ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med
باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية.
خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس
خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس
حظي ابن العربي بحيّز كبير من اهتمامات الدارسين للتراث العربي الإسلامي، سواء من العرب أومن الغرب، بحكم أن أعماله تمثل بوابة كبرى لمن أراد الدخول إلى عالم التصوف الإسلامي ومعرفة كيف يتطور وينتقل من الزهد إلى مرحلة الكشف، وخلال هذا الارتقاء يعمد الصوفي إلى الربط بين النظر والعمل، والعقل، والكشف، بغية إصابة الحق وبلوغ أعلى المقامات ونيل درجة الكمال. ويكمن سر قوة الفكر الصوفي الأكبري في رمزيته ومجالات التأويل الواسعة التي فتحها على العقل والقلب والغوص في عالم مطلق، سعيا وراء الكمال وبلوغ المقام الذي لا يضاهيه مقام. فأسلوب ابن العربي سمح لكل صاحب خيال أن يقرأ من الزاوية التي يشعر أنه يتعمق فيها، هذا ما أهّل الفكر الصوفي الأكبري أن يذاع وينتشر وينزل ضيفا مشرّفا على كل القطاعات الأدبية، والدينية، والعلمية، هذه الأخيرة التي لا يمكن أن ننكر دور العقل فيها لأن الإنسان بالعقل تميز عن سائر الكائنات.
لقد كان ابن العربي من الصوفيين الذين برهنوا برهنة قوية على أن العقل له مجالات رحبة في المعرفة الإلهية، كما أن له حدودا لا يمكنه تخطيها، لأنه يعجز عن ذلك عجزا ذاتيا، ولأنه يوجد من المعارف ما يتجاوز طاقته وقدراته، ويبرر ابن العربي كل هذا بتبريرات شرعية وعقلية قاصدا منها جعل العقل في خدمة الحقيقة الدينية الإلهية. وبهذا لا يمكننا أن نتخذ موقفا من الصوفية على أنهم لا عقلانيون.
إن هذا العمل رغم بساطته، يعتبر بوابة صغيرة من خلالها يستطيع المتطلع عليها معرفة كيف كان ابن العربي الاسم الديناميكي والفكر الفعال المحرك لعقول أعلام الفكر العربي الإسلامي وغيرهم، فهو من الشخصيات القلقة في الإسلام نظرا لما أحدثته آثاره فلأجله أنقسم المفكرون بين مؤيد مثل “حافظ السيوطي” فأبدع كتابه ” تنبيه الغبي على تنزيه ابن العربي” ومعادي مثل “ابن تيمية” الذي رماه في فتاواه بالكفر والزندقة وبالقول بالوحدة والحلول، وبشتى عبارات المروق عن الدين.
وتكمن أهمية الموضوع المعالج في تسليط الضوء على مفكر صوفي بارز في مشارق الأرض ومغاربها، بحكم الأثر البالغ الذي تركه في الأوساط المسلمة وغير المسلمة، ناهيك عن امتداد هذا الأثر حتى الفترة الراهنة، بسبب ما تقدمه تجربة ابن العربي المجملة لانشغالات فكرية عظمى منها: وحدة الإنسان ووحدة المذاهب والأديان، وفكرة الكمال الإنساني، ومنزلة العقل وهو محور بحثنا هذا، وهي كلها من المواضيع الحية الراهنة ضمن اهتمام الفلسفة المعاصرة.
يعتبر ابن العربي من السباقين للحديث بإسهاب عن عجز العقل وأن هناك حدودا يجب أن يقف عندها، ففي الوقت الذي كانت فيه الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة إلى غاية منتصف القرن العشرين تعطي للعقل وللعلم السلطة المطلقة حتى نجم عن ذلك الإيمان بمبدأ الآلية أو الحتمية المطلقة فظهرت نتائج علمية مذهلة منها المفيدة النافعة ومنها الضارة المدمرة، ولم تتفطن الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية للتفكير في كبح جماح العلم، ومن ثم سقوط مبدأ الحتمية وظهور مبدأ اللاحتمية مع الفيزيائيين المعاصرين أمثال “هيزنبورغ”(1901م–1976م) في حين أن ابن العربي وضع حدا لسلطة العقل تتمة لفكرة عقدية أشعرية. وعليه فإن مبدأ اللاحتمية لم يكن وليد الفيزياء المعاصرة بل كان ابن العربي ومن قبله “الغزالي” ومن كان على مذهب الأشعري السباقين إليه مادام للعقل حدود عندهم.
جعل ابن العربي من العقل وسيلة لا غاية، انطلاقا من أنه أداة يراد بها معرفة العبادات وكذا العلوم الكونية، الأمر الذي وضحه في مؤلفات عدة منها: “رسالة إلى الإمام الرازي”، وفكرة أن العقل وسيلة ليست غاية حقيقة لم تتفطن لها الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية حين أيقنت أنه يجب ألا تكون الاكتشافات العلمية غاية في حد ذاتها بل وسائل، فكان ابن العربي السباق إلى ربط العقل وما يؤديه من وظائف بالأخلاق، لهذا وجب أن لا يكون إلا إذا كان ساعيا لخدمة الإنسان وعقيدته، وهذا ما تم توضيحه خلال البحث من خلال معرفة الشروط أو الآداب التي سنها حتى يؤدي العقل الوظيفة التي من أجلها كانت النفس الناطقة.
تعتبر نصوص ابن العربي ومؤلفاته فضاء واسعا لإبداعات فنية وأدبية مميزة، لهذا كانت منزلة العقل عنده إشكالية فرضها الاهتمام العالمي بشخصه ومؤلفاته والأيام الدراسية والملتقيات والندوات التي تقام على مدار السنة في مختلف أنحاء العالم الغربي والمسلم بشقيه الأفريقي والآسيوي، وما يذاع عن التصوف بشتى القنوات ومختلف اللغات بينة قاطعة على ما سبق التصريح به.
بالرغم من أن الفلسفة تبدو للبعض أنها ممنوعة في فكر ابن العربي الصوفي إلا أنه أبى إلا أن يهتم ويغوص فيها من أجل محاولة الالتقاء بين الفلسفة والتصوف في ظل الشريعة الإسلامية، ووفق ترتيب تفاضلي كشفت عنه أثناء البحث وعرفت دوافع هذا التفاضل، ويهدف البحث في منزلة العقل عند ابن العربي إلى الكشف عن الرواسب التي التصقت بشخصية ابن العربي وفكره والتي خلفها سوء تأويل دارسيه إذ يحكم أغلبهم أنه الصوفي الرافض للعقل وهذا ما حاولنا تفنيده وإبطاله وجعل المفاهيم التي كانت تبدو للبعض قديمة أنها معاصرة حديثة تندمج في واقعنا، ثم نبرز من خلالها أن أفكار ابن العربي لم تمت بموت صاحبها، كيف لا وهو من السباقين إلى القول بمبدأ اللاحتمية وأن العالم خاضع لمبدأ عدم التعاين مادامت المعارف الكونية تستند إلى العقل الذي هو في الواقع محدود عنده، داعيا إثره للقول أن القطيعة شرط الموضوعية من خلال تفضيله للنفس الناطقة على بقية القوى الأخرى الشهوانية والغضبية وكذا من خلال تركيزه على محورين أساسين هما القرآن والسنة، وعدم الاكتفاء بنقل الأفكار بالتواتر، بل الواجب أخذها من ينبوعها الأم، إذ يقول ابن العربي في الفتوحات الجزء الثالث: لا تسمع مقالة من جاهل[1] مؤكدا أن أمهات المطالب العلمية و حملها على الحق أربعة: « سؤال عن الوجود…سؤال عن الحقيقة التي يعبر عنها بالماهية…سؤال عن الحال…وسؤال عن العلة والسبب»[2] سعيا منه إلى النظر في لب الأمور لا في قشورها. وعليه فإن الدعوة إلى إبطال المعارف التي تأخذ بالتسليم وضرورة التجرد من الذاتية أثناء جمع الخبرات لم يكن الفيلسوف الفرنسي “غاستون بشلار” (1884م–1964م) مبدعها لأننا وجدنا من خلال البحث أن اللبنة الأولى للفكرة كانت على يد ابن العربي.
إن ابن العربي من الفلاسفة المتصوفة الذين لهم راهنية وحضور في الفكر ما بعد الحداثة، لأنه وضع للعقل حدود وصنفه في المرتبة الثالثة بعد النقل والكشف في تحصيل المعرفة الكونية، لذا وجدنا أسلوبه وفكره يخرجان عن المألوف، كيف لا وهو يبحث في المتناقضات حاله كحال من يحاول الجمع بين الممكن والمحال، بين المادة والروح، الدنيا والآخرة، الشريعة والفلسفة وبين العقل والخيال، إن تجربة ابن العربي الفكرية الجامحة يلتقي فيها الاستدلال بالجدل، تتراوح بين الظاهر والباطن، ويتداخل فيها الشعر بالنثر، والفلسفة بالأساطير والعلم بالطلسمات.
إن دراسة إشكالية منزلة العقل سمحت باكتشاف أن فكر ابن العربي تعدى مجال المعرفة الذوقية ليبدع في الأخلاق، الوجود، ودراسة النفس الإنسانية، لأجل هذا يمكننا أن نشاطر أحد الباحثين رأيه عندما حكم على ابن العربي بأنه علامة فارقة ومعجزة صوفية في محاولة فهمه خير كثير لفكرنا العربي وتراثنا الوجداني والعقلي معا، لأجل كل هذا حاولنا البحث بخطى متحفظة في منزلة العقل عند ابن العربي، وسعينا الإشكالية الآتية: ما هي منزلة العقل في الفكر الصوفي الأكبري المعروف عنه اعتماده الكشف لا العقل؟.
و الإجابة على ما يتفرع منها من أسئلة، منها ما موقف ابن العربي من العقل أداة وعلما؟ وما مفهومه لديه؟ هل يتفق أم يختلف في ضبطه لمفهوم العقل مع مفكري الإسلام من فلاسفة وعلماء كلام ومع الفقهاء والمفسرين والأدباء؟ وهل تسمح لنا هذه الموازنة من معرفة وظيفة العقل الجوهرية عند ابن العربي ودعائمها ومن أين تبدأ وأين تنتهي؟ وما هي أنواع العقل عنده؟ وما هي شروط العقل السليم عند ابن العربي؟ وما هي دواعي ربط العقل بضوابط أخلاقية لديه؟ وما هي المرتبة التي يحتلها العقل عند ابن العربي؟ ولماذا؟ وعلى ماذا اعتمد في تبريره في أن يضع للعقل مجالات وحدود؟ وما هي علاقة العقل بالكشف عنده؟ وما هو موقف ابن العربي من الفلسفة وعلم الكلام بحكم أنهما من المجالات التي يعتمد فيها بشكل مباشر على العقل؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتفرعة عن طريق موضوع قيمة العقل في فكر يتداول أنه لا عقلاني. مع الأمل أننا قد وفقنا في إعطاء هذا الموضوع حقه ولو –نسبيا- من التحليل والفحص والدرس.
