تكمن الأهمّية الفلسفية لهذه القضية في بيان مدى نجاعة العقلانية النّاشئة في القرن “17” في معالجة مشكل قديم لكنّه وضع بمفاهيم جديدة في ذلك العصر ومدى تأثير هذه العقلانية من خلال هذه القضية على الفلسفة فيما بعد. ويكفي أن نلاحظ أنّ كل الفلاسفة الديكارتيين سبينوزا، مالبرانش، ليبنيتز ورثوا هذه القضية وحاول كل واحد حسب نسقه أن يجد لها حلاّ مناسبا، لنتبين أهمية هذه القضية. كما نذكر أن كانط الذي يتحرّك في حيّز فلسفي مختلف تماما يقرّ بوجود أنا مفكر ويعتقد أنّه ينبغي – رغم النّقد الذي يوجهه إلى ديكارت – إثبات هذه الذات. أمّا النقد المعاصر للذّات الديكارتية – وبالتّالي التخلي اليوم عن علاقة النفس و الجسد – فهو يبين بصفة سلبية وغير مباشرة مدى تأثير هذه المسألة على الفلسفة اليوم. فما هي أهمّية هذه القضية على المستوى الفلسفي؟ وكيف وضعت من طرف ديكارت في القرن السابع عشر؟ و ما هو الحل الذي وجده ديكارت لهذه القضية؟ ثم كيف وضعها من جديد سبينوزا؟ و بالتّالي ما هو الحل الذي وضعه بدوره لنفس هذه القضية؟
النفس و الجسد عند ديكارت:
كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز و لكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد.
في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه.
هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة و خاطئة و جب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، و هذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. و هذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول أن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الانقليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية.
الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد و متعالي عليه.
عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، و الامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. و بهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين:
لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده.
و كذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ.
و عندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. و يغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، و ماهية الفكر في التأمل الثاني، و وجود الله في التأمّل الثالث و الرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. و يبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد و التي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد.
و لا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد و ذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد و النفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. و لكن لماذا لم تعتبر “التأمّلات” هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟
إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في “التأمل الأول” هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا” ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، “ثالثا” إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) و بطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم و النفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، و ينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين و لذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات و لكنه يكون مكملا له. و هذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات.
عملية توحيد الجسد و النفس في كتاب “الانفعالات” متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند “سبينوزا” و “لايبسيز” و إنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض و خالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات ؟
عند أرسطو و لتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة و من مادّة و الصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة و ذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل و نقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. و بهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإلاه وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. و هذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. و علاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل و معنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. و لهذا فتكوين جوهر معين يفهم “بالفعل” (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل.
و هذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار و ذلك لعدّة عوامل:
لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل.
لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود و كذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. و من هذه الزاوية لم تعد “الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. و عندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام و يعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط.
لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد و هذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. و بالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.
لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في “أي شكل” التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للأنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد. فكيف تتحدّد النفس في التأملات ؟
تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة : على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر و على نطاق الذهن. و هذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت و لأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر و يبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد و هو “الكوجيتو”. يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول و في التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن أن لا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، و لكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. و هذا يمثل نوعا من المفارقة ” لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. و هذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو و كأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله و هي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد.
نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول و التأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. و لكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. و وجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. و ماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر و كذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية و خاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما و لهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع.
و تتمثل إشكالية هذا النّص في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك و التجربيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم و الرائحة و الحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. و النتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاث مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد :
1) الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية.
2) وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية.
3) إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر.
4) الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور.
أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل و نعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. و لذلك فكلمة “أيسر” تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب.
ذلك “أن الفكر أسبق معرفة من الجسم” هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار و نحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة.
بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا “المسبب لذاته”. فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة).
