المحاور
1)- مدخل منهجي ابستيمولوجي حول الدين و علم الاجتماع
2)- علم الاجتماع و الظاهرة الدينية
3)- من علم الاجتماع الديني الى علم الاجتماع الاديان
4)- الظاهرة الدينية المعاصرة و بروز الحركات الدينية
ما سوسيولوجيا الأديان؟
تعد سوسيولوجيا الأديان فرعا من فروع علم الاجتماع العام و يهتم هذا التخصص بدراسة المعتقدات و الطقوس و الممارسات و الاحتفالات الدينية في ضوء المقاربة السوسيولوجية باستخدام المنهجية الكمية من جهة أو المنهجية الكيفية من جهة اخرى و يعني هذا أن الدين جزء من المجتمع أو هو بمثابة مؤسسة مجتمعية كباقي المؤسسات الاخرى التي لها دور هام داخل النسق الاجتماعي الوظيفي فالدين له تأثير كبير في المجتمع كما للمجتمع تأثيره الخاص في الدين
مفهوم الدين:
يعتبر مفهوم الدين من بين المفاهيم البالغة التعقيد سواء في الحقل السوسيولوجي أو غيره وذلك أن هذا المفهوم لا يرتبط بشكل واضح بالمعنى الشائع الذي يلصق بالدين فالسلوك الديني لا يتحدد بحدود واضحة أو يرتبط بمعنى من المعاني و لا يجد تفسيره انطلاقا من فرد بعينه و لا يجتمع ما إلا بقدر ما يمتلك الباحث الاجتماعي لحس مرهف اتجاه الظاهرة الدينية و التي تتميز بانسيابية عالمية تشمل عدة عوالم
التحديد السوسيولوجي لمفهوم الدين:
يمثل البراديغم السوسيولوجي رؤية معرفة تنظر للدين من زوايا مختلفة بحسب المقتربات التفسيرية التي اعتمدتها كل مدرسة على حدة فبينما نجد المدرسة الوظيفية أو الوظيفية البنائية ممثلة بروادها المؤسسين كدوركايم كونت بارسونز
ينظرون للدين على أساس أن له وظيفة اجتماعية يقوم بها في الحفاظ على توازن المجتمع و ضمان استمراريته فبينما يخص الاتجاه الوظيفي و الذي يتجه مباشرة الى البحث عن الوظائف أو الأدوار التي يقوم بها الدين داخل المجتمع و أثره في بعض النظم و المؤسسات الاجتماعية القائمة أو في عمليات التغيير الاجتماعي سلبا و ايجابا
و يستنتج دوركايم وظيفتين أساسيتين للدين أولا تجميع الناس و كأنه يشبه الصمغ الذي يخلق التضامن الاجتماعي و ثانيا اعطاء الناس و سيلة الادراك العالم و رؤيته
أما بارسونز ينظر للدين في العالم الحديث من خلال طريقتين الاول من خلال الفاعلية التي نسبها للدين و الثاني من خلال الخير الذي ينسبه اليه و الى نتائجه كما يتدعم ذلك في الطبيعة المطردة الاعتدال للعالم الذي يشجع عليه الدين
بعدما تعرفنا على أهم التعاريف ذات الصبغة الوظيفية للدين فإننا نعتقد أن الاتجاه الوظيفي لدراسة الدين يبقى قاصرا في ادراك كافة الأبعاد الشاملة و العميقة للمظاهر الدينية في حياة الفرد و المجتمع
مفهوم التدين:
من خلال الاشتغال على دلالة مفهوم التدين أمكننا أن نستخلص أن التدين هو الكيفية التي يعيش بها الأفراد أو الجماعات تجربتهم الدينية و قد سبق للعالم السوسيولوجي جورج سيمل أن يميز بين الدين و التدين حيث يمثل الدين الدافع الحيوي و التدين الشكل الاجتماعي الذي يسعى الى الاستحواذ و السيطرة على الأول و بالتالي فالتدين هو تجربة ذاتية عن علاقة بشرية غربية للحياة نفسها
المنظرين و المؤسسين
دوركايم:
كما رأينا شعر دوركايم بالحاجة للتركيز على التجليات المادية للحقائق الاجتماعية غير المادية. مثلا ً القانون في( تقسيم العمل) ومعدلات الانتحار في (الانتحار ) لكن في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية) شعر دوركايم بالراحة الكافية لمناقشة الحقائق الاجتماعية غير المادية، خاصة الدين، بصورة أكثر مباشرة. في الحقيقة الدين هو الحقيقة الاجتماعية غير المادية المطلقة ودراسته اتاحت له إلقاء المزيد من الضوء على كل نسقه النظرى.