الفصل الأول الفصل الثاني الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 مبادئ التفكير الفلسفي 1 الكوسمولوجيا القديمة 2 مفاهيم ونصوص فلسفية 2 المنطق وآليات الاستدلال 3 أسس علم الاجتماع 3 الميتافيزيقا 4 ميادين علم الاجتماع 4 العلم الطبيعي 5 مدخل إلى تاريخ علم النفس 5 الفلسفة وأنماط التعبير 6 ميادين واتجاهات علم النفس 6 حكمة الشرق 7 اللغة الفرنسية 7 اللغة الفرنسية
الفصل الثالث الفصل الرابع الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 الفلسفة في العالم العربي الإسلامي 1 الفلسفة الحديثة 2 الفلسفة الغربية في العصر الوسيط 2 الفلسفة السياسية 3 علم الكلام 3 فلسفة الأنوار 4 مقاربات فلسفية في الدين 4 نشأة العلم الحديث 5 التصوف 5 المنطق المعاصر 6 العلوم العربية 6 الجماليات
الفصل الخامس الفصل السادس الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 التيارات التأويلية 1 فلسفة الحق 2 الإيديولوجيا 2 فلسفة الأخلاق 3 نقد الميتافيزيقا 3 إشكاليات في الفكر المغربي المعاصر 4 الفلسفة الوضعية والتحليلية 4 الإبستيمولوجيا 5 فلسفة التاريخ 5 المشروع المؤطر 6 مدخل إلى الفكر العربي المعاصر 6 المشروع المؤطر
الله متصف بكل صفات الكمال، هذا حقٌّ لا رَيبَ فيه، والقرآن يُرَدِّد الكثير منها في كثير من آياته، وسنتكلم عن سبع منها أجمع عليها رجال علم الكلام وسائر رجال الدين والمفكرون والفلاسفة المسلمون، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه هي الصفات التي جاء في القرآنُ وصف الله الخالق بها، وقد تناولها ابن رشد بالتدليل عليها على هذا النحو:١٧
(أ)نَبَّه الكتاب على وجه الدِّلالة على العلم بقوله تعالى (سورة الملك: ١٣، ١٤): وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، والدلالة نجدها هنا في الآية الثانية، وذلك بأنَّ المصنوع بترتيب أجزائه وموافقة جميعها للمنفعة المقصودة منه، يدلُّ على أنَّه حدث عن صانع يجعل ما يصنع على ترتيب ونظام يُؤدي إلى الغاية المقصودة منه؛ فوَجَب أن يكون عالمًا ضرورةً به. يجب لهذا؛ أن يكون خالق هذا العالم المحكم في ترتيبه ونظامه مُتَّصِفًا بصفة العلم اتصافًا دائمًا لا في حال دون حال.
هكذا ينبغي في رأي ابن رشد أن يكون الاستدلال على إثبات صفة العلم لله تعالى، استدلالًا ينفع للناس جميعًا عامَّتهم وخاصتهم، وإن كان هؤلاء الخاصَّة يمتازون بمعرفة أتمَّ بما في العالم من ترتيب ونظام، وبأنَّ كل شيء خُلق موافقًا للغاية المقصودة منه.
وأمَّا ما يقوله المُتكلمون من أنَّ الله يعلم حدوث الأشياء بعلم قديم؛ فإنَّه:
أولًا: لم يصرح به الشرع، بل صرح بخلافه وهو أنَّ الله يعلم المحدثات حين حدوثها، وفي هذا جاء في القرآن (سورة الأنعام: ٥٩): وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وثانيًا: إنَّ قول المُتكلمين هذا يلزمه «أن يكون العلم بالمحدَث في وقت عدمه ووقت وجوده علمًا واحدًا، وهذا أَمرٌ غير معقول؛ إذ كان العلم واجبًا أن يكون تابعًا للموجود، ولمَّا كان الموجود تارة يُوجد فعلًا وتارة يُوجد قوَّة، وَجَبَ أن يكون العلم بالموجودين مختلفًا؛ إذ كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.» إلى آخر ما قال.١٨
والنَّتيجة لهذا وذاك كله أن نكتفي بهذا في إثبات العلم لله في رأي ابن رشد، ولا نقول إنه يعلم ما يكون وما يفسد من الموجودات لا بعلم قديم ولا بعلم مُحْدَثٍ، فإنَّ هذا ما تقتضيه أصول الشرع، والقول بخلافه بدعة في الإسلام، والجمهور لا يفهمون من العالَم في الواقع المشاهد إلا هذا المعنى.
(ب)وإذا كان من المشاهد أنَّ من شرط العلم في العالِم أن يكون حيًّا، وإذا كان من شرط من يصدر عنه شيء من الأشياء أن يكون مُريدًا له وقادرًا عليه، كان من الطبيعي أن تثبت لله تعالى صفات الحياة والإرادة والقدرة. وكذلك لما كان من شرط الصانع الحريِّ بهذا الوصف أن يكون مُدركًا لما يصنعه بكل نوع من الإدراك، وجب أن يكون الخالق، جل وعلا، سميعًا بصيرًا، وإلا لما كان أكملَ الخالقين، ولما استحق أن يكون معبودًا، ومن ثم جاء في القرآن حكاية لقول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه (سورة مريم: ٤٢): يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. وينبغي أن نُلَاحِظَ أنَّ كل ذلك يتفق فيه فيلسوف قرطبة وعلماء الكلام، إلَّا أنَّه فيما يختص بصفة الإرادة يجبُ الاكتفاء بأن نقول فضلًا عَمَّا تقدم، بأنها صفةٌ قديمةٌ ككل الصفات التي يتصف بها الله؛ إذ لا يجوزُ أن يتصف بها وقتًا دون وقت، وحالًا دون حال، وليس لنا بعد هذا وذاك أن نبحث كما فعل رجال علم الكلام، هل يُريد الله وجود الأشياء المُحدثة بإرادة قديمة أو بإرادة محدثة؟
إنَّ هذا، كما يقول ابن رشد، بدعة في الدين، وشيء لا يعقله العلماء أنفسهم، ثم هو لا يُقنع الجمهور حتى من بلغ منهم رُتبة الجَدَل، بل ينبغي أن يُقال بأنَّ الله مُريدٌ لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى (سورة النحل: ٤٠): إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وفي الحقِّ كما يقول ابن رُشد أنَّه ليس في الشرع وصف لإرادة الله بالقِدَم أو الحدوث، فالمتكلمون حين أثاروا هذا البحث قد انحرفوا عما أراد الشارع نفسه، وأتوا في الشرع بما لم يأذن به الله، وذلك فضلًا عن أنَّ دليلهم على ما زعموه من أنَّ الله أوجد ما أوجد من الأشياء بإرادة قديمة لم يسلم لهم، بل ثارت من أجله اعتراضات لم يُمكنهم دفعها، وليس أهونَها شأنًا ما يُقال لهم: إذا كان الله يُريد إيجاد شيء في وقتٍ ما بإرادة قديمة، فإذا جاء هذا الوقت فوجد، هل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث؟ إنه إن قالوا إنه وُجد بفعل قديم فقد جوَّزوا إذن وجود المحدث بفعل قديم، وهو أمرٌ غير معقول، وإن قالوا إنه وجد بفعل مُحدث لزمهم أن يكون هناك إرادة محدثة وهو غير مذهبهم.
هذا، وسيجيء لذلك تحقيق وبحث في الفصل الآتي الخاص بالمعركة بين ابن رشد والغزالي، ولكن لنا أن نقول الآن إنه قد يجيب المتكلمون عن هذا الاعتراض بأنَّ الإرادة صفة لله، عملها أن تخصص في الأزل الشيء الذي يوجد في الزمان بأن يوجد في وقت معين لا غيره، وعلى شكل خاص لا غيره، ويكون الله دائمًا هو الفاعل والموجد للشيء، وتكون النتيجة أن يوجد الشيء دائمًا عن فاعل هو الله الذي أراد في القدم أن يوجد في زمن معين وعلى شكل خاص معين.
(جـ)وأخيرًا فيما يختص بالاستدلال على ثبوت هذا النوع من الصفات لله تعالى، نعني صفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، يجيء الحديث عن صفة الكلام، ويبدأ فيلسوفنا فيعرف الكلام بأنه فعل يَدُلُّ المتكلم به المخاطَب على ما في نفسه، وهذا الفعل في الإنسان يكون بواسطة اللفظ، ثم يقول: «وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالمٌ قادر، فكم بالحريِّ أن يكون ذلك واجبًا في الفاعل الحقيقي.»١٩ يُريد الله تعالى. ولكن كما يذكر ابن رشد أيضًا بعد ذلك، فرقٌ بين الإنسان والله، إنَّ كلام الإنسان يكون باللفظ يتلفظ به كما هو المعروف المشاهد، ولكن كلام الله قد يكون بواسطة ملك، أو قد يكون وحيًا وإلهامًا، كما قد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع من يصطفيه بالتكليم، وإلى هذا كله أشار الله بقوله (سورة الشورى: ٥١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقوله (سورة النحل: ١٧): وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، ويُريد بقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، الكلام الذي يكون بواسطة الألفاظ يخلقها في نفس كليمه، وتلك هي الحالة التي خص بها موسى عليه السلام.
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ الله متكلم بهذا المعنى، وبإحدى هذه الطرق الثلاث، ولكن لنا أن نقول: هل يُعتبر الله مُتكلمًا حقًّا برسول يرسله إلى من يصطفيه من خلقه، أو بإلهام يُلقيه في ذهنه فينكشف له به المعاني التي يُريدها الله تعالى، أو بألفاظ يخلقها في سمعه؟ أو أنَّ الأولى أن نقول بأنَّ هذا الرسول عندما ينطق بألفاظ تعبِّر عن مراد الله — الذي عرَّفه بحالة من تلك الحالات — يكون هو المتكلم؛ لأنه فعل فعلًا قام بذاته ونفسه، لا الله الذي لم يقم بذاته شيء من الألفاظ التي نطق بها الرسول.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نجدُ فيلسوفنا يلمِس لمسًا رفيقًا، إلا أنه واضح سديد، مشكلة خطيرة كانت فترة من الزمن من سياسة الدولة العُليا، نعني بها مشكلة القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق، هذه المشكلة التي أثارها المعتزلة والمأمون في عنفوان الدولة العباسية في أوائل القرن الثالث الهجري، كما نجده يقف من هذه المشكلة موقفًا وسطًا بين المعتزلة والأشاعرة.
وذلك بأنَّ ابن رُشد يرى أنَّ الله يعتبر مُتكلمًا على وجهين: الكلام الأزلي الذي في نفسه،٢٠ والألفاظ التي تدل على هذا الكلام النفسي كالقرآن والتي هي مخلوقة لله نفسه لا لبشر من خلقه؛ ولذلك يكون القرآن إذا أُريد به الكلام النفسي قديمًا غير مخلوق كما يقول الأشاعرة، وإذا أُريد به الألفاظ التي نقرؤها ونسمعها كان حادثًا مخلوقًا كما يقول المعتزلة. هذا؛ والذي دعا الأشاعرة إلى موقفهم هذا هو اعتقادهم أن المُتكلم هو من يقوم الكلام بذاته، فإذا كان الله متكلمًا بالقرآن الذي نقرؤه ونسمعه، والذي ألفاظه مَخْلُوقة حَادِثَة مِنَّا بإذنه تعالى، كانت ذاته محلًّا للحوادث؛ ولهذا لم يثبتوا لله إلا الكلام النفسي القديم فقط، والمعتزلة يرون أنَّ الكلام ليس إلا ما فعله المتكلم، أو بعبارة أُخرى يشترطون في المتكلم أن يكون فاعلًا للكلام؛ ولهذا أنكروا الكلام النفسي، وقالوا بأنَّ الكلام هو اللفظ فقط، فكان القرآن عندهم مخلوقًا، ولكن لا يلزمهم مع هذا أن تكون ذات الله محلًّا للحوادث؛ لأنَّ اللفظ من حيث هو فِعْل ليس من شرطه أن يقوم بفاعله.
وهكذا، كما يقول ابن رشد نجد في قول كلٍّ من هاتين الفرقتين جزءًا من الحق وآخر من الباطل، وأنَّ الحق هو الجمع بينهما كما رأينا.
