في معالجته للمشكلة الأخلاقية، يكتشف نيتشه من خلال منهجه الجينيالوجي أن ظهور التقييم الكهنوتي في مجال الأخلاق هو ما أدى إلى قلب القيم التي كان قد وضعها في الأصل السادة النبلاء (أي الطبقة الأرستقراطية المهيمنة)، هذا التقييم الأرستقراطي وهو التقييم الأصلي كما كشف عنه نيتشه في أعمق الطبقات التاريخية، تكمن ميزته في أنه تقييم اجتماعي خالص وليس أخلاقيا أو حتى دينيا.
لقد كان التقييم الأرستقراطي وليد شعور طبيعي بالقوة والحيوية من لدن السادة الأقوياء تجاه العبيد الضعفاء، هذا الإحساس العارم بالفارق في القوة لدى السادة هو ما جعلهم يستأثرون بحق ابتكار القيم وتسميتها، أي تسمية صفاتهم (القوية والنشطة والحيوية) بأنها “حسنة” و “خيرة”، في مقابل صفات الشعب أو العامة، التي تتسم بالضعف والعجز والهوان، فهؤلاء العامة أو الضعفاء، لم يكونوا في نظر التقييم الأرستقراطي أشرارا ولا حتى مذنبين، إنهم يتصرفون فحسب وفقا لطبيعتهم الضعيفة التي تجعلهم عبيدا بالطبع، فنيتشه لا يعتقد أن الإنسان يمتلك حرية الاختيار في تحديد ما إذا كان بوسعه أن يكون سيدا أو عبدا، فالقوي (السيد) مجبول بطبيعته على ممارسة قوته، كما أن الضعيف (العبد) مجبول هو أيضا بطبيعته على التصرف بضعف، فحرية الإرادة ليست في نظر نيتشه سوى وهم توارثه الفلاسفة عبر التاريخ، وذلك سيرا على خطى التقليد اليهودي-المسيحي لجعل السادة-الأقوياء يشعرون بالذنب وتبكيت الضمير على سلوكهم الطبيعي المفعم بالقوة والقسوة أيضا.
يقول نيتشه في هذا الصدد :
“إن كراهية الحملان (العبيد الضعفاء) للطيور الجارحة (السادة الأقوياء) يبدو أنه لا يثير دهشة، لكنه لا يشكل سببا للحقد على الطيور الجارحة الكبيرة لترويعها الحملان الصغيرة، وإذا قالت الحملان فيما بينها إن تلك الطيور الجارحة شريرة، وأن الطير الجارح الذي تتوافر فيه أقل صفات الطيور الجارحة، أو حتى نقيضها، أي صفات تجعل منه حملا، أفلا يكون خيرا حينئذ ؟
فلن يكون ثمة ما يعترض به على هذه الطريقة في الاستنباط، اللهم ما ترد به الطيور الجارحة على نفسها، فتقول فيما بينها ساخرة؛ أما نحن فلسنا نحقد تماما على الحملان الخيرة، بل على العكس، نحبها، فلا شيء أشهى من لحومها.”
تبدأ المشكلة في نظر نيتشه عند بروز التقييم الكهنوتي على الساحة التاريخية من خلال قيام الكاهن بتغيير وجهة الحقد نحو الإنتقام من قيم السادة عن طريق قلبها رأسا على عقب، هذا التقييم الذي سيعتبر أن الأقوياء أشرارا ومذنبين لأنهم قساة، في حين أنهم يتصرفون وفق طبيعتهم القوية فقط، هكذا يوظف الكاهن اليهودي مبتكر التقييم الكهنوتي الماوراء، عن طريق وعد الأخيار الذين هم ليسوا سوى الضعفاء والمرضى والعاجزين والمنبوذين وفقا للتقييم الكهنوتي بالعالم الآخر، واصفا بالمقابل، الأقوياء والنبلاء والفرسان والشجعان والمتفوقين بأنهم أشرارا وطغاة، ليس لهم حظ في العالم الآخر، ذلك العالم الذي ابتكره بالضبط الكاهن اليهودي انطلاقا من شعوره المتنامي بالكراهية والحقد تجاه الأرستقراطيات المجاورة (الإغريق والرومان)، ذلك الشعور الذي ولد لديه غريزة انتقام فظيعة تجاه كل ما هو دنيوي عامر بالحياة ومثبت لها، وبالتالي القيام بانقلابه التاريخي الأعظم في مجال الأخلاق.
إذن مع اليهود، هذا الشعب الكهنوتي بامتياز، بدأت حسب نيتشه ثورة العبيد في الأخلاق، هذه الثورة التي تجر وراءها تاريخا يمتد عمره لأكثر من ألفي سنة، طبعا فقد نجحت الثورة وتم إسقاط النظام القيمي القديم (القيم الأرستقراطية) وسنت الدهماء قيمها الخاصة المتمثلة في الإحتفاء بأخلاق العبيد، لقد انتصرت القيم اليهودية ومن بعدها المسيحية في كل أنحاء أوروبا من خلال سيكولوجية الخطيئة الأصلية التي سممت صحة الإنسان الأوروربي سيكولوجيا وفيزيولوجيا، وجعلت الأقوياء ضعفاء يشعرون بالذنب وتبكيت الضمير، ما جعلهم يستسلمون نهائيا للسم الكهنوتي التي أعدته الكنيسة أو المؤسسة الكهنوتية الرسمية لهؤلاء الأقوياء والموهوبين والمتفوقين من كل نوع، وبذلك تم إضعاف وتدجين الحيوان الأشقر أو الفارس النبيل الذي كان من الممكن أن يصبح مثال نيتشه المنشود لو نشأ في بيئة صحية وقوية، حيث يتم صقل مواهبه ودعم قدراته، وهكذا تم القضاء على فصيلة النوع الأقوى الذي كان السوبرمان النيتشوي سينبثق منها.
وبالتالي فإن تاريخ الأخلاق في أوروبا -خلال الألفي سنة أو يزيد- كما حفر عنه نيتشه باستخدام مطرقته الجينيالوجية هو تاريخ مقلوب (أو محرف) مس -عن حقد- قلب القيم الأخلاقية(التي كان قد وضعها في الأصل السادة-النبلاء) رأسا على عقب، محركه الأساس “إرادة قوة كهنوتية” غذتها سيكولوجية الحقد اليهودية، نتيجة رد فعل كهنوتي ضد “إرادة قوة دنيوية” امتلكتها شعوب أخرى أكثر حضارة وتقدما (الشعوب المجاورة أساسا)، رد الفعل الكهنوتي هذا، تمثل في انتقام ميتافزيقي دبره الكهنة اليهود باسم القداسة الدينية ضد كل ما هو دنيوي، أي ضد الأرستقراطيات النبيلة المجاورة (لاسيما الإغريق والرومان). وهو صراع قيمي عظيم ظل مكتوبا بحروف بارزة على جبين التاريخ (لاسيما الأوروبي منه) شعاره الكبير “روما ضد يهودا” أو “روما ضد اليهودية”.
وهكذا كانت القيم الأخلاقية السائدة خلال الألفي سنة -حسب نيتشه- قيما عدمية ومنحطة لا تحتفي ب “الفارس النبيل” في صورته البطولية المثلى “الإنسان الأعلى”، كونها صدرت عن العبيد الذين حقدوا على السادة-النبلاء وقاموا بانقلابهم التاريخي الأعظم في مجال الأخلاق.