يرى بعض الباحثين أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، بينما يرفض آخرون هذا الرأي لأن علم الكلام –بحسب رأيهم- قد يشحذ الذهن، ويطور مهارة الجدل، غير أنه لا يقود للتفكير العقلي المنظم، ويستشهد هذا الفريق بالصراع بين الفلسفة وعلم الكلام، بالرغم من تبني علم الكلام للكثير من المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، حيث كان ذلك كنوع من تبادل الأسلحة بين المتعارضين.
وثمة رأي آخر يرى أن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل هذا أقرب الآراء للاعتدال، فالفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي، بيد أن هذه الملامح غارقة وسط الاقتباسات الكثير لأفكار اليونانيين، على أنه لا بد من القول إن الفكر لا يمكن أن يحتفظ بطابعه الأصلي عند انتقاله إلى بيئة أخرى.
موقف المسلمين من الفلسفة اليونانية
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لم يكن الفكر اليوناني الذي بدأ بالدخول في المجال الإسلامي في بدايته صريح التعارض مع الإسلام، فقد ترجمت في البداية العلوم الفلسفية الطبيعية، والمنطقية، والأخلاق، واستقبلت البيئة الإسلامية ذلك بالترحاب، ولم يشتد الصراع بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية إلا عند ترجمة الكتب التي تتعرض للمشاكل الميتافيزيقية كالألوهية، ولم يتقبل علماء الكلام أن يكون النبي في كفة، مقارنة مع الفيلسوف في الكفة الأخرى، وأكثر ما أثار ثائرة علماء الدين المحافظين، ما فهموه من إمكان الاستغناء عن الوحي للحصول على معرفة مؤسسة من العقل وحده، والحقيقة أن التدليل على أحقية ما جاء به الرسول، بالقول إنه يمكن الوصول إلى مثله من طريق العقل، يعد في ذاته عملاً محموداً في نظر عالم الدين المتفتح الذي يسره أن يجد مبادئ دينه لا تعارض العقل، ولا تقف في سبيل الفكر، لكن هذا العالم المتفتح يؤكد على خصوصية النبوة فهي منحة إلهية لمصطفًى مختار، أطلعه مباشرة على الحقيقية، بصورة لا تحتمل شكاً ولا ارتياباً، والرسول ناقل أمين للحقائق الإلهية، ولو أمكن الفيلسوف فعل ذلك، فما من حاجة لمبلغ عن الله، وهنا جوهر المشكلة، حيث تبرز الحاجة لمعرفة مصدر أساس المعرفة أهو الدين أم العقل، وهذا الإشكال يوهم أن الدين لا يساير العقل، بل يخالفه، وهذا قول باطل بشهادة الدين نفسه، إن المشكلة تكمن في:
1- مدى وثاقة ما يوحى إلى النبي.
2- مدى أحقية العقل في مناقشة التعاليم والأفكار الدينية، بعد فرض صحتها.
3- أيهما أولى بأن يكون له اليد الطولى؟ الدين؟ أم الفلسفة والفكر الحر؟
للبحث في النقطة الأولى يتطلب التعرض لحقيقة النبوة ووظيفتها وضرورتها، وطبيعة الوحي، وأدلة إمكانياته، وبراهين صدقه…
والبحث في النقطة الثانية يستوجب عرض الأفكار والمبادئ والتعاليم ومدى قدرة العقل على تعليلها أو نقدها أو شرحها شرحاً يرضي الفكر، ويريح النظر، وينتج عن ذلك مشكلة التأويل التي قد تنتج فرقاً كثيرة، ومشكلة التأويل هي التي مكنت الفلاسفة المسلمين من التفكير في التوفيق بين الدين والفلسفة.