(د)وأخيرًا فيما يتعلق ببحث صفات الكمال الواجبة لله والاستدلال عليها، يرى ابن رشد أنَّه لا يجوز البحث في أنَّها زائدة أو غير زائدة على ذاته تعالى كما فعل المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، فإنَّ الكلام في ذلك بدعة وبعيد عن مدارك الجمهور وأفهامهم، وقد يُضلهم بدل أن يرشدهم. وذلك بأنَّ الأَشَاعِرَة يرون أنَّ هذه الصفات صفات زائدة على الذات، فالله عالمٌ بعلم زائد على ذاته، ومريد بإرادة زائدة على ذاته، وهكذا، ويلزمهم على هذا أن الخالق جسم؛ لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم، أو يلزمهم إن قالوا بأنَّ الصفات قائمة بنفسها لا بالذات، القول بآلهة متعددة، كالنَّصارى الذين زعموا أنَّ الأقانيم ثلاثة. أمَّا ما يقوله المعتزلة من أنَّ الذات والصفات شيء واحد، فهو قول بعيد عن المعارف الأولى، فإنه يظن أن العلم مثلًا غير العالم، وهكذا باقي الصفات.
وإذا كان الكلام في الصفات على نحوِ ما فعل الأشاعرة والمعتزلة بدعةً وبعيدًا عن مقصد الشرع، وقد يُؤدي إلى إضلال الجمهور، فينبغي إذن أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات ما صَرَّح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها وثبوتها لله دون تفصيل الأمر فيها ذلك التفصيل، فإنه ليس يُمكن أن يحصل عند الجمهور في هذا يقين أصلًا.
هكذا يقول فيلسوف الأندلس في آخر بحث الصفات الواجبة لله تعالى، والجمهور في رأيه — كما عرفنا من قبل — هم من لم يكونوا من أهل البرهان وإن كانوا من رجال علم الكلام.
(٥) نفي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
عُني فيلسوف الأندلس بالكلام عن ثلاث صفات يتنزه الله عنها، وهي: المماثلة أو المشابهة لشيء من المخلوقات، الجسمية، الكون في جهة:٢١
(أ)ليس لنا أن نتوهَّم من كون الله حيًّا، عالمًا، مُريدًا، قادرًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا، ومن أنَّ الإنسان نفسه له حظ من كلٍّ من هذه الصفات، أنَّ بين الخالق والمخلوق مماثلة أو مشابهة ما، فإنه لا مماثلة أو مشابهة بين الخالق وأحد من خلقه، وإنه منزه عن جميع صفات النقص.
والقرآن نفسه اشتمل على آيات كثيرة جدًّا فيها دلالات على ذلك بصفة عامة، ولكن أبْينها في نفي المماثلة قوله تعالى (سورة الشورى: ١١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله (سورة النحل: ١٧): أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهذه الآية هي برهان ما جاء في الأولى من نفي المُمَاثلة، وإلا كان الخالق لكل شيء كمن لا يخلق شيئًا ما.
وإذن، فالله تعالى منزه عن كل صفة من صفات النقص التي نراها تعتري الإنسان، وذلك كالموت، والنوم، والنسيان والغفلة، والخطأ. فكل هذا وما إليه بسبيل منفيٌّ عن الخالق جلا وعلا، وقد صَرَّحَ القرآنُ بذلك في أكثر من آية: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، إلى غير ذلك كله مما هو معروف.٢٢
وإنَّ العقل نفسه كما يذكر فيلسوفنا يقضي بنفي صفات النَّقص هذه وأمثالها عن الخالق، وإلا لما بقي العالم حتى الآن موجودًا لا يعتريه فساد أو اختلال،٢٣ على أنَّ الله قد أشار إلى هذا أيضًا في القرآن إذ يقول (سورة فاطر: ٤١): إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
(ب)وإذا كان الأمر صار سهلًا بالنِّسبة إلى نفس المسائلة، أي: بلا خلاف من أحد من رجال علم الكلام، فإنه ليس كذلك في صفة الجسمية بالنسبة لله تعالى، وهنا يبدأ ابن رشد الحديث عن هذه المشكلة بقوله: «إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها (أي: صفة الجسمية) من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أنَّ الشرع قد صَرَّح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد تُوهم أنَّ الجسمية هي له من الصفات التي فضَل فيها الخالق المخلوق، كما فضَله في صفة القُدْرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتمُّ وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.»٢٤ ولكن فيلسوف الأندلس أبعدُ بفلسفته من أن يذهب إلى أن الله تعالى جسم على أي وجه كان، غير أنه يرى — كما ذكر بعد ما تقدم نقله عنه آنفًا — أنَّ الواجب في هذه الصفة أن يُجرى فيها على منهاج الشرع؛ فلا يُصَرَّح فيها بنفي أو إثبات، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ويُنهى عن هذا السؤال. وفيلسوفنا حين يُوجِبُ السكوت عن نفي صفة الجسمية وإثباتها، يصدُر في رأيه هذا عن أسباب لها تقديرها، إنَّه يرى أنَّ إدراك هذا المعنى ليس في طاقة الجمهور، بدليل الطريق التي سلكها المُتكلمون في نفيها، وهي مع هذا ليست بُرهانية، ولأنَّ الجمهور يرون أنَّ الموجود هو المتخيَّل والمحسوس وأنَّ ما ليس كذلك فهو عدم، فإذا قيل لهم بأنَّ الله ليس جسمًا لم يستطيعوا تصوره وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولأنَّه لما صُرِّح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شبهات وشكوك كثيرة فيما جاء في القرآن والحديث خاصًّا برؤية الله، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، ومجيئه يوم الحشر بين الملائكة، ونزول الوحي عنه من السماء، وصعود الملائكة والروح إليه، إلى كثير من نحو هذا.٢٥ وفي رأيه أنه حينئذ، أي إذا صُرِّح بنفي الجسمية عن الله تعالى، كان لا بد من أحد أمرين: إما تأويل هذه النصوص كلها، فتتمزق الشريعة وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإمَّا أن يُقال إنَّ هذه النصوص من المتشابهات التي استأثرَ اللهُ بعلمها، وهذا إبطال للشريعة ومحوٌ لها من النفوس، هذا إلى أنَّ الدَّلائل التي احتج بها المؤوِّلون لهذه الأشياء كلها ليست بُرهَانِيَّة، وإلى أنَّ الناس أميل إلى التصديق بظواهر النصوص.
هذا هو رأي ابن رشد في المشكلة، وفي أنه لا يجوز أن نؤوِّل كل تلك النصوص للأسباب التي أشرنا إليها، وهنا نرى من اللازم أن نُشير إلى رأي إمام كبير من الأشاعرة يُشير إلى ابن رشد نفسه كثيرًا، نعني إمام الحرمين الجويني من أعيان المتكلمين في القرن الخامس الهجري.
يقول إمام الحرمين ما نصه: ذهب بعض أئمتنا إلى أنَّ اليدين والعينين والوجه صفات زائدة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمعُ دون قضية العقل، والذي يَصِحُّ عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى (سورة ص: ٧٥) في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله (سورة القمر: ١٤) متحدثًا عن سفينة نوح عليه السلام: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، وقوله (سورة الرحمن: ٢٧) متحدثًا عن بقائه وحده بعد عدم العالم يوم القيامة: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.٢٧ وفي كل هذه الآيات يؤوِّل إمام الحرمين هذه الألفاظ بما لا يجعلها تدلُّ على إثبات صفة جسمية لله تعالى، كما يؤوِّل ما يُؤدي بظاهره إلى ذلك من الآيات والأحاديث الأُخرى، ومن هذا الآية رقم ٢٢ من سورة الفجر التي تقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، ويرى أن المجيء هنا معناه مجيء أمر الله وحكمه. ومِن هذا أيضًا حديث النزول المشهور الذي جاء فيه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول: هل من تائب فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من داعٍ فأستجيبَ له؟»٢٨ فإنه يؤوِّل في هذا الحديث «نزول الله» بجعل المراد منه نزول ملائكته المقربين.٢٩
إننا نَرى بعد ذلك أنَّ من السهل تأويل تلك النصوص ونحوها بما يبعدها عن إيهام الجسمية لله سبحانه وتعالى دون أي عناء، وأنه في طاقة من ليس من أهل البُرهان إدراك هذه التآويل والاقتناع بها؛ ولهذا لا نَدري كيف لم يرضَ ابن رشد هذه التآويل التي يعرفها والتي تنفي عن الله تعالى توهم اتصافه بالجسمية، وبخاصَّة أنه باعتباره فيلسوفًا يبعد الله تمامًا عن كل ما يُوهم الجسمية.
ومهما يكن فإنَّ فيلسوف الأندلس يعرف أن الجمهور لن ينتهي عن التساؤل عما هو الله، ولن يقنعهم أن يُقال إنه موجود وليس كمثله شيء؛ ولهذا يرى «أن يُجابوا بجواب الشَّرع فيُقال: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف به الله نفسه في كتابه العزيز، فقال تعالى (سورة النور: ٣٥): اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وبهذا وصفه النبي ﷺ في الحديث الثابت، فإنَّه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنى أراه!»٣٠ وبخاصة كما يذكر أيضًا ابن رشد بعد ما تقدم، والنور يجتمع فيه أنه محسوسٌ تعجز الأبصار والأفهام عن إدراكه مع أنَّه ليس جسمًا، والجمهور يفهم من الموجود أنَّه المحسوس، وأيضًا فالنور أشرف المحسوسات؛ فوجَبَ أن يُمثل به أشرف الموجودات وهو الله تعالى. هكذا يرى ابن رشد أنه بما ذهب إليه في صفة الجسمية صان الشرع عن الشكوك، وجمع بين الآيات والأحاديث، وجعل إيمان الجمهور في أمن من الشبهات. على أنَّ إمام الحرمين يؤوِّل آية النور بأنَّ المُراد منها هو أنَّ الله هادي أهل السماوات والأرض، ثم يقول: ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القولَ بأنَّ نور السماوات والأرض هو الإله.٣١
وأخيرًا من الإنصاف لابن رشد أن نُؤكد هنا أنَّه لا ينبغي أن نفهم مما تَقَدَّم أنه يعتقد أنَّ الله تعالى نور، ولكنَّه فقط يرى أنَّ ذلك أنسب وأصلح ما يُجَاب به الجمهور حين يسألون عن الله ما هو؟ وأنَّه من الخير عدم البحث في صفة الجسمية إثباتًا أو نفيًا، فإنَّ هذا يُؤدي إلى البحث فيما تعجز العقولُ عن فهمه، أي: عن طبيعة الله مثلًا.
(جـ)وإذا كانت صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع؛ فلم يثبتها أو ينفِها كما رأينا، وإن كان — كما يقول ابن رشد — أقرب إلى إثباتها من نفيها، فهل الأمر كذلك عند فيلسوف الأندلس في هذه الصفة الأُخرى، أي: كون الله تعالى في جهة، أم ماذا يرى؟
هنا نجد ابن رُشد يُؤَكِّد لنا «أنَّ هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أوَّل الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتْها المُعتزلة، ثم تبعهم على نفيها مُتأخرو الأشعرية كأبي المعالي «الجويني» ومن اقتدى بقوله.» ولا عجب في هذا كما يقول، فإنَّ ظواهر الشرع كلها من القرآن والحديث تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى (سورة السجدة: ٥): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وقوله (سورة المعارج: ٤): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وقوله (سورة الملك: ١٦): أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ومثل حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليلة كل جمعة.
