أجد نفسي مضطراً لكتابة هذه الكلمات إبراءً للذمة وبدافع الواجب تجاه أبناء وبنات هذا الوطن.
دخلَت أمي رحمة الله عليها المستشفى – مولاي يوسف بالدار البيضاء – الشهر المنصرم، قضت فيه 13 يوماً، في الأيام الأربعة الأخيرة ساءت حالتها جداً وقررنا حينها أن أشاركها غرفتها لأعتني بها (ليتنا علمنا بهذا قبلاً لدخل أحدنا عندها منذ أول يوم وضعت فيه رجلها في ذلك الجحيم).
دخلتُ عندها بعد عصر الاثنين رغم أنني كنت حاضراً مع أخي منذ الثامنة والنصف صباحاً أمام المستشفى… ثم دخلت، لا أريد الحديث عما حصل حينها.
أخبرتني أنها لم تأكل شيئاً منذ 4 أيام، وأنها كانت تعيش فقط على الماء، حتى قنينات الماء لم تجد من يفتحها لها، أو بالأحرى لم يرد أحد ذلك رغم طلبها، فكانت غالباً تفتحها بأسنانها.
كانت عاملات النظافة يأتين بالأكل صباحاً، يضعنه في مكان ليس بقريب من أمي، مكان لم تقدر على الوصول إليه، ثم يرجعن عند الـ 2 زوالاً، يضعن الغذاء في نفس المكان ويخرجن رغم نداء أمي، يعدن في المساء ويقمن بنفس العملية ويخرجن متجاهلين نداء أمي، ثم في الصباح يأتين على الساعة السابعة للتنظيف، يجدن الأكل كما هو لم يُفتح، يرمينه ولا يبالين بشيء كأنهن آلات.
ظلت أمي هكذا بلا أكل 4 أيام!
أين الأطباء والممرضات من هذا؟ لا أعلم.
الغريب أن إحدى الممرضات أخبرتني أن أمي ضعفت مقارنة بأول يوم دخلت فيه المستشفى، عجيب! ولم تُحركوا ساكناً؟
الممرضات تدخلن 3 مرات في اليوم، صباحاً، زوالاً وقبيل منتصف الليل، يفعلون شيئاً واحداً لا غير، قياس نسبة الأوكسيجين ومعدل ضربات القلب والسكر، إعطاء حقن للمريض، والخروج.
مجرد آلات مبرمجة على فعل معين كل فترة من الزمن خلال اليوم، لا أقل ولا أكثر.
الأطباء بدورهم مجرد آلات، غير أنهم يقضون يومهم على مكاتبهم ولا يزورون المرضى إلا مرات معدودة في الأسبوع.
أغلب المرضى لا يستطيعون التنفس بدون أقنعة الأوكسيجين التي تحتاج من يراقبها كل 3 ساعات لملئها بالماء، طبعاً عندما ينتهي الماء يظل المرضى كذلك حتى تدخل الآلات مجدداً للقيام بعملها المُبرمَج.
بعد أيام قليلة دخل رجل له قرابة بطبيبة من الطاقم – فيما وصلني -، وفي مسائه جاءت الممرضات على غير عادتهن هذه المرة، لم يأتين محملات بالأدوية بل بالأكل – والتي هي في الأساس وظيفة عاملات النظافة -، وزعن الأكل على الغرف، ودخلن تحديداً لغرفة ذلك الرجل ليطعمنه بأيديهن، هذا لم يخبرني به أحد بل شاهدته.
فيما حدث أيضاً، على الساعة الخامسة والنصف صباحاً، استيقظت لأملأ قنينة الماء المرتبطة بقناع الأوكسيجين ولتشرب أمي، سمعتُ أحدهم يصرخ: “عتقو الروح”، غرفته كانت بعيدة عنا وقريبة من الممرضات، سمعته ولم يسمعنه!!!