بالرغم من أن البحث الوارد في ( الأشكال الأولية…) ليس لدوركايم، لكنه شعر أنه من الضروري وضع تفكيره عن الدين في معلومات منشورة. المصدر الأساسي لتلك المعلومات دراسات عن قبيلة الارونتا الأسترالية البدائية. شعر دوركايم أنه من الأهمية دراسة الدين داخل ذلك الإطار البدائي لعدة أسباب. أولا ً، كان يرى أنه من السهل التعمق في الطبيعة الأساسية للدين في إطار بدائي وليس في مجتمع حديث. الأشكال الدينية في المجتمع البدائي يمكن ” توضيحها في كل صفائها وتحتاج فقط إلى مجهود بسيط لعرضها “. ثانياً، الأنساق الأيدلوجية للأديان البدائية أقل نمواً من الأديان الحديثة ويصاحب ذلك وجود تشويش أقل. وقد ذكر دوركايم ” أن ما هو ثانوي وليس أساسى لم يغط بعد المكونات الأساسية. كل شئ مختزل إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، إلى الذى بدونه لا يمكن أن يكون هنالك دين ” ثالثاً، في حين أن الدين في المجتمع الحديث يأخذ أشكالاً مختلفة ففي المجتمع البدائي نجد ” انسجاماً فكرياً وأخلاقياً” . لذلك يمكن دراسة الدين في المجتمع البدائي في أكثر صوره نقاء ً. أخيراً بالرغم من أن دوركايم درس الدين البدائي لكن ذلك ليس بسبب اهتمامه بالدين البدائي في نفسه، بل درسه من أجل أن “يصل إلى فهم للطبيعة الدينية للأديان وليوضح بذلك جزءًا مهماً وأساسياً من الإنسانية” أكثر تحديداً، درس دوركايم الدين البدائي ليلقى الضوء على الدين في المجتمع الحديث.
بما أن الدين في المجتمع البدائي منسجم وشامل، يمكننا أن نقول أن ذ لك الدين يعادل الضمير الجمعي. أي أن الدين في المجتمع البدائي هو أخلاق جمعية شاملة لكن كلما تطور المجتمع وأصبح أكثر تخصصاً كلما احتل الدين نطاقاً أضيق. وبدل أن يكون ضميراً جمعياً في المجتمع الحديث أصبح الدين أحد التمثلات الجمعية. وفى حين أنه يعبر عن بعض المشاعر الجمعية فإن مؤسسات أخرى مثل (القانون والعلم) أخذت تعبر عن جوانب أخرى من الأخلاقية الجمعية. بالرغم من أن دوركايم يرى أن الدين أصبح يحتل نطاقاً ضيقاً ، لكنه أقر أن معظم إن لم يكن كل التمثلات الجمعية في المجتمع الحديث يرجع أصلها إلى الدين الشامل في المجتمع البدائي.
المقدس والمدنس:
السؤال الأساسي بالنسبة لدوركايم كان عن مصدر الدين الحديث. وبما أن التخصص والغطاء الايدولوجى يجعل من الصعب دراسة جذور الدين في المجتمع الحديث مباشرة، تناول دوركايم الموضوع في إطار المجتمع البدائي. السؤال هو من أين أتى الدين البدائي والحديث ؟.
منطلقاً من موقفه المنهجي الأساسي أن الحقيقة الاجتماعية تسببها حقيقة اجتماعية أخرى، خلص دوركايم إلى أن المجتمع هو مصدر الدين. المجتمع من خلال أفراده يخلق الدين من خلال تعريفه لظواهر معينة بأنها مقدسة وأخرى بأنها مدنسة. تلك الجوانب من الواقع الاجتماعي التى تعرّف على أنها مقدسة، تلك التى تعزل وتعتبر من المحرمات تكَّون أساس الدين. ما تبقى يعتبر مدنساً، تلك هى جوانب الحياة اليومية، العامة، النفعية والدنيوية. المقدس يؤدى إلى سلوك يحتوى على التقديس، الاحترام، الغموض، الرهبة والشرف. الاحترام الذى ينسب لظواهر معينة ينقلها من المدنس إلى المقدس .
