مدرستي الحلوة
ونحن نرى هذا الدخول المدرسي الذي لا طعم ولا لون له بسبب الجائحة لا يسعنا سوى أن نتأسف لحال هذا الجيل الذي وجد نفسه بين مطرقة الفيروس وسندان التخبط الحكومي. وأن نخشى على أنفسنا وعلى المستقبل من مصير الجيل الذي سيأتي بعد هذا، والذي سيجد أن المدرسة العمومية بصيغتها التقليدية أصبحت حفرية من الحفريات الجديرة بالمتاحف.
مع كل ما يحدث كثيرون سيشدهم الحنين إلى مدارسهم القديمة وهم يرون أبناءهم حائرين بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد. سيتذكرون فرحة العودة إلى القسم، وحماسهم الطفولي للتعرف على المعلم الجديد الذي ترسله لهم الوزارة لكي يعلمهم الحساب والإنشاء والمحفوظات والدين.
كثيرون يتذكرون أن الدراسة في تلك السنوات البعيدة لم تكن تحتاج إلى كتب ومقررات ودفاتر كثيرة ولا ألواح آيباد ولا واتساب، بل فقط إلى كناش من فئة خمسين ورقة وتلاوة «اقرأ» وريشة ومنشفة.
أما المداد فكان المعلم هو الذي يتكفل بتوزيعه على محابرنا التي توجد في مقدمة طاولاتنا الخشبية.
كثيرون سيتذكرون تلاوة «بوكماخ» و«عنزة السيد سوغان» و«باليماكو» وهو يتسلق النخلة. كثيرون سيتذكرون نصوصا موشومة في الذاكرة كـ«الثرثار ومحب الاختصار» و«البدوية والمصباح» و«زوزو يصطاد السمك» و«الشمعة والفانوس» و«سلمى في المخيم».
في تلك السنوات البعيدة كانت للمعلمين وسيلة إيضاح أساسية يستعينون بها على شرح دروسهم، وهي العصا. كانوا يضعونها فوق المكتب، وكان معلمنا من شدة حبه لها يسميها «مسعودة»، ويقول ساخرا لكل من يتعثر في شكل قطعة في السبورة أو ينسيه الشيطان آية قرآنية، وهو يلوح بالعصا، «مسعودة تحيد البرودة».
وفعلا فقد كانت «مسعودة» تزيل البرودة عن أرجلنا الصغيرة المتجمدة من البرد، فتصبح حمراء وساخنة، حتى أنه من فرط الضرب كان بيننا من يعجز عن إدخال قدميه في حذائه بسبب انتفاخهما، فيحمل حذاءه في يده ويغادر إلى بيته متكئا على أكتاف زملائه، كمعطوب حرب عائد من الجبهة عوض القسم.
وكم تغيرت الأزمنة اليوم كثيرا، فيكفي اليوم أن يعود الطفل منكسر الخاطر من المدرسة حتى تثور ثائرة والديه ويقصدان المدرسة لكي يصبا غضبهما على المعلم والمدير. أما في زمن مضى فقد كان الطفل يعود إلى البيت من المدرسة وهو لا يستطيع حتى المشي على قدميه من شدة الفلقة، وعندما يقترب من باب البيت يستقيم في مشيته وكأن لا شيء حدث، لأنه يعرف أن والديه إذا تناهى إلى علمهما أنه تعرض للسلخ في القسم، فإنهما سيكرمانه بسلخة إضافية، جزاء له على تكاسله. فالمعلم دائما على صواب.
الواقع أن الزمن الذهبي للتعليم في المغرب انتهى منذ سنوات. كنا نردد النشيد الوطني أمام الراية في الساحة كل صباح قبل أن ندخل أقسامنا الباردة، وفي المساء نردد نشيد «مدرستي الحلوة» قبل أن نغادر القسم ونتراكل في الساحة قليلا مثل بغال صغيرة أطلق سراحها بعد يوم عمل شاق، ثم نذهب إلى بيوتنا لمتابعة «سكوبيدو».