خرجت من غرفة أمي لأرى ما يحدث، المكان فارغ، لا أحد مبالٍ بما يحدث، في طريقي إلى الطاقم الطبي خرج رجل من الغرفة المقابلة لنا ليخبرني أن مريضاً معه انتهت قنينة الماء وأنه توفي.
بعد طرقي للباب بمدة، أخبرتهم بما يجري وعدت إلى غرفة أمي.
سألتني رحمها الله أين كنت، فقلت لها إن رجلاً كان يصرخ فذهبتُ إلى الممرضات (ولم أخبرها بالرجل الذي توفي رحمه الله)، ردت رحمها الله: “ما تمشيش، ديك النهار مرضت بزاف مشات فلانة عيطت لهم جاو بقاو يخاصمو عليها وقالو لها ما تبقايش تعيطي علينا ودگو ليها برا”.
كلمات أمي هذه كانت تعبيراً عن خوفها أن يطردوني فتبقى وحدها.
وكانت دائماً تعبر عن هذا الخوف إذا قلت لها سأذهب لأناديهم عندما تشعر بتعب ما، تصبر على تعبها وتطلب ألا أذهب، لكني كنت أذهب على كل حال.
مما أخبرتني به، أن رجلاً كان معها في المستعجلات (أول يوم دخلت مولاي يوسف) توفي، فجاء رجلان، قال أحدهما للآخر بكلمات أمي: “حيد عليا هاد البوگليب”، طبعاً قال كلمة قبيحة لكن كعادة أمي رحمها الله تعوضها بـ”البوگليب” .
مما أتذكره، أنها قالت لي: “كون ما جيتيش كون مت”، وهذه الكلمات لها دلالة قوية جداً، فأمي رُزِقت صبراً لم أرى له مثيلاً أبداً، وإذا قالت هذه الكلمات فهذا يعني أن الوضع جد كارثي.
ثم قبل أسبوع، تدهورت صحة أمي وكانت في حاجة للإنعاش، طاف إخوتي حينها بالدار البيضاء كلها لم يجدوا مكاناً، كذلك بعض الأحبة بالرباط، كنا حينها نجهل أن أسرة الإنعاش بمولاي يوسف للبيع، نعم، للبيع وليست بالمجان.
والحديث يطول جداً في هذا الموضوع، لستُ أعمم، فقد كان بعض الممرضين/الممرضات وطبيبة في قمة الطيبة، لكن 99٪ مجرد آلات حاشا لله أن يكونوا إنساناً.
ملاكي وحبيبتي الغالية التي كانت تضيء دنيتي تركت هذا العالم البائس وظلمته لتلتحق بجوار ربها…
تقبلك الله يا أمي من الشهداء، كنت في مرضك صابرة محتسبة كما عهدتك، كنت كأنك الصلاح يمشي على الأرض، حزت رضى والديك، وأبي، وأولادك، وإخوتك الذين اعتبروك أماً لهم، ورضى كل من قابلك يا أمي… سامحينا يا أمي على تقصيرنا في حقك فمهما فعلنا لم نكن قط لنوفيك حقك، ولن نفعل أبداً مهما فعلنا.
يوم دخلتُ المستشفى عندها، وهي طريحة الفراش، ونسبة الأوكسيجين لا تتجاوز 70٪ وشبه مستيقظة بعد أن تُركت بلا أكل مدة 4 أيام – انتقم الله منهم – لم تفكر في نفسها بل ظلت تطلب من عاملات المستشفى أن يجلبن لي غطاء وأكلاً.
فكيف نوفيك حقك يا أمي وما هذا الذي ذكرت إلا حبة رمل في صحراء حنانك وعطائك وتضحياتك؟
رحمك الله يا غاليتي، فقد كنت لي ولإخوتي الأم المثالية، والأخت المثالية، والصاحب المثالي، والحبيبة المثالية وكل شيء يمكن أن يتمناه الإنسان في هذه الدنيا المظلمة، رحمك الله وجعل مثواك الجنة بغير حساب يا حبيبتي.
شكر الله لكل من اتصل ومعذرة ممن لم أستطع أخذ اتصاله.