وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلًا في باب الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلًا في مجال المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلَّما تعرَّض له شُرَّاح اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرَّض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛ فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة رقم ٥٤: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفًا، لبدت لنا الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أنَّ أَجْمل الأيدي تبدو شنيعة إذا ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلًا عن بُعد، حتى إذا ما اقتربنا منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلًا، أن يعترف ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميًّا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما يلائمنا نحن فحسب، بغضِّ النظر تمامًا عن طبيعته الواقعية فيقول: «… إذا كانت الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة …
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتًا أو انسجامًا. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام — وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقًا لحالة ذهنه، أو على الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.»
مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشُّراح إلى أن يصدروا عليه أحكامًا من النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك Pollock» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضًا. ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط (وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه).
هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحًا في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائمًا بين من يتحدث عن الفن بوصفه عالمًا أو فيلسوفًا نظريًّا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانًا أو متذوقًا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدَّث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدًا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدَّها جميلة أو قبيحة؛ لأن هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا يملُّ ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تمامًا، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أيَّ تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى مجرد أرقام تعبِّر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائمًا أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدًى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسًا على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ كان دائمًا يؤثِر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائمًا معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طُبِّقت على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام — وهذه كلها من القضايا التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن.
أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا صحيحًا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتمًّا بالتصوير. وقد اتصل بفنان هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصَّدَّر كثيرًا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلًا عن ذلك فقد عُرف عنه أنه كان يرسم في أوقات فراغه صورًا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر الإيطالي الشهير «مازانيلو Masanillo»، ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر، ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي.
وأخيرًا، فهناك في رأيي دليل آخر واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن يعدَّ تعبيرًا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن اسپينوزا كان دائمًا يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معًا ويصدر عليها نفس الحكم. ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النَّهائي كان أخلاقيًّا قبل كل شيء، وأنه كرَّس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقًا رائعًا متسقًا لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية أخلاقية كالخير، حائلًا دون إيمانه بالأخلاق — على المستوى الإنساني — وممارسته لها بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم الجمالية بطبيعة الحال.
↩المصدر: من كتاب سبينوزا- فؤاد زكرياء