و من هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد و النفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنتربولوجية، و نعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة و إنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، و هو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. و لكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا “الموقف الانثربولوجي” ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد و بساطة هذه النّفس و توحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب “الانفعالات” حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق و أيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب “الانفعالات” لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل و جملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب “التأمّلات” وإنما لكتاب “الانفعالات”.
إنّ النظرة الديكارتية للإنسان و التي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنتربولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. و هذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، و عن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة و عقل من جهة أخرى، و لكن لا العقل و لا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف ؟
إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة و تبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة و انفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، و هذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. و النظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل و لو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات و لا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنتربولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت و حدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده و نفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس و الجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، و إنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا و الجسد مجموعة حركات و انفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، و تعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد و الفكر.
النفس و الجســد عند سبينـوزا :
لفهم علاقة النفس بالجسد أو بالأحرى علاقة الجسد بالنفس كما يفهمها سبينوزا ينبغي أن نتعرّض إلى أهمّ الحقائق التي يركز عليها في الفصل الأول من كتاب “الأخلاق”. يبتدأ كتاب “الأخلاق” ببيان أن الله سبب لذاته وأنه لا متناه مطلق وأنه “مكوّن” من عدد لا متناه من الصفات. فالله هو الجوهر الوحيد وهو سبب لنفسه لا متناه مطلقا ويحتوي على عدد لا متناه من الصّفات. و الإنسان لا يعرف من هذه الصفات إلا صفتين فقط : الامتداد والفكر، وماهيّة الله معادلة تماما لقوته و ما يعنيه ذلك هو أن الله لا يخلق. أما الصفتان اللامتناهيتان – الامتداد / الفكر – فمكوّنتان من عدد لا متناه من الضروب – و كل ما هو موجود ليس إلا ضربا معينا، إما ضرب من الصفة اللامتناهية للامتداد، وإمّا ضرب للفكر الذي هو صفة لا متناهية ايضا، وإمّا ضرب لصفة أخرى لا نعرفها أو كذلك مكوّن من ضربين. الإنسان هو بالنهاية علاقته ضربين (فكر / امتداد) و هذا ما يعني أنّ الإنسان لم يعد يعتبر كجوهر متميّز خاصّة بل أصبح مجرّد ضرب أو علاقة بين ضربين مثل غيره من الكائنات. و لذلك يبدأ سبينوزا الفصل الثاني بقوله: الإنسان يفكر (أي أن الإنسان ليس فكرا فحسب، وهذا الفكر ليس ماهية الإنسان (ديكارت: ماهية الإنسان الفكر)).
والفكر عند سبينوزا ليس له نفس المعنى الديكارتي: فالفكر عنده مجموعة أفكار وبالتالي لا كما هو الشأن عند ديكارت أن الفكر هو ذات مفكرة. فهذه المقولة (الذات المفكرة) قد تعني أنه إذا وجد فكر ما، فهذا الفكر موجود في الإنسان و لا تعني أن ماهيته الإنسان هو فكر، بل يعني أن الإنسان قد يفكر أو بالأحرى قد لا يفكر. و بصفة أدق أن ما لا يفكر إنسان بما أن الفكر لا يحدّد ماهية الإنسان. و عندما نسلم بذلك يصبح شرعيا أن نقول أن الطفل والمجنون (كليهما إنسان). و ديكارت على عكس سبينوزا تماما لا يقول بأن المجنون إنسان بل هو كائن بشري مشوه أي مسخة. في حين بالنسبة لسبينوزا يمثل الإنسان الذي لا يفكر إنسانا، و بهذا يتخلّى سبينوزا عن الثنائية الديكارتية التي ظهرت خلال القرن 17 و التي تفصل بين الإنسان المخبول و العاقل في حين أن ملاحظة سبينوزا لا تفرز أي تمييز وأي إقصاء لنوع ما من البشر.