وقد يبدو غريباً أن يعمل الفكر ضمن تعاليم أصبحت عقيدة، ويوصف مع ذلك فكرها بالحر، وهنا نقول إن الحرية الفكرية المطلقة وهم وخيال، فالفكر لا يأتي من لا شيء، وثورة الفكر على مذهب معين تنتهي بالوقوع ضحية لمذهب آخر، وأشد الملاحدة ثورة على مبدأ الألوهية يقع فريسة لإلهه هو الذي اتخذه من الطبيعة أو الإنسان أو الحيوان ويشمل ذلك ذاته نفسها، ولنا أن نتأمل أن شك ديكارت بكل ما سبقه من أفكار وعقائد جعلته حبيساً لفكر مذهبه، الذي هو خليط من مذاهب أخرى، وليس مبتكراً سبقه العدم.
حتى الموقف اللاأدري بالرغم من عدم تحيزه لفكرة معينة، لا يمكن وصفه بأنه ينم عن حركة فكرية طليقة، لأنه أحجم عن ممارسة إيجابية فعالة، وبالتالي فحرية الفكر نسبية، تكثر أو تقل، تبعاً لاستعداد الفكر لرؤية الحلول الممكنة لمشكلة ما، ووجود الحلول لا يمنع الفكر من مناقشتها وقبولها.
استيعاب ومقاومة الفكر اليوناني
وجدت الفلسفة اليونانية مقاومة في المحيط الإسلامي، لا باعتبارها تمثل فكراً حراً منزها، بل لأنها تباين الروح الإسلامية، ونجد هناك من تابعها وجعل لها اليد الطولى، ومن أعجب بها وسعى إلى التنسيق بينها وبين الدين، ولقد كتب أحدهم كتاباً جمع فيه أحاديث في مكانة العقل، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الأحاديث التي تتحدث عن العقل ليست دعوة للفلسفة اليونانية، فهذا من الخلط.
وفي القرآن آيات تدعو إلى التفكير والتبصر والتأمل في صنع الله، وهذه من مواضع اعتزاز المسلمين بتبني الإسلام وتشجيعه للفكر البناء الهادف غير المتحيز، وللأسف فقد أصيب الإسلام من بعض أنصاره المتزمتين، وليتهم أدركوا أن محاربة الفكر المنحرف لا تكون بإخفائه بقدر ما تكون بإظهار عواره وكشف تهافته.
لقد كانت قضية العلاقة بين العقل والوحي، وبالتالي بين الحكمة والنبوة، أو الدين والفلسفة، أو العقل والنقل، قضية حاضرة في المحيط الإسلامي، وقد حاول المفكرون أن يظهروا التوافق بين المصدرين، لكن معظمهم أخطأ حينما ظن التوفيق بين الدين والعقل، يعني التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية.
وبالرغم من اتفاق فلاسفة الإسلام على وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية إلا أنهم تباينوا من حيث تقديمهم لأحد الجانبين على الآخر، فقد قدم الكندي الوحي على الفلسفة، بينما سوّى الفارابي وابن سينا بينهما تقريباً، وكان لابن رشد رأي باستقلالهما من دون تعارض.
من هو الكِنْدِيُّ؟
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكِندي، وُلِدَ بمدينة الكوفة في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهو من قبيلة كِنْدة، أي أنَّ أصلَه عربيّ، ولذلك لُقِّبَ بفيلسوف العرب، وكان أبوه أميرًا على الكوفة. وقد حصَّلَ الكِنديُّ علومه -فيما يظهر- في البصرة ثم في بغداد، واشتغل بترجمة كتب اليونان إلى العربية، وبتهذيب ما كان يقوم غيره بترجمته من تلك الكتب، وعمل في قصر الخلافة ببغداد مُنَجِّمًا أو طبيبًا، غير أنه أُقْصِي آخر أيامه من القصر. وقد كان مُلِمًّا بعلوم عصره، ينزع في آرائه الكلاميَّة نزعةَ المُعْتَزِلَة، ومن المسائل التي كتب فيها بصفة خاصَّة قُدْرَةُ الإنسان على أداء فعل ما، هل هي تُوجَد قبل الفعل أو تكون معه؟ وكان يقول بالعدل والتوحيد اللذَيْنِ هما أميز ما يميِّزُ المعتزلة، وحاول التوفيق بين النُّبُوَّة والعقل، وقارن بين المِلَلِ المُختلفة مقارنةً انتهتْ به إلى أنَّها مُجْمِعَةٌ على الاعتقاد بأنَّ العالَم صادِر عن عِلَّة واحدة أزليَّة؛ هي الله
فلسفتُه
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
حدَّدَ الكندي -بجهده المُبَكِّر- مسارَ الفلسفة الإسلامية، ورسم لها الطريق، ووضع المنهج، وكوَّن له تلاميذ، بَثَّ فيهم من روحه وفكره؛ ما ساعدهم على نشر الفلسفة وإقبال الناس على دراستها. ولقد تمَّ له ذلك كلُّه تحت لواء الإسلام؛ فاستحقَّ أنْ يُطْلَقَ عليه اسمُ فيلسوف العرب والإسلام[3].