إلى غير ذلك كله من الآيات والأحاديث «التي إنْ سُلِّط التأويلُ عليها عاد الشرع كله مؤوَّلًا، وإن قيل إنها من المتشابهات عاد الشرع كله مُتشابهًا؛ وذلك لأنَّ الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأنَّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنَّبِي ﷺ حتى قرب من سِدْرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أنَّ الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع.»٣٢
وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ إذن نفى المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة الكون في جهة عن الله سبحانه؟ إنهم صاروا إلى هذا لأنَّ الكل متفق على أنَّ الله ليس بجسم، وإن كان ابن رشد لا يرى التصريح بذلك للجمهور كما عرفنا، واعتقد نُفاة الجهة أنَّ إثباتها يُوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يُوجب إثبات الجسمية، فلذلك اشتدوا في التدليل على نفي الجهة عن الله سبحانه وتعالى.٣٣
ولكنَّ فيلسوف قُرطبة لا يَرَى في إثبات الجهة هذا الخطر؛ لأنَّ الجهة كما يقولُ غير المكان،٣٤ إنه يرى أنَّ الجهة لا تكون غير واحد من أمرين: سطوح الجسم الستِّ المُحيطة به، وهي ليست مكانًا للجسم أصلًا، أو سطوح الأجسام المُحيطة به التي تعتبر مكانًا له، مثل سطوح الهواء المُحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بالهواء والتي هي مكان له، وهكذا كل الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
وقد قام البُرهان أنَّه لا يُوجد خارجَ سطح الفلك الخارج جسمٌ آخر، وإلا لكان خارجَ هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر هكذا إلى غير نهاية؛ فإذا قام البرهان بعد ذلك على وجود موجود في هذه الجهة التي لا يمكن أن يكون فيها الجسم، فواجب أن يكون غير جسم، وليس للخصوم أن يقولوا إنَّ خارج العالم خلاء، فإنه قد تبين في العلوم النظرية امتناع الخلاء.٣٥ وهذا الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وقد قيل في الآراء القديمة والشرائع الغابرة إنه مسكن الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة، فإن كان ها هنا — كما يقول ابن رشد — موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن يُنسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.٣٦ ويختم ابن رُشد كلامه في هذا بقوله بعد ما تقدم: «فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنَّه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنَّ وجه العُسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له.»
هذا، وقد رأى فيلسوفنا هنا أن يُصرح بإثبات الجهة، على حين أنَّه أَوجَبَ في صفة الجسمية عدم التصريح بإثباتها أو نفيها؛ لأنَّ الشبهة التي أوجبت على نُفاة الجهة لا يتفطن الجمهور لها، فلا ضرر إذن في إثباتها بل الضرر في نفيها وتأويل كل النصوص الدالة عليها
تَخرج المنح دائمًا من رحم المحن، وكأن آلام الحاضر ما هي إلا مخاض لولادة المستقبل! هكذا كانت الثورة الصناعية في تاريخ أوروبا والعالم في أواخر القرن الثامن عشر .. تلك الثورة طغت على اهتمامات بطل قصتنا كارل ماركس
نحتاج إلى العودة قليلًا إلى تلك الفترة لنرى جانبًا مظلمًا من بداية الثورة الصناعية. إن نظرة عابرة في الظروف السائدة تلك الأيام الأولى من انتشار المصانع تكفيك لتعلم أنها كانت فترة مفزعة بدرجة كافية لتجعل رأسك يشيب رعبًا.
في تلك الفترة، كان يتم إرسال أبناء الفقراء إلى المصانع وأعمارهم لا تتجاوز العاشرة بكثير، فأطفال مصنع لودهام Lowdham (مصنع في مدينة إنجليزية) على سبيل المثال كانوا يُضربون بالسياط، لا عقابًا عن أخطاء ارتكبوها، بل كحافز لبذل المزيد من المجهود إذا بلغ منهم التعب مبلغه آخر النهار. أما في مصنع ليتون Litton فكان الأطفال يعملون شبه عراة في برد الشتاء القارس، ليُضطروا للزحف مع الخنازير على أربع لتنظيف النفايات العالقة في الأحواض. في هذا المصنع المرعب، كان الأطفال يتعرضون لكل ما يخطر ببالك من عنف جسدي واعتداء جنسي، من مدير المصنع وصاحب العمل، الذين كانا يتفننان في أساليب تعذيب الأطفال في مشاهد تقشعر لها الأبدان.
كانت الآثار الاجتماعية للثورة الصناعية واضحة للعيان، فالعمال (رجالًا ونساءً وأطفالًا) كانوا مكدسين في المصانع كالعبيد تحت تصرف مالك المصنع الرأسمالي الجشع. إنه عهد رِقٍ وعبودية جديد، لكن في ثوب صناعي بدل الثوب الإقطاعي.
في تلك الظروف بالغة السوء، لم يكن من المتصور أن يعترض أحد على الأجور أو ساعات العمل (كان الأطفال يعملون في بعض المصانع ثلاث عشرة ساعة يوميًا) فضلًا عن الاعتراض عن المساكن غير الآدمية والحياة الكئيبة التي يعيشونها في المدن الصناعية التي تعج بروائح المصانع النتنة.
كارل ماركس – الثورة الصناعية وعمالة الأطفال صورة تعبيرية: عمالة الأطفال في جورجيا، الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1909 وسط تلك الظروف، ظهر المؤرخ والاقتصادي جون شارلز سيسموندي Jean Charles Sismondi ليكون أول الاقتصاديين الذي تحدثوا عن تقسيم طبقي للمجتمع، فمجتمع الثورة الصناعية كان مكونًا من طبقتين اجتماعيتين تعادي إحداهما الأخرى: الرأسماليين الأغنياء (مُلاك المصانع) والعمال الفقراء.
رغم هذه الصورة القاتمة للنظام الاجتماعي التي أفرزته الثورة الصناعية، فقد كان لهذه الأخيرة الفضل في أكبر تطورات الفكر الاقتصادي؛ فقد أفرزت الثورة الصناعية اثنين من أكثر الاقتصاديين شهرة على الإطلاق.
الأول: آدم سميث، حيث كان الاقتصادي المتنبئ بمنجزات تلك الثورة وفوائدها. الثاني: كارل ماركس، حيث كان المنذر بمساوئ تلك الثورة، منتقد السلطة التي أعطتها لملاك المصانع وما سببته تلك السلطة من فقر وقهر للعمال، فقد جاء كارل ماركس ليتلقى تلك الفكرة التي طرحها سيسموندي ويبلورها في إطار فلسفي له أبعاد مجتمعية واقتصادية وسياسية ما لا تعرفه عن كارل ماركس ! ولد كارل ماركس Karl Marx عام 1818 في مدينة ترير Trier بألمانيا، حيث كان الابن الثاني لأسرة يهودية غنية لم تلبث أن تحولت إلى المسيحية ليحتفظ الأب هينريتش Heinrich بشهرته الواسعة في المحاماة! وعلى الرغم من انحدار كلا الأبوين من نسل أحد أشهر الحاخامات اليهود إلا أن كارل ماركس كان دائم المعاداة لتلك الأصول. كان البارون الغني ويستفالين Von Westphalen أحد جيران ماركس، وكان هذا الأخير يعتبره بمثابة عمه، أدت هذه الجيرة والعلاقة القوية بين العائلتين لزواج ماركس من ابنة البارون: جيني Jenny!.
تشرب عقل كارل ماركس العقلانية (أي الاحتكام إلى العقل والمنطق كمصدر للمعرفة والتفسير) وكذلك الرومانسية (وهي حركة فكرية نشأت كرد فعل على الثورة الصناعية، تدعو للتحرر من قيود العقل والواقع) منذ صغره، فقد نهل، من جهة، من عقلانية والده المتأثرة بمفكري فرنسا وإنجلترا، ومن جهة أخرى عرَّف البارون المثقف ماركس على روايات شكسبير وكتب المدرسة الرومانسية، كما عرَّفه على الاشتراكية المثالية.
الاشتراكية المثالية (الخيالية) هي أول تجربة اشتراكية، نشأت على يد رجل الأعمال البريطاني روبرت أوين Robert Owen في مصانع نيو لانارك New Lanark، حيث لا عقاب للأطفال، مع توفير مدارس لتعليمهم والسماح لهم باللعب وسط ظروف عمل أكثر آدمية وساعات عمل أقل. ترى الاشتراكية المثالية مواجهة الرأسمالية والحصول على حقوق العمال ولكن باستخدام طرق سلمية كنقابات العمال، فهي اشتراكية خالية من الصراع الطبقي حيث تسعى لجعل الفقراء منتجين بطرق سلمية. سافر ماركس وهو ابن السابعة عشرة إلى جامعة بون University of Bonn لدراسة الفلسفة والأدب، لكن ضغوط والده ألزمته دراسة القانون، وخلال دراسته في الجامعة انضم ماركس إلى نادي الشعراء (وهي مجموعة تحتوي على الشباب المنشغلين بالسياسة) وكعادة التجمعات السياسية في تلك الفترة، فقد كانت الشرطة لهم بالمرصاد.
في هذه الفترة الزمنية، سبَّب ماركس لأبيه خسارة الكثير من الأموال بسبب طيشه، فقد كان كارل يشرب الخمروينفق الأموال بسفاهة، ما جعله يتعرض للسجن أكثر من مرة بسبب السُكر والثمالة في زنزانة خاصة بالجامعة. رغم ذلك أكسبت تلك المرحلة ماركس بعض الخبرات العملية والقانونية وحققت له أول انتصار سياسي خوله أن يكون رئيسًا لمجتمع الحانات في البلدة!
أما فيما يتعلق بالدراسة، فعلى الرغم من أن درجاته كانت جيدة في الفصل الأول من الدراسة الجامعية، إلا أنها سرعان ما تدهورت بعد ذلك، مما أجبر والده على نقله إلى جامعة برلين University of Berlin لأنها أكثر صرامة، ولكن محاولات الأب اليائسة لم تغير شيئا، بل على العكس فقد اضطر كارل للتنقل عشر مرات خلال الخمس سنوات التي قضاها في برلين هروبًا من القضايا المرفوعة ضده من الدائنين، وانحدر حال كارل لدرجة أنه كان مثالًا لطلاب الكلية غير المغتسلين القذرين، وانحرف عن دراسة القانون والفلسفة وأصبح طالبًا لا يرى في الجامعة سوى معسكر للتخييم!
تزامنت هذه الفترة الزمنية التي قضاها ماركس في جامعة برلين مع اكتساح جدل فلسفي كبير لجامعات ألمانيا المحافظة التي اختلفت في تقييمها لمذهب جديد كان نتيجة الإنتاج الفكري الغزير للفيلسوف الألماني فريديريك هيجل (Friedrich Hegel).
كارل ماركس – لوحة لفريديريك هيجل رسمها فنان مجهول – ويكيبيديا لوحة لفريديريك هيجل رسمها فنان مجهول – ويكيبيديا ماركس الفيلسوف! أطلق هيجل نظامًا فلسفيًا ثوريًا لا يؤمن بالثبات، حيث أن فكرته قائمة على اعتبار أن التغيير هو السنة الكونية التي تُسيرالحياة، كيف ذلك؟ عن طريق مبدأ فلسفي أطلق عليه المنطق الدياليكتيكي (المنطق الجدلي)، وهو ينبني على ثلاث مبادئ:
أن كل فكرة (thesis) لها نقيض (antithesis) يعارضها وينتقدها. أن هذا النقيض يتفاعل مع الفكرة عن طريق الحوار أو الصراع. أن تفاعل الفكرة مع نقيضها يؤدي إلى ظهور فكرة جديدة (synthesis) . على هذا الأساس، فكل الأفكار ستتغير عاجلًا أم آجلًا، وتُعدُّ الأفكار الاقتصادية أكبر دليل على ذلك، فكل مدرسة من الفكر الاقتصادي تؤدي إلى ظهور مدرسة معارضة لها، والحوار والصراع الفكري بين هاتين المدرستين يؤدي إلى ظهور مدارس اقتصادية جديدة تضم أفكارًا من كلا المدرستين المتصارعتين.
