إثبات صفات الكمال لله
الله متصف بكل صفات الكمال، هذا حقٌّ لا رَيبَ فيه، والقرآن يُرَدِّد الكثير منها في كثير من آياته، وسنتكلم عن سبع منها أجمع عليها رجال علم الكلام وسائر رجال الدين والمفكرون والفلاسفة المسلمون، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه هي الصفات التي جاء في القرآنُ وصف الله الخالق بها، وقد تناولها ابن رشد بالتدليل عليها على هذا النحو:١٧
(أ)نَبَّه الكتاب على وجه الدِّلالة على العلم بقوله تعالى (سورة الملك: ١٣، ١٤): وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، والدلالة نجدها هنا في الآية الثانية، وذلك بأنَّ المصنوع بترتيب أجزائه وموافقة جميعها للمنفعة المقصودة منه، يدلُّ على أنَّه حدث عن صانع يجعل ما يصنع على ترتيب ونظام يُؤدي إلى الغاية المقصودة منه؛ فوَجَب أن يكون عالمًا ضرورةً به.
يجب لهذا؛ أن يكون خالق هذا العالم المحكم في ترتيبه ونظامه مُتَّصِفًا بصفة العلم اتصافًا دائمًا لا في حال دون حال.
هكذا ينبغي في رأي ابن رشد أن يكون الاستدلال على إثبات صفة العلم لله تعالى، استدلالًا ينفع للناس جميعًا عامَّتهم وخاصتهم، وإن كان هؤلاء الخاصَّة يمتازون بمعرفة أتمَّ بما في العالم من ترتيب ونظام، وبأنَّ كل شيء خُلق موافقًا للغاية المقصودة منه.
وأمَّا ما يقوله المُتكلمون من أنَّ الله يعلم حدوث الأشياء بعلم قديم؛ فإنَّه:
أولًا: لم يصرح به الشرع، بل صرح بخلافه وهو أنَّ الله يعلم المحدثات حين حدوثها، وفي هذا جاء في القرآن (سورة الأنعام: ٥٩): وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
وثانيًا: إنَّ قول المُتكلمين هذا يلزمه «أن يكون العلم بالمحدَث في وقت عدمه ووقت وجوده علمًا واحدًا، وهذا أَمرٌ غير معقول؛ إذ كان العلم واجبًا أن يكون تابعًا للموجود، ولمَّا كان الموجود تارة يُوجد فعلًا وتارة يُوجد قوَّة، وَجَبَ أن يكون العلم بالموجودين مختلفًا؛ إذ كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.» إلى آخر ما قال.١٨
والنَّتيجة لهذا وذاك كله أن نكتفي بهذا في إثبات العلم لله في رأي ابن رشد، ولا نقول إنه يعلم ما يكون وما يفسد من الموجودات لا بعلم قديم ولا بعلم مُحْدَثٍ، فإنَّ هذا ما تقتضيه أصول الشرع، والقول بخلافه بدعة في الإسلام، والجمهور لا يفهمون من العالَم في الواقع المشاهد إلا هذا المعنى.
(ب)وإذا كان من المشاهد أنَّ من شرط العلم في العالِم أن يكون حيًّا، وإذا كان من شرط من يصدر عنه شيء من الأشياء أن يكون مُريدًا له وقادرًا عليه، كان من الطبيعي أن تثبت لله تعالى صفات الحياة والإرادة والقدرة.
وكذلك لما كان من شرط الصانع الحريِّ بهذا الوصف أن يكون مُدركًا لما يصنعه بكل نوع من الإدراك، وجب أن يكون الخالق، جل وعلا، سميعًا بصيرًا، وإلا لما كان أكملَ الخالقين، ولما استحق أن يكون معبودًا، ومن ثم جاء في القرآن حكاية لقول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه (سورة مريم: ٤٢): يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.