لقد كان على الكندي قبل كل شيء أن يضع تعريفًا واضحًا للفلسفة؛ ذلك أنَّ بعض الطوائف قد أساءتْ فهمَ هذا اللفظ؛ لاعتقادِهم أنَّ الفلسفة تعني -من جملة ما تعني- الكفر والإلحاد. ولهذا حرص الكندي على بيان ماهيَّة الفلسفة؛ حتى يُزيل هذا الفهم السيء لها. يرى الكندي أنَّ الفلسفة هي البحث؛ النظر العقلي الخالص الذي يهدف إلى كشف الحقيقة والوصول إليها. والفلسفة في هذا شأنها شأن الدين؛ لأنَّ الدين يؤدِّي بالإنسان إلى الوقوف على حقائق الأشياء؛ فالكنديُّ يجادل بداية؛ أنَّه لا يوجد ثمة تعارُض بين الفلسفة وبين الدين في الأصل. ويحاول أن يحدَّ الفلسفة؛ فيقول:
“إنَّ أعلى الصِّنَاعَاتِ الإنسانيَّةِ مَنْزِلَةً، وأَشْرَفَهَا مَرْتَبَةً صِنَاعَةُ الفلسفة التي حدُّها: عِلْمُ الأشياءِ بحقائقِها بِقَدْرِ طَاقَةِ الإنسان؛ لأنَّ غَرَضَ الفيلسوف في عِلْمِه إصابةُ الحَقِّ، وفي عَمَلِه العملُ بالحقِّ.
ولنحاول الآن سريعا الوقوف على أصول فلسفتِه ورؤوس أفكاره. تدور فلسفة الكندي حول الرياضيَّات والفلسفة الطبيعية. وعنده أنَّ الإنسان لا يكون فيلسوفا حتى يدرس الرياضيات؛ وقد طبَّق الرياضيات في بحوثه الطِّبِّيَّة وفي دراسته للموسيقى؛ فالطِّبُّ والهندسة يقومانِ على التَّناسُب الهندسيِّ؛ فالأدوية قِوَامُها تَنَاسُب في الكيفيَّات الأربع: الحار والبارد والرطب واليابس
ذهب الكندي إلى أنَّ العالَم مخلوق لله، وفِعلُ الله في العالَم إنما يكون بوسائط كثيرة؛ فالأعلى يُؤثِّرُ فيما دونه، أمَّا المَعْلُول فلا يُؤَثِّرُ في العِلَّة؛ لأنَّها أرقَى منه في مرتبة الوجود، وكل ما يقع في الكون يرتبط بعضُه ببعضٍ ارتباط علَّةٍ بمَعلُول. ونستطيع من معرفتنا بالعلل أن نتنبَّأَ بالمُستَقْبل؛ هذا لأنَّ كلَّ موجود في الكون يعكس سائر الموجودات كأنه مرآة لها؛ فإذا عرفتَ موجودًا واحدًا عرفتَ بقيَّةَ العالَم. وهو ذو مذهب عقليٍّ؛ إذ يرى أنَّ وجودَ المادَّةِ مرهون بتصوُّرِها في العقل؛ فما لا يمكن تصوُّره عقليًّا يستحيل عليه الوجود الماديُّ. ويذهب إلى أنَّ النفس الإنسانية جوهر بسيط خالد، هبطَ من عالَم العقل مُزَوَّدًا بذكريات من حياته في ذلك العالَم؛ فالنَّفس الإنسانيَّة من حيث جوهرها مستقلَّة عن مادَّة الجسم، لكنها مقيدة بمادته من حيث أفعالها؛ لأنَّ الجسم هو وسيلة الأداء. واتصال النفس بالجسم مصدرُ ألم لا ينقضي؛ لأنه مصدر رغبات كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها جميعًا؛ فمن شاء نعيما حقيقيًّا عليه أنْ يستغرق في تأملاته العقلية، وفي طلب العلم، وتقوى الله. أما عن نظرية المعرفة عنده، فهي ثنائية؛ فالجسم قادر على إدراك الجزئيات بالحواس، والعقل قادر على إدراك الكُلِّيَّات
