كما في فكره وفلسفته، فقد عرف الفارابي بين أقرانه من علماء وفلاسفة عصره بأنه كان قويّ التفكير، يتقن عديدًا من اللغات، وكان متوقد الذهن، حاد الذكاء، رياضيًا شاعرًا بعيد الغور، كريم النفس، يحب الخلوة والانفراد، يؤلف ويصنف ويعزف أطيب الألحان، وأرق الأنغام، عشق الموسيقى فبرع فيها، واخترع القانون وعزف عليه، فاستولى على سامعيه وسلب ألبابهم، وحيّر عقولهم. وكانت للفارابي معرفة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولكنه لم يباشر الطب عملاً. [3] كما أن ابن خلدون اعتبره من كبار الفلاسفة في الملة الإسلامية وأشهرهم، وهو في نظر مصطفى غالب أول الفلاسفة العظام الذين فلسفوا الدين الإسلامي، كما أنه أول من حمل المنطق اليوناني تامًا ومنظمًا إلى العرب، وسعة أفق الفارابي العقلانية تظهر بوضوح في مصنفاته الكثيرة التي عالج فيها مختلف العلوم التي كانت في عصره، من الطبيعيات إلى الإلهيات، وعلوم الدين كالفقه والكلام، إلى الرياضيات ومشتقاتها إلى الفلك والمنطق والاجتماع والموسيقى.[4]
تدور جل أعمال أبي نصر حول قضية أساسية هي من صميم النزعة الإنسانية، التي لا تتحقق إلا بها، وتتجلى هذه القضية في الإجابة عن السؤال: كيف السبيل إلى بلوغ السعادة التي هي الكمال الإنساني الذي يطلب لذاته؟ ونحن لا نبالغ إن قلنا إن هذه المسألة هي قطب الرحى في كل ما أبدعه فيلسوفنا، مع اختلاف مجالات البحث عنده وأبواب العلم الذي صنّف فيه، بل الأمر ظاهر حتى في تصنيف العلوم عنده،[5] فلو نظرنا إلى مذهب الفارابي في تصنيف العلوم لوجدنا أنه كان مبنيًا على أسس عقلية محددة مبينًا صلة العلوم بعضها ببعض، وموضحًا الخصائص الذاتية المشتركة لكل علم، وهذا المذهب في التصنيف يقوم على أساس أن السعادة هي غاية يتشوّفها كل إنسان، وهي إحدى الخيرات المؤثرة، لكنها أعظم من كل الخيرات، وأكمل كل غاية يسعى إليها الإنسان. وهي تؤثر لأجل ذاتها ولا تؤثر لأجل غيرها.[6]
يقوم التصور الذي يقدمه المعلم الثاني، أقصد الفارابي، لمفهوم الإنسان على بيان منزلته ومرتبته بين الموجودات، فالإنسان عنده يشغل مكانة فريدة، ويختص بأمور عديدة، منها أنه على أساس الغائية في وجود الموجودات وهي بلوغ كمالاتها، وعلى أساس التمييز بين ما هو بالطبع وما هو بالإرادة، وبالتالي التمييز بين ما للموجودات من كمالات طبيعية وبين مالها من كمالات إرادية، والإنسان يدرك كماله النهائي بالإرادة، فهو مختص بالاختيار الذي من شأنه أن يفعل به الأفعال التي ينال بها سعادته.[7]
يرتكز هذا التصور على بعدين رئيسين: الأول هو البعد الإلهي والثاني هو البعد الكوني، ونكاد نسمع إيقاع هذين البعدين واضحًا وعميقًا في كل جزء من أجزاء التصور الإنساني الشامل لأبي نصر، فالبعد الإلهي يتضح في نظرية النفس، والمعرفة، والنبوة، وفي تسامي الإنسان الفاضل إلى مرتبة العقل المستفاد واتصاله بالعقل الفعال، أي في ذلك الشوق الدائم إلى المطلق، أما البعد الكوني فيتضح في التأثير الهائل لنظرية الفيض في تصور الإنسان والمجتمع، وفي الشخص المؤهل لرئاسة المدينة الفاضلة.[8]
