ولد الفارابي في مدينة فاراب، ولهذا اشتهر باسمه. نسبة إلى المدينة التي عاش فيها. كان أبوه قائد جيش، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى سوريا وتجوّل بين البلدان وعاد إلى مدينة دمشق واستقر بها إلى حين وفاته. يعود الفضل إليه في إدخال مفهوم الفراغ[؟] إلى علم الفيزياء. تأثر به كل من ابن سينا وابن رشد.
تنقّل في أنحاء البلاد وفي سوريا، قصد حلب وأقام في بلاط سيف الدولة الحمداني فترة ثم ذهب لدمشق وأقام فيها حتى وفاته عن عمر يناهز 80 عامًا ودفن في دمشق، ووضع عدة مصنفات وكان أشهرها كتاب حصر فيه أنواع وأصناف العلوم ويحمل هذا الكتاب اسم إحصاء العلوم.
سُمّي الفارابي “المعلم الثاني” نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية
مصادر التأثير
وقد تأثّرت فلسفة الفارابي بصفة خاصة بالمذهب الأرسطي المحدث الغالب على الإسكندرية. ويتسم الفارابي بغزارة كتاباته، حيث نُسب إليه ما يزيد عن مائة كتابة. ومن بينها كتابات تمهيدية عن الفلسفة بصفة عامة، وتعليقاته على أعمال أرسطو (مثل «علم الأخلاق إلى نيقوماخس» نسبة إلى ابن أرسطو نيقوماخس) بالإضافة إلى أعماله الخاصة. وتتسم كتاباته بالإتساق والترابط المنطقي، رغم أنها مشتقة من عدة مدارس ومذاهب فلسفية. وكذلك تأثر الفارابي بنموذج الكواكب والشمس لبطليموس، وعناصر الأفلاطونية المحدثة، وبالتحديد موقفها من الميتافيزياء والفلسفة العملية أو السياسية (والتي هي أقرب إلى «الجمهورية» لأفلاطون منها إلى «السياسة» لأرسطو).
الفارابي وأرسطو وموسى بن ميمون
وقد لعب الفارابي دورًا حيويًا في انتقال أفكار أرسطو من اليونان القديمة إلى الغرب المسيحي في العصور الوسطى، وذلك ما نراه في ترجمة تعليق الفارابي على «العبارة» لأرسطو إلى اللغات اللاتينية. وقد تأثر موسى بن ميمون (وهو يعد أهم مفكري اليهود في العصور الوسطى) بالفارابي بدرجة عظيمة. فمن بين كتاباته الشهيرة «مقالة في فن المنطق»، وفيها أوجز موسى بأسلوب بارع أصول منطق أرسطو في ضوء تعليقات الفيلسوفين الفارسيين: ابن سينا، وبالطبع الفارابي. وأكّد الكاتب ريمي براغ حقيقة أن الفارابي هو المفكر الوحيد الذي تعني به تلك المقالة.
ويعد كلًا من الفارابي وابن سينا وابن رشد من أتباع المدرسة المشائية أو الاستدلالية. إلا أن الفارابي في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين» حاول أن يجمع بين كل من المذهب الأرسطي والأفلاطوني.
وطبقًا لأدامسون، فإن الهدف الواحد الأوحد التي توجهت كتابات الفارابي نحوه هو إعادة إحياء واستحداث المدرسة الإسكندرية في الفلسفة آنيًا، والتي كان ينتمي إليها معلمه المسيحي يوحنا بن حيلان. ويشهد اللقب التشريفي الذي عرف به (المعلم الثاني) على نجاحه في ذلك. وذكر أدامسون أيضًا أن الفارابي لم يذكر مطلقًا أي شئ عن أفكار الكندي، أو أبو بكر الرازي الذي عاصره، مما قد يدل على أن الفارابي لم يعتقد بصحة مناهجهم.