بما أننا لا نعرف إلا صفتين لا متناهيتين – الفكر والامتداد – و بما أن الإنسان علاقة بين ضربين موازيين لهاتين الصّفتين أي ضرب الرّوح و ضرب الجسد، و لكن أيضا بما أن كل صفة ليست لها علاقة سببية بالصفات الأخرى، فلا الجسد يؤثر في النفس ولا النفس تؤثّر في الجسد، و هذا بعكس ما يقوله ديكارت ( النفس تفعل في الجسم وهذا ينفعل بها)، فبالنسبة لسبينوزا كل ما هنالك، هو تواز فقط بين الجسد و النفس . و من هنا نلاحظ كيف يبتدأ سبينوزا في نقد مسألة علاقة النفس بالجسد عند ديكارت بدون أن يقوم بأيّ نقد فعلي و مباشر لأن فلسفة سبينوزا هي مجرد وضع لنفس الأفكار بصفة إيجابية لا سلبيّة، لأنه سيبين أنّ هذه المسألة ليست مشكلا فلسفيّا حقيقيّا، وثانيا، و بصفة خاصة، سيبين أنّ النفس و الجسم هما في آخر التحليل شيء واحد، فليس هنالك جسم من جهة و نفس من جهة أخرى، و لكن بالرّغم من هذا فهنالك علاقة بين النفس والجسد عند سبينوزا.
لماذا ليس هنالك جسد من ناحية و نفس من ناحية أخرى و بالرّغم من هذا توجد علاقة رابطة بين الجسد والنفس ؟
إن طرح الإشكال بالنسبة لسبينوزا يختلف جوهريا عما هو عند ديكارت، ذلك لأن كل ضرب من ضروب صفة ما مواز لضرب ما من ضروب كل الصفات الأخرى اللامتناهية. و بما أن النفس هي ضرب مواز لمجموعة الضّروب الأخرى، فهي كضرب لها فكرة موازية فتكون النفس فكرة الفكرة و بما أن فكرة الفكرة لها فكرة موازية لها تصبح فكرة النفس فكرة فكرة الفكرة. و هكذا إلى ما لا نهاية فتصبح النفس أفكارا عددها لا متناهية في حدّ ذاتها. و بما أنّ كل ضرب من الضروب الأخرى المواز لفكرة ما مواز لهذه الفكرة، فإن الفكرة كفكرة تعبّر عمّا هو موجود في ضرب الامتداد أي تعبّر عن الجسد و هذا التعبير يعني أساسا فعل الجوهر الوحيد الواحد و هو نفس الفعل في جميع الصّفات، أي ما نجد له أثر في الجسم أو في النفس أو في الإله هو نفس الفعل أو الشيء لأن الله أو الجوهر يعبّر عن نفسه بنفس الصفة و الطّريقة في كل الضروب. إذن العلاقة بين النفس و الجسد تصبح عند سبينوزا علاقة شيء بنفسه، أي ما نعتبره نفس يمكن أن نعتبره جسد والعكس بالعكس فليس هناك فصل حقيقي بينهما و لا إشكالية بحث تميّز بينهما. لذلك فإن سبينوزا يعيب على ديكارت فصل هذين الضربين و الدّخول في مشكلة البحث عن العلاقة بينهما في حين أن الأمر لا يقتضي افتعال أي مشكل.
و الموازاة بين هذين الضّربين عند سبينوزا يمكن إعتبارها من ثلاثة نواحي:
توازي انطولوجي بين الفكرة و كل ضرب من ضروب الصّفات الأخرى، أي إنّ لكل ضرب من كل الصّفات نفس القيمة الأنطولوجية. و من هنا نرى أنه ليس ثمة داع للقول أنه هناك ضرب أسمى من ضرب آخر بما أن التوازي الأنطولوجي يحتّم أن يكون هنالك تطابقا بين كل الصّفات و عندما نطبق العلاقة على الجسد والنفس نفهم أنه ليست النفس أسمى من الجسد و لا هذا هو أيضا أرذل.
توازي على مستوى الماهية، أي وجود تطابق بين كل ضرب من ضرب صفة مع كل ضرب من ضروب صفة أخرى، بحيث أن النفس هي الجسد المنظور له من جهة صفة الفكر و الجسد هو النفس المنظور لها من جهة صفة الامتداد.