لذلك ينطلق الفارابي في تصوره المعرفي الإنساني من مبدأ أساسي هو الوصل بين الملة والحكمة؛ فقد تميز بذلك الجمع بين الإخلاص للفلسفة والإيمان بالدين، ومحاولة التوفيق بين لغتين؛ لغة العقل ولغة القلب، فهما عنده لغتان مفهومتان ضروريتان للإنسانية التي تريد أن تتخطى نفسها ساعية وراء الكمال، وكأن الفارابي قد جاء إلى العالم ليؤدي رسالة جليلة خلاصتها أن الفلسفة والدين هما المعين الصافي للحياة الروحية، التي بها يكون المجتمع الإنساني فاضلاً وبدونها يكون ضالاً.[9] فالاتفاق بين الفلسفة والدين حاصل عند الفارابي وراجع عنده إلى وحدة المصدر والموضوع، إذ مرد الشريعة إلى الوحي، والوحي من الله، ومرد الفلسفة إلى الطبيعة، والطبيعة من الله، فالنبي والفيلسوف يستمدان العلم من الله.[10]
يقول أبو نصر موضحًا هذه الفكرة: “فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد، ثم إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه عقله المنفعل حكيمًا فيلسوفًا ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيًا منذرًا بما سيكون ومخبرًا بما هو الآن من الجزئيات.”[11]
أما بخصوص الموضوع، فإن الفلسفة والدين يشتركان وإن اختلفا على مستوى المنهج، وقد بين ذلك في قوله “فالملة محاكية للفلسفة عندهم، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبادئ القصوى للموجودات، فإنهما تعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان.”[12]
هذا الوصل بين الفلسفة والدين عند الفارابي يتفرع إلى الوصل بين السياسة والأخلاق، ومعلوم أن الفارابي من أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالسياسة من حيث التأصيل النظري الفلسفي، وله في ذلك تآليف كثيرة، الجامع بينها هو هذه المقاربة الأخلاقية، فالسياسة عنده “تشتمل على معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم.”[13] والعلم المدني هو الذي يهتم بـ “إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية الكلية التي شأنها أن تكون في المدن والأمم، ويميز الفاضل منها من غير الفاضل.”[14]
شيد أبو نصر فلسفته السياسية على حاصل نظره في فلسفته الأخلاقية، وعلى نتائج فحصه للجهات التي حضر بها موضوع الإنسان في العلم النظري الذي اعتمده أساسًا لفلسفته الأخلاقية، إلا أن “بيت القصيد” في هذه الفلسفة السياسية هو ذاك الذي ضخم فيه الفارابي من مسؤولية الإنسان سواء كان من العامة أو من الخاصة أو خاصة الخاصة، بالرفع من منزلته إلى أسمى الدرجات، وبتحميله مسؤولية حاله ومآله، باعتماد معيار طبيعة معرفته وسيرته؛ أي أن الإنسان قد يكون هو أسمى المخلوقات الممكنة الوجود بطبيعة معرفته وآرائه وبنوعية سيرته، وبهذه قد يكون مبدأ السياسة الفاضلة أو السياسة الجاهلية والضالة.[15]
فالإنسان إذن، في فلسفة الفارابي السياسية هو المبدأ والغاية؛ هو المبدأ لأنه المسؤول عن إنتاجها باعتبارها نظريات، وهو الغاية لأن غاية السياسة هي من أجل بلوغ الإنسان الغاية من وجوده التي هي السعادة القصوى، لذلك كان مفهوم السعادة مركزيًا في فلسفته السياسية، وشكل الخيط الناظم في عناصر النسق في هذه الفلسفة، ونقطة تقاطع مكونات البنية المفاهيمية السياسية والأخلاقية.[16]
لقد سعى الفارابي إلى بيان الأسس والقواعد الكلية التي يتأسس عليها مجتمع السعادة، وبين ذلك في مؤلفات عديدة منها “تحصيل السعادة” و”آراء أهل المدينة الفاضلة” و”التنبيه إلى سبيل السعادة” و”السياسة المدنية”…الخ.