فلسفة الملة عند الفارابي
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لعله من نافلة القول، الحديث عن الوشائج الوثقى بين الفلسفة والدين عبر التاريخ والعصور؛ فذلك أصبح من البديهيات، التي يمكن القول معها: إنه لا وجود للفلسفة دون الدين، ولا وجود للدين دون الفلسفة.
وهذا القول لا ينطبق على الإسلام وحده؛ بل يسري على جميع الأديان، ولعل اهتمام الفارابي بالدين، من خلال أعماله الفلسفية المختلفة، خير دليل على اهتمام الفلاسفة المسلمين، وانشغالهم بالدين، ومعالجتهم لقضاياه المتنوعة[
فالفارابي، حسب محسن مهدي: هو أول فيلسوف طور فلسفة للملّة، تعتمد، في أساسها، على التراث الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي، بشكل عام، وعلى الفلسفة الأفلاطونية، بصورة خاصة.
لقد سبق للفارابي أن تناول الدين في كتبه المتعددة، وخاصة في كتاب الحروف، لكنه أبى إلا أن يخصص كتابًا بعينه لفحص هذه المسألة، هو: كتاب “الملة”، وقد يكون، هذا الكتاب، لاحق التأليف لكتاب الحروف، بقرينة عدم ذكره في كتاب الحروف، وذكر غيره من كتب الفارابي في المنطق.
الملّة عند الفارابي:
1- الملة في كتاب الملة:
لقد خصص الفارابي كتابًا للبحث في الدين، هو “كتاب الملة”: الذي نرى أن غاية الفارابي الأولى، أو القريبة من تأليفه، هي؛ توضيح حقيقة الدين، وصفات رئيسه الأول، وخلفائه، وعلاقته بعلمي الفقه والكلام، وكذلك، علاقته بالفلسفة
ينطلق الفارابي في تفسيره لمحددات حدوث الملة من فرضية أساسية، مضمونها؛ أنه بعد اكتمال العلوم النظرية والعملية، تأتي مرحلة وضع النواميس، وهذا يحتاج إلى صناعة خاصة بذلك، وهي “صناعة وضع النواميس”، والحاجة إلى وضع هذه الأخيرة؛ هي التي أدت إلى حدوث الملة.
ويستعمل الفارابي كتاب “المتناول”، حاليًّا، بالدرس، لتعريف الملة، قائلًا: “الملة؛ هي آراء، وأفعال مقدرة ومقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، ويلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضًا محدّدًا له، فيهم أو بهم، والجمع، ربما كان عشيرة، أو مدينة، أو صقعًا، أو أمة عظيمة، أو أممًا كثيرة. والرئيس الأول، إن كان فاضلًا، وكانت رئاسته فاضلة، في الحقيقة؛ فإنه يلتمس بما يرسم، أن ينال، هو وكل من تحت رئاسته، السعادة القصوى؛ التي هي، في الحقيقة، سعادة. وتكون تلك الملّة فاضلة”.
إن هذا التعريف الواسع والمحايد، حسب الباحث محسن مهدي، لا يبين أي رأي خاص في الله، والملائكة، والنبوة، والوحي، والثواب والعقاب في الآخرة، أو في مجال الأخلاق، ويتكون من أربعة عناصر، تجيب عن أربعة أسئلة:
1) ما هي الملة؟
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇◇
إنها جملة آراء وأفعال مقيدة بشرائط؛ أي جانب نظري وجانب عملي. النظري: هو مجموعة الآراء المتعلقة بالله وبالملائكة؛ أي الإلهيات، وكذلك، الآراء الخاصة بتركيبة العالم، ومنشئه؛ أي الكوسمولوجيا، والآراء المتعلقة “بالإنسان وحصول النفس فيه”
إضافة إلى تضمن الملة آراء خاصة بالعقل، ومرتبته من العالم، ومنزلته من الله، وكيف يكون من الروحانيين، و”النبوة ما هي؟ والوحي كيف هو؟”
وإذا كان ما سبق من آراء نظرية متعلقة بأشياء نظرية؛ فإن الجانب الثاني من الآراء النظرية، يتعلق بأشياء إرادية؛ أي عملية تخص أفعال الأنبياء، والملوك، والمدن، والأمم إن كل هذه الآراء، وإن كانت نظرية؛ فإنها تهدف إلى العمل؛ لأنها مجموعة من المثالات، التي يجب أن تساعد الناس في مراسهم
“إن آراء الملة؛ هي صفات تحيل إلى المدنيين، جميع ما في المدينة من ملوك، ورؤساء، وخدم، ومراتبهم، وارتباط بعضهم ببعض، وجميع ما يرسم لهم، ليكون ما يوصف لهم من ذلك، أمثلة يقتفونها في مراتبهم وأفعالهم”.
