حين ترحل الفلسفة، أو تُنفى، يتبعها العقلُ تلقائياً، مثلما تغيب الشمسُ فيلحقها النورُ والظل ويغرق هذا الجزء من الكرة الأرضية أو ذاك في الظلام. ومن دون تدبير وتخطيط تقيم الخرافاتُ والأساطير، وتستعيد مجدها مخلفاتُ العصور البدائية؛ السحر والتعاويذ والتمائم، وتستوطن وتمدّ جذورها. هذا هو ما حدث منذ عهد تكاد تنساه ذاكرة الثقافة العربية على رغم أنها تعيش تبعاته حتى هذه اللحظة. ولكن، مثلما أن غياب الشمس عن نصف الكرة يعني إشراقها على النصف الآخر، ولا يعني أنها ستنطفئ أو تغرق في البحر، كذلك هو رحيل الفلسفة والعقل؛ حيث يرحلان عن بلاد ليشرقا في بلاد أخرى.
رمز هذا الحدث الإنساني/ الطبيعي، كما يروي الناقد المعاصر عبد الفتاح كيليطو، كان ترحيل جثمان الفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126م 1198م) من أرض منفاه إلى الأندلس أرض مولده.
وضع من أشرفوا على الترحيل، جثمان ابن رشد في خرج على جانب من جوانب الدابة التي حملته، وكدسوا في خرج على الجانب الآخر مجموعة من تصانيفه وكتبه المشهورة، التي ستبدأ رحلتها إلى الغرب اللاتيني، أو ستواصل حياتها ومعها ابن رشد، مثلما واصل قبل ذلك ابن سينا صاحب كتاب «الشفاء» الطبي حياته سنوات عديدة بعد وفاته، أي حين ظل كتابه أداة لعلاج وشفاء المرضى، كما يرى الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو (1940م- 2015).
ويرى الكاتب العربي، كيليطو، في هذا الترحيل، بمعناه الجسدي/ الرمزي، ترحيلاً لنهج في التوفيق بين الفلسفة (الحكمة) والشريعة في أحد جوانبه، وهي القضية التي اكتسبت في تاريخ الفكر العربي/ الإسلامي صدارة غير مسبوقة، فمن قائل إنها محاولة «تلفيق»، ومن قائل إنها محاولة «توفيق»، ومن رافض للمحاولتين، قديماً وحديثاً، وحامل حملة شعواء على القائلين بهما.
في جانب آخر، يعني ترحيل هذا الفيلسوف الذي كان قد أبعد عن قرطبة قسراً، ولوحقت كتبه وتعرضت للحرق؛ بسبب تهم ملفقة وجهها إليه ندماء بلاط الموحدي أبي يعقوب يوسف في قرطبة، ترحيلاً لصاحب البرهان العقلي، أو شارح منطق أرسطو، والمدافع عن آرائه بلا انحراف. أو بكلمة مختصرة، ترحيلاً للحكمة العليا ومنح إقامة دائمة للحكمة الجدلية والخطابية والمغالطية، أي كل ما يكاد يصبح من أساسيات تفكير العربي منذ غياب شمس حضارته حتى الزمن الراهن، وهو ما بدأت أوروبا اللاتينية بإلقائه جانباً حين تعرفت إلى ابن رشد، ومنجزات الحضارة التي أنتجته، وعن طريقه تعرفت إلى أرسطو وأثينا في عصر نهضتها خلال القرن الخامس عشر وما تلاه.
لم يكن ابن رشد حين رحّله قومه جسداً وروحاً، واحتفى به الأوربيون، توفيقياً إذاً، بقدر ما كان أرسطياً، أي أنهم أخذوا الجانب الجوهري في فلسفته، وسيكون على العرب الذي عادوا وتعرفوا إليه في القرن العشرين، أخذ جانب آخر؛ منهجه، المنهج الخاص بواحدة من المعضلات التي لم تجد لها أي حل إلا في الثقافة العربية/ الإسلامية كما يقول د.محمد عمارة، في إشارة إلى كتابه الصغير «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
في هذا الكتاب الصغير استهدف ابن رشد الإجابة عن أسئلة حساسة، مثل هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعاً، أم محظور؟ أو هو مأمورٌ به؟ وبهذا المعنى تناول غرضاً استدعته ظروف القرن الثاني عشر الميلادي في الأندلس. وبسبب مجرد التفكير في إيجاد أجوبة تنسجم مع العقل والتطور المعرفي، تم إبعاد ابن رشد عن قرطبة مع عدد من العلماء والفلاسفة في البداية، قبل أن ينفى إلى المغرب؛ حيث أحرقت كتبه وسائر كتب الفلسفة، وحظر النظر فيها من قبل الجمهور وطالبي العلم على حد سواء.