التوفيق بين الفلسفة والدين
ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
يملك الكندي أصالة الفيلسوف، وقد وجدتِ الفلسفة في كينونته الثقافية مكانها الراسخ الفاعل، ومن هنا كانت نزعتُه الفلسفية تضعه أحيانا على المُفْتَرَق الذي كانت ظروف مجتمعه تقتضي أن يتجاوزه بالفعل. إننا نكاد نُحِسُّ المعاناة العميقة الخفية عند الكندي؛ نعني معاناة الصراع بين انتمائه اللاهوتي ونزعته الفلسفية التي كان عليها أن تستجيب لظروف المجتمع العربي الإسلامي في القرن الثالث الهجري، ويبدو أنَّها كانتْ مؤهَّلةً فعلا، من حيث الإعداد الذاتي، أن تستجيب لهذه الظروف، لولا سيطرة الانتماء القويَّة[6]. ولعلَّ محاولتَه الجمع بين الفلسفة والدين إحدى تعبيراته عن هذا القلق وتلك المعاناة الكامنة.
عُنِي الكندي بالتوفيق بين إيمانه وتفلسفه لا لدافع شخصي فحسب، ولكن ليُسَوِّغَ وجود الفلسفة، ويُكْسِبها حقَّ المواطنة في مجتمع يميل إلى رفضها، وربما كان مسلكُه في هذا التوفيق أكثر سدادًا من مسلك كلٍّ من الفارابي وابن سينا. والسؤال الآن: ما هي الدوافع والأُسُس التي أقام عليها الكندي محاولتَه في الجمع و التوفيق بين الفلسفة والدين؟
1- إنَّ الدين يلتقي مع الفلسفة في الغاية. فالفلسفة تهدف إلى عِلْمِ الأشياء بحقائقِها بقدر طاقة الإنسان، وتلك هي نفسها غاية الدين التي يعمل عليها، وجاء بها الرُّسُل الصَّادِقون عن الله في مجال العقيدة والعمل؛ فالغاية واحدة، أو على الأقلِّ مُتَقَارِبَة، والموضوع أيضا كذلك متقارب. يقول الكندي: “ينبغي لِمَن أراد عِلْمَ الفلسفة أن يُقَدِّمَ استعمال كتب الرياضيات والمنطقيات على مراتبها… ثم الكتب على الأشياء الطبيعية… ثم ما فوق الطبيعيات، ثم كتب الأخلاق وسياسة النفس بالأخلاق المحمودة، ثم ما بقي مما لم نُحَدِّد من العلوم مُرَكَّب من الذي حدَّدنا”. وتلك المباحث بجانبيها النظري والعملي تقابل أحكام العقيدة والعمل في المباحث الشرعيَّة.
2- إذا كان منهج الفلسفة يقوم على العقل، بينما يستَنِدُ الدين (الإسلام) إلى الوحي؛ فإنَّ كلَّ ما جاء به الوحي (القرآن) يُمكِن في نظرِ الكندي أنْ يُفْهَمَ بالمقاييس العقليَّة، التي لا يدفعها إلا من حُرِمَ صورة العقل، واتَّحَد بصورة الجهل كما يقول. فالمنهجان مختلفان، ولكنهما لا يتناقضان على أي حال، بل يتضافران ويتكاملان.