إن الطبيعة العملية للملة، تتجلى بوضوح أكثر في الجانب العملي منها؛ أي الأفعال، وهي: مجموعة الأقاويل التي ترد إلى العبادات، تمجيدًا وتعظيمًا لله، والملائكة، والأنبياء، …إلخ[، وكذلك، معاملات أهل المدن
2) من هو الفاعل الذي يحقق له أن يكون الرئيس الأول، واضع الملة؟
فالملة تفترض رجلًا يأتي بشريعة وعقيدة، فيجتمع الناس حوله، لا للاعتقاد فقط؛ وإنما ليقودهم إلى غرض معين؛ فالرئيس الأول: هو الذي يؤسس المدينة الفاضلة، والملة، حسب النص، لا تكون فاضلة إلا إذا كان الرئيس فاضلًا، ولا يكون الرئيس فاضلًا، إلا إذا كان نبيًّا فاضلًا يوحى إليه بالحقائق.
3) لمن تقدر تلك الآراء والأفعال؟
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
إنها جماعة ما، أو جمهور من الناس؛ إذ لا يقدرها الرئيس الأول للملة لنفسه، أو لبعض الأتباع وحسب؛ وإنما يقدرها لجماعة ذات حجم معين.
4) ما هو الغرض؟
في الرئاسة الفاضلة، وهي؛ الرئاسة المؤيدة بالوحي، تقدر الآراء والأفعال في الدين، بحيث “إذا استعملت في المدن أو الأمم، عمرت بها مساكنهم، ونال بها أهلها الخيرات في هذه الدنيا، والسعادة القصوى في الحياة الآخرة[16]، ويوضح الفارابي في السعادة الحقيقية، وهي التي تطلب لذاتها، ولا تطلب في وقت من الأوقات لينال بها غيرها أشياء أخرى؛ إنما تطلب لتنال هذه، فإذا نيلت، كفّ الطلب” هذه السعادة لا تتحقق إلا بإقامة المدينة الفاضلة.
أما في الرئاسة الجاهلية، وهي رئاسة غير مؤدية بالوحي، يكون هدف الدين وغايته تحقيق الخيرات الجاهلية، والتي هي خيرات دنيوية محضة، إما للرئيس الأول، من خلال استعمال أتباعه، واستغلالهم لتحقيق هذه المصالح الدنيوية، وإما للأتباع والجمهور، وإما للرئيس والجمهور معًا؛ فالغاية من الدين، هنا، مقصورة على الدنيا، ولا تتجاوزها
2- الملة والدين والشريعة:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
مثلث (الملة، والدين، والشريعة) تتساوى أضلاعه في الدلالة عند الفارابي تارة، وتتفاوت تارة أخرى، ويقول الفارابي في هذا الصدد: “والملة والدين، يكادا يكونان اسمين مترادفين، وكذلك، الشريعة والسنة؛ فإن هذين يدلان، ويقعان عند الأكثر من الأفعال المقدرة من جزأي الملة، ويمكن أن تسمى الآراء المقدرة شريعة، أيضًا؛ فتكون (الشريعة، والملة، والدين) أسماء مترادفة.