وينبغي أن نُلَاحِظَ أنَّ كل ذلك يتفق فيه فيلسوف قرطبة وعلماء الكلام، إلَّا أنَّه فيما يختص بصفة الإرادة يجبُ الاكتفاء بأن نقول فضلًا عَمَّا تقدم، بأنها صفةٌ قديمةٌ ككل الصفات التي يتصف بها الله؛ إذ لا يجوزُ أن يتصف بها وقتًا دون وقت، وحالًا دون حال، وليس لنا بعد هذا وذاك أن نبحث كما فعل رجال علم الكلام، هل يُريد الله وجود الأشياء المُحدثة بإرادة قديمة أو بإرادة محدثة؟
إنَّ هذا، كما يقول ابن رشد، بدعة في الدين، وشيء لا يعقله العلماء أنفسهم، ثم هو لا يُقنع الجمهور حتى من بلغ منهم رُتبة الجَدَل، بل ينبغي أن يُقال بأنَّ الله مُريدٌ لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى (سورة النحل: ٤٠): إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وفي الحقِّ كما يقول ابن رُشد أنَّه ليس في الشرع وصف لإرادة الله بالقِدَم أو الحدوث، فالمتكلمون حين أثاروا هذا البحث قد انحرفوا عما أراد الشارع نفسه، وأتوا في الشرع بما لم يأذن به الله، وذلك فضلًا عن أنَّ دليلهم على ما زعموه من أنَّ الله أوجد ما أوجد من الأشياء بإرادة قديمة لم يسلم لهم، بل ثارت من أجله اعتراضات لم يُمكنهم دفعها، وليس أهونَها شأنًا ما يُقال لهم: إذا كان الله يُريد إيجاد شيء في وقتٍ ما بإرادة قديمة، فإذا جاء هذا الوقت فوجد، هل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث؟ إنه إن قالوا إنه وُجد بفعل قديم فقد جوَّزوا إذن وجود المحدث بفعل قديم، وهو أمرٌ غير معقول، وإن قالوا إنه وجد بفعل مُحدث لزمهم أن يكون هناك إرادة محدثة وهو غير مذهبهم.
هذا، وسيجيء لذلك تحقيق وبحث في الفصل الآتي الخاص بالمعركة بين ابن رشد والغزالي، ولكن لنا أن نقول الآن إنه قد يجيب المتكلمون عن هذا الاعتراض بأنَّ الإرادة صفة لله، عملها أن تخصص في الأزل الشيء الذي يوجد في الزمان بأن يوجد في وقت معين لا غيره، وعلى شكل خاص لا غيره، ويكون الله دائمًا هو الفاعل والموجد للشيء، وتكون النتيجة أن يوجد الشيء دائمًا عن فاعل هو الله الذي أراد في القدم أن يوجد في زمن معين وعلى شكل خاص معين.
(جـ)وأخيرًا فيما يختص بالاستدلال على ثبوت هذا النوع من الصفات لله تعالى، نعني صفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، يجيء الحديث عن صفة الكلام، ويبدأ فيلسوفنا فيعرف الكلام بأنه فعل يَدُلُّ المتكلم به المخاطَب على ما في نفسه، وهذا الفعل في الإنسان يكون بواسطة اللفظ، ثم يقول: «وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالمٌ قادر، فكم بالحريِّ أن يكون ذلك واجبًا في الفاعل الحقيقي.»١٩ يُريد الله تعالى.
ولكن كما يذكر ابن رشد أيضًا بعد ذلك، فرقٌ بين الإنسان والله، إنَّ كلام الإنسان يكون باللفظ يتلفظ به كما هو المعروف المشاهد، ولكن كلام الله قد يكون بواسطة ملك، أو قد يكون وحيًا وإلهامًا، كما قد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع من يصطفيه بالتكليم، وإلى هذا كله أشار الله بقوله (سورة الشورى: ٥١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقوله (سورة النحل: ١٧): وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، ويُريد بقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، الكلام الذي يكون بواسطة الألفاظ يخلقها في نفس كليمه، وتلك هي الحالة التي خص بها موسى عليه السلام.