3- والفلسفة كذلك لا تُعَدُّ بديلا عن الدين، تُغْنِي عنه، كما قد يذهب إلى ذلك بعض الملاحِدَة؛ فالفلسفة تُوصِلُ بعد الجهد إلى بعضِ الحَقِّ، وربما قصرت عن البعض الآخر. لذلك يؤلِّف الكندي رسالة في (تثبيت الرسل عليهم السلام)؛ لأنَّ النبوة فعل إلهي في نفوس الأنبياء، ولأنَّ علومها لدى من تأمَّلَها وأَحْسَنَ فهمَها تبدو موجَزة، بيِّنَة، محيطة بالمطلوب، قريبة المسلك إلى العقول والقلوب.
4- ولأنَّ الحكمة ضالة المؤمن، فلا ينبغي إهمال الفلسفة مهما كان حظُّها من تحقيق الغاية. والحضارة في نظر الكنديِّ لا وطن لها، وهي عمل تراكمي تسهم فيها جميع الأمم؛ لذا يقول: “وينبغي ألا نستحيَ من استحسان الحقِّ، واقتناء الحقِّ من أين أتى، وإنْ أتى من الأجناس القاصيَة عنا، والأمم المُبَاينة لنا”. ويقول:
“ينبغي أن يعظم شُكْرُنا للآتين بيسيرِ الحَقِّ فضلا عمَّن أتي بكثير عن الحقِّ؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسَهَّلُوا لنا المَطالِبَ الخَفِيَّة؛ بما أفادونا من المُقَدِّمات المُسَهِّلَة لنا سبيلَ الحق”.
5- وأخيرا، يلجأ الكندي إلى فكرة تَتَرَدَّدُ كثيرا في مجال الدفاع عن الفلسفة؛ هي أنه من الضروري لمن يعارض دراسة الفلسفة أن يدرسها هو أولا. والمعارض إما أن يقول أن اقتناءها يجب أو لا يجب؛ “فإن قالوا: إنه يجب، وجب طلبُها عليهم، وإن قالو: إنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا عِلَّة ذلك، وأن يُعطوا على ذلك برهانا[7]“.
إن الناظر في فكر الكندي، يرى أنه لم يُحاوِل التوفيق بين الدين والفلسفة بمعناهما العام، ولكنَّه حاول أن يوفق ويجمع بين الإسلام المُتأثِّر بالفكر الاعتزاليِّ، وما ارتآه من الفلسفة اليونانيَّة؛ فهو أول من تبنَّى أرسطو من فلاسفة الإسلام، بل يعد المؤسس الأوَّل للفلسفة المشَّائية وواضع أصولها الأولى في السياق الإسلامي. لذا لم يكن غريبا أن يحاولِ الاستدلال على وجود الله، ووحدانيَّته، وحدوث العالَم عن طريق النَّظر الفلسفي وحده؛ ليوضِّح فكرتَه تلك؛ أنَّ إيمانه الخاص، وعقيدته الدينيَّة، يمكن الوصول إليها عن طريق النظر العقلي الخالص، دون اعتمادٍ على النصِّ وحده.
ولة الكندي (185 – 256هـ / 801-870مكان الكندي فيلسوف العرب الأول الذي واجه لأول مرة الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، حيث خالف أرسطو في نقطة الخلق والرعاية واتصال الله بالعالم وإحاطته علماً بذلك، فقد كان أرسطو يرى أن لا علاقة بين الله والعالم إلا في جانب العلة الأولى التي بدأ بها الحركة والحياة في العالم، وبعد ذلك لا يليق بالمحرك أن يتصل بالعالم، وكأنه لم يبق للإله إلا التأمل في ذاته.
فحيث قال أرسطو بقدم العالم، قال الكندي بحدوثه، وحيث يقطع أرسطو الصلة بالله والعالم بعد ذلك، يحتفظ الكندي بتأكيد دوام الصلة والرعاية، ويستند الكندي في كثير من آرائه للقرآن للترجيح.