توازي على مستوى القوة و الفعل فليس هنالك تأثير ضرب من صفة ما على ضرب من صفة أخرى، و لهذا فإن ضرب النفس مساو ومعادل و مرتبط بضرب الجسد دون أن يكون هنالك تأثير النفس على الجسد أو تأثير الجسد على النفس، ففعل لاالنفس هو عين فعل الجسد و هو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
و إلى جانب ذلك (إلى جانب هذا التوازي العام) هنالك توازي خاص بين كل ضرب من ضروب صفة الفكر و الضروب اللامتناهية في الصفات الأخرى.
إن الجسم عند سبينوزا هو ضرب يعبّر عن ماهية “الله”، وهو موقف ينتهي إليه سبينوزا في كتاب الأخلاق حيث يقدم جملة من الإقرارات، اخترنا أن نورد البعض منها لنتتبع بناء أطروحته حول الجسد :
البديهية 1 : الإنسان يفكر.
القضية 1 : التفكير صفة لله أي أن الله شيء يفكّر.
القضية 2 : الامتداد صفة لله أي أن الله شيء ممتدّ.
القضية 7 : نظام وتسلسل الأفكار هو نفس نظام وتسلسل الأشياء.
القضية 10 : الجوهر لا يمكن أن يكون ماهية الإنسان أي أن الجوهر لا يكون صورة الإنسان.
القضية 11 : ما يكوّن الرّوح الإنسانية ليس إلاّ فكرة لشيء مفرد ومحدود موجود بالفعل (ليس بالمعنى الأرسطي للوجود بالفعل).
القضية 13 : موضوع الفكرة التي هي الرّوح الإنسانية هو الجسم أي ضرب ممتد موجود بالفعل
اللازم: الإنسان مكوّن من روح وجسد وإنما مركب من عدد كبير من الأفكار.
القضية 15 : الفكرة التي تكوّن النفس الإنسانية، أي الوجود الصوري للرّوح الإنسانية ليست بسيطة.
القضية 16 : الفكرة التي تنتج عن انفعال يقع في الجسم الإنساني، تعبّر عن طبيعة الجسم الإنساني وفي نفس الوقت تعبّر عن الأجسام الخارجية.
و هكذا فإن الرّوح والجسم هما في الحقيقة نفس الشيء لكن ننظر إليها تارة من زاوية صفة الفكر و تارة أخرى من زاوية صفة الامتداد. و عن هذا ينتج أنّ نظام أفعال الجسم يتماشى أو يتناسب مع نظام أفعال الرّوح. و ذلك يعني أن كل انفعال هو انفعال الرّوح والجسم في نفس الوقت عكس ديكارت الذي حينما يستعمل كلمة فاعلية “affective” فإنه يعني بذلك تأثير الرّوح على الجسم وبكلمة منفعلة يعني تأثير الجسم على الرّوح.
مما يبرز لنا الاختلافات الهامّة بين ديكارت وسبينوزا، اختلافات يمكن أن نلخصها في النقاط التالية :
الجسد والنفس متوازيان لهما نفس القيمة ولكنهما يختلفان معرفيا.
الفكر له أفضلية فهو صفة معبّرة عن الصّفات الأخرى: أفضلية عند الإنسان وليس عند الله.
الأفضلية الثانية: في صفة الفكر نفسها لكلّ ضرب من هذه الضروب فكرة.
الأفضلية الثالثة: في العمق كلّ فكرة تربطها فكرة أخرى.
توازي عام أنطولوجي أي توازي بين الصفات اللامتناهية.
توازي خارج الفكر: الفكر يعبّر عن كل الضروب الأخرى الخارجة عن الفكر.
توازي بين الفكر والامتداد.
توازي داخل الفكر فقط بين فكرة وفكرة.
