حظي ابن العربي بحيّز كبير من اهتمامات الدارسين للتراث العربي الإسلامي، سواء من العرب أومن الغرب، بحكم أن أعماله تمثل بوابة كبرى لمن أراد الدخول إلى عالم التصوف الإسلامي ومعرفة كيف يتطور وينتقل من الزهد إلى مرحلة الكشف، وخلال هذا الارتقاء يعمد الصوفي إلى الربط بين النظر والعمل، والعقل، والكشف، بغية إصابة الحق وبلوغ أعلى المقامات ونيل درجة الكمال. ويكمن سر قوة الفكر الصوفي الأكبري في رمزيته ومجالات التأويل الواسعة التي فتحها على العقل والقلب والغوص في عالم مطلق، سعيا وراء الكمال وبلوغ المقام الذي لا يضاهيه مقام. فأسلوب ابن العربي سمح لكل صاحب خيال أن يقرأ من الزاوية التي يشعر أنه يتعمق فيها، هذا ما أهّل الفكر الصوفي الأكبري أن يذاع وينتشر وينزل ضيفا مشرّفا على كل القطاعات الأدبية، والدينية، والعلمية، هذه الأخيرة التي لا يمكن أن ننكر دور العقل فيها لأن الإنسان بالعقل تميز عن سائر الكائنات.
لقد كان ابن العربي من الصوفيين الذين برهنوا برهنة قوية على أن العقل له مجالات رحبة في المعرفة الإلهية، كما أن له حدودا لا يمكنه تخطيها، لأنه يعجز عن ذلك عجزا ذاتيا، ولأنه يوجد من المعارف ما يتجاوز طاقته وقدراته، ويبرر ابن العربي كل هذا بتبريرات شرعية وعقلية قاصدا منها جعل العقل في خدمة الحقيقة الدينية الإلهية. وبهذا لا يمكننا أن نتخذ موقفا من الصوفية على أنهم لا عقلانيون.
إن هذا العمل رغم بساطته، يعتبر بوابة صغيرة من خلالها يستطيع المتطلع عليها معرفة كيف كان ابن العربي الاسم الديناميكي والفكر الفعال المحرك لعقول أعلام الفكر العربي الإسلامي وغيرهم، فهو من الشخصيات القلقة في الإسلام نظرا لما أحدثته آثاره فلأجله أنقسم المفكرون بين مؤيد مثل “حافظ السيوطي” فأبدع كتابه ” تنبيه الغبي على تنزيه ابن العربي” ومعادي مثل “ابن تيمية” الذي رماه في فتاواه بالكفر والزندقة وبالقول بالوحدة والحلول، وبشتى عبارات المروق عن الدين.
وتكمن أهمية الموضوع المعالج في تسليط الضوء على مفكر صوفي بارز في مشارق الأرض ومغاربها، بحكم الأثر البالغ الذي تركه في الأوساط المسلمة وغير المسلمة، ناهيك عن امتداد هذا الأثر حتى الفترة الراهنة، بسبب ما تقدمه تجربة ابن العربي المجملة لانشغالات فكرية عظمى منها: وحدة الإنسان ووحدة المذاهب والأديان، وفكرة الكمال الإنساني، ومنزلة العقل وهو محور بحثنا هذا، وهي كلها من المواضيع الحية الراهنة ضمن اهتمام الفلسفة المعاصرة.
يعتبر ابن العربي من السباقين للحديث بإسهاب عن عجز العقل وأن هناك حدودا يجب أن يقف عندها، ففي الوقت الذي كانت فيه الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة إلى غاية منتصف القرن العشرين تعطي للعقل وللعلم السلطة المطلقة حتى نجم عن ذلك الإيمان بمبدأ الآلية أو الحتمية المطلقة فظهرت نتائج علمية مذهلة منها المفيدة النافعة ومنها الضارة المدمرة، ولم تتفطن الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية للتفكير في كبح جماح العلم، ومن ثم سقوط مبدأ الحتمية وظهور مبدأ اللاحتمية مع الفيزيائيين المعاصرين أمثال “هيزنبورغ”(1901م–1976م) في حين أن ابن العربي وضع حدا لسلطة العقل تتمة لفكرة عقدية أشعرية. وعليه فإن مبدأ اللاحتمية لم يكن وليد الفيزياء المعاصرة بل كان ابن العربي ومن قبله “الغزالي” ومن كان على مذهب الأشعري السباقين إليه مادام للعقل حدود عندهم.
جعل ابن العربي من العقل وسيلة لا غاية، انطلاقا من أنه أداة يراد بها معرفة العبادات وكذا العلوم الكونية، الأمر الذي وضحه في مؤلفات عدة منها: “رسالة إلى الإمام الرازي”، وفكرة أن العقل وسيلة ليست غاية حقيقة لم تتفطن لها الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية حين أيقنت أنه يجب ألا تكون الاكتشافات العلمية غاية في حد ذاتها بل وسائل، فكان ابن العربي السباق إلى ربط العقل وما يؤديه من وظائف بالأخلاق، لهذا وجب أن لا يكون إلا إذا كان ساعيا لخدمة الإنسان وعقيدته، وهذا ما تم توضيحه خلال البحث من خلال معرفة الشروط أو الآداب التي سنها حتى يؤدي العقل الوظيفة التي من أجلها كانت النفس الناطقة.