التمييز بين المقدس والمدنس وارتفاع بعض ظواهر الحياة الاجتماعية إلى المستوى المقدس ضروري ولكن ليس كافيا ً لتطور الدين. ولابد من توفر ثلاثة ظروف أخرى. أولا ً ، يجب أن يتطور نسق من المعتقدات الدينية. والمعتقدات ” هى التمثلات التى تعبر عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقاتها مع بعضها البعض أو مع الأشياء المدنسة ” . ثانيا ،ً من الضروري أيضا وجود نسق من الطقوس ” هذه هى قوانين السلوك التى تصف كيف يلائم الإنسان نفسه في وجود الأشياء المقدسة ” أخيراً يحتاج الدين إلى كنيسة، أو مجتمع أخلاقي. التداخل بين المقدس، المعتقدات، الطقوس والكنيسة قاد دور كايم إلى تعريف الدين كما يلي ” الدين نسق موحد من المعتقدات والممارسات تجاه الأشياء المقدسة، أي الأشياء التى تعتبر محرمة – المعتقدات والممارسات التى تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد يعرف بالكنيسة وكل الذين يلتزمون بذلك
الطوطمية:
رؤية دوركايم أن المجتمع هو مصدر الدين شكلت دراسته للطوطمية وسط الأرونتا في أستراليا. الطوطمية هي نسق ديني تعتبر فيه بعض الأشياء خاصة الحيوانات والنباتات مقدسة، وترمز للعشيرة. واعتبر دوركايم أن الطوطمية هى الشكل الأكثر بدائية وبساطة للدين ويوازيها شكل بدائي من التنظيم الاجتماعي ذلكم هو العشيرة . إذا تمكن دوركايم من توضيح كيف أن العشيرة هى مصدر الطوطمية، يكون بإمكانه إثبات حجته أن المجتمع هو منبع الدين . فيما يلي عرض لحجة دوركايم ” الدين الذى يرتبط مباشرة بالنسق الاجتماعي ويتفوق على كل ما سواه في بساطته يمكن اعتباره أكثر الأديان التي نعرفها أولية. وإذا نجحنا في اكتشاف أصل المعتقدات التى حللناها سابقاً، سيكون بإمكاننا في نفس الوقت اكتشاف الأسباب التي تؤدى إلى نشوء المشاعر الدينية لدى الإنسان “.
بالرغم من أنه يمكن أن يكون للعشيرة أكثر من طوطم واحد، فإن دوركايم لا يعتبر ذلك سلسلة من المعتقدات المنفصلة وغير المترابطة حول حيوانات أو نباتات محددة، وإنما أعتبرها نسقاً مترابطاً من الأفكار تعطى العشيرة تمثيلاً كاملاً عن العالم. ليس النبات أو الحيوان هو مصدر الطوطمية، إنه فقط يمثل ذلك المصدر. الطواطم هى التمثيل المادي للقوى غير المادية فيها. وتلك القوى غير المادية ليست أكثر من الضمير الجمعي للمجتمع ” الطوطمية دين، ليس بتلك الحيوانات أو بتصورات الناس، وإنما بتلك القوى المجهولة وغير الشخصية، موجودة في كل تلك الكيانات لكنها ليست ممتزجة بأي منهما. الأفراد يموتون والأجيال تذهب ويأتي غيرها لكن هذه القوى تبقى دائماً حية كما هى. إنها تنفخ الحياة في أجيال اليوم مثلما فعلت بأجيال الأمس وكما ستفعل بأجيال الغد “.
الطوطمية خاصة والدين بشكل عام مشتقان من الأخلاق الجمعية، وهى في نفسها قوى غير شخصية. إنها ليست سلسلة من النباتات، الحيوانات والأرواح فقط .