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ الله متكلم بهذا المعنى، وبإحدى هذه الطرق الثلاث، ولكن لنا أن نقول: هل يُعتبر الله مُتكلمًا حقًّا برسول يرسله إلى من يصطفيه من خلقه، أو بإلهام يُلقيه في ذهنه فينكشف له به المعاني التي يُريدها الله تعالى، أو بألفاظ يخلقها في سمعه؟ أو أنَّ الأولى أن نقول بأنَّ هذا الرسول عندما ينطق بألفاظ تعبِّر عن مراد الله — الذي عرَّفه بحالة من تلك الحالات — يكون هو المتكلم؛ لأنه فعل فعلًا قام بذاته ونفسه، لا الله الذي لم يقم بذاته شيء من الألفاظ التي نطق بها الرسول.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نجدُ فيلسوفنا يلمِس لمسًا رفيقًا، إلا أنه واضح سديد، مشكلة خطيرة كانت فترة من الزمن من سياسة الدولة العُليا، نعني بها مشكلة القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق، هذه المشكلة التي أثارها المعتزلة والمأمون في عنفوان الدولة العباسية في أوائل القرن الثالث الهجري، كما نجده يقف من هذه المشكلة موقفًا وسطًا بين المعتزلة والأشاعرة.
وذلك بأنَّ ابن رُشد يرى أنَّ الله يعتبر مُتكلمًا على وجهين: الكلام الأزلي الذي في نفسه،٢٠ والألفاظ التي تدل على هذا الكلام النفسي كالقرآن والتي هي مخلوقة لله نفسه لا لبشر من خلقه؛ ولذلك يكون القرآن إذا أُريد به الكلام النفسي قديمًا غير مخلوق كما يقول الأشاعرة، وإذا أُريد به الألفاظ التي نقرؤها ونسمعها كان حادثًا مخلوقًا كما يقول المعتزلة.
هذا؛ والذي دعا الأشاعرة إلى موقفهم هذا هو اعتقادهم أن المُتكلم هو من يقوم الكلام بذاته، فإذا كان الله متكلمًا بالقرآن الذي نقرؤه ونسمعه، والذي ألفاظه مَخْلُوقة حَادِثَة مِنَّا بإذنه تعالى، كانت ذاته محلًّا للحوادث؛ ولهذا لم يثبتوا لله إلا الكلام النفسي القديم فقط، والمعتزلة يرون أنَّ الكلام ليس إلا ما فعله المتكلم، أو بعبارة أُخرى يشترطون في المتكلم أن يكون فاعلًا للكلام؛ ولهذا أنكروا الكلام النفسي، وقالوا بأنَّ الكلام هو اللفظ فقط، فكان القرآن عندهم مخلوقًا، ولكن لا يلزمهم مع هذا أن تكون ذات الله محلًّا للحوادث؛ لأنَّ اللفظ من حيث هو فِعْل ليس من شرطه أن يقوم بفاعله.
وهكذا، كما يقول ابن رشد نجد في قول كلٍّ من هاتين الفرقتين جزءًا من الحق وآخر من الباطل، وأنَّ الحق هو الجمع بينهما كما رأينا.
(د)وأخيرًا فيما يتعلق ببحث صفات الكمال الواجبة لله والاستدلال عليها، يرى ابن رشد أنَّه لا يجوز البحث في أنَّها زائدة أو غير زائدة على ذاته تعالى كما فعل المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، فإنَّ الكلام في ذلك بدعة وبعيد عن مدارك الجمهور وأفهامهم، وقد يُضلهم بدل أن يرشدهم.
وذلك بأنَّ الأَشَاعِرَة يرون أنَّ هذه الصفات صفات زائدة على الذات، فالله عالمٌ بعلم زائد على ذاته، ومريد بإرادة زائدة على ذاته، وهكذا، ويلزمهم على هذا أن الخالق جسم؛ لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم، أو يلزمهم إن قالوا بأنَّ الصفات قائمة بنفسها لا بالذات، القول بآلهة متعددة، كالنَّصارى الذين زعموا أنَّ الأقانيم ثلاثة. أمَّا ما يقوله المعتزلة من أنَّ الذات والصفات شيء واحد، فهو قول بعيد عن المعارف الأولى، فإنه يظن أن العلم مثلًا غير العالم، وهكذا باقي الصفات.
وإذا كان الكلام في الصفات على نحوِ ما فعل الأشاعرة والمعتزلة بدعةً وبعيدًا عن مقصد الشرع، وقد يُؤدي إلى إضلال الجمهور، فينبغي إذن أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات ما صَرَّح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها وثبوتها لله دون تفصيل الأمر فيها ذلك التفصيل، فإنه ليس يُمكن أن يحصل عند الجمهور في هذا يقين أصلًا.