و ما نلاحظه انطلاقا من هذه المقتطفات من الفصل الثاني من كتاب الأخلاق الذي يبحث في أصل وطبيعة الرّوح أن سبينوزا يبدأ في دراسته للرّوح بعرض فيزيائي لمكوّنات الفرد كفرد وهذه المكوّنات تنطبق على الفرد الإنساني وكلّ أنواع الأفراد الأخرى، و ما يميز الإنسان هو التعقيد وقدرة الفرد الإنساني على أن ينفعل أكثر من الأنواع الأخرى. و هذا يعني أنّه ليس هناك تمييز جوهري أو طبيعي بين الفرد الإنساني وغيره بل مستوى أرقى في التّركيب فقط عكس ما يعتقده ديكارت الذي وإن أقر أن الجسم الإنساني فيزيائيا يشبه كلّ الأجسام الأخرى فإنه أفرد له قولا خاصا.
انطلق سبينوزا إذن، في دراسته للرّوح من معالجة المسألة الفيزيائية أولا كمدخل لدراسة الرّوح حتى يؤكد أن القيزياء يجب أن تسبق دراسة الرّوح “الجسم قبل الرّوح” عكس ديكارت الذي يعتقد أن المرور بتحليل الجسم يجعل معرفة النفس أكثر تعقيدا وغموضا ولهذا ينبغي معرفة الرّوح مباشرة لأنها أبسط معرفة / أيسر معرفة.
كما نرى منذ بداية الفصل الثاني من كتاب الأخلاق
أن الامتداد أصبح مع سبينوزا صفة لله إلى جانب صفة الفكر و إلى جانب الصّفات اللامتناهية الأخرى، و هذا يعني أنه لأوّل مرّة في تاريخ الفلسفة ارتقى الامتداد و بالتّالي المادّة إلى مستوى طبيعة الله. فلم يعد بالإمكان التمييز الانطولوجي و الماورائي و الأخلاقي بين روح سامية وجسم أدنى بما أنّ الامتداد والفكر أصبحا على نفس المستوى. و بهذه الكيفية التي تجعل الامتداد والفكر متساويان في طبيعة الله، يمهد سبينوزا إلى نوعية العلاقة التي تكون بين الجسم والرّوح في الإنسان أي يمهّد إلى مبدأ تساوي الجسم والرّوح في الإنسان ذلك أنه على غرار الطبيعة الإلهية المكوّنة من عدد لا متناه من صفات لا متناهية من بينها الامتداد والفكر، فإن الإنسان مكوّن من ضربين لهاتين الصّفتين الأخيرتين: ضرب الجسم وضرب الرّوح كضربين متساويين: والتساوي هنا يعني نفس القيمة الأنطولوجية، ولهما كذلك نفس الفعل فهما متعادلان أي أن ما يحدث في واحد منهما يحدث في الآخر فكلمة التساوي ينبغي أن تأخذ في معناها الواسع.
وهكذا يجعل سبينوزا الرّوح والجسم ضربين متساويين و يقضي بذلك على مشكلة علاقة الرّوح بالجسم، أي لم تعد هذه المسألة في فلسفته مشكلة مثلما كان الأمر عند ديكارت ذلك أنّ ديكارت عندما تعرض لهذه العلاقة بيّن الصعوبات التي يبحث لها عن حلّ. و هذا الحل الذي ارتآه ديكارت في النّهاية هو أن العلاقة تتم في مستوى الغدة الصّنوبرية. و في مدخل الفصل الرابع يورد سبينوزا في كتابه الأخلاق بعض النصوص الديكارتية التي تتحدث عن هذه الغدّة الصّنوبرية ويسخر من ذلك قائلا:«أن ديكارت كان أكثر ظلامية من المدرسيين الذين نعتهم بالظلامية» فكيف يستطيع ديكارت العقلاني الشهير أن يقع في مثل هذه المهازل، فهذه المسألة لم تعد مشكل بل ربما لم يعد هنالك وجود حتّى لعلاقة ممكنة بما أن الضّربين متساويين بل هما في الحقيقة نفس الشيء بما أنهما يعبّران عن نفس الشيء. وهذا يعني أنه لم يعد هنالك تقابل بين الجسم والرّوح (المشكل عند ديكارت هو في وجود علاقة بين شيئين متنافرين)، فبالنسبة لسبينوزا قوة الجسم هي عينها قوّة الرّوح وضعف الجسم هو بذاته ضعف الرّوح و بالنسبة لديكارت عندما تضعف الرّوح يقوي الجسم وعندما تقوي الرّوح يضعف الجسم. و بما أنّه لم يعد هناك مشكل و لا تقابل بين الجسم و الرّوح بل فقط تساوي بين شيئين فإن المبدأ الأخلاقي الكلاسيكي الذي ينشأ عن التقابل بين الرّوح والجسم ومحاولة تغليب إرادة الرّوح على انفعالات الجسم، هذا المبدأ الأخلاقي لم يعد له أي مفعول عند سبينوز و هو ما يظهر من خلال نظرية الكوناتوس “Conatus” كماهية للإنسان من حيث هو ضرب، أي رّغبة في المحافظة على البقاء.