انقسم الفلاسفة الذين تأثروا بأفكار هيجل بعد وفاته سنة 1831 إلى قسمين:
اليساريون الراديكاليون: الذين انشغلوا بالسياسة والدين وأطلق عليهم حينها “شباب الهيجليين”، حيث انتقدوا تصورات هيجل المثالية وحرفوا فلسفته إلى منحى مادي تماما. اليمينيون المحافظون: والذين أبقوا على أغلب أفكار هيجل المثالية بدون تحريف. وعلى الرغم من أن هيجل توفي قبل أعوام قليلة من بدء ماركس لحياته الجامعية، إلا أن فكره أسر عقل ماركس ليصر على أن يصبح فيلسوفا، مما دفعه لتعلم الفلسفة بمفرده ليلتحق بعدها بشباب الهيجليين الذين كانت تدور بينهم نقاشات حادة حول الشيوعية النظرية باستخدام أسلوب هيجل الدياليكتيكي. وعلى الرغم من حصول كارل ماركس على شهادة جامعية من كلية الحقوق، إلا أنه كان قد فتن بالفلسفة !
ملاحظة: يجب علينا هنا أن نفرق بين مصطلحين يخلط بينهما العديد من الناس، الاشتراكية والشيوعية، فالشيوعية هي حالة مثالية يريد معتنقوها تحويل المجتمع لها، هذا المجتمع يجب أن تتوافر فيه الخصائص التالية: أولا: المجتمع الشيوعي هو مجتمع يتساوى فيه الجميع بشكل مطلق، فلا يفرق بينهم فكر أو دين أو حالة اجتماعية، المجتمع الشيوعي هو مجتمع مثالي بلا طبقات. ثانيا: بما أن الناس متساوون، فلا سلطة لأحد على أحد، ولا وجود لسلطة سياسية أو دولة تُسيِّر شؤون الناس. ثالثا: لا وجود لمفهوم الملكية الخاصة في المجتمع الشيوعي؛ فكل الموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج من مزارع ومصانع في المجتمع الشيوعي هي ملكية عامة. السؤال هنا: كيف يمكن الوصول إلى هذه المجتمع المثالي؟ كيف يتم الانتقال من مجتمع مكون من طبقين تملك إحداهما (البرجوازيين – الأغنياء) وسائل الإنتاج في حين تعمل الأخرى (البروليتارية – العمال) في المصانع كالعبيد في ظروف مأساوية إلى مجتمع شيوعي يتساوى فيه الجميع؟ كيف تنتقل الملكيات الخاصة (المصانع والمزارع والشركات) إلى ملكية عامة؟ كيف ننتقل من حالة الدولة إلى حالة اللا دولة؟ الجواب هو: عن طريق الثورة! ثورة يقودها العمال. ثورة تُسقط الدولة وتُؤمم (التأميم هو نقل الملكيات الخاصة إلى ملكية عامة) جميع أملاك البرجوازيين، ثم تضع على رأس السلطة نظامًا سياسيًا يقود الفترة الانتقالية التي تمتد بين المجتمع الرأسمالي الطبقي إلى مجتمع شيوعي مثالي، نظام نعرفه باسم: النظام الاشتراكي. الفرق بين الشيوعية والاشتراكية، هو أن الشيوعية هي الحالة المثالية التي يريد المفكرون الشيوعيون الوصول إليها، بينما الاشتراكية هو النظام السياسي الذي سيحول المجتمع إلى مجتمع شيوعي، ببساطة الشيوعية هي الهدف بينما الاشتراكية هي الوسيلة التي ستحققه. جاء عام 1838 بحدث غيَّر حياة ماركس بشكل كبير؛ حيث توفي والد ماركس الذي كان يدعمه ماليًا، وأدى ذلك إلى انخفاض حاد في دخل أسرته، فلجأ ماركس إلى كتابة الروايات لزيادة دخله، لكنه لم يُنشر له أي منها خلال حياته، مما أقنعه بإتمام دراسته والحصول على شهادة أعلى ومستقبل أفضل، فبدأ في عام 1840بالتعاون مع أستاذه السابق برونو باور Bruno Bauer في تحرير كتاب “فلسفة الدين” الذي جمع أفكار هيجل التي وضحها في محاضراته، وساعده ذلك في إتمام أطروحته التي كان يرغب في الحصول عن طريقها على الدرجة الأكاديمية الأعلى، وكان موضوع هذه الأطروحة هو “الفلسفة اليونانية”.
لم تلق هذه الأطروحة إعجاب الجميع، فقد كانت مثيرة للجدل، وخاصة بين الأساتذة المحافظين في جامعة برلين، لذا قرر ماركس بدل ذلك تقديم أطروحته إلى جامعة جينا University of Jena الأكثر ليبرالية، وبالفعل منحت هيئة التدريس له درجة الدكتوراه في أبريل 1841.
اتجه ماركس بعد حصوله على درجة الدكتوراه للعمل بالصحافة، فعمل لصحيفة راينيش زايتونج Rheinische Zeitung الليبيرالية الموجهة للطبقة الوسطى، لكن عمله بها كان نذير شؤم لتغلق الصحيفة بعد عمله بها هناك بخمسة أشهر فقط لانتقاده قيصر روسيا، ليتوجه بعدها ماركس لباريس ويختلط إثر ذلك بالشباب الشيوعيين، وليبدأ في مغازلة الشيوعية بكتاباته، ويلتقي بفريديريك إنجلز Friedrich Engels لتبدأ بعدها أكبر التحولات الفكرية في حياته.
كان فريدريك إنجلز أحد هؤلاء الشباب، وكان ابنًا لأحد الأثرياء ملاك مصانع النسيج. كانت حياة إنجلز مليئة بالتناقض، فهو في الصباح رأسمالي من طبقة الأثرياء يعمل مديرًا في مصنع والده ويتقاضى راتبًا كبيرًا، أما المساء فله شأن آخر، فقد كان يمضيه وهو يقرأ لهيجل والأدب الشيوعي، هذا التناقض لم يزعج إنجلز كثيرًا، فلم يكن يمانع أن يحتسي كأسًا من أجود أنواع الخمر في صحة الطبقة العاملة. وعندما لم يكن يطارد الثعالب في صيده كما يفعل بنو جلدته من الأثرياء، كان يطارد النساء!
كان تأثير إنجلز على ماركس كبيرًا، فقد بدأت فلسفة ماركس تتخذ شكلًا أكثر قوة ووضوحًا، حيث دمج ماركس المنهج الديالكتيكي المستمد من أفكار هيجل عن كيفية التغيير، مع المنهج المادي (والمبني على أن الأفكار تستمد قوتها من واقعيتها).
أطلق ماركس على هذا المزيج الجديد: مصطلح المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية ! ومن هنا قام ماركس وإنجلز، باعطاء البشرية فهما ماديًا للتاريخ، من خلال وضع مذهب وفلسفة شاملة عن التطور لتشمل الحياة الاجتماعية وتطبيقها على تاريخ وتطور المجتمعات، وكان أكبر تعبير عن هذا المذهب الجديد هو ما حدث بعدها.
كارل ماركس والبيان الشيوعي: ثورة بلا قائد أصدرت عصبة الشيوعيين Der Bund Kommunisten (حزب سياسي شيوعي أنشئ في لندن عام 1847) عام 1848 بيانًا بأهدافها وأطلقت عليه اسم “البيان الشيوعي” حيث كتبه اثنان من أبرز قادتها وهما ماركس وإنجلز وتزامن صدور هذا الكتيب مع اندلاع ثورات كبرى شملت أغلب القارة الأوروبية.
استهل البيان بكلمات حماسية تنذر بالخطر:
“إن شبحًا يطارد أوروبا، ذلك هو شبح الشيوعية، وقد عقدت الدول الكبرى حلفًا مقدسًا لإبعاد هذا الشبح: وهو حلف يشترك فيه البابا والقيصر“.
وقد كان عام 1848 فعلًا عامَ رعب بالنسبة للنظام القديم السائد في أوروبا (القائم على الملكية الخاصة والنظام الإقطاعي) حيث هب العمال في باريس في ثورة بلا قائد ولا تنسيق، وكذلك كان الأمر في في إيطاليا وبرلين وعدد من دول أوروبا التي انتفضت فيها الجماهير!
وانطلاقًا من تحليل مادي للتاريخ، يشرح البيان أن الطبقات الاجتماعية هي نتاج التطور الاقتصادي وأن مسار التاريخ كله يقوم على الصراع بين الطبقات، ففي مجتمعات الرقيق القديمة، كان هناك صراع بين العبيد وملاكهم، ثم انتقل الصراع في النظام الإقطاعي بين الفلاحين وملاكِ الأراضي، ثم أنتجت الثورة الصناعية صراعًا آخر، لكن هذه المرة كان صراعا بين العمال وملاك وسائل الإنتاج، هذا الصراع ضروري ولا يمكن تجنبه، أما نتائجه فتكون إما تغييرات ثورية لصالح طبقة ما أو خراب مشترك للجميع.
لذلك كانت ألفاظ البيان واضحة:
“إن الشيوعيين يحتقرون إخفاء آرائهم وأغراضهم، إنهم يعلنون في صراحة أنه لا يمكن تحقيق غاياتهم إلا بقلب جميع العلاقات الاجتماعية القائمة وبقوة، فلترتعش الطبقات الحاكمة من الثورة الشيوعية، إذ ليس لجماهير البروليتارية (العمال) ما تفقده سوى أغلالها“.
لكن شيئًا لم يتغير!
فلم يثمر هذا البيان ثورة شيوعية كما كان المتوقع، بل كانت نتيجته مجرد صيحة تولدت من خيبة الأمل واليأس! فكان النظام القديم القائم على حق الملوك المقدس هو المسيطر والمتغلل في أنحاء أوروبا بل وفي روسيا نفسها التي كانت تعتبر حجر الزاوية في الاستبداد الأوروبي!
كانت الثورات التي قادها العمال ثورات بلا قادة تفتقر إلى التنظيم والهدف؛ لذا فقد حققت انتصارات مبدئية ثم وقفت لا تدري ما الخطوات القادمة، فاستجمع النظام القديم قوته وعاد ليحتل مكانه بقوة لا تقهر. انتهت الثورات وضربت الجماهير بالمدافع، كانت أحداثًا دامية وعنيفة! فقد كان الفكر الماركسي تحديًا خطيرًا للطبقات الحاكمة لأنه يستهدف تغيير الواقع، خاصة مع الانتشار السريع له نتيجة التحرر من القيود الكنسية في الدول الصناعية المتقدمة كروسيا وألمانيا.
رأس المال : ملحمة لا كتاب في خمسينيات القرن التاسع عشر، أصاب الفقر ماركس وعائلته، حيث عاشت أسرته في شقة رخيصة بواحدة من أفقر مناطق لندن. نقل بؤس تلك المعيشة مخبر الشرطة المكلف بمراقبته قائلًا: “كل شيء قذر، كل شيء مليء بالتراب، أصبح الجلوس عملًا خطيرًا في ذلك المنزل، حيث أن الكراسي لها ثلاثة أرجل فقط!“، وعن ماركس نفسه قال: “مضياف للفقراء، يحيا حياة الغجر، الاغتسال وتغيير الملابس الداخلية من الأمور النادر القيام بها، دائم السُّكر والتسكع إلا إذا كان لديه عمل يقوم به فكان يصل الليل بالنهار”.