هكذا يقول فيلسوف الأندلس في آخر بحث الصفات الواجبة لله تعالى، والجمهور في رأيه — كما عرفنا من قبل — هم من لم يكونوا من أهل البرهان وإن كانوا من رجال علم الكلام.
(٥) نفي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
عُني فيلسوف الأندلس بالكلام عن ثلاث صفات يتنزه الله عنها، وهي: المماثلة أو المشابهة لشيء من المخلوقات، الجسمية، الكون في جهة:٢١
(أ)ليس لنا أن نتوهَّم من كون الله حيًّا، عالمًا، مُريدًا، قادرًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا، ومن أنَّ الإنسان نفسه له حظ من كلٍّ من هذه الصفات، أنَّ بين الخالق والمخلوق مماثلة أو مشابهة ما، فإنه لا مماثلة أو مشابهة بين الخالق وأحد من خلقه، وإنه منزه عن جميع صفات النقص.
والقرآن نفسه اشتمل على آيات كثيرة جدًّا فيها دلالات على ذلك بصفة عامة، ولكن أبْينها في نفي المماثلة قوله تعالى (سورة الشورى: ١١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله (سورة النحل: ١٧): أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهذه الآية هي برهان ما جاء في الأولى من نفي المُمَاثلة، وإلا كان الخالق لكل شيء كمن لا يخلق شيئًا ما.
وإذن، فالله تعالى منزه عن كل صفة من صفات النقص التي نراها تعتري الإنسان، وذلك كالموت، والنوم، والنسيان والغفلة، والخطأ. فكل هذا وما إليه بسبيل منفيٌّ عن الخالق جلا وعلا، وقد صَرَّحَ القرآنُ بذلك في أكثر من آية: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، إلى غير ذلك كله مما هو معروف.٢٢
وإنَّ العقل نفسه كما يذكر فيلسوفنا يقضي بنفي صفات النَّقص هذه وأمثالها عن الخالق، وإلا لما بقي العالم حتى الآن موجودًا لا يعتريه فساد أو اختلال،٢٣ على أنَّ الله قد أشار إلى هذا أيضًا في القرآن إذ يقول (سورة فاطر: ٤١): إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
(ب)وإذا كان الأمر صار سهلًا بالنِّسبة إلى نفس المسائلة، أي: بلا خلاف من أحد من رجال علم الكلام، فإنه ليس كذلك في صفة الجسمية بالنسبة لله تعالى، وهنا يبدأ ابن رشد الحديث عن هذه المشكلة بقوله: «إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها (أي: صفة الجسمية) من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أنَّ الشرع قد صَرَّح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد تُوهم أنَّ الجسمية هي له من الصفات التي فضَل فيها الخالق المخلوق، كما فضَله في صفة القُدْرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتمُّ وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.»٢٤
ولكن فيلسوف الأندلس أبعدُ بفلسفته من أن يذهب إلى أن الله تعالى جسم على أي وجه كان، غير أنه يرى — كما ذكر بعد ما تقدم نقله عنه آنفًا — أنَّ الواجب في هذه الصفة أن يُجرى فيها على منهاج الشرع؛ فلا يُصَرَّح فيها بنفي أو إثبات، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ويُنهى عن هذا السؤال.
وفيلسوفنا حين يُوجِبُ السكوت عن نفي صفة الجسمية وإثباتها، يصدُر في رأيه هذا عن أسباب لها تقديرها، إنَّه يرى أنَّ إدراك هذا المعنى ليس في طاقة الجمهور، بدليل الطريق التي سلكها المُتكلمون في نفيها، وهي مع هذا ليست بُرهانية، ولأنَّ الجمهور يرون أنَّ الموجود هو المتخيَّل والمحسوس وأنَّ ما ليس كذلك فهو عدم، فإذا قيل لهم بأنَّ الله ليس جسمًا لم يستطيعوا تصوره وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولأنَّه لما صُرِّح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شبهات وشكوك كثيرة فيما جاء في القرآن والحديث خاصًّا برؤية الله، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، ومجيئه يوم الحشر بين الملائكة، ونزول الوحي عنه من السماء، وصعود الملائكة والروح إليه، إلى كثير من نحو هذا.٢٥
وفي رأيه أنه حينئذ، أي إذا صُرِّح بنفي الجسمية عن الله تعالى، كان لا بد من أحد أمرين: إما تأويل هذه النصوص كلها، فتتمزق الشريعة وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإمَّا أن يُقال إنَّ هذه النصوص من المتشابهات التي استأثرَ اللهُ بعلمها، وهذا إبطال للشريعة ومحوٌ لها من النفوس، هذا إلى أنَّ الدَّلائل التي احتج بها المؤوِّلون لهذه الأشياء كلها ليست بُرهَانِيَّة، وإلى أنَّ الناس أميل إلى التصديق بظواهر النصوص.