إن تعريف الإنسان كرغبة وبيان أنّ هذه الرغبة هي في نفس الوقت رغبة الجسم والرّوح معا يتنافى تماما مع تعريف الإنسان عند ديكارت كروح فقط على مستوى الماهية. و بما أنّ الرغبة هي المحافظة على البقاء أولا وبالذات فإن الانفعالات أو الأحاسيس إما أن تكون أحاسيس إيجابية نكون فيها فاعلين أو نكون فيهما منفعلين . و هذا التميز السبينوزي بين الانفعالات من الصنف الأول و بين الانفعالات من الصنف الثاني يتنافى مع تمييز ديكارت الذي يقرّ أننا عندما نكون فاعلين فعلنا ينتج عن الإرادة التي تنتج عن الرّوح وعن تأثير الرّوح في الجسم و عندما نكون منفعلين فإن الانفعالات تكون ناتجة عن تأثير الجسم في الروح بينما يرى سبينوزا أنه عندما نكون فاعلين نكون فاعلين جسما وروحا معا وعندما نكون منفعلين نكون منفعلين جسما وروحا. و هذا يبين من جديد أن سبينوزا يعتقد أن علاقة الروح بالجسم ليست مبنية على تأثير الواحد في الآخر هنالك علاقة توازي فقط.
ويمكن أن ندقق لتوضيح موقف سبينوزا من علاقة الرّوح والجسم، وجهات النظر التي يختلف فيها صاحب كتاب الأخلاق عن ديكارت:
نفي الفعل المتب .
علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل.
التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه.
و يظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، و هذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم و بالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. و بصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة و بين الانفعالات المنفعلة ( ليس له نفس المعنى عند سبينوزا و ديكارت، فعند ديكارت تختلف جوهريا عن ذلك لأن ” هي تابعة للروح و تابعة للجسم، ولكن عند سبينوزا يمثل الانفعال ماهية الضرب و بالتالي فإن تعني نفس الشيء. لذلك ينبغي أن نؤكد على أن سبينوزا يقرّ أن الانفعالات والعقل معا يرجعان إلى طبيعة الإنسان و ذلك يعني:
أن الانفعالات طبيعية، أي تفسّر بالرجوع إلى الطبيعة الإنسانية عكس النظرية الأخلاقية أولا وعكس موقف ديكارت ثانيا، إذ أننا لسنا مخيرين لأن نكون منفعلين أو العكس.
العقل طبيعي في ظروف إنتاجه كعقل وفي متطلباته –– وذلك يفهم بقدرة الجسم على التفكير في متطلباته أي أن العقل لا يقبل إلاّ الأمور الطبيعية فالعقل إذن ليس ضد الطبيعي إنما هو في النهاية موافق لها ويجاريها ولا ينبغي أن يكون مالكا أو سيدا للطبيعة مثلما هو الشأن عند ديكارت أي أن يكون العقل مشتركا بين الطبيعة و الإنسان، أي أن العقل هو الأفكار المشتركة و الصحيحة التي تدرك أن بين الأشياء علاقات.