العجيب أن ماركس لام الطبقة البرجوازية على الحال المتردي الذي وصل إليه بالرغم أن الأموال التي كانت تأتيه من صديقه إنجلز ومن عائلة زوجته جيني وكذلك من مقالاته المنشورة كانت تكفيه لحياة رغيدة وسط الطبقة الوسطى! في تنصل كامل من المسؤولية.
كتاب الرأسمال لـ كارل ماركس كتاب الرأسمال لـ كارل ماركس على إثر ذلك، لم يجد ماركس مهربًا إلا دفن نفسه في أكوام من النصوص الاقتصادية بالمتحف البريطاني في لندن، فقرأ ماركس كل ما وقعت عليه يداه من كتب اقتصادية، وطوال ثمانية عشر عامًا (1850-1867) كان يكتب مسودات كتابه الذي أسماه: “رأس المال”Das Kapital .
كان ماركس دقيقًا وبطيئًا جدًا في الكتابة، فرغم تشجيع إنجلز له على تغييره لإيقاع كتابته البطيء إلا أن ذلك كان بلا جدوى، فقد استغرق ماركس عامين كاملين ليصدر المجلد الأول من كتابه، ليفارق الحياة عام 1883 قبل أن ينشر باقي أجزاء الكتاب، لكن لحسن الحظ، فقد جمع صديقه إنجلز الكثير المسودات التي لم ينشرها ماركس بعد، لينشر المجلد الثاني من كتاب صديقه الراحل عام 1885 والمجلد الثالث عام 1894، أما المجلد الرابع والأخير فلم ينشر إلا في عام 1910.
كتاب رأس المال ضخم عظيم يضم 2500 صفحة، استشهد فيها كارل ماركس بأكثر من 1500 كتاب، وتتنقل في صفحات كتابه بين أسلوب رياضي مليء بالدقة، وآخر عاطفي مليء بالغضب والضيق!
كان الكتاب ملحمة يقف فيها بطلا دراما الثورة الصناعية وجهًا لوجه: العامل والرأسمالي.
قسم الكتاب إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول: مدخل إلى الرأسمالية يوضح فيها ماركس فكرته عن السُّخرة، في تحليل نقدي للاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي المتجذر في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
القسم الثاني: قواعد الحركة الرأسمالية التي ستؤدي حتمًا لانهيارها حيث شرح فيه هذه القواعد وكذلك الأفكار الرئيسية المؤسسة لاقتصاد السوق، حيث فسَّر كيفية تحقيق القيمة والفائض، وهو ما يُمثِّل أهمية كبيرة لفهم البناء النظري لحجة ماركس بأكملها.
القسم الثالث: التكاليف النفسية للرأسمالية حيث فسِّر فيها كيف يزداد بؤس الطبقات العاملة في النظام الرأسمالي
المصدر: أحمد عبدالعزيز /موقع abeqtisad.com
إسهاماته الفكرية مقال: فارس عبد الاله النعيمي / المصدر: الحوار المتمدن
كان كارل ماركس من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع وصاغ نظرياته في حقبة شهدت تطور السوسيولوجيا تطورا لم يُعهد له نظير من قبل. ونظريات ماركس متعددة الاهتمامات بقدر تعلق الأمر بمادة موضوعها ، وذات طابع مركَّب لكنها رُغم تنوعها فهي في مجملها نسيج متكامل ومتسق. وأنتج ماركس أعماله في فترة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة. ففي اواخر القرن التاسع عشر كانت الثورة الصناعية قوة الدفع الرئيسية في التغيرات التي امتدت آثارها الى الشطر الأعظم من القرن العشرين. وراح ماركس يمارس نشاطه النظري في غمرة هذه التحولات. وانطلقت بتأثير نظريته حركات اجتماعية واسعة في عموم اوروبا ، وباسمها دُشنت فترة من البناء الاجتماعي مع انتصار الشيوعية البلشفية في روسيا القيصرية وجيش التحرير الشعبي بقيادة ماو تسي تونغ في الصين. هذا المقال محاولة لتقييم واحدة من أهم نظريات ماركس ومساهمتها في السوسيولوجيا المعاصرة ، تلك هي نظرية الاغتراب (أو الاستلاب). ولقد صاغ ماركس نظريته بدراسة اغتراب الانسان في اطار عملية الانتاج. وتهدف هذه المحاولة الى ان تبين ان نظرية ماركس في الاغتراب ما زالت تحتفظ بصحتها في مجتمع اليوم حيث تسببت التطورات الاجتماعية والتكنولوجية في اتساع الاغتراب ليشمل نواحي اخرى من حياة الانسان والمجتمع الى جانب عالم العمل والانتاج.
لفهم النظرية الماركسية فان على عالم الاجتماع ان يتناول بالدرس والتقييم أوسع واهم ما كتبه ماركس في تحليله لقوانين التطور التاريخي لا سيما نظرية انقسام المجتمع انقساما تراتبيا الى طبقات وما يترتب على ذلك من لامساواة. ويشير عمل ماركس في هذا المجال الى المبادئ العامة التي انطلق منها لصوغ الجوانب الاخرى من نظريته. ولقد شخص ماركس طبقتين صاعدتين في زمنه لكنهما طبقتان مشتبكتان في صراع من خلال الدور الذي تتولاه كل منهما في عملية الانتاج. ويقول ماركس ان نمط الانتاج الرأسمالي نمط دينامي بما أثبته من قدرة على التجديد والابتكار واستخدام التكنولوجيا لحل ازماته ، ولكنه نمط انتاج مدمِّر في الوقت نفسه ، بما تسببه الرأسمالية ، بوصفها الطبقة المهيمنة في هذه العلاقة ، من فقر في نوعية الحياة الاجتماعية وانحطاط على المستوى الأخلاقي. ويؤكد ماركس ان ميدان الصراع بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الذي درس قوانينه ، هو علاقات الانتاج حيث العامل خالق الثروة والرأسمالي مَنْ يتصرف بها ويدفع للعامل الأجر الذي يحددِّه مقابل ما يبذله من عمل. وهذه العلاقة بين العامل والرأسمالي علاقة تناحرية وذات طبيعة استغلالية وهي الاساس الذي تنهض عليه نظرية وجود طبقات ذات مصالح متناقضة ، وأهم من ذلك أخطر ما يترتب على هذه العلاقة غير المتكافئة: الاغتراب. يميط ماركس اللثام عما يصفه بالآثار المدمِّرة لنمط الانتاج الرأسمالي على الانسان. وهي آثار تطاول قدرات الفرد الذهنية والعلاقات التي يدخل فيها مع الآخر. ويوضح ماركس ان الاغتراب هو انفصام كينونة الانسان عن ذاته ، وعن عملية الانتاج ، وعن الآخر وعن المنتوج الذي يخلقه بقوة عمله. فان حرية الانسان في الاختيار وطبيعته الانسانية الحقيقية تتعرضان الى التشوه ، وتُضفي الرأسمالية على نشاطه طابعا انسانيا كاذبا بما تعيد انتاجه من علاقات غير متكافئة. وما يبقى من الانسان بعد هذه العملية هو قشرة من ذاته الأصلية ولا يعود يمارس نشاطه الحياتي الطبيعي بل يصبح الانسان المغترب “تجريدا”. يغدو الانسان “تجريدا” عندما يفقد كل معنى واحساس بما هو حقيقي وملموس ، ويقع في خواء مطلق حيث يُختزَل نشاطه الطبيعي الى عمل من أجل لقمة العيش فيما يُحكِم الرأسمالي سيطرته على مصير مَنْ يبيعه قوة عمله. وفي موقع العمل يصبح الانسان العامل أسير عمليات رتيبة تجرده من انسانيته. وينطوي هذا عادة على انتاج جزء من كلٍ أكبر ، ليس له أي معنى عند العامل لأنه لن يملك الجزء ولا الكل ولن يكون قادرا على استخدام نتاج عمله وثمرة مجهوده. وهذا هو الاغتراب الاقتصادي وأحد العناصر الرئيسية في نظرية الاغتراب الماركسية.
الشكل الآخر من الاغتراب هو الاغتراب الناجم عن علاقة الانسان بالانسان. ويقول ماركس في “مخطوطات 1844″ ان موضوع العمل يصبح….تشييء حياة البشر”.
بفصم موضوع العمل عن تحكم الانسان به يُفصَم الانسان عمليا عن واقعه الذي لا غنى عن التعاطي معه ليطور الانسان نفسه في مجرى هذه العلاقة بوصفه كائنا بشريا. ولولا هذا الشكل من الاغتراب لكان بمقدور الانسان ان يصنع منتجاته في حال من الانسجام والتناغم معها ومع نشاطه المنتج لها لأن امكانات العقل البشري لا تتحرر وطاقاته الابداعية لا تتفتح إلا بخلق اشياء رائعة الجمال وبتنوع لا محدود ، كما يقول ماركس. ويمتد الاغتراب الى علاقة الانسان بالانسان نظرا الى ان ما يُنتَج من سلع في موقع تفاعلهما خلال عملية الانتاج ، يكون هو الصنم الذي لا يعلو عليه اعتبار آخر سوى الربح. وبانخراط الانسان في هذا العمل الرتيب المخدِّر لقواه الفكرية ، المُهين للعقل والجسد على السواء ، نظرا الى الاقدام عليه بدافع القسر وغياب الخيارات الاخرى ، لا بد ان يكون ناتج عمل الانسان غريبا عن العامل الذي خلقه ومُلك الرأسمالي الذي يشتري قوة عمله. وبذلك يُسهم العامل في اعادة انتاج العلاقات الاجتماعية ذاتها التي تظلمه. والرأسمالي نفسه ايضا يكون موضوع اغتراب في موقع العمل حيث صلته الوحيدة بالنشاط الانتاجي هي ما يحققه من ربح في الحصيلة النهائية. وبما ان العمال لا يستطيعون ان يقيموا علاقة انسانية طبيعية مع الرأسمالي فان الرأسمالي ايضا لا يستطيع ان يقيم علاقة كهذه معهم. وهذا الاغتراب ناجم عن حقيقة ان الرأسمالي هو الذي يدفع اجور العمال ويحدِّد ساعات عملهم.