فإن الملة تلتئم من جزأين: تحديد آراء، وتقدير أفعال؛ فآراء الغرب المحددة للملة نوعان: إما رأي عبّر عنه باسمه الخاص به؛ الذي جرت العادة أن يكون دالًّا على ذاته، أو رأي عبر عنه باسم مثاله المحاكي له؛ فالآراء المقدرة التي في الملة الفاضلة؛ إما حق، أو مثال حق”.
ثم هناك مسألة أخرى، يجب الاهتمام بها، وهي: مسألة الترابط بين الملة والسنة؛ حيث إن الثنائي اللفظ الآخر، يطلق على أفعال مقدرة؛ أي على الجزء الثاني من الجزئين، اللذين منهما تلتئم الملة، وعلى الفرائض، والأقوال، والمعاملات، غير أن أحد اللفظين اللذين يلتئم منهما الثنائي؛ وهو الشريعة، يمكن أن يدل على الآراء المقدرة، أو على الجزء الأول من الملّة أيضًا. وبالتالي؛ فإن الشريعة، والملة، والدين، ألفاظ مترادفة حقًّا، وإن لم تكن كذلك؛ فإن الفروقات فيما بينها ليست ذات بال، وقد وضع لفظ سنّة جانبًا، لأنه، بلا ريب؛ لا يدل على آراء.
حسب حسن مهدي؛ فإن هذا الاستعمال العام، يبدو أنه يفترض، مسبقًا، التمييز بين آراء الملّة، وأفعالها، وبين الملل التي منحاها الرأي، وتلك التي منحاها الأفعال على حد سواء.
غير أن الأفعال وحدها، كما الآراء وحدها، لا تكفي لأن تلتئم الملة بها، وبصورة عامة؛ يتطابق عرض الفارابي مع الرؤية المشتركة للملة، غير أن هذه الأخيرة، تميل إلى اعتبار الملة، بالأحرى، شريعة؛ أي أفعال مقدرة، وآراء محددة، ينبغي قبولها، والتقييد بها.
الملة في كتاب “الحروف”:
♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧
خصص أبو نصر الفارابي حيزًا مهمًّا للملة، في كتابه الحروف، خاصة في الباب الثاني (131-161)، ويدرسها في علاقتها بالفلسفة واللغة.
مما لا شك فيه أن كتاب الحروف؛ هو تفسير لكتاب أرسطو طاليس، فيما بعد الطبيعة، (الحروف- مهدي 35)، غير أننا نجد ضمن هذا التفسير؛ “غرض أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة”، ضمن لغة جديدة، وعصر جديد؛ بل وإضافة غرض جديد؛ هو الملة.
يقدم الفارابي في الباب الثاني، حسب الدكتور محمد عابد الجابري، نوعًا من فلسفة التاريخ، حاول الفارابي أن يشرح فيها تطور الثقافة في المجتمعات، من مرحلة التعبير المشخص بالإشارة والتصويت، إلى أعلى مراحل التعبير المجرد، وهي؛ مرحلة الدين والفلسفة.
وقد لجأ في محاولته هذه إلى المقايسة بين تطور الفكر اليوناني، وتطور الفكر الإسلامي، تارة يقرأ الأول بواسطة الثاني، وتارة أخرى، يقرأ الثاني بواسطة الأول، غير أنه يعرج تارة على الفكر الفارسي، وطورًا على الفكر الهندي، مبرزًا تداخل هذه الثقافات، وانتقال بعضها إلى ميدان الأخرى، محاولًا إثبات الأسبقية الزمنية للفلسفة على الدين، إلى جانب أسبقيتها المنطقية، التي شرحها في كتبه الأخرى، وخاصة في كتاب “الملة”، وكل ذلك بأسلوب تعميمي متقطع، وبطريقة تجريدية جدّ ملتوية، فيها تردد، وغموض، وتستّر، …إلخ.