الانفعال الجمعي:
الضمير الجمعي هو مصدر الدين كما يرى دوركايم، لكن من أين يأتي الضمير الجمعي نفسه ؟ في نظر دوركايم إنه يأتي من مصدر واحد هو المجتمع. في الحالة البدائية التى درسها دوركايم يعنى هذا أن العشيرة هى المصدر المطلق للدين. لقد كان دوركايم صريحاً حول هذه النقطة عندما ذكر ” إن القوى الدينية ليست أكثر من القوى الجمعية والمجهولة للعشيرة ” ففي حين أننا ربما نوافق على أن العشيرة هى مصدر الطوطمية يبقى السؤال كيف تخلق العشيرة الطوطمية. تقع الإجابة في مكون أساسي من مستودع مفاهيم دوركايم وإن كان لم يناقش بشكل كاف، ذلك هو الانفعال الجمعي .
مفهوم الانفعال الجمعي لم يوضح جيداً في أي من أعمال دوركايم بما في ذلك (الأشكال الأولية للحياة الدينية ) ويبدو أنه كان في ذهنه وبشكل عام اللحظات الكبرى في التاريخ التى أمكن فيها للجماعة تحقيق مستويات عليا من الرقى والتي تقود بدورها إلى تغيرات كبرى في بنية المجتمع. الإصلاح الديني وعصر النهضة في أوروبا نماذج لفترات تاريخية كان فيها للانفعال الجمعي أثر مشهود على بنية المجتمع. ذكر دوركايم أن الدين ينشأ من الانفعال الجمعي ” إنه وسط هذه البيئات الاجتماعية المنفعلة ومن هذا الانفعال نفسه يبدو أن الدين يولد ” وخلال فترات الانفعال الجمعي يخلق أفراد العشيرة الطوطمية .
باختصار، الطوطمية هى التمثيل الرمزي للضمير الجمعي والضمير الجمعي بدوره يأتي من المجتمع لذلك فإن المجتمع هو مصدر الضمير الجمعي والطوطمية
ماكس فيبر:
قاد ماكس فيبر مجموعة من الدراسات يمكن أن تدخل تحت علم الاجتماع الديني، لعل من أهمها تلك الدراسة التي حاول فيها أن يناهض الفكر الماركسي في أساسه وجوهره، والتي سبقت الإشارة إليه تحت عنوان ” الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”.
ثم قام فيبر بعد ذلك بدراسة مقارنة تناولت الأديان الكبرى والعلاقة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، من جهة والاتجاهات الدينية من جهة أخرى. وعن الدور الذي يلعبه من خلال دراسات فيبر، فإن ريمون آرون يقول: ” إن نقطة الانطلاق في دراسات فيبر علم الاجتماع الديني هما في اعتقاده بأن فهم أي اتجاه يحتاج من الباحث إلى إدراك تصور الفاعل الموجود بأكمله”. إذ في ضوء هذا الاعتقاد حدد فيبر التساؤل التالي لكي يجيب عنه في دراسته: إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي لكافة المجتمعات؟ ويقول1970 (Arno) إن ماكس فيبر في دراسته لتأثير الأخلاق البروتستانتية على الرأسمالية ، كان يريد أن يؤكد قضيتين هما:
* أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود ، وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم، والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي.
* إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعد من أسباب تغير هذا السلوك.
ففيبر إذن، لم يعالج الجوانب المختلفة للدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، بل اكتفى بالدراسة الأخلاقية الاقتصادية للدين، ويقصد منها ما يؤكد عليه الدين من قيم اقتصادية.
مؤلـف “الأخلاق البروتستانتيـة والروح الرأسماليـة” من أهم الأعمال عند فيبر:
كما هو معروف أن رائد علم الاجتماع ماكس فيبر، ألف أعمالا كثيرة، نذكر منها: العلم كمهنة، السياسة كمهنة، الاقتصاد العام… وفي مجالات عدة، الاقتصاد، السياسة، القانون… ولكن أبرز هذه الأعمال وأكثرها تأثيرا في الفكر الاجتماعي، كان كتاب ” الأخلاق البروتستانتية الذي سبقت الإشارة إليه. وبحسب المؤرخين، فإن هذا المؤلف كان قراءة لدور القيم الدينية في ظهور قيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة، والتي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي.
وتأتي أهمية دراسات وأطروحات فيبر، من اهتمام منقطع النظير بفلسفة العلوم الاجتماعية ومناهجها. وفي هذا الخصوص استطاع العالم تطوير المفاهيم والجوانب التي أصبحت بعد وفاته ركائز علم الاجتماع الحديث، ومن أهم المصطلحات التي أثرى بها علم الاجتماع، وتعتبر جزءا منها ومرجعا كبيرا للمهتمين بهذا العلم الإنساني، هي ” العقلانية” و” الكاريزما” و” الفهم” و” أخلاق العمل”.