هذا هو رأي ابن رشد في المشكلة، وفي أنه لا يجوز أن نؤوِّل كل تلك النصوص للأسباب التي أشرنا إليها، وهنا نرى من اللازم أن نُشير إلى رأي إمام كبير من الأشاعرة يُشير إلى ابن رشد نفسه كثيرًا، نعني إمام الحرمين الجويني من أعيان المتكلمين في القرن الخامس الهجري.
يقول إمام الحرمين ما نصه: ذهب بعض أئمتنا إلى أنَّ اليدين والعينين والوجه صفات زائدة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمعُ دون قضية العقل، والذي يَصِحُّ عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى (سورة ص: ٧٥) في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله (سورة القمر: ١٤) متحدثًا عن سفينة نوح عليه السلام: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، وقوله (سورة الرحمن: ٢٧) متحدثًا عن بقائه وحده بعد عدم العالم يوم القيامة: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.٢٧
وفي كل هذه الآيات يؤوِّل إمام الحرمين هذه الألفاظ بما لا يجعلها تدلُّ على إثبات صفة جسمية لله تعالى، كما يؤوِّل ما يُؤدي بظاهره إلى ذلك من الآيات والأحاديث الأُخرى، ومن هذا الآية رقم ٢٢ من سورة الفجر التي تقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، ويرى أن المجيء هنا معناه مجيء أمر الله وحكمه.
ومِن هذا أيضًا حديث النزول المشهور الذي جاء فيه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول: هل من تائب فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من داعٍ فأستجيبَ له؟»٢٨ فإنه يؤوِّل في هذا الحديث «نزول الله» بجعل المراد منه نزول ملائكته المقربين.٢٩
إننا نَرى بعد ذلك أنَّ من السهل تأويل تلك النصوص ونحوها بما يبعدها عن إيهام الجسمية لله سبحانه وتعالى دون أي عناء، وأنه في طاقة من ليس من أهل البُرهان إدراك هذه التآويل والاقتناع بها؛ ولهذا لا نَدري كيف لم يرضَ ابن رشد هذه التآويل التي يعرفها والتي تنفي عن الله تعالى توهم اتصافه بالجسمية، وبخاصَّة أنه باعتباره فيلسوفًا يبعد الله تمامًا عن كل ما يُوهم الجسمية.
ومهما يكن فإنَّ فيلسوف الأندلس يعرف أن الجمهور لن ينتهي عن التساؤل عما هو الله، ولن يقنعهم أن يُقال إنه موجود وليس كمثله شيء؛ ولهذا يرى «أن يُجابوا بجواب الشَّرع فيُقال: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف به الله نفسه في كتابه العزيز، فقال تعالى (سورة النور: ٣٥): اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وبهذا وصفه النبي ﷺ في الحديث الثابت، فإنَّه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنى أراه!»٣٠ وبخاصة كما يذكر أيضًا ابن رشد بعد ما تقدم، والنور يجتمع فيه أنه محسوسٌ تعجز الأبصار والأفهام عن إدراكه مع أنَّه ليس جسمًا، والجمهور يفهم من الموجود أنَّه المحسوس، وأيضًا فالنور أشرف المحسوسات؛ فوجَبَ أن يُمثل به أشرف الموجودات وهو الله تعالى.