مؤلفاته
يلاحظ أن أغلب مؤلفات الكندي متصلة بالعالم الطبيعي وظواهره، ولم تظفر المسائل الميتافيزيقية برسائل كثيرة من إنتاجه، ولعل ذلك راجع لعدم قناعة الكندي بمعالجات الفلسفة اليونانية لهذه القضايا، لا سيما وأن الإسلام قد حسم هذه المشكلات الميتافيزيقية كأصل الكون، وحقيقة الخلق المباشر، والعناية الإلهية، وغيرها.
كما كان الكندي عالم كلام على مذهب المعتزلة، وهو بذلك مقتنع بالأدلة العقلية بشقيها المأثور الموجود في الوحي، وما أنتجته قرائح المتكلمين اهتداء بإرشاد القرآن، لذلك فكان للدين وللوحي والنبوة مكانة ترجح ما يأتي عبرها، على ما يأتي من سواها من فلسفات.
مهد الكندي للفلسفة في المحيط الإسلامي، وجعل الاشتغال بها ضرورة، لكنه لم يرجح آراء الفيلسوف على ما يأتي به النبي، ولم يفضل ما يأتي عن طريق الفلسفة على ما يأتي به الدين.
موقف الكندي من النبوة
لم يقصر الكندي وسائل المعرفة على الحس والعقل، بل أضاف إليهما الإشراق الذي تمثل قمته النبوة، ويؤكد أن هذا العلم خاص بهؤلاء الذين اصطفاهم الله، وهذا الاصطفاء ينأى أن يكون ما يأتي به هؤلاء مكتسباً بالبحث والدراسة، فلو أراد الفيلسوف الإجابة عن ذات الأسئلة التي طرحت على الرسل؛ فلن يتمكن من الإجابة عليها بمثل الوضوح الذي أجاب به الأنبياء، ويمثل لذلك برد الوحي على سؤال (من يحيي العظام وهي رميم؟) فكانت خلاصة الآيات تبين أن العظام قد وجدت بالفعل، بعد أن لم تكن، وعليه فمن الممكن إذا صارت رميماً أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، وإن تساوى الأمران بالنسبة لله تعالى، فالقوة التي ابتدعت، يمكن أن تعيد ما أبادت، إن هذا من أعظم الأجوبة برأي الكندي، وهو ما حجبت عنه العقول الجزئية، ويوضح الكندي لرواد الفلسفة أن النبوة ليست إلا مظهراً من مظاهر العناية الإلهية بهذا الكون.
ويظهر لنا أن الكندي أعلى من صوت الدين، وعليه فلم يفكر بالتوفيق بين الطرفين إلا بعد أن تيقن أن الفلسفة الحقة كما عرفها: “علم الأشياء بحقائقها” (علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة…) لذلك فصلتها قوية بالدين، فعلم الأشياء بحقائقها هي خلاصة المهمة التي جاء بها الرسل، وبالتالي فقد جمع الكندي بين الدين والفلسفة الحقة على أهداف وحقائق واحدة، ويرفض الكندي من وسم اقتناء الفلسفة بمعنى علم الأشياء بحقائقها بالكفر، ويرى أن دراستها واجبة على أن تسير في ركاب الدين، وأن تخدمه بإخلاص، عبر إثباتها بالأدلة العقلية ما جاء به الرسل، لتنتهي بعد كفاحها إلى ما انتهى إليه الدين، في الحقائق الكبرى المتصلة بالإله والعالم، وبقية الغيبيات.
،المصادر والمراجع
التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 128، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014. [2] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 262:263، مكتبة الأنجلو المصرية. [3] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 111، مكتبة الأسرة 2016. [4] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 115:116، مكتبة الأسرة 2016. [5] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 263، مكتبة الأنجلو المصرية. [6] النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية – الكندي – الفارابي – ابن سينا، حسين مروة، ص 79:80، المجلد الرابع، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2002. [7] التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 18:21، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014.