من اسباب القوة في نظرية الاغتراب التي صاغها ماركس انها تسلح العالم السوسيولوجي بفهم للعمليات والعلاقات التي تشكل لحمة المجتمع وخاصة في موقع العمل. وماركس يُسلط الضوء على القيم الاجتماعية والاخلاقية التي تحدِّد كيف يُعامَل الانسان المنتِج وكيف يتصرف في موقع الانتاج. كما تشدد النظرية على ان انهاء هذا الاغتراب سيحرر امكانات الانسان وطاقاته ويتيح له ان يستعيد تلك العلاقات التي تجعله مخلوقا فريدا ، وينتشلها من انحطاطها في ظروف الرأسمالية الحالية. وفي الوقت الذي يحتفي فيه ماركس بمساهمة التصنيع في تطوير حياة الانسان المادية ومستواه الفكري فانه يلعن العلاقات الرأسمالية التي حولت العمل الى نشاط يجرد البشر من انسانيتهم ويهدد فرديتهم المتميزة وتقدم الانسانية عموما. ولكن محلليين ينتقدون هذا الجانب من نظرية الاغتراب بوصفه عنصرا متناقضا فيها منطلقين من الموضوعة القائلة ان فكرة التقدم والفردانية ذاتها ازدهرت تحديدا في حقبة التصنيع مع صعود الرأسمالية ، وان المجتمع المنتِج بات مجتمعا أكثر دينامية في انتاجه الذي يدلل عليه ما شهده العالم من ابتكارات واختراقات في اطار الثورة التكنولوجية منذ مطالع القرن الماضي. رغم الصورة القاتمة التي ترسمها نظرية ماركس عن اغتراب الانسان بجريرة العلاقات الرأسمالية فقد صاغها صاحبها ايمانا منه بأن الانسان الذي صنع اغترابه بنفسه قادر على اقصائه من حياته بتغيير العلاقات الكامنة في اساس الاغتراب. ولا أقل من ثورة اجتماعية عالمية ، بحسب ماركس ، قبل ان يبلغ الانسان مستوى من الوعي يقنعه بالغاء العلاقات اللامتكافئة والفوارق الاجتماعية ليعود الانسان الى حالته الطبيعية. وحينذاك سيبزغ نمط انتاج جديد ومعه حياة جديدة. وما شهده العالم في القرن العشرين من تجارب لم يُكتب لها النجاح ، لاسيما في الاتحاد السوفيتي السابق ، كان حالة من الجمود نشأت بعد تدمير العلاقات السابقة دون بناء العلاقات التي حدَّد ماركس معالمها لالغاء الاغتراب. فلم ينشأ مجتمع المساواة اللاطبقي وحرية الخيار والاشتغال على موضوع الانتاج بانسجام معه ومع الذات ، وبالتالي لم يتوفر العلاج المطلوب لاقصاء الاغتراب من حياة الانسان. من نقاط الاختلاف بين ماركس والقطبين الآخرين في مدرسة علم الاجتماع ، ماكس فيبر واميل دوركهايم ، العقلانية التي اعتمدها كل منهم ، وخاصة فيبر. فعقلانية ماركس تقوم على ما يفعله الانسان ليحقق هدفا ما في الحياة في حين ان عقلانية فيبر تقوم على الحساب البارد والتقنية الصرفة. يضاف الى ذلك ان إعلاء القيم الانسانية واضح التأثير في طرح ماركس لنظرية الاغتراب في حين يجادل فيبر بأن عملية الانتاج مباحة قانونا ما دامت هناك علاقة تعاقدية بين طرفين حرين هما العامل ورب العمل. كما ان النقد/رأس المال هو عند فيبر أداة شديدة الدقة للحساب الاقتصادي والتجارة ، وبالتالي ليس هناك اغتراب إذا كان العمل خيارا حرا وعملية العمل نشاطا يُمارَس بالتراضي.
تتمثل مساهمة نظرية الاغتراب في سوسيولوجيا العصر بتوفيرها اطارا منهجيا يمكِّن عالِم الاجتماع من ممارسة نشاطه البحثي بتطبيق هذه الفكرة على مجتمع القرن الحادي والعشرين ، ليبين بصفة خاصة كيف وَجَد الاغتراب طريقه الى نواحي عديدة من مجتمع اليوم ، وليس في موقع العمل وحده. فالمجتمع الرأسمالي محكوم بمواضعات ومعايير وهيمنة ايديولوجية تتعامى عما تخلقه علاقاته من مشاكل فيما تعمل قيمه على تمويه معضلات حقيقية بواجهات زائفة. وأحدى المعضلات المتأصلة في الرأسمالية ، الاغتراب الذي لا يقتصر في مجتمع اليوم على علاقات الانتاج بل يعمل على تعهير ثقافة المجتمع ذاتها. ومن الامثلة على ذلك الاغتراب الذي يتعرض له الشباب. فان قوى الثقافة السائدة من الفاعلية بحيث إذا تمرد الشباب والمتعلمون من افراد المجتمع على واقع مجتمعهم نتيجة لارتفاع درجة وعيهم ، تكون لدى الايديولوجيا المهيمنة القدرة على تحويل هذا السخط والتمرد الى سلعة تسوِّقها بدافع الربح. وهنا تبدأ اقتصاديات الاغتراب بالعمل من خلال استثمار هذه المادة الخام واستغلالها. ويصح هذا بصفة خاصة على صناعة الموسيقى الغربية حيث تظهر مجموعات وأنماط فنية وتمثيلات ذات اسماء تعبر دلالاتها عن التمرد والغضب ومشاعر الاحباط بسبب عجز الشباب واغترابهم عن الأجيال الاخرى وعن بعضهم بعضا تحت وطأة العلاقات اللاانسانية السائدة. وبهروب الشباب الى الموسيقى بحثا عن وسيلة تُنسيهم اغترابهم فانهم يصنعون صورة جديدة للواقع مادة بنائها الأسماء والعلامات والصرعات الموسمية التي تنتجها موسيقاهم. وبلغ اغتراب الشباب مبلغا باتت معه الموسيقى صاحبة الكلمة الحاسمة في إملاء سلوكهم وتكوين قيمهم وتحديد ملبسهم وحتى ارساء مبادئ اخلاقهم. وحصيلة هذا الاغتراب عند الشباب صورة عن الواقع والحياة تبدو هي الطبيعية على حساب الحقيقة التي ينزل عليها ستار الاغتراب فتغيب عن انظارهم. وسواء أكانت نقمتهم على العلاقات الاجتماعية السائدة جذرية او عابرة فان هذا لا يعود هو القضية بعد ان شفطتهم في فلكها دورة حياة لا تعمل إلا لتحقيق مزيد من الربح للشركات التي تسيطر على صناعة الثقافة. وأزمة الشباب في مجتمع اليوم تسلط الضوء على اتساع رقعة الاغتراب الذي تحدث عنه ماركس وتؤكد ان مساهمة نظريته تتيح لعالم السوسيولجيا دراسة نواحي من المجتمع كان يُعتَقَد انها افلتت من قبضة الاغتراب. ولكن هذا لا ينتقص من تركيز ماركس على شكل الاغتراب الذي عالجه في نظريته ، أي الاغتراب الناجم عن علاقات الانتاج. في دراسة ميدانية لأحد معامل الحديد والصلب أظهر البحث السوسيولوجي استمرار الاغتراب من خلال علاقة العمال مع بعضهم بعضا (Mollona, 2005). ففي هذه الحالة الملموسة كان العمال موزعين في مجموعات منفصلة حسب الوظائف المناطة بهم. فكانت مجموعة تمارس عملا متخصصا واخرى تؤدي عملا رتيبا على خط التجميع. ولا يتبدى التعارض بين طبيعة عمل المجموعتين في تقسيم العمل والاجور (أجور اعلى للعمال المتخصصين) فحسب بل وفي الامتيازات والصلاحيات الممنوحة للعمال المتخصصين تجاه اقرانهم غير المتخصصين وفي التعامل مع المتدربين. وتوصلت الدراسة الى ان هذا يخلق تراتبية واحساسا بالتنافر والتنافس غير الصحي بين العمال. وعمليا فان هذا الوضع يخلق شريحتين من العمال المغتربين عن بعضهم بعضا والمغتربين كلهم عن الحقيقة رغم اشتراكهم في بيع قوة عملهم وتشاطر البؤس الناجم عن حياة الكدح لحساب الرأسمالي دون مقابل يعادل مجهودهم. وبالتالي فان هذه الدراسة تبين ان الاغتراب شرط مقيم على امتداد تاريخ الرأسمالية بصرف النظر عن تغير الظروف التي يحدث فيها. ثمة سوسيولوجيون يرون ان الماركسية عاشت دهرها وعفا عليها الزمن وان التحولات الجذرية التي اقترنت بالثورة التكنولوجية واساليب الادارة دفعتها الى أزمة لم يفلح الماركسيون في حلها. ولكن سوسيولوجيين آخرين يؤكدون انه حتى على افتراض وجود أزمة في الماركسية فلابد ان يكون لها علاج وحل مثلها مثل نقيضها الرأسمالية التي اثبتت قدرة لافتة على ايجاد الحلول لأزماتها الواحدة تلو الاخرى. ويمكن القول ان نظرية الاغتراب والأشكال الحديثة التي يتبدى فيها تؤكد ان الماركسية ليست حية فحسب بل وان هذا الجانب من النظرية يواصل تطوره ويحقق اختراقات جديدة في ميادين السوسيولوجيا. ولعل السوسيولوجيين الذين يقولون بأزمة الماركسية ، أنفسهم يعانون من الاغتراب ازاء ما يظهر من نظريات جديدة تفكك فكرة الحقيقة ذاتها مثل ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ، الخ. ويتحمل هؤلاء السوسيولوجيون مسؤولية الانتقاص من الحقيقة وطبيعة الانسان بتشكيكهم في جدوى تطلعه الى حياة افضل وقدرته على بناء مجتمع يقرِّبه من هذا الهدف. وهم عوضا عن اداء رسالتهم بتشخيص العقبات التي تعترض طريق الانسان في مسعاه النبيل هذا ، ينظرون الى المجتمع على انه بلغ نهاية تاريخه والى التاريخ نفسه على انه وهم. وتذهب محاجَّة هذه المدرسة الى ان من العبث محاولة صوغ سرديات كبرى تطمح في فهم العالم وتفسيره ثم تغييره. ويؤكد سوسيولوجيون مثل غيدينز Giddens وهابرماس Habermas وكاستيلس Castells وبيك Beck على سبيل المثال لا الحصر ، ان نظريات مثل الماركسية تدفع عجلة التقدم وتحفز التغيير الايجابي في المجتمع. ثمة حقيقة لا مراء فيها بصرف النظر عما قاله ماركس وما آلت اليه محاولات ترجمة ما قاله في الواقع ، وهي ان لا وجود لمجتمع طوباوي مع الاغتراب أو من دونه. ولكن السؤال هو ما إذا كان اليأس والاغتراب قد باتا بلاء ملازما لحياة البشر بحيث لم يعد الانسان يؤمن بقدرته على تغيير العالم نحو الأحسن أو الحلم بمثل أعلى في اقل تقدير.
المصادر Ollman, B. 1971, Alienation: Marx’s conception of man in capitalist society, 2nd edition, Melbourne, Aus. Cambridge University. Johnson, F. 1973 Alienation: Concept, term and meaning. New York, USA, Seminar Press Ltd. Joachim, I. 1968. Alienation, from Marx to modern society. Boston, USA, Harvester Press. Ratansi, A. 1982. Marx and the division of labour. Hong Kong, China. Macmillan Press Ltd. Abercrombie, N. 2004. Sociology. Cambridge, UK. Polity Press Ltd. McLelan, D. 1977. Karl Marx selected writings. New York, Oxford University Press. Mandel, E. Novack, G. 1970. The Marxist theory of alienation. New York, Pathfinder Press Inc. Journals Tacussel, P. 1989 (spring). Criticism and understanding of everyday life. Current sociology, the sociology of everyday life. Vol 37 (1), pp. 61-70. Halnon, K. B. May 2005. F****the mainstream music, in mainstream. Current sociology. Vol 53 (3). P. 441-464. Mollona, M. Jun 2005. Steel production and technological imagination in an area of urban deprivation. Critique of anthropology. Vol 25 (2), pp. 177-198.