من بين المؤلفين الذين اهتموا في مؤلفاتهم بتحليل مؤلف ماكس فيبر:
يعد مؤلف الأخلاق البروتستانتية، من أشهر مؤلفات السوسيولوجيا الدينية عند ماكس فيبر. لذا نجد عدد لا يستهان به من المؤلفين، أثاروا حوله مجموعة من المناقشات والاعتراضات والمجادلات.
ويعد جوليان فروند في كتابه “سوسيولوجيا ماكس فيبر” من بين هؤلاء المؤلفين الذين اهتموا بتحليل أفكار ومواقف “الأخلاق البروتستانتية” الذي يوضح فيه فيبر أنه لا ينبغي إعطاء العلاقة السببية بين الرأسمالية والبروتستانتية معنى علاقة آلية. فالذهنية البروتستانتية كانت أحد مصادر عقلنة الحياة التي أسهمت في تكوين ما يسميه” الروح الرأسمالية”، إذ لم تكن السبب الوحيد أو حتى الكافي للرأسمالية نفسها.
ونخلص من هذا، إلى أن موقف فيبر يتمثل في أن البروتستانتية ليست سبب الرأسمالية، إنما أحد أسبابها، أو هي بالأحرى أحد أسباب بعض مظاهر الرأسمالية. وشرح لهذا ريمون آرون في كتابه”السوسيولوجيا الألمانية المعاصرة”.
وننتقل إلى خلفية الأفكار التي أسهمت في تكوين الروح الرأسمالية، إذ يجد فيبر هذه الخلفية عند بعض الطبقات البروتستانتية الكالفينية (الهولندية خاصة) والتقوية والميثودية والمعمدانية، التي يتميز نهجها الحياتي بتقشف يمكن التدليل عليه بكلمة ” التطهرية الغامضة”.
وما يهم فيبر هي الحوافز النفسية النابعة من المعتقدات والممارسات الدينية التي أثرت على الواقع لتكوين ” الروح الرأسمالية”. وعليه فعندما يتكلم فيبر عن الكالفينية فهو يفكر فقط في الأخلاق الخاصة ببعض الأوساط الكالفينية لنهاية القرن 17م، لا بمذهب كالفن لذاته.
وما يمكن أن نخلص إليه من هذا النتاج الفيبري، وهو أن فيبر لم يحصر السوسيولوجيا الدينية في تفسير ضيق للظاهرة الدينية من أجلها بالذات، وإنما حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية. اقتصادية، سياسية، قانونية… وكيف يحدد مواقف ذو أصول دينية سلوكا أخلاقيا يطبق بدوره في الشؤون الدنيوية.
وسننتقل بعون الله إلى المؤلف الثاني، الذي اهتم بدوره بـ ” الأخلاق البروتستانتية”، الذي ذهب فيه فيبر إلى أن العقيدة البروتستانتية – وبخاصة الكالفينية – هيأت الظروف الاجتماعية والنفسية، التي أدت إلى ازدهار الرأسمالية، والذي أثار التحليل الذي قدمه فيبر فيه اهتمام الباحثين بدراسة العلاقة بين الدين والاقتصاد على نطاق واسع.
ويعد الكتاب “ميادين علم الاجتماع” من جملة الكتب التي تناولت الدور الذي يلعبه كل من الدين والقيم في عملية التنمية الاقتصادية.
لقد كان ماكس فيبر أظهر من ناقش العلاقة بين القيم الدينية والنشاط الاقتصادي، فأكد الأهمية البالغة للدين باعتباره عاملا مدعما للنشاط الاقتصادي الرشيد ومشجعا. فقد أدت البروتستانتية بالإنسان إلى ممارسة سيطرة عقلية على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك على العكس من الديانات الشرقية الكبرى، وبخاصة الصينية القديمة والهندية، فهي لم تهيئ للإنسان بيئة صالحة لتدعيم النشاط الاقتصادي، في حين لم يحاول فيبر أن ينظر إلى العلاقة بين الدين والاقتصاد باعتبارها علاقة متميزة، إلا أن تحليله يقابل تحليل كارل ماكس الذي نظر إلى المعتقدات الدينية على أنها عنصر في البناء الفوقي، وبالتالي تعتمد إلى حد بعيد على القوى الاقتصادية في المجتمع.
