- تصور الفارابي للسعادة ( 874 – 950 ):
في مستهل كتابه “تحصيل السعادة“ يتحدث "الفارابي" عن الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وأهل المدن، حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، أربعة أجناس : الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية . وغني عن البيان، أن الفارابي ينظر إلى السعادة، ليس في بعدها الفردي أو بالأدق السعادة الشخصية، وإنما الأمر يتجاوز ذلك إلى السعادة الجماعية التي تعلى بأهل المدن. فإذا كانت الفضائل النظرية هي مختلف العلوم التي يكون الغرض الأقصى منها أن تحصل الموجودات، وهذه العلوم منها ما يحصل للإنسان بشكل فطري، ومنها ما يحصل بتأمل ويأتي نتيجة فحص واستنباط، اعتمادا على التعليم والتعلم. فإن الغرض من ورائها هي التمكن من معرفة الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كون الإنسان، ومعرفة كذلك المبادئ الطبيعية التي في الإنسان. وبما أن الفضائل النظرية لوحدها غير قادرة على تحقيق كمال الإنسان، فإن محتاج إلى مبادئ نطقية وعقلية يتم بموجبها تحقيق كماله،انطلاقا من ميزة العقل التي تخول للإنسان التميز بين ما هو حق وما هو باطل، الخير والشر... وبالتالي التميز بين جميع الأشياء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال إذ ينتفع في بلوغها؛ وهي الخيرات والفضائل والحسنات ويميزها عن الأشياء التي تعوق الإنسان في بلوغ ذلك الكمال؛ وهي الشرور والنقائص والسيئات. وقد سلمنا سابقا، بأن الفارابي يبحث في الأشياء التي بها تنال السعادة لأهل المدن والاجتماع، كل واحد بمقدار ما له أعد بالفطرة. ويتبين له أن الاجتماع المدني، والجملة التي تحصل من اجتماع المدنيين في المدن، شبيه باجتماع الأجسام في جملة العالم ويتبين له أيضا في جملة ما تشمل عليه المدينة والأمة نظائر ما تشمل عليه جملة العالم. وفي هذا الصدد نجد "الفارابي" يقر بأن المعقولات الإرادية أو لنقول الأفكار الإرادية توجد في الروح في حين أن الأفكار الطبيعية التي تنتمي إلى علم المبادئ توجد في الجسد، وبالتالي السعادة غاية في ذاتها، ما دامت تطلب لذاتها بعيدا عن أية مصلحة حيث السعادة في نظره لا ترتبط بالبدن وليست إشباعا للذة بدنية، لأن هذا الإشباع هو فعل مشترك مع الحيوان لذا يصبح الفعل العقلي التأملي هو ما يميز الإنسان ، فالسعادة لا ترتبط بعالم الحس والجسد إنها لذة عقلية، لكن السؤال الأساس عند الفارابي هو كيف تحصل هذه السعادة، ما دامت غير متوفرة في عالم الحس والإحساس، لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك هو ما يعني أن تحصيل السعادة فعل مشروط بعملية عقلية تأملية تحترس من الجسد وتتجاوز رغباته.</code></pre>وهو ما يعني ممارسة فعل التفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق لأن السعادة، لا تحصل إلا بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ ، لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة ، وهي التي تحصل لنا بجودة التميز وكانت جودة التميز إنما تحصل بقوة الذهن على تحصيل الصواب وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق فنعتقده ونقف بها على الباطل فنتجنبه، بهذا تصبح السعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمل به،و بواسطته يستطيع الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة، فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأن ممارسة فعل التأمل والتفكير يعني لحظة خاصة في حياة الفيلسوف ، لحظة الخروج من عالم الحس ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتصل بالعقل الفعال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي، وهو ما يعني مكانة الفيلسوف الوسائطية، بين عالم السماء وعالم الأرض، بذلك تصبح مهمته تنويرية في الوقت ذاته. أي أن السعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكل ما يعوق الوصول إليها هو شر مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوة الناطقة العملية أو القوة النزوعية أو القوة المتخيلة أو القوة الحساسة.
السعادة إنما تنال بالأشياء الجميلة وهذه الأخيرة لا تصبر ممكنة إلا بصناعة الفلسفة والتي تحصل بجودة التمييز وقوة الإدراك الذي من خلاله نميز بين الحق والباطل وبالصناعة التي تعنينا على ذلك هي صناعة المنطق الذي تقف عند الحق فتعتنقه ويقف عند الباطل فنتجنبه وبذلك تكون الفلسفة حسب الفارابي هي السبيل الوحيد لنيل السعادة باعتبارها أعظم الخيرات وأكمل الغابات التي يتشوق لها إنسان. وربما هذا التقسيم بين النفس والجسد راجع إلى الأدبيات الأفلاطونية، في خضم حديثه عن ثنائية النفس والجسد، في فلسفته الأخلاقية عندما أقر بأن الإنسان عليه أن يكون زاهدا بمطالب الجسد، لا بل عليه أن يقمعها ويتجاوزها ليحقق إنسانيته الفاضلة عن طريق الحكمة، والشوق الدائم إلى الاتصال بالحقائق الأزلية في عالم المثل حيث وجود النفس.