فيستعرض الفارابي تطور التعبير، ابتداءً من حدوث حروف الأمة وألفاظها، مرورًا بأصل لغة الأمة، ووصولًا إلى حدوث الصنائع العامة؛ الخطابة، والشعر، ورواية الأخبار، وعلم اللسان، وصناعة الكتابة، ثم إلى حدوث الصنائع القياسية، والعلوم النظرية، ثم يتتبع تطور هذه من مرحلة الطرق الخطابية السفسطائية، إلى الطرق الجدلية، التي تأخذ بالاقتراب، شيئًا فشيئًا، من الطرق اليقينية إلى أن: “يصير الحال في الفلسفة، كما يقول، إلى ما كانت عليه في زمن أفلاطون، ثم يتداول ذلك، إلى أن يستقر الأمر على ما استقر عليه أيام أرسطو طاليس؛ فيتناهى النظر العلمي، وتتميز الطرق كلها، وتكمل الفلسفة النظرية، الفلسفة العلمية الكلية، ولا يبقى فيها موضع فحص؛ فتصير صناعة تتعلم، وتعلم فقط، ويكون تعليمها تعليمًا خاصًّا، وتعليمًا مشتركًا.
فالتعليم الخاص؛ يكون بالطرق البرهانية فقط. والتعليم المشترك؛ يكون بالطرق الجدلية، أو الخطابية، أو الشعرية”، ثم ينتقل الفارابي، عبر هذا التأويل الإيديولوجي، إلى هدفه الأساسي، فيقول: “ومن بعد هذه كلها، نحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استنبط وفرغ منه، وصحّح بالبراهين من الأمور النظرية، وما استنبط بقوة التعقل من الأمور العملية؛ فإذا وضعت النواميس في هذين الصنفين، أو ضفنا إليهما الطرق التي يقنع بها الجمهور، ويعلّم، ويؤدّب؛ فقد حصلت الملّة، التي علم الجمهور بها، وأدّبوا، وأخذوا كل ما ينالون به السعادة”.
إذن؛ فالملة هدفها تعليم الجمهور بالإقناع، أو التخييل، أو بهما معًا، ما تنتجه الفلسفة برهانيًّا (الحروف 151).
ولأن الملة تخيل للجمهور الأشياء التي برهنت عليها الفلسفة؛ فلا يتردد الفارابي في إعلان؛ أن الأولى تتقدم على الثانية (الحروف 133)، وذلك؛ لأنها تابعة لها (الحروف 153)، تبعية مزدوجة؛ فهي تبعية زمنية، إذن؛ فالملة إذا جعلت إنسانية، تلت الفلسفة في الزمان، وكذلك، تبعية في المرتبة؛ إذ إنه إذا كانت الملة مستندة إلى فلسفة قديمة مظنونة أو مموهة (الحروف 151)، كانت ملة فاسدة (الحروف 154). أما عندما تكون الفلسفة التي تؤسس الملة فلسفة يقينية؛ فإن الملة، بدورها، تكون صحيحة
يمكن القول: إن معيار التمييز في كتاب الحروف، بين الدين الفاضل، والدين الفاسد؛ هو نوع الفلسفة التي يتبع لها الدين.
فالدين الصحيح: هو الذي يتبع فلسفة برهانية يقينية.
أما الدين الفاسد؛ فهو الذي يتبع فلسفة غير برهانية.