هكذا يرى ابن رشد أنه بما ذهب إليه في صفة الجسمية صان الشرع عن الشكوك، وجمع بين الآيات والأحاديث، وجعل إيمان الجمهور في أمن من الشبهات. على أنَّ إمام الحرمين يؤوِّل آية النور بأنَّ المُراد منها هو أنَّ الله هادي أهل السماوات والأرض، ثم يقول: ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القولَ بأنَّ نور السماوات والأرض هو الإله.٣١
وأخيرًا من الإنصاف لابن رشد أن نُؤكد هنا أنَّه لا ينبغي أن نفهم مما تَقَدَّم أنه يعتقد أنَّ الله تعالى نور، ولكنَّه فقط يرى أنَّ ذلك أنسب وأصلح ما يُجَاب به الجمهور حين يسألون عن الله ما هو؟ وأنَّه من الخير عدم البحث في صفة الجسمية إثباتًا أو نفيًا، فإنَّ هذا يُؤدي إلى البحث فيما تعجز العقولُ عن فهمه، أي: عن طبيعة الله مثلًا.
(جـ)وإذا كانت صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع؛ فلم يثبتها أو ينفِها كما رأينا، وإن كان — كما يقول ابن رشد — أقرب إلى إثباتها من نفيها، فهل الأمر كذلك عند فيلسوف الأندلس في هذه الصفة الأُخرى، أي: كون الله تعالى في جهة، أم ماذا يرى؟
هنا نجد ابن رُشد يُؤَكِّد لنا «أنَّ هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أوَّل الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتْها المُعتزلة، ثم تبعهم على نفيها مُتأخرو الأشعرية كأبي المعالي «الجويني» ومن اقتدى بقوله.» ولا عجب في هذا كما يقول، فإنَّ ظواهر الشرع كلها من القرآن والحديث تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى (سورة السجدة: ٥): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وقوله (سورة المعارج: ٤): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وقوله (سورة الملك: ١٦): أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ومثل حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليلة كل جمعة.
إلى غير ذلك كله من الآيات والأحاديث «التي إنْ سُلِّط التأويلُ عليها عاد الشرع كله مؤوَّلًا، وإن قيل إنها من المتشابهات عاد الشرع كله مُتشابهًا؛ وذلك لأنَّ الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأنَّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنَّبِي ﷺ حتى قرب من سِدْرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أنَّ الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع.»٣٢
وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ إذن نفى المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة الكون في جهة عن الله سبحانه؟ إنهم صاروا إلى هذا لأنَّ الكل متفق على أنَّ الله ليس بجسم، وإن كان ابن رشد لا يرى التصريح بذلك للجمهور كما عرفنا، واعتقد نُفاة الجهة أنَّ إثباتها يُوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يُوجب إثبات الجسمية، فلذلك اشتدوا في التدليل على نفي الجهة عن الله سبحانه وتعالى.٣٣
ولكنَّ فيلسوف قُرطبة لا يَرَى في إثبات الجهة هذا الخطر؛ لأنَّ الجهة كما يقولُ غير المكان،٣٤ إنه يرى أنَّ الجهة لا تكون غير واحد من أمرين: سطوح الجسم الستِّ المُحيطة به، وهي ليست مكانًا للجسم أصلًا، أو سطوح الأجسام المُحيطة به التي تعتبر مكانًا له، مثل سطوح الهواء المُحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بالهواء والتي هي مكان له، وهكذا كل الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
وقد قام البُرهان أنَّه لا يُوجد خارجَ سطح الفلك الخارج جسمٌ آخر، وإلا لكان خارجَ هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر هكذا إلى غير نهاية؛ فإذا قام البرهان بعد ذلك على وجود موجود في هذه الجهة التي لا يمكن أن يكون فيها الجسم، فواجب أن يكون غير جسم، وليس للخصوم أن يقولوا إنَّ خارج العالم خلاء، فإنه قد تبين في العلوم النظرية امتناع الخلاء.٣٥
وهذا الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وقد قيل في الآراء القديمة والشرائع الغابرة إنه مسكن الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة، فإن كان ها هنا — كما يقول ابن رشد — موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن يُنسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.٣٦
ويختم ابن رُشد كلامه في هذا بقوله بعد ما تقدم: «فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنَّه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنَّ وجه العُسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له.»
هذا، وقد رأى فيلسوفنا هنا أن يُصرح بإثبات الجهة، على حين أنَّه أَوجَبَ في صفة الجسمية عدم التصريح بإثباتها أو نفيها؛ لأنَّ الشبهة التي أوجبت على نُفاة الجهة لا يتفطن الجمهور لها، فلا ضرر إذن في إثباتها بل الضرر في نفيها وتأويل كل النصوص الدالة عليها