ويؤكد على أن كل إنسان محتاج لتدبير قوامهم وبلوغ أفضل كمالاته إلى جماعة يقوم كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه فلا يمكن للإنسان أن ينال كماله وسعادته إلا بالاجتماع بجماعة يسودها التعاون والتآزر يسمى الفارابي هذا النوع من الاجتماع الذي يتعاون على نيل السعادة “الاجتماع الفاضل” أما الجماعة التي يقصد الاجتماع فيها التعاون للظفر بالسعادة “المدينة الفاضلة” فهي بمثابة الجسد من جسم الإنسان الذي يتكون من أعضاء مختلفة تتعاون على حفظ توازن الجسد و بقاءه، فكذلك الشأن بالنسبة للجماعة التي لا غنى لأعضاء ها عن التعاون والتآزر لنيل السعادة ولكي تكون هذه الجماعة فاضلة لا بد أن يقودها حاكم فاضل يجمع بين فضيلتي الحكمة والشريعة. وكما هو الشأن بالنسبة للفضائل النظرية، فإن الفضائل العقلية تستنبط ما هو أنفع وأجمل باعتباره غاية قصوى عن طريق التعليم والتعلم. وبخصوص الفضيلة الخلقية، فهي مرتبطة بالفعل والممارسة ،التي تكتسي صبغة خلقية كالشجاعة والقوة عند المجاهدين، وكذا سائر الصنائع التي تتغي غرض يهدف إلى كل ما هو خير، ويميز الفارابي بين الفضائل التي هي أعظم قوة، والجزيئات التي هي أصغرها قوة . فالفضيلة الفكرية التي هي أعظمها قوة والفضيلة الخلقية التي هي أعظمها قوة لا يفارق بعضها بعضا. وأن الفضيلة الفكرية الرئيسة جدا لا يمكن إلا أن تكون تابعة للفضيلة النظرية، وإذا اختلت إحدى هذه الفضائل فهي تؤثر لا محالة عن بقية الفضائل،ومنه عدم تحقيق الغاية القصوى وكمال الإنسان.
علاوة عن كون السعادة، هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود،إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة...وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام في جملة الجواهر المفارقة للمواد وأن تبقى على ذلك الحال دائما وأبدا، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال...وإنما تبلغ ذلك بأفعال لا إرادية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية... وليست بأي أفعال اتفقت بل بأفعال محدودة... وذلك أن الأفعال الإرادية ما يفوق عن السعادة. وغني عن القول، بأن الأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه خيرات هي لا لأجل ذواتها بل هي خيرات لأجل السعادة، والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور وهي الأفعال القبيحة والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل.
وعموما، يمكن القول على أن السعادة عند "الفارابي" هي “ الخير المطلوب لذاته وليست تطلب أصلا، ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيئا آخر... وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها’’.
الاستنتاج من البحث
ا بخصوص الفارابي فهو لا يبتعد كثيرا عن الفكر الأرسطي، حيث عمل على جعل السعادة غاية تطلب لذاتها لا لشيء آخر غيرها، ويؤكد عن علاقة السعادة بالفضائل الأربعة من نظرية وفكرية مرورا بالخلقية فالصناعات العملية. وإذا كان الإنسان لا يولد سعيدا وإنما يصبح كذلك،فإن هاته السعادة لا تتحقق إلا في ظل وجود فكر تأملي. يسعى إلى إسعاد نفسه كما أهله وهذا ما يتضح من التشبيه الذي أقامه الفارابي بين الجسم والمدينة، كما أقر على أن السعادة لا ترتبط بسعادة البدن، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى سعادة العقل والفكر، التي لا تتأتى إلا بالتحصيل العلمي والمعرفي.ومن خلال كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لصاحبه “ابن مسكويه”، يتضح على أن هذا الأخير يقيم علاقة بين الأخلاق والتربية متوخيا من وراء ذلك الوصول إلى تربية خلقية، نتيجة التعلم والاكتساب وفق أسس وضوابط تربوية دقيقة ومضبوطة . ويرى أن الأخلاق لا تحصل بشكل إنفرادي، بقدر ما تحصل داخل الاجتماع الإنساني حتى تصل إلى مرتبة الأخلاق الفاضلة. ناهيك عن تقسمه للنفس الإنسانية إلى نفس عاقلة وغضبية وشهوانية، فإذا كانت العاقلة صفة بشرية والشهوانية صفة حيوانية،فإن الغضبية تتوسطهما.