ولكن هناك مشكل يطرح بالقول: (إن الملة جاءت بعد الفلسفة)؛ لأن السؤال المطروح، هنا، هو: إذا كانت الملة قد جاءت بعد الفلسفة، ينبغي أن تكون أكثر تقدمًا منها؛ فكيف يجعل الفارابي الملة إنسانية وهي ليست إنسانية لأنها عبارة عن وحي أو سنة؟
والجواب: إن علم الكلام والفقه، يخضعان الملة لمقتضيات العقل، وبفضلهما يتحول هذا النبع؛ الذي هو الملة، إلى أمر إنساني يمكن الخوض فيه[24]، فالفارابي يقول: “إنه يمكن تأسيس الملة الإنسانية في أي وقت من مسار تطورها، ما دامت تتكون من المعتقدات والممارسات، التي يفرضها المشرّع الإنساني، ولكن كمالها سيعتمد على مدى تقدم الفكر الإنساني، والخبرة الإنسانية، في ذلك الوقت.
فالملة الإنسانية عالقة، أيضًا، في هذه الحركة الدائرية للتاريخ الإنساني، وهي تتشابه مع حركة النواتج الثقافية عبر حدود الأمم، وهي عرضة للانتحال من قبل مدَّعِي تأسيس الملل، الذين يبحثون عن الشهرة والمجد؛ لذلك تكون الملة الإنسانية الأفضل: هي تلك الملة التي تتأسس في ذروة تطور الصناعات الفكرية والعملية”.
ونحن نعتقد أن الملة، عندما تصبح إنسانية؛ فهي عبارة عن فقه، وعلم كلام
3– الملّة في تحصيل السعادة:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
يعالج الفيلسوف (أبو نصر الفارابي) مسألة الملة في كتاب “تحصيل السعادة”، باعتبار الملّة محاكية للفلسفة، وليست هي نفسها الفلسفة؛ حيث إن الفلسفة معرفة بالموجودات والأفعال عن طريق البرهان الإقناعي؛ فإن هذه الموجودات “متى علمت أن تخيلات بمثالاتها التي تحاكيها، وحصول التصديق بما خيل منها عن الطرق الإقناعية، كان المشتمل على تلك المعلومات يسميه القدماء ملّة”
كما أن الفلسفة والملة، لا تنحصران في الموضوع؛ بل تشتركان كذلك في المقصدان، وهما: “تعطيان الغاية القصوى، التي لأجلها كوّن الإنسان، وهي؛ السعادة القصوى”.
ولكن السبل النظرية مختلفة؛ إذ إن كل ما تعطيه الفلسفة من مبادئ، وأسباب، وغايات، (معقولًا أو متصوّرًا)؛ فإن الملة تعطيه متخيلًا، وإن كانت الأولى تتوسل “براهين يقينية”
إيمانه بوحدة الحقيقة
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
” ”واجب الوجود عقل محض، يعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد.“ “
—
إيمانه بوحدة الحقيقة كان يعتقد أن الحقيقة الطبيعية الفلسفية واحدة وليس هناك حقيقتان في موضوع واحد بل هناك حقيقة واحدة وهي التي كشف عنها أفلاطون وأرسطو، وبرأيه أن كل الفلسفات التي تقدم منظومة معرفية ينبغي أن تحذو حذو أفلاطون وأرسطو. ولكن بين أفلاطون وأرسطو تناقض أساسي وكان الفارابي يعتقد أن فلسفة أفلاطون هي عين فلسفة أرسطو ووضع كتاب (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو) أفلاطون وأرسطو كلاهما يبحثان في الوجود من جهة علله الأولى، وعند أفلاطون الوجود والعلل الأولى هي (المثل) وأرسطو (العلل الأربعة) ولكن الفارابي كان يعتقد في كتابه أنه لا فرق وحاول أن يوفق بين الفيلسوفين وقدم مجموعة من الأدلة ليقول أن هؤلاء كشفا الحقيقة وكل من جاء بعدهما يجب أن يحذو حذوهما.
نظريته الخاصة بالوجود
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
” ”فما الدار دار خـلـود لنا ولا المرء في الأرض بالمعجز“ “
—أبو نصر محمد الفارابي
ترجمه لاتينية لـ كتاب “إحصاء العلوم” ترجمة جيراردو الكريموني.