تعتبر نصوص ابن العربي ومؤلفاته فضاء واسعا لإبداعات فنية وأدبية مميزة، لهذا كانت منزلة العقل عنده إشكالية فرضها الاهتمام العالمي بشخصه ومؤلفاته والأيام الدراسية والملتقيات والندوات التي تقام على مدار السنة في مختلف أنحاء العالم الغربي والمسلم بشقيه الأفريقي والآسيوي، وما يذاع عن التصوف بشتى القنوات ومختلف اللغات بينة قاطعة على ما سبق التصريح به.
بالرغم من أن الفلسفة تبدو للبعض أنها ممنوعة في فكر ابن العربي الصوفي إلا أنه أبى إلا أن يهتم ويغوص فيها من أجل محاولة الالتقاء بين الفلسفة والتصوف في ظل الشريعة الإسلامية، ووفق ترتيب تفاضلي كشفت عنه أثناء البحث وعرفت دوافع هذا التفاضل، ويهدف البحث في منزلة العقل عند ابن العربي إلى الكشف عن الرواسب التي التصقت بشخصية ابن العربي وفكره والتي خلفها سوء تأويل دارسيه إذ يحكم أغلبهم أنه الصوفي الرافض للعقل وهذا ما حاولنا تفنيده وإبطاله وجعل المفاهيم التي كانت تبدو للبعض قديمة أنها معاصرة حديثة تندمج في واقعنا، ثم نبرز من خلالها أن أفكار ابن العربي لم تمت بموت صاحبها، كيف لا وهو من السباقين إلى القول بمبدأ اللاحتمية وأن العالم خاضع لمبدأ عدم التعاين مادامت المعارف الكونية تستند إلى العقل الذي هو في الواقع محدود عنده، داعيا إثره للقول أن القطيعة شرط الموضوعية من خلال تفضيله للنفس الناطقة على بقية القوى الأخرى الشهوانية والغضبية وكذا من خلال تركيزه على محورين أساسين هما القرآن والسنة، وعدم الاكتفاء بنقل الأفكار بالتواتر، بل الواجب أخذها من ينبوعها الأم، إذ يقول ابن العربي في الفتوحات الجزء الثالث: لا تسمع مقالة من جاهل[1] مؤكدا أن أمهات المطالب العلمية و حملها على الحق أربعة: « سؤال عن الوجود…سؤال عن الحقيقة التي يعبر عنها بالماهية…سؤال عن الحال…وسؤال عن العلة والسبب»[2] سعيا منه إلى النظر في لب الأمور لا في قشورها. وعليه فإن الدعوة إلى إبطال المعارف التي تأخذ بالتسليم وضرورة التجرد من الذاتية أثناء جمع الخبرات لم يكن الفيلسوف الفرنسي “غاستون بشلار” (1884م–1964م) مبدعها لأننا وجدنا من خلال البحث أن اللبنة الأولى للفكرة كانت على يد ابن العربي.
إن ابن العربي من الفلاسفة المتصوفة الذين لهم راهنية وحضور في الفكر ما بعد الحداثة، لأنه وضع للعقل حدود وصنفه في المرتبة الثالثة بعد النقل والكشف في تحصيل المعرفة الكونية، لذا وجدنا أسلوبه وفكره يخرجان عن المألوف، كيف لا وهو يبحث في المتناقضات حاله كحال من يحاول الجمع بين الممكن والمحال، بين المادة والروح، الدنيا والآخرة، الشريعة والفلسفة وبين العقل والخيال، إن تجربة ابن العربي الفكرية الجامحة يلتقي فيها الاستدلال بالجدل، تتراوح بين الظاهر والباطن، ويتداخل فيها الشعر بالنثر، والفلسفة بالأساطير والعلم بالطلسمات.
إن دراسة إشكالية منزلة العقل سمحت باكتشاف أن فكر ابن العربي تعدى مجال المعرفة الذوقية ليبدع في الأخلاق، الوجود، ودراسة النفس الإنسانية، لأجل هذا يمكننا أن نشاطر أحد الباحثين رأيه عندما حكم على ابن العربي بأنه علامة فارقة ومعجزة صوفية في محاولة فهمه خير كثير لفكرنا العربي وتراثنا الوجداني والعقلي معا، لأجل كل هذا حاولنا البحث بخطى متحفظة في منزلة العقل عند ابن العربي، وسعينا الإشكالية الآتية: ما هي منزلة العقل في الفكر الصوفي الأكبري المعروف عنه اعتماده الكشف لا العقل؟.
و الإجابة على ما يتفرع منها من أسئلة، منها ما موقف ابن العربي من العقل أداة وعلما؟ وما مفهومه لديه؟ هل يتفق أم يختلف في ضبطه لمفهوم العقل مع مفكري الإسلام من فلاسفة وعلماء كلام ومع الفقهاء والمفسرين والأدباء؟ وهل تسمح لنا هذه الموازنة من معرفة وظيفة العقل الجوهرية عند ابن العربي ودعائمها ومن أين تبدأ وأين تنتهي؟ وما هي أنواع العقل عنده؟ وما هي شروط العقل السليم عند ابن العربي؟ وما هي دواعي ربط العقل بضوابط أخلاقية لديه؟ وما هي المرتبة التي يحتلها العقل عند ابن العربي؟ ولماذا؟ وعلى ماذا اعتمد في تبريره في أن يضع للعقل مجالات وحدود؟ وما هي علاقة العقل بالكشف عنده؟ وما هو موقف ابن العربي من الفلسفة وعلم الكلام بحكم أنهما من المجالات التي يعتمد فيها بشكل مباشر على العقل؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتفرعة عن طريق موضوع قيمة العقل في فكر يتداول أنه لا عقلاني. مع الأمل أننا قد وفقنا في إعطاء هذا الموضوع حقه ولو –نسبيا- من التحليل والفحص والدرس.