المثالية المتعالية (بالإنجليزية: Transcendental idealism) عقيدة فلسفية أسسها الفيلسوف الألماني عمانويل كانت في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث برز مذهب كانط في كتابه نقد العقل المحض الذي تم نشره عام 1781، فيعتقد كانط بأن الشخص الواعي لا يُدرك الأشياء في حد ذاتها، ولكن من خلال ظهورها حسب ما ندركها بحواسنا، وبالتالي يُقيد كانط إدراكنا للمظاهر من خلال حواسنا فقط. لا نمتلك أي قدرة على إدراك الأشياء كما هي في حد ذاتها، أي استحالة إدراكنا للأشياء كما لو أنها مستقلة عننا ولا تتداخل مع معرفتنا. فالروابط التي تربط الظواهر مع بعضها مثل المكان والزمان والسببية ليس لها وجود خارج كيانتنا المعرفية وليست منفصلة عن الظواهر المحيطة بنا، فهذه الروابط تعتمد في وجودها على العقل الكلي وتنشأ من خلاله. فعقيدة كانط يتم تلخيصها على اعتمادها على فكرة أن الزمان والمكان والسببية ليست كيانات موجودة بشكل مستقل، ولكنها الروابط العقلية اللازمة للتداخل مع الظواهر والعالم المحيطخلفية عامة
(الكانطية الجديدة)
من المغامرة القول بأن المشروع الترانسنتدالي الكانطي قد تحول برمته الي أرشيف تاريخ الفلسفة , كما ليس من السهولة الذهاب الي ان النقد الكانطي الذي كون اقسي محاكمة للعقل الخالص قد أنهار لمجرد حلول النظريات اللانيويوتنية محل الفيزياء النيوتونية والهندسات اللااقليدية محل هندسة اقليدس (وإن كان الامر لا يخلو من هذا وذاك)
لهذا دعي لفيف من العلماء في (شتوتجارت * الي العودة الي كانط بعد ان اعمل المعول (الهيغيلي ) في جسم البناء الكانطي ذلك ان فلسفة هيغل برمتها قامت علي انقاض النقد الكانطي فاذا كان كانط قد انتهي الي ان الكليات منطقة محرمة علي العقل المجرد اذ لا يستطيع ان يكون عنها افكار تركيبية بديهية كما يفعل في العلم الرياضي والطبيعي فان هذا ذات ما اراد ان يثبت عكسه هيغل من خلال الديالكتيك الذي يبدأ من العقل المجرد.
ان سقوط نظرية ( الزمان والمكان المطلقيين) الذي بناهما كانط علي منوال الفيزياء النيوتونية والهندسة الاقليدية لا يمس جوهر النقد الكانطي الذي رصف الطريق لمدارس معاصرة في النقد في مقدمتها (مدرسة فرانكفورت التي انتهت بيورجين هابرماس وكتابه في (العقل الاتصالي ) الذي جاء بطريقة او بأخري قراءة ثانية ل ( نقد العقل المجرد) عند كانط.
لقد جاءت فلسفة كانط شاملة لنظريتي ليبنتز ونيوتن و كان النقد اشد واعنف بالنسبة إلى ليبنتس، لان نظريته كانت هي السائدة في المدرسة الالمانية المعاصرة له أنذاك.
يقول “كانط” ان المكان والزمان ليسا تصورين، بل هما صورتان .الزمان والمكان تصورات اولية، الا وهي “المقولات” الاثني عشر التي يستخلصها “كانط” “كانت” من اشكال القياس. وتقسم المقولات إلى اربع مجموعات كل منها إلى ثلاث: (1) لكم: الوحدة، التعدد، والمجموع الكلي (2) الكيف: الواقع، النفي، التقييد (3) العلاقة: الجوهر والعرض، والعلة والمعلول، التبادل (4) الضرب: الامكان، الوجود، الضرورة. فهذه ذاتية بالمعنى الذي يكون المكان والزمان، يعني هذ القول بان تكويننا العقلي يكون بحيث تكون قابلة للتطبيق على الاشياء في ذاتها، ومع ذلك، ففيما يختص بالعلة ثمة تضارب، وذلك ان الاشياء في ذاتها، يعتبرها “كانت” عللا للاحساسات، والارادات الحرة هي في تقديره علل للاحداث في الزمان. هذا التضارب لم يكن سهوا غير مقصود، بل هو جزء يكشف المغالطات الناجمة عن تطبيق الزمان والمكان أو المقولات على الاشياء التي لم تجرب. وعندما يتم ذلك نجد انفسنا ازاء متاعب “النقائض” (هذا ما يؤكده كانت) ويقدم لنا كانت اربعا من هذه النقائق، كلا منها يتألف من قضية ونقيضها.