ويعرف أبو نصر المدينة الفاضلة بأنها: “هي المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة.”[17] والحاجة إلى المدينة عنده أمر فطري، وضرورة لابد منها لأن الإنسان “من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا باجتماع جماعات كثيرة في مسكن واحد”[18] فالفارابي يفسر نشأة المجتمعات الإنسانية بحاجة الإنسان إلى التعاون، وبالفطرة الموجودة فيه، وهو أنه كائن مدني أو اجتماعي بالطبع، وهذا هو عين رأي أرسطو وأفلاطون إلى حد كبير، فهذا الأخير يرى أن الدولة تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها.[19]
ليست المدينة الفاضلة عند الفارابي يوتوبيا أو تصورًا خياليًا لمجتمع يعمل بصورة مختلفة عن المجتمع الواقعي، كما هو الحال في جمهورية أفلاطون، غير أننا لا ننفي في الوقت نفسه استمداده من التصور الأفلاطوني، ولكنها، أي المدينة الفاضلة، تقوم على وضع معايير للسياسة المثالية للمجتمعات، وهذا المنحى يتضمن إمكانية ترقية المجتمعات البشرية الموجودة إلى أن تصبح مجتمعات فاضلة، وهو يتصور أولاً إمكانية ترقية المجتمعات الموجودة إلى أن تصبح مجتمعات فاضلة، كما يتصور إمكانية أن تكون ثمة مدينة كل أعضائها يتحلون بالفضيلة، بالتالي لا تحتاج هذه المدينة إلى قوانين ضابطة لأن الكل يعمل وفقًا للفضيلة من تلقاء نفسه، ولكن لما كان هذا التصور أمرًا عسير المنال كانت هناك ضرورة للبحث عن وسائل أخرى لتحقيق المدينة الفاضلة.
ويتم ذلك عنده عبر وجود حاكم نبي يتصل بالعقل الفعال عن طريق الحدس، أو حاكم فيلسوف يتصل به عن طريق البرهان العقلي، أو مجموعة تتحلى بالفضيلة تحكم المدينة معًا، وهذا كفيل بوضع القوانين والنواميس الملائمة.[20]
هوامش:
[1]- مغيث أنور، “النزعة الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين” ضمن: النزعة الإنسانية في الفكر العربي: دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط، تحرير: عاطف أحمد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 19991، ص 159
[2]- نفسه، ص 160
[3]- انظر: غالب مصطفى، في سبيل موسوعة فلسفية: الفارابي، منشورات دار مكتبة الهلال، 1998، ص 17
[4]- نفسه، ص 18
[5]- تصنيف العلوم معناه: “ترتيبها في مجموعات متميزة بحسب أوجه الاتفاق والاختلاف بينها” أو هو “تقسيمها وترتيبها في نظام خاص على أساس معين بحيث تبدو صلة بعضها ببعض والتصنيف الحقيقي هو ما قام على أساس من المميزات الذاتية والثابتة.
- انظر: نازلي إسماعيل حسين، مناهج البحث العلمي، القاهرة، 1982، ص 48
وانظر أيضًا: المعجم الفلسفي، إصدار مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1979، ص 40
[6]- الفارابي أبو نصر، التنبيه إلى سبل السعادة، الهند، طبعة حيدر آباد، 1346هـ، ص 2/3
- انظر أيضًا: عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، الهيئة المصرية للكتاب، 1993، ص 73
[7]- منسية مقداد عرفة، الفارابي: فلسفة الدين وعلوم الإسلام، دار المدار الإسلامي، ط1، 2013، ص 24
[8]- عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، ص 56
[9]- أمين عثمان، شخصيات ومذاهب فلسفية، دار إحياء الكتب العربية، 1945، ص 21
[10]- عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، ص 60
[11]- الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص103
[12]- الفارابي أبو نصر، تحصيل السعادة، ص 40
[13]- الفارابي أبو نصر، التنبيه إلى سبيل السعادة، ص ص 20-21
[14]- الفارابي أبو نصر، كتاب الملة، ص 59
[15]- قشيقش محمد، نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي، بيروت، دار التنوير، ط1، 2011، ص 273
[16]- نفسه، ص 276
[17]- عاطف أحمد، النزعة الإنسانية في العصر الوسيط، ص 161
[18]- الفارابي أبو نصر، السياسة المدنية، ص 69
[19]- عاتى إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية، ص 249
[20]- مغيث أنور، النزعة الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين، ص 161