علم الكلام كما قال بعض الشّيوخ: علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة على الغير، وإلزامها إياه؛ بإيراد الحجج وردّ الشّبه . قال الإمام العضد الدين الإيجي في المواقف:” الكلام علمٌ يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى اللـه عليه وسلم” قال ابن خلدون في مقدمة هو “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين فى الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة. و سر هذه العقائد هو التوحيد.” وعرّفه الجرجانيّ بأنّه: “علمٌ يُبحث فيه عن ذات الله تعالى، وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام” و نفهم من هذه التعريفات أن موضوع علم الكلام هو دراسة عقائد الإسلامية الحقة و الدفاع عنها ضد آراء البدع و الشبهات. و منهجه استند إلى المنهج الجدلي. يستخدم أسلوب المحاجة الكلاميّة، التي تعتمد على الأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة من أجل الكشف عن الواقع وإثباته. :غاية و فوائد علم الكلام غاية علم الكلام هو تثبيت و معرفة الإيمان و تحصينه من شبه المبطلين. يقال أن علم الكلام يوصّل إلى العلم اليقيني القطعي مقابل آراء البدع و الشبهات و أنهى أن يكون علمنا بالإسلام ضعيفا و متلجلجا. كثير من الناس منتسبون إلى الإسلام لمسايرة لأهلهم. و لا يهتمون بتقوية الإيمان و حينما يواجهون بأفكار بدعة لا يستطيعون حماية إيمانهم. علم الكلام اشترك و تدخّل هنا في الأمر و يقوّي الإيمان بالنسبة لابن خلدون غاية من غيات هذا العلم هي “تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود.” إنّ الاطلاع على علم الكلام والتعرّف إلى أدلّته تعطي الإنسان – لا سيما- المسلم فهماً إيمانيّاً عميقاً :زبدة الكلام فوائد علم الكلام في التالي معرفة أصول الدين- القدرة على إثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة- القدرة على ابطال الشبهات التي تثار حول قواعد العقائد- :أسباب رفض علم الكلام لما ظهرت المبتدعة في أواخر القرن الثاني، والقرن الثالث، نشأت فرق مختلفة من طوائف المبتدعة، وأظهروا أقوالاً شاذّة رديئة، وخصوصاً في العقائد _ كقول أبو داود الجواربي في دعواه: أن معبوده لحم ودم، على صورة الآدمي!! ودعوى الكرّاميّة: أن معبودهم ذو نهاية من الجهة التي يُلاقي منها العرشَ!! إلى غير ذلك من مقالاتٍ فاسدةٍ، وأقوالٍ باطلة، تجد نماذجَ منها في كتاب [ أصول الدين، للإمام الأستاذعبد القاهر البغدادي : ص 335 – 338 ] _، فسَمّى علماء الإسلام هؤلاء المبتدعة: أصحاب الكلام، أي: الذين تكلموا في أمور باطلة فاسدة، زعموا أنها هي علم التوحيد الحق، فقام الأئمة بالرّدّ عليهم: إما بالكلام الشفهي في المناظرات التي عقدوها بينهم وبين أولئك المبتدعة، أو بالتصنيف والتأليف :يذكر البعض أسباب ذمهم لعلم الكلام كما تلي – تحذير السلف من الكلام وأهله إنما كان خوف الفتنة، ولإيمام بأن الكتاب والسنة كافيان بما يحتاجـه الناس من العقائد الصحيحة، ودفع الشكوك والشبهات -علم الكلام يفضي بأهله إلى الشك والحيرة والاضطراب. ولهذا قال أبو حامد الغزالي: (أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام) -المتكلمون في عرض مسائل العقيدة يخالف منهجهم منهج الكتاب والسنة، حيث عرضوا مسـائلهم في قالب فلسفي جدلي يحوطه التعقيد والجفاف والتخليط. – علم الكلام سبب الفرقة والاختلاف، فالمتكلمون أعظم الناس اختلافًا وافتراقًا – المتكلمون ركزوا مباحثهم وكتبهم وأفنوا أعمارهم في البحث في توحيد الربوبية وإثبات دلالته، مع أنه أمر فطري يقر به المشركون، وفي مقابل ذلك أغفل المتكلمون البحث في توحيد العبادة الذي هو أسـاس دعـوة الرسل تناقش العلماء في وجوب علم الكلام موقف أبو حامد الغزالي من علم الكلام كما في النص “ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي، إنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة أهل الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة، فلهجوا بها، وكادوا يوشوشون عقيدة الحق على أهلها، فانشأ الله تعالى طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله… فلم يكن الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا. نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة” و موقف ابن خلدون” هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارىء عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص؟ فقال: “نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب” مر الرازي يوما على إمرأة عجوز وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبوها ، فتعجبت العجوز من هذا الذي وصل إلي هذا المستوي ، فنادت العجوز على واحد من التلاميذ وقالت ” يا بني من هذا؟ ” فغضب الطالب غضبا وقال: “أ ما عرفته هذا الإمام الرازي الذي عنده ألف وألف دليل على وجود الله تعالى” . هنا قالت العجوز قولتها العجيبة والشهيرة ” يا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما أحتاج لألف دليل ودليل ، “أفي الله شك ” ؟! ” فلما بلغ هذا الإمام الرازي فقال ” اللهم إيمانا كإيمان العجائز “
أما رأيي في علم الكلام فهو أن علم الكلام علم ضروري تارة و غير ضروري تارة يتغير حسب الناس و حسب العصر و حسب الظروف المتعددة. ينقسم علم الكلام إلى ثلاث فترات الفترة الأولى هي فترة كلام السلف و الثاني كلام القدماء و الثالث كلام المتأخرين. لما كلام السلف ركز على محافظة الإيمان و الرد البدع و الضلال , في العصر الثالث بعد الهجرة خرج ابن كلاب و فعل شيئا لم يفعله من قبله و بدأ يدافع عقيدة أهل السنة بطريقة أهل البدعة و التحق البقلاني و أبو المعالي بهذا المنهج الذي اشترك فيه إمام الأشعري. و مع ظهور إمام الغزالي انتهت فترة كلام القدماء و بدأ فترة كلام المتأخرين. و تم تضمين علم المنطق في علم الكلام و بدأ يثبت المتكلمون العقائد الإسلامية بدلائل فلسفية
في الواقع تغير علم الكلام في التاريخ كثيرا. و هذه التغيرات أفسد أهداف علم الكلام. بالنسبة لي إذا نريد أن نستفيد من علم الكلام أولا يجب تجديد أو تحويله إلى كلام السلف
وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلًا في باب الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلًا في مجال المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلَّما تعرَّض له شُرَّاح اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرَّض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛ فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة رقم ٥٤: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفًا، لبدت لنا الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أنَّ أَجْمل الأيدي تبدو شنيعة إذا ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلًا عن بُعد، حتى إذا ما اقتربنا منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلًا، أن يعترف ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميًّا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما يلائمنا نحن فحسب، بغضِّ النظر تمامًا عن طبيعته الواقعية فيقول: «… إذا كانت الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة …
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتًا أو انسجامًا. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام — وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقًا لحالة ذهنه، أو على الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.» مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشُّراح إلى أن يصدروا عليه أحكامًا من النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك Pollock» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضًا. ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط (وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه). هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحًا في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائمًا بين من يتحدث عن الفن بوصفه عالمًا أو فيلسوفًا نظريًّا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانًا أو متذوقًا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدَّث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدًا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدَّها جميلة أو قبيحة؛ لأن هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا يملُّ ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تمامًا، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أيَّ تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى مجرد أرقام تعبِّر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائمًا أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدًى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسًا على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ كان دائمًا يؤثِر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائمًا معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طُبِّقت على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام — وهذه كلها من القضايا التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن. أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا صحيحًا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتمًّا بالتصوير. وقد اتصل بفنان هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصَّدَّر كثيرًا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلًا عن ذلك فقد عُرف عنه أنه كان يرسم في أوقات فراغه صورًا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر الإيطالي الشهير «مازانيلو Masanillo»، ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر، ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي. وأخيرًا، فهناك في رأيي دليل آخر واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن يعدَّ تعبيرًا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن اسپينوزا كان دائمًا يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معًا ويصدر عليها نفس الحكم. ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النَّهائي كان أخلاقيًّا قبل كل شيء، وأنه كرَّس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقًا رائعًا متسقًا لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية أخلاقية كالخير، حائلًا دون إيمانه بالأخلاق — على المستوى الإنساني — وممارسته لها بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم الجمالية بطبيعة الحال.
هناك كذبة ساذجة تشيع في الأوساط العلمية الغربية مفادها أنّ الإمام أبا حامد الغزالي (450-505 هـ) كان صاحب دور كبير في انحطاط الأمة الإسلامية علميّا وفكريّا، والسبب أنّه حارب الفلسفة، هكذا بهذا التعميم!
يخرج علينا عالم الفلك الأمريكي نيل ديجراس تايسون (Neil deGrasse Tyson) ليزعم بأنّ الإمام الغزالي كان يقول إنّ الفلسفة والرياضيات من عمل الشيطان ويحرّمها، ولينسب له سبب انهيار الحضارة الإسلامية! وليزعم في محاضرة أخرى أنّ للغزالي تفسيرا للقرآن (ولا يوجد للغزالي تفسير) وأنه قال في هذا التفسير إنّ التعامل مع الأرقام هو من عمل الشيطان، وأنّ هذا قد قطع الطريق على أي تقدّم في الرياضيات!
وبغضّ النظر عن كون تايسون يسرد الكثير من الأكاذيب؛ كتحريم الغزالي للرياضيات وكلامه عن الأرقام وأنّ له تفسيرا للقرآن وغير ذلك.. بغض النظر عن هذه الأكاذيب التي لا حقيقة لها، فقد كان للإمام أبي حامد الغزالي تعاملٌ علمي جدّا مع الفلسفة، بدأه في كتابه “مقاصد الفلاسفة” والذي حاول فيه عرض مضمون الطرح الفلسفي في عصره بشكل موضوعي قبل نقده، ثم أكمل هذا الجهد العلمي في كتابه “تهافت الفلسفة”، الذي ذكر فيه ما للفلاسفة من علوم: هندسية ومنطقية وطبيعية وإلهية، ثم بيّن أنّ مجال النقد هو علومهم الإلهية حيث قال: “..انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردّا على الفلاسفة القدماء مبيّنا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلّق بالإلهيات”.
“ بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف “ وليتأكد لدينا أنّ الغزالي لم تكن لديه مشكلة مع علوم الفلاسفة الرياضية، بل مشكلته مع الظنّ والخبط في مجال الإلهيات، نجده يقول في كتابه بعد ذلك عنهم: “ويستدلّون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقيّة عن التخمين كعلومهم الحسابية؛ لَما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية”.
لم يكن الغزالي إذن عدوّا للرياضيات، بل واضحٌ ممّا نقلنا عنه أنّه كان يعتبر علوم الفلاسفة الحسابية “متقنة البراهين نقيّة عن التخمين” كما وصفها. ومن يقرأ الغزالي في الحقيقة سيعلم أنّ هذا الاتهام له لا يخرج إلا ممّن لم يقرأ للغزالي ولم يعرف أنّه أحد عباقرة الأمة الإسلامية، فقد كانت له ثقافة علمية ممتازة قياسًا على عصره، ينبئ عنها ما ذكره في كتابه “المنقذ من الضلال” حين كان يحكي تجربته في الشك بالمحسوسات، حيث قال: “وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار، ثم الأدلّة الهندسية تدلّ على أنه أكبر من الأرض في المقدار”.
وقد بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف: الرياضية والمنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية والخُلقية. وقال عن علومهم الرياضية: “وليس يتعلّق شيءٌ منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها”.
بل قدّم لنا درسًا علميّا مهمّا حين تحدّث عن إحدى الآفات المتعلّقة بقسم علومهم الرياضية، والتي وصفها قائلا إنها: “نشأتْ من صديق للإسلام جاهل، ظنّ أنّ الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كلّ علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادّعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أنّ ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشكّ في برهانه، لكن اعتقد أنّ الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبّا وللإسلام بغضًا. ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”