ومن المؤلفين الذين اهتموا أيضا بعمل ماكس فيبر الشهير “الأخلاق البروتستانتية”، نجد دانيال هيرفيه في مؤلفه”سوسيولوجيا الدين” الذي ذهب فيه إلى أن دراسة فيبر عن “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”، قد غدت جدلا ثريا ونشيطا بدأ في حياة فيبر نفسه، إذ سعى بعض النقاد إلى إظهار أن وقائع مختلفة لا تتفق مع نظرية فيبر، وأنها لا تفسر بشكل تام، إذ أن المنطق الاقتصادي من حيث الأساس منطق معارض للأديان الأخلاقية، لأن عالم الاقتصاد الحديث عالم عقلاني ورأسمالي، بمنطقه الموضوعي الفردي والغريب عن الأخلاق الدينية المتعلقة بالإخاء لا يترك ” العالم الوظيفي للرأسمالية” مكانا لدواعي أو متطلبات تصدقية إحسانية تجاه الأشخاص المحددين.
وفي المقابل ثمة نقاد آخرون لم يعترضوا على وجود بعض الصلات البروتستانتية وتطور الرأسمالية وذلك بافتراضهم لتفسيرات مختلفة لهذا التطور. واستدلوا على وجهة نظرهم بوجود العديد من الأمثلة المعاصرة التي تظهر الزهد والتقشف الدنيوي ذا الأصل الديني يمكن بالفعل أن يكون على صلة مع الروح العامة للمقاول صاحب المشروع الرأسمالي.
إلا أننا نجد كاترين كوليوثيلين قد أظهرت بشكل مقنع أن التعارض الكبير بين عالم الماضي الذي كانت فيه التمثيلات، وكذلك المؤسسات بواسطة الدين، وبين اليوم الذي تحرر من مثل هذا الاعتقاد. لا ينصف التحليلات الفيبرية التي تقاوم التفسيرات التي تستخدم المصطلحات الدنيوية، إذ أن الأديان الأخلاقية، حتى ولو كانت قد ساهمت في هذه العملية، لم يعد لها تأثير على الرأسمالية، كما أنها قد فقدت فعاليتها الاجتماعية.
فمن خلال هذا التحليل، يتضح على أن ماكس فيبر يؤكد على أن تطور وخصوصية التقشف البروتستانتي، قد تأثرا من ناحيتهم بكل الظروف الثقافية الاجتماعية، وخصوصا الظروف الاقتصادية.
خــاتمــــة:
في الختام نخلص إلى استنتاج مفاده، أن ماكس فيبر يعتبر أحد العمالقة العظام، والذي اكتشف ذلك النظام بين (الأخلاق) و(العمل)، وهو في ثلاثيته المعروفة في الكتاب، يضع يده على أحد أهم الأسرار في نهضة الغرب، فحيث انتشرت البروتستانتية انفجرت الرأسمالية. ويقول إن مثلث أو شرارة الانبعاث تكمن في: روح المبادرة، وتقديس العمل، واعتماد مبدأ الربح، وهي ثلاث قيم أنهكت الغرب مع تسلط الكثلكة، ولم يكن الغرب حسب وجهة نظره لينهض لو أن البابا والكنيسة الكاثوليكية بقيمتها المعاكسة، بقيت تمسك بتلابيب أوربا، من تقديس الزهد والفقر، والتواكل في عقيدة فاسدة لفهم العمل الإلهي والبشري، والنظر إلى الربح على أنه عمل غير صالح.
وما يمكن أن نخلص إليه من خلال دراستنا السطحية والمتواضعة جدا لهذا الكتاب، يمكن أن نجمله في ما يلي:
أن ماكس فيبر من خلال مؤلفه هذا، حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، ثم السياسية… وأن يبين أن دائرة انعكاسات المجال الديني متسعة جدا ولا تنحصر في إطار محدود، بل تكتسح كل الميادين، وقد خصص في كتابه هذا مجال الاقتصاد بالدراسة، القابل بدوره إلى التغير والتأثر بالمتغيرات والمؤثرات الدينية والثقافية في المجتمع.