ففي القضية الاولى تقول “القضية”: للعالم بداية في الزمان، وهو ايضا محدود من حيث المكان. “ونقيض القضية”: ليس للعالم بداية في الزمان، وليست له حدود في المكان فهو لا متناه من حيث الزمان والمكان.
وفي النقيضة الثانية يثبت ان كل جوهر مركب، فهو مؤلف من اجزاء بسيطة وهو غير مؤلف منها على حد سواء.
وفي النقيضة الثالثة يؤكد ان ثمة نوعين من العلية، احدهما بمقتضى قوانين الطبيعة والنوع الاخر هو علية الحرية، وفي نقيضها يؤكد ان ثمة فقط علية بمقتضى قوانين الطبيعة.
وفي النقيضة الرابعة تثبت ان هناك، وان ليس هناك، موجود ضروري ضرورة مطلقة.
هذا الجزء من النقد، كان له نفوذ كبير على هيجل (1770-1831) الذي يسير جدله سيرا تاما على طريقة النقائض
لقد كانت اهم جزء في كتاب “نقد العقل الخالص” هو نظرية المكان والزمان،
وليس من السهل ان نشرح نظرية “كانت” في المكان والزمان شرحا واضحا، فقد سيقت في كل من كتاب “نقد العقل الخالص” و”المقدمات”.
ياخذ “كانت” كانط بان الموضوعات المباشرة للادراك تعزى في جزء منها للاشياء الخارجية، وفي الجزء الاخر إلى جهازنا الادراكي، ويجعل الكيفيات كيفيات ذاتية، و “كانط” لا يضع موضع التساؤل ان تكون لاحساساتنا علل، يدعوها “الاشياء بالذات” أو “النومينا”، فان ما يظهر لنا في الادراك، وهو الذي يدعوه “ظاهرة” يتألف من جزئين: جزء يعزى للموضوع، وهو الذي يدعوه “الاحساس”، وجزء يعزى إلى جهازنا الذاتي وهو الذي يجعل المتعدد ينتظم في علاقات معينة ويدعوه، صورة الظاهرة. هذا الجزء ليس هو نفسه احساسا، ومن ثم فهو لا يعتمد على ما تحدثه البيئة، فهو دائما، ما دمنا نحمله معنا، وهو اولى بمعنى انه لا يعتمد على التجربة. وتسمى الصورة الخالصة لحساسية “حدسا خالصا” (Anschawing). هناك اذن صورتان من هذا القبيل، اعني المكان والزمان، احداهما للحس الخارجي، والاخرى للحس الداخلي.
وعند “كانط” فئتان من الحجج لاثبات ان الزمان والمكان صورتان اوليتان، احداهما ميتافزيقية والاخرى ابستيمولوجية. والفئة الاولى من الحجج قد اخذت مباشرة من طبيعة المكان والزمان ام الفئة الاخرى فاخذت بطريق غير مباشر من امكانية الرياضيات البحتة، والحجج عن المكان بسطت بافاضة اكبر مما بسطت به الحجج عن الزمان، اذ قد ظن ان الزمان مماثل للمكان في الجوهر. ).
نبدأ بان نعرض المميزات الرئيسية لفكرة الزمان عند “كانت” فنقول ان كانت في عرضه لهذه الفكرة قد قسم هذا العرض إلى قسمين: عرض ميتافيزيقي، واخر متعال. والفارق بين العرض الميتافيزيقي والعرض المتعالي.
ان الاول يحلل الفكرة أو الامتثال في ذاته، أي بما هو مضمونه، مبينا بهذا التحليل ان هذا الامتثال ليس مستعارا أو متوقفا على التجربة، بل هو قبلي.
اما العرض المتعالي فنبينه كمبدأ على ضوئه يمكن ان نفهم امكان معارف تركيبية قبلية اخرى، أي انه يبين ان ثمة معارف اخرى مركبة تؤخذ من الامتثال، وان مثل هذه المعرفة ليست ممكنة الا إذا شرح الامتثال على نحو خاص، أي على انه قبلي.
اما العرض الميتافيزيقي فيتضمن خمس حجج يمكن ان تقسم إلى قسمين: الاول يبرهن فيه على ان الزمان ليس امتثالا تجريبيا، بل هو قبلي. والثاني يبرهن على ان الزمان عيان، وليس تصورا.