حتى الأقسام كانت لديها مسحة خاصة، غير تلك المسحة الكئيبة التي توجد عليها أقسام اليوم، والآن تحضرني كل التفاصيل التي كانت تزين القسم، صورة الجزار الذي يعلق أمام دكانه خرفانا مذبوحة ويتبسم بشارب أسود كث. صورة الصياد الذي يصوب بندقية صيده نحو سرب من البط بينما كلبه يستعد للجري وراء البطة التي ستصيبها الطلقة وتسقط في البحيرة الجامدة في الصورة إلى الأبد. صورة النجار وهو يقطع الألواح الخشبية. الكؤوس التي نضع داخلها حبات الحمص والعدس والفاصولياء ونتركها في شرفة القسم لكي ندرسها في مادة الأشياء. الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بها المعلم معنا إلى المعلمة التي كانت في الدور العلوي، والتي عرفنا في ما بعد أنها كانت رسائل غرام وأننا كنا سعاة بريد اشتغلنا في قصة حب طيلة السنة بالمجان.
عندما كان يقترب فصل الشتاء يأتي ممرضون من المستشفى وينشبون في أذرعنا تلك الحقن التي تتبرع بها علينا منظمة الصحة العالمية حتى لا ننقرض، والتي ما زال جيل بأسره يحمل آثارها إلى الآن، حتى أصبحت هذه الجلبة بطاقة هويتنا الحقيقية التي تفضحنا عندما يلقى على أحد مهاجرينا السريين القبض في بلدان الجيران.
وعندما كانت تشارف السنة على الانتهاء يأتي ممرضون آخرون يفرغون أنابيب «البوماضا» في عيوننا التي يوشك العمش على إغلاقها، فنخرج إلى الساحة ونقول للفوج الذي سيدخل بعدنا شامتين، «دخلو تبزق عليكم الدجاجة».
ومن الأشياء التي لم يعد لها وجود الآن في نظامنا التعليمي، ذلك التوقيت الذي كان يجبرنا على الدخول إلى القسم في الساعة السابعة صباحا والخروج في الساعة العاشرة. وطبعا كان أغلبنا يأتي من دون إفطار، والمحظوظون يكون عندهم ريالان لكي يشتروا بها «شفنجة» ساخنة في الطريق إلى القسم.
وأذكر أنني مع كثيرين كنت ضمن هذا الفوج الذي يدخل باكرا، ولكي أستيقظ في الموعد كنت أضع مذياعا تحت وسادتي وأتركه مشغلا طيلة الليل. وعندما يبدأ المرحوم المكي الناصري تفسيره لسور من القرآن الكريم، أعرف أن الفجر سيعلن عن نفسه بعد قليل. فأسبح مع المكي الناصري في تفسيره العجيب للقرآن وأتخيل قوم نوح الذين عذبهم الله وأتصور الجنة وما فيها من فواكه ووديان، والنار وما فيها من أفاعي وأشجار كأنها رؤوس الشياطين، ولا أعود إلى الأرض إلا عندما تبدأ نشرة الأخبار، التي حفظتها لكثرة ما سمعتها كل صباح.
آنذاك فقط يكون علي أن أغادر البيت باتجاه المدرسة بعدما ألبس السلهام الذي اشتراه لي جدي وحذاء «الجيمس» الذي كلفني شهرا من استعطاف أمي، والسروال الذي وصلني بعدما انتظرت دوري طويلا حتى يصبح صغيرا على من هو أكبر مني.
ومع كل ذلك كان التلاميذ يصلون إلى القسم، جائعين ومبللين، بمجرد ما ينقطع أحدهم عن السعال حتى يبدأ الآخر. مئات الآلاف درسوا هكذا، بأدوات قليلة جدا وبثياب رثة وتغذية شبه سيئة واستطاعوا الصمود بفضل حقن ورغيف المنظمات الإنسانية. وفي الأخير ثبت أن هذه الأجيال استطاعت أن تنجب أطرا وأدمغة تنتشر الآن في جميع جهات الكرة الأرضية.
بينما الآن أصبح التلاميذ مع كل هذه الكتب والمقررات المليئة بالأغلاط التي يحملونها فوق ظهورهم لا يعرفون ماذا يحفظون وماذا يتركون. ولذلك نزل مستوى التعليم إلى الحضيض وطلع مستوى مداخيل ناشري الكتب المدرسية وأرباح أصحاب مدارس التعليم الخصوصي إلى السماء، فمصائب قوم عند قوم فوائد.
رشيد نيني