كارل ماركس
ان ماركس على الرغم من الأثر الكبير الذي تركه في هذا الميدان لم يدرس الدين بحد ذاته بصورة تفصيلية بل استقى أكثر أفكاره حول هذا الموضوع من كتابات عدة من الفلاسفة و المفكرين في القرن 19 و يتكون الدين في نظر فيورباخ من أفكار و قيم أنتجها البشر خلال تطورهم الثقافي و لكنهم أشبعوها على قوى سماوية أو الهية و يتفق ماركس مع الفكرة قائلا ان الدين يمثل حالة الاغتراب الانساني ويشبع الاعتقاد في أغلب الأحيان أن ماركس كان يطالب بنبذ الدين و استئصاله غير أن مثل هذا الاعتقاد بجانب الصواب فالدين في نظره هو بمثابة القلب في عالم لا قلب له و يرى ماركس أن الدين بشكله التقليدي سوف يختفي بل لا بد من أن يختفي نظرا الى أن القيم الايجابية التي يمثلها الدين قد تكون نموذجا في نظر ماركس أن لا تخشى الآلهة التي صنعنها بأنفسنا و أن لا نضفي عليها مثل القيم العليا التي يمكن للبشر أنفسهم أن يحققوها
سوسيولوجيا الاديان و الجيل الثاني من المنظرين
بارسونز:
كان بارسونز كما يحكي ذلك براين نورتر متأثر بنظرية كانط الأخلاقية و بوظيفية دوركايم و بالسوسيولوجية التفهمية عند فيبر حتى أنه عمل على ترجمة كتاب الخلاق البروتستانتية و الروح الرأسمالية و قدم له بمقدمة يشرح فيها علاقة الدين بالاقتصاد في ايجاد حياة اجتماعية مطابقة و أكثر من ذلك لم يذهب بارسونز في تأكيد فرضيات الجيل الأول من السوسيولوجيين الذين اعتبروا تراجع الدين في المجتمعات المعاصرة بل انه عمل على التأكيد على أهميته في الأنساق الاجتماعية و الفعل الاجتماعي فالدين موجه لكلا المجالين
بيير بورديو:
لا يمكن فهم البراديغم الجديد الذي أبدعه بورديو في مقاربة الحقل الديني دونما الرجوع للخلفيات الابستيمولوجية التي تفاعلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى و قبيل الحرب العالمية الثانية ذلك أن أزمة التفسير التي واجهت العلوم الاجتماعية جعلت البعض يشكك في علمية هذه العلوم و كان اسهام بورديو أساسيا اذ أنه عمل على ازالة التعارض بين الفينومينولوجيا الاجتماعية و الفيزياء و كان يعتبر أنه للكشف عن حقيقة الظواهر الاجتماعية لا بد من تجاوز النزعة الموضوعية و أيضا النزعة الذاتية كنظريات الفعل و علم الاجتماع التأويلي و التحليل اللغوي
اذا ما بلغنا في تقدير أهمية هذا المقترب التفسيري الذي سماه بورديو الهابيتوس الفرد و لعلنا من خلال دراسة السلوك الديني ثم في المستوى الأول يقع هابيتوس الفرد و لعلنا من خلال دراسة السلوك الديني ثم في المستوى الثاني هابيتوس الجماعة المحلية المحيطة بالفرد بداية من الأسرة الجماعة و جماعة الأقارب و الجيران الأصدقاء و المستوى الثالث هو هابتوس المجال حيث يرى بورديو أن لكل مجال من المجالات القائمة (السياسي و الاقتصادي و الثقافي) في المجتمع الهابيتوس الخاص هو عبارة عن مجموعة المهارات و الأساليب الفنية و المرجعيات ونظم المعتقدات الواجب توافرها في عضو هذا المجال دون غيره من المجالات
خاتمة:
لا يمكننا أن ندعي أننا قدمنا رؤية متكاملة ناجزه عن سوسيولوجيا الأديان بقدر ما حولنا أن نتلمس بعض المعالم الكبرى لهذا التخصص المعرفي و قد علمنا قدر المستطاع أن نلقي الضوء على أهم الأطروحات و النظريات التي ناقشت الظاهرة الدينية من وجهة نظر سوسيولوجية