نظريته في الوجود، وهنا تبدو النظرية التي تسمى بالصدور والفيض وهي أبرز ما يميز الفارابي فهو يميز بين نوعين من الموجودات:
الموجود الممكن الوجود
الموجود الواجب الوجود
هنالك موجودات ممكنة الوجود كثيرة، لكن موجود واحد واجب الوجود. الموجود الممكن الوجود: الموجود الذي متى فُرِض موجودا أو غير موجود لم يعرض منه محال. يعني وجوده أو عدم وجوده ليس هناك ما يمنع ذلك. لكن إذا وجدت لابد لها من علة وكل الموجودات التي تحقق وجودها حوادث. الموجود الواجب الوجود: الموجود الذي متى فرضناه غير موجود عرض منه (الهاء تعود على الفرض) محال. يعني لا يمكن إلا أن يكون موجودا وهو في المصطلح الديني (الله) فنحن لا يمكن أن نقول الله ليس موجود؛ لأنه لا يمكن لنا أن نقول بعد أن قلنا الله ليس موجود كيف وجد العالم. (مؤيس الأيسات عن ليس) تعني موجود الموجودات من العدم (أليس أي أوجد). س/ لا نستطيع أن نفهم كيف وجدت الموجودات الممكنة عن واجب الوجود؟ وكان جواب الكندي هو (مؤيس…..) أما الفارابي يقول أن واجب الوجود طبيعته عقل محض واحد من كل الجهات جوهر عقل محض يعقل ذاته وموضوع تعقله هو ذاته، خلافا لنا نعقل ذاتنا ونعقل أيضا الموجودات الطبيعية ولكن واجب الوجود عند الفارابي يعقل ذاته فقط ويقول الفارابي أنه من تعقله لذاته يفيض عنه عقل أول، يكفي أن يعقل واجب الوجود ذاته حتى يصدر عنه عقل أول أي فعل التعقل فعل مبدع يصدر على سبيل الضرورة لا الإرادة والقصد. يصدر عقل من تعقله لما فوقه يصدر عقل آخر ومن تعقله لذاته يصدر فلك..إلخ العقل الأخير هو العقل الفعال والفلك الخاص به فلك القمر.
المصادر والمراجع
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
[1]– محمد آيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، ص 27.
[2]– أحمد العلمي حمدان، الكلام كجنس، دراسة لذاتيات الكلام من زوايا ومباحث متعددة، منشورات ما بعد الحداثة، ط1، 2007م، ص 10.
[3]– عزمي طه، سيد أحمد الدين والإيديولوجيا في الفكر السياسي للفارابي، دار المسار، الأردن، 2002م، ص 15.
[4]– عبد الله الطني، معجم الفلسفة الفارابية، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، تحت إشراف الدكتور: طه عبد الرحمن، السنة الجامعية 2003م- 2002م، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، ص 180.
[5]– أبو نصر الفارابي، كتاب الملة، نصوص أخرى، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط2، 1991م، ص 43.
[6]– محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ترجمة: وداد حاج حسن، دار الفارابي، 2009م، ص 142.
[11]– صالح مصباح، مسألة الملة عند الفارابي، ضمن دراسات حول الفارابي، جامعة صفاقس تونس، 1995م، ص 190.
[15]– محمد آيت حمو، الدين والسياسة عند الفارابي، دار التنوير، بيروت، ط1، 2011م، ص 31.
[20]– محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية، ص 155.
[22]– محمد عابد الجابري، نحن والتراث مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006م، ص ص 118-119.
[23]– صالح مصباح، مسألة الملة عند الفارابي، ص 199.
[24] – محمد آيت حمو، الدين والسياسة عند الفارابي، ص 75.
[25] – محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية، ص 107.
[26] – محمد آيت حمو، م س، ص 75.
[27] – أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، ص 90.