ويبدو أن محاولة الفيلسوف في كتابه «فصل المقال..» جعلته هدفاً للمتعيشين في بلاط الموحدين الذين لفقوا له تهم الكفر والإلحاد، ولحقهم العوام، تماماً مثلما حدث قبل ذلك في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مع الفيلسوف أبو الحسن العامري (913م- 992م) في المشرق. فعد أعداء التفكير العقلاني محاولته، ومحاولات من سبقه، في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، تحايلاً هدفه هدم سلطة الشريعة. ويذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» (922-1023) أن العامري «ظل مطروداً من صقع إلى صقع، ينذر دمه، ويترصد قتله، فمرة يتحصن بفناء ابن العميد، ومرة يلجأ إلى صاحب الجيش في نيسابور، ومرة يتقرب إلى العامة بكتب يصنفها في نصرة الإسلام».
هل كان ابن رشد متقرباً من العامة؟ وهل كانت محاولته في كتابه نشداناً للسلامة؟
إذا تركنا جانباً هذا الوصف الذي وصف به التوحيدي حالة العامري، وعممه على كل الفلاسفة والمتحدثين حديث المناطقة، نجد أن كتاب ابن رشد كان تعبيراً عن منحى فكري جاد، يبدأه بمحاكمة عقلية. فعل الفلسفة لديه ليس أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. الموجودات كما يرى تدل على الصانع بمعرفة صنعتها. وكلما كانت هذه المعرفة أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم.
ويضيف دليلاً آخر، فالشرع ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك، ودعا إلى اعتبارها بالعقل، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم، ليتوصل إلى أن الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه. وهذا هو القياس. وعلينا أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، وأتم أنواعه البرهان.
ومن هذه المقدمة، يتدرج ابن رشد إلى القول إن «المعرفة العقلية ضرورية شرعاً» ويتلو ذلك «أن المعرفة الأكمل تتم عن طريق البرهان»، ليصل إلى استنتاج أن معرفة البرهان وقياساته وأنواعه ضرورية.
- *
وبالوصول إلى هذه النتيجة، يعرفنا بأنواع القياسات، وهي القياس البرهاني، والقياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي. ولا يمكن معرفة الاختلاف بين هذه القياسات، ولا الأخذ بالقياس الصحيح وطرح القياس الفاسد، إلا بعد معرفة القياس المطلق وأنواعه، وما هو صالح كقياس وما هو غير صالح. أي أنه يصل من مقدماته إلى نتيجة واضحة هي ضرورة المنطق، أو الفلسفة بعمومها، الذي هو عدة الشغل بأبسط معنى.
ستعني هذه النتيجة عدة أشياء في وقت واحد معاً: تكامل المعرفة بين متقدم ومتأخر بالمفهوم الشائع، أي أن المعرفة تراكمية، وأن استخدام الأداة البرهانية (القياس البرهاني) تعني براءة المعرفة من أي انحياز أيديولوجي، كما قد يقول قائل اليوم، وأخيراً، إذا كان غيرنا قد بحث في هذا الأمر، فمن الواضح أنه يجب أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك.
هنا تتجلى نظرة ابن رشد الإنسانية، ونزعته المعرفية الخالصة، حين يعد البحث في الحكمة (الفلسفة) تراثاً مشتركاً بين الأمم والديانات.
ويرى أن شرط الأخذ بآلة من الآلات صحّتها بذاتها، لا بصاحبها أو قومها.
وكون غيرنا يشاركنا في الملة أو غير مشارك لا أهمية له إذا توفرت في الآلة شروط الصحة. يقول حرفياً «أعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.. وينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه، فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا إليه».
في سياق نهجه هذا ينبه ابن رشد إلى واقع تطور المعارف والعلوم، تلك التي يقول إن المتأخر يستعين بالمتقدم في فحصها، على مثال ما يعرض في علوم التعاليم (الرياضيات)، لأن إنساناً واحداً لا يستطيع اختراع المعرفة دفعة واحدة، حتى لو كان أذكى الناس، وهذا الأمر واضح، ليس في الصنائع العلمية فقط؛ بل وفي الصنائع العملية.
بعد كل هذا، والأوضح من كل هذا، أننا بحاجة إلى استعادة منهج ابن رشد، ذاك الذي، في ظل الظلام السائد، يتقدم علينا سنوات طويلة. وسيعني هذا استعادة الفلسفة التي وضعت في خرج ورُحلت، وسيعني، وهذا هو الهدف، استعادة العقل الذي انحسر ظله وذهب معها.