الحجة الاولى تقول ان الزمان ليس تصورا تجريبيا، أي امتثالا اخذ عن اية تجربة. وهذه الحجة تتضمن امرين: الاول ان الاختلاف الزمني لا يمكن ان يرد إلى اختلاف في الكيف، بل هو اختلاف من نوع خاص به، يشترط وجود الزمان شيئا قبليا.والثاني ان الزمان ليس تجريدا من التجربة أو الموضوعات المحسوسة، كما يزعم ليبنتس .كما نجرد الالوان أو الطعوم، لكن هذه الحجة سلبية فحسب، اذ كل ما تقوله ان الزمان ليس امتثالا ماخوذا عن التجربة. ولذا اردف بها الحجة الثانية فقال:
٠ان الزمان ضروري يقوم عليه كل عيان، ويمكن ان يدرك مستقلا عن الظواهر. والنتيجة لهذا ان الزمان قبلي، والدليل على هذا اننا لا نستطيع ان نستبعد الزمان من الظواهر العامة، مع اننا نستطيع ان نفهم الزمان خاليا من الظواهر لا يمكن ان يتم الا فيه، والنتيجة لهذ اذن ان الزمان لا يقوم على الظواهر، بل الظواهر هي التي تقوم على الزمان لا يتصور تحقق الظواهر، أي ان الزمان اذن قبلي ضروري لكل حركة حسية.
اذن ذلك هو القسم الاول من العرض الميتافيزيقي، قد اراد كانت ان يبرهن فيه على ان الزمان امتثال قبلي. وهو يريد في القسم الثاني المكون من الحجتين الرابعة والخامسة في عرضه ان يبرهن على ان الزمان عيان وليس تصورا.
يقول كانت في الحجة الاولى منهما ان الزمان ليس تصورا كليا، ولكنه شكل خالص للعيان الحسي. وذلك لان المرء لا يستطيع ان يتصور غير زمان واحد وحدي، اما الازمنة المختلفة فليست الا اجزاء لهذا الزمان، واذا كان الزمان واحد، فهو لا يقبل ان يكون ذا تصور بل ذا عيان. ما دام التصور يتركب من امتثال عدة اشياء، بينما العيان من امتثال شيء جزئي واحد. ويضيف إلى هذا دليلا اخر هو ان القضية القائلة بان الازمنة المختلفة لا يمكن ان توجد معا، هذه القضية الزمان عيانا. ذلك لان هذه القضية قضية تركيبية والقضية التركيبية لا تصدر عن التصور وحده، ولهذا فان هذه القضية متضمنة مباشرة في العيان الخاص بالزمان، أي امتثال الزمان.
اما الحجة الخامسة فخلاصتها ان التغير بما فيه الحركة لا يمكن ان نفهم دون الزمان بوصفه عيانا قبليا. وذلك لان التغير معناه الجمع بين محمولات متناقضة في موضوع واحد بالذات، مثل الجمع بين الوجود واللاوجود شيء وةاحد في مكان واحد. انما يمكن في الزمان وحده ان يتلاقى محمولان متقابلان بالتناقض في موضوع واحد، وذلك بان يكون الواحد “بعد” الاخر. فالزمان اذن هو الشرط الضروري الكلي لفهمنا للتغير والحركة.
وعن طريق هذا العرض اثبت “كانط” اذن ان الزمان عيان خالص وهذا العيان الخالص هو الشرط لكل معرفة قبلية لدينا عن الزمان بما في ذلك البديهيات العامة ثم يستخلص النتائج تتضمنها هذه الاقوال، فيجدها ثلاثة:
•الاولى ان الزمان ليس شيئا موجودا بذاته قائما مستقلا، وليس شيئا باطنا في الاشياء كصفة موضوعية لها، وهو بالتالي لا يبقى حين نجرد كل الشروط الموضوعية لامتثاله. لانه لو كان قائما بذاته، لكان شيئا واقعيا وغير واقعي معا: واقعيا من حيث انه لا يوجد مستقلا عن الاشياء المتزمنة، وغير واقعي لانه سيكون شيئا ليس له من وظيفة في الوجود الا ان يتقبل كل شيء واقعي فيه، دون ان يكون ثمة شيء أي شيء واقعي، وفي هذا رد على نيوتن وينعت “كانت” الزمان –والمكان- وفي هذه الحالة بانه سيكون لا شيئا.
•الثانية ان الاشياء في ذاتها لا تاتي إلى عقولنا كما هي دون تغيير، بل لابد ان تمر بهذا الاطار، اطار الزمان والمكان، فتترتب وفقا له، فكأنها بمجرد ان تصبح مدركة، لابد ان تظهر على هيئة الزمان و(المكان)، ونحن لا نعرفها كما هي في ذاتها، بل كما تبدو لنا ولهذا فنحن لا نعرف الا الظواهر (أي ما يظهر لنا نحن). ولا نعرف حقيقة الاشياء كما هي في ذاتها. والزمان اذن ليس الا شكل حس الباطن، اعني شكل عيان انفسنا وحالنا الباطنة بواسطة المماثلات بان نتصور توالي الزمان على هيئة خط يتقدم إلى ما لا نهاية ونستدل من خصائص هذا الخط على كل خصائص الزمان مع هذا الفارق الوحيد: “وهو انه بينما اجزاء الخط في حالة معية، فان اجزاء الزمان في حالة توال. ومن هذه الحقيقة عينها، اعني ان كل اضافات الزمان تسمح بالتعبير عنها في عيان خارجي، يكون من الجد ان الامتثال نفسه عيان”.
•الثالثة هي ان الزمان هو الشرط الشكلي القبلي لكل الظواهر ايا كانت، وفي هذا يزيد الزمان عن المكان: اذ المكان بوصفه الشكل الخالص (أي الخالي والتجربة) لكل عيان “خارجي”. اما الزمان فانه شكل خالص لكل عيان باطن وخارجي معا، لان كل الامتثالات، سواء أكانت الموضوعات خارجية فحسب ام لغيرها ايضا، تنتسب إلى حالنا الباطنية، كصفات أو تحديدات لعقلنا، ولما كانت هذه الحال الباطنة تقع تحت الشرط شرط قبلي لكل الظواهر ايا كانت، فكل الظواهر اذن خاضعة للزمان، لان الزمان شكل للعيان الباطن، والعيان الزاهر يخضع للعيان الباطن، فالزمان اذن ليس شكل قبلي للظواهر كلها.
هل معنى هذا انه ليس للزمان اية حقيقة موضوعية؟ كلا، بل له حقيقة موضوعية من حيث صلته بكل الموضوعات التي يمكن ان تقدم لنا بواسطة الحس، وهو موجود في كل امتثالاتنا عن الموضوعات الخارجية، ولكن ليس معنى هذا انه وجودا مطلقا مستقلا عن تجربتنا وامتثالاتنا أو ذا وجود مستقل قائم بنفسه هذه اذن نظرية كانت في الزمان.
- المكان ليس تصورا تجريبيا، هو مجرد من التجربة الخارجية، وذلك لان المكان مفترض مقدما في دلالة الاحساسات على شيء خارجي، والتجربة ممكنة فقط من خلا مثول المكان.
- المكان تمثل ضروري اولي، يشكل الاساس لجميع الادراكات الخارجية، اذ لا يمكننا ان نتخيل ان ليس هناك مكان، ومع ذلك يمكنا ان نتخيل اللاشيء في المكان.
وهكذا يكتسب الزمان والمكان عند كانط قالبا تجريديا منافيا للواقع العلمي الذي رسخته فيزاياء اينشتين وميكانيكا الكوانت مع ماكسويل وبهلروهاينزبرج ’ لكن المنهج الذي اتبعه كانط في تحليل هانين المقولتين والوصول الي ان للعقل حدودا لا يقوي علي تجاوزها جعل من المستحيل نسيان النقد الكانطي و ولهذا ظهر الكانطيون الجدد من اجل العودة الي كانط وان استدعي الامر 0 نقد كانط نفسه).
يُعدد الباحثون في تاريخ الكانطية الجديدة العديد من المدارس ، وصل عددها إلى سبعة مدارس أو مدارس فرعية . إلا إن من الملاحظ إن هناك مدرستين كانطيتين جديدتين كبيرتين فرضتا هيمنتهما على تاريخ الكانطية الجديدة وذلك بسبب إستمرارهما والتأثيرات التي تركتهما ؛ المدرسة الأولى هي ” مدرسة ماربورج ” . والثانية هي ” مدرسة بادن ” والتي يطلق عليها كذلك ” مدرسة هيدلبيرج ” أو ” مدرسة ألمانيا الجنوبية ” . مع الإشارة إلى إن هناك عدد من المفكرين الأخرين حاولوا إنعاش الروح في فلسفة كانط وتحت مظلة عامة ، هي ” الفلسفة النقدية ” .
مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة
إن مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة ، في الأصل هي حركة معارضة للتفسيرات الخاطئة التي تعرض لها كانط وفلسفته .. وترتبط هذه المدرسة الكانطية الجديد بإسم إثنين من فلاسفة الكانطية الجديدة ؛ الأول هو البرفسور ” فردريك ألبرت لانج ” الذي قبل عرض جامعة ماربوك ، وباشر عمله بروفسوراً في الجامعة عام 1872 . والثاني هو تلميذه في جامعة ماربوك ” هرمان كوهن ” . وإذا كان لانج هو الأب الروحي المبكر للمدرسة ، فإن هرمان كوهن هو المؤسس الحقيقي والقائد للمدرسة وهو من الجيل الأول من مفكري الكانطية الجديدة . أما الممثلون الأخرون للمدرسة ، فهم كل من ” بول نتورب ” (1854 – 1924) و ” إرنست كاسيرر ” (1874 – 1945) . وأخيراً ” نيكولاي هرتمان ” (1882 – 1950) . تميزت مدرسة ماربوك في كانطيتها الجديدة بالتأكيد القوي على توجهاتها العلمية والرياضية .
لقد قام كوهن بنقد النزعة النفسية من وجهة نظر كانطية (وبالمناسبة ستتكرر هذه التجربة النقدية للنزعة النفسية مرة أخرى مع ” أدموند هوسرل ” (1859 – 1938) فيما بعد ولكن من زاوية فينومونولوجية تحمل نفساً ومذاقاً كانطيين) . والنزعة النفسية هي مشروع يختصر القوانيين المنطقية في عمليات تجريبية ونفسية . ولهذا فإن المعرفة عند كوهين كما يقول ” لا ترتبط بالفاعل فقط كما هو واضح في الرياضيات التي تعلمنا كل يوم بأنها موضوعية وليست لها علاقة بالفاعل (رجل الرياضيات) “.
أما الكانطي الجديد ” بول نتورب ” فكان مشغولاً بشكل رئيس بالأسس المنطقية للعلوم الدقيقة (الرياضيات والفيزياء النظرية .. ) ، حاله حال أغلب الكانطيين الجدد . ونتورب رفض الوجود الفرضي ” للشئ بذاته ” (وهو واحد من مفاهيم كانط ، وهو عصي على المعرفة) والذي يقف خلف الظاهرة (التي هي بإصطلاحات كانت الشئ كما يبدو لنا) .
ومن بين فلاسفة مدرسة ماربوك ، فيلسوف التاريخ ” كارل فورلندر ” (1860 – 1928) وكان أستاذاً في ” سولينكن ” ، ومن أهم مؤلفاته ” العلاقة بين الفكر الكانطي والفكر الإشتراكي ” ، وفي عام 1924 نشر كتابه المعنون ” سيرة كانط الذاتية ” والذي تحول إلى مصدر كلاسيكي تعتمد عليه كل الدراسات الأكاديمية . ومن ثم نشر أنواعاً مختلفة من الدراسات حول مؤلفات كانط ، من ضمنها الدراسة المعنونة ” أثر كانط على كتابات جوهان غوته ” (1749 – 1832) . وكان فورلندر مهتماً بالتركيز على ” الماركسية و ” رودلف ستاملر ” (1856 – 1938) ، وستاملر كان بروفسوراً في جامعة ماربوك والذي إشتغل على العلاقة بين القانون والمجتمع .
في حين كان ” إرنست كاسيرر ” . الذي ترتبط معظم أفكاره بفلسفة القرن العشرين ، مهتماً بالسؤال الذي يدور حول فلسفة اللغة ، من مثل معاني الأسس الرمزية . وبمنظاره إن المقولات ما هي إلا تراكيب مشروطة من الزاوية التاريخية ، وتم التعبير عنها في إطار الصور (الرموز) اللنكوستية (بينما المقولات عند كانط هي قوانين العقل الأولية) . وحسب كاسيرر يمكن التعبير عن هذه المقولات بصور جمالية ودينية كذلك . والحقيقة إن نظرية الرموز عند كاسيرر مؤسسة على فينومنولوجيا المعرفة (وكاسيرر معارض لفيلسوف التاريخ ” إسولد شبنجلر ” (1880 – 1939)).) .
ومن أخر أعضاء مدرسة ماربوج الكانطي الجديد ” نيكولاي هرتمان ” ، وهو في الأصل فيلسوف ألماني من البلطيق . درس الطب أولاً وتحول إلى الفلسفة . وفي جامعة ماربورك أكمل دراسته للدكتوراه ، ومن ثم كتب إطروحة دكتوراه أخرى للعمل في الجامعة (تسمى في ألمانيا دكتوراه التأهيل) ، ومن ثم أصبح بروفسوراً في ماربورك . ومن ثم طور له فلسفة خاصة توصف بكونها ” الوجودية المتعددة أو الواقعية النقدية ” . ولعل من أهم أعماله الفلسفية المبكرة ” فلسفة البايولوجيا ” . وكتب الكثير من المؤلفات ، ولكن ما لفت نظري ، هو كتابه المعنون ” الطرق الجديدة للإنطولوجيا ” والذي طبع في العام 1952 أي بعيد وفاته بسنتين . ونحسب إن نيكولاي هرتمان كان أخر حبة من عنقود العنب الكانطي الجديد .
ويجري الحديث في الأوساط الأكاديمية وفي بعض الكتابات عن مدرسة كانطية جديدة روسية ، بداياتها كانت ترتبط بمدرسة ماربورج . وفعلاً وجدنا إن بعض الكانطيين الجدد كانوا روسيون من إصول ألمانية درسوا في جامعة ماربورك ، من أمثال الفيلسوف الروسي الثويني ” فازيلي سيسمان (1884 – 1963) والذي درس الفلسفة وعلم النفس والتربية على كل من الكانطيين الجدد ؛ ” هرمان كوهن ” و ” بول نتروب ” و ” إرنست كاسيرر ..)) .) .
مدرسة بادن أو هيدلبيرج للكانطية الجديدة
وعلى خلاف مدرسة ماربوج ، فإن مدرسة بادين أو هيدلبيرك للكانطية الجديدة (نسبة إلى ولاية بادن وهيدلبيرج نسبة إلى الجامعة) قد أكدت على أسئلة القيم أو الأكسيولوجيا . ومثل هذه المدرسة عدد من مفكري الكانطية الجديدة من أمثال ” ويلهلم وندلباند ” (1848 – 1915) ، و ” هنريخ ريكارت ” (1863 – 1936) ، و ” أميل لاسك ” (1875 – 1915) . فمثلاً ويندلباند يعتقد إن مهمة الفلسفة الأولى ، هي تعليم القيم الكونية السليمة ، والتي تتمثل بثلاثية القيم : الصدق في التفكير ، والخيرية في الإرادة والفعل ، والجمال في المشاعر . وهذه التقسيمات الثلاثية تعود في أساسها مباشرة إلى الفيلسوف كانط .
لقد ميز وندلباند بين التاريخ والعلوم الطبيعية ، وألح على إن ” فهم كانط يتطلب العودة إلى خلفياته ” وهو الشعارالذي ظل مرتبطاً بالكانطية الجديدة .وفعلاً فإن خليفة وندلباند ” هنريخ ريكارت ” طور أكسيولوجيا خاصة به ، مع تأكيد على إن فلسفة كانط النقدية يجب أن تتوسع فتشمل كل العلوم ، ومن ضمنها علوم العقل وعلوم الحضارة (الثقافة) . ولهذا التأكيد إرتبط ريكارت بتراث المثالية الألمانية . ومن ثم كان تلميذه ” برنو باخ ” (1877 – 1942) كانطي جديد من أتباع مدرسة بادين ، وهو الذي جمع مؤلفات كانط ونشرها في الأكاديمية البروسية ، كما كان رئيس تحرير مجلة ” جمعية كانط ” ومجلة ” دراسات كانط ” حتى عام 1916 ، ولكنه نشر مقالاً معادياً للسامية ، فأحدث جدلاً داخل جمعية كانط ، وأُجبر على الإستقالة . والحقيقة إن برنو باخ وأستاذه ” هنريخ ريكارت ” كانا من الرموز القيادية في مدرسة بادين بعد ويلهلم ويندلباند . ومن المفيد أن نشير إلى إن باخ كان مشاركاً لكانطيي مدرسة بادين في إهتمامهم بفلسفة القيم (الأكسيولوجيا) ، ولكنه ركز إهتمامه حول فلسفة الرياضيات والمنطق . ولذلك كان على خلاف إستاذه ريكارت متعاطفاً مع صديقه عام المنطق الرمزي ” جوتلوب فريجه ” (1848 – 1925) .
ونحسب إن في إرتباط مدرسة بادن بقضايا المعنى والقيمة بدلاً من أولوية العلوم الطبيعية ، قد منح هذه المدرسة إمكانية الإتصال والتأثير على عدد من كبير من المفكرين الذين بحثوا عن جواب للسؤال : لماذا عمت الفوضى الثقافية (أو الحضارية) ؟ وهذا شمل كل من ” ويلهلم ديلثي ” (1833 – 1911) و ” جورج ساميل ” (1858 – 1918) .. . كما ويرتبط بالمدرسة ” إرنست ترولتسج ” (1865 – 1923) والذي كانت كتاباته تتوزع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ . وجاء إلى الكانطية الجديدة من من مضمار اللاهوت البروتستانتي .) ..
ثم جاءت محاولة الكانطي الجديد ” فردريك بيولسن ” (1846 – 1908) ، وهي متابعة لمثابرة كانط المثمرة ، ولو جزئياً وذلك من أجل الوصول إلى الميتافيزيقا التي تقف وراء الأبستمولوجيا . وفعلاً بيولسن زعم ” إن كانط دائماً كان رجل ميتافيزيقا في الأساس ” ..
كما إن تأثير الكانطية الجديدة لم يقتصرعلى دائرة الثقافة الألمانية ، وإنما تعدت ذلك لتشمل الثقافة الأوربية برمتها ، فكانت لها مضارب في شرق القارة وغربها وجنوبها ، فمثلاً ظهرت بدايات مدرسة كانطية جديدة روسية ، حمل مشعلها الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي الرائد ” أفرايكن ألكسندروفش سبر ” في كتابه ” الفكر والحقيقة : محاولة لتجديد الفلسفة النقدية ” والذي ترك إنطباعاً قوياً على الروائي الروسي ” تولستوي ” بعد إن قرأه في العام 1996 وربط بينه وبين كتاب شوبنهور ” العالم إرادة وصورة ” ، ومن ثم جاء الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي (ألثويني) ” فازيلي سيسمان ” والذي ينتمي إلى مدرسة ماربورك ، فأنبت بذور مدرسة كانطية جديدة روسية ذات مذاق ماربوكية (نسبة إلى مدرسة ماربوك للكانطية الجديدة) . هذا حدث للكانطية الجديدة شرق ألمانيا .
أما غرب ألمانيا فقد حدث التأثير في الثقافة الفرنسية مبكراً ، وذلك عندما أقدم الفيلسوف الكانطي الجديد ” أفرايكن سبر ” وهو الروسي الألماني الفرنس لغة ، بكتابة موجز لمؤلفه الموسوم ” الفكر والحقيقة : محاولة في تجديد الفلسفة النقدية ” باللغة الفرنسية ، وصدر بعنوان ” موجز للفلسفة النقدية ” في العام 1877 . وبعد وفاته بأربعين عاماً (أي عام 1930) صدرت طبعة جديدة للكتاب بمقدمة كتبها الفيلسوف الفرنسي ” ليون برنسيفك ” .
)المصادر ( نقد العقل المجرد – كانط – ماهي الابستمولوجيا محمد وقيدي – مراجع اخري بتصرف)
على الرغم من تأثير عقيدة كانط على الفلسفة الألمانية اللاحقة بشكل كبير، فإن تفسير هذه العقيدة كانت محل جدال بين فلاسفة القرن العشرين. ابرز كانط عقيدته في كتاب ( نقد العقل الخالص) حيث وضح فكرته وميزها عن الأراء الفلسفية المعاصرة مثل الواقعية والمثالية، لكن الفلاسفة اللاحقون له لم يتفقوا على تميز فكرة كانط بشكل واضح عن الفلسفات المعاصرة له. يربط بعض الفلاسفة بين المثالية المتعالية والمثالية الشكلية على أساس بعض المقدمات النقدية الواردة في كتاب ‹‹مقدمة تمهيدية للميتافيزقيا المستقبلية« ( وهو مقالة قصيرة يشرح فيها كانط بعض أراءه عن كتابه نقد العقل الخالص)، بالرغم من أن الأبحاث الحديثة تعترض على هذه الرأي. وتبنى المثالية المتعالية بعض الفلاسفة الألمان اللاحقين على كانط مثل (يوهان غوتليب فيشت)، و(فريدريك فيلهلم جوزيف فون شيلينغ)، و(آرثر شوبنهاور)، وفي أوائل القرن العشرين بعض الفلاسفة مثل ( إدموند هوسرل) الذي تبنى شكل جديد من المثالية التجريبية المتعالية.
مثالية كانط المتعالية
يستعرض كانط طرق استكشافنا للأشياء من حولنا وادراكنا للزمان والمكان والتفاعل معهما. فقبل كانط توصل بعض المفكرين مثل (ليبنتز) إلى استنتاج مفاده أن الزمان والمكان ليسا أشياءَ موجودة ولكن يتم استنتاجهما من خلال العلاقات بين الأشياء فقط. بينما أكد مفكرون آخرون ومن بينهم (إسحق نيوتن) بأن الزمان والمكان موجودان بشكل حقيقي. توصل (ليبينتز) إلى طريقة فهم مختلفة تمامًا للكون والأشياء الموجودة فيه، فحسب إحدى كتابات (ليبينتز) التي يشرح فيها أفكاره الفلسفية المتأخرة وهي مخطوطة «Monadology»، فإن كل الأشياء التي يعتقد البشر على أنها نتاج تفاعل الأفراد مع الأفكار العقلية مثل ( مواقعهم بالنسبة للزمان والمكان) تكون في الأساس في عقل الواحد المتعالي (الله) ولا يمكن أن نتصور وجودهم في الكون ككيانات مجردة.
حسب الواقعيين تتصل الأشياء الفردية مع بعضها عن طريق روابط وعمليات فيزيائية، وتربط تلك العمليات الأشياء مع الأدمغة البشرية، ومن ثَم توجه الدماغ البشرية نحو سلسلة من الأفعال المحددة تجاه تلك الأشياء وتصحح رؤية الدماغ البشرية نحوها، ومعرفتها بيها. ادرك كانط المشاكل الناجمة من تلك الرؤية الواقعية، فمع تأثره بفيزياء نيوتن، وإدراكه لوجود سلسلة من التفاعلات المادية بين الأشياء المُتصورة وتلك التي نتصورها بالفعل، إلا أن العقل يستقبل البيانات الواردة إليه ويحللها ويعالجها مما يُحدث اختلافا بسيطًا عن البيانات الخارجية الأصلية. [1]
«إذا ما حاولنا أن نبقى في إطار ما يُمكن إثباته بواسطة الحُجة الكانطية، فيُمكننا القول أنه من الممكن إثبات الواقع التجريبي من خلال الزمان والمكان، أي أن جميع الموضوعات التي تقع في إطار الفيزياء والرياضيات صالحة، إلا أن هذه الحقيقة التجريبية تتضمن المثالية المُتعالية التي تنص على أن الزمان والمكان مكنونات عقلية ناشئة من الحدس البشري، ويمكن إثبات فعاليتهما على أنهما مفيدان لإدراك الأشياء كما تظهر لنا وليس كما هي في ذاتها».[2]
من الواضح أن المكان والزمان بدلًا من كونهما أشياء حقيقية بحد ذاتها أو مظاهر يُمكن إدراكها تجريبيًا، إلا إنهما من أشكال الحدس ونستخدمهما لإدراك الأشياء، وبالتالي لا يُمكن إثبات وجودهما ككيانات جوهرية مستقلة، وبالرغم من أنها أشياء ذاتية أو شخصية لكل فرد على حدى إلا أنها ضرورية، شريطة أن يكون ذلك الكائن مظهرًا وليس شيئًا في حد ذاته. يتعامل البشر بالضرورة مع الأشياء المُحيطة بهم على أنها موجودة في حيز مكاني وزماني، وهذا شرط ضروري ليدرك الإنسان ويفهم ما حوله كأشياء مكانية وزمانية على حد سواء. «المثالية المُتعالية هي العقيدة التي تنص على أن المظاهر موجودة ولكن بشكل ظاهري وليس كما هي في حد ذاتها، وبالتالي فإن الزمان والمكان مجرد أشكال عقلية لحدسنا». ويناقش كانط ادعاءاته في قسم خاص من كتابه (نقد العقل الخالص) تحت عنوان (جماليات المثالية المُتعالية)،[3] حيث خصص هذا القسم للتحقق من الشروط السابقة لاستخدام الإنسان لحواسه كأدوات معرفية، بينما يتعلق القسم التالي من الكتاب والمُعنون بأسم (منطق المثالية المتعالية) بطرق التفكير في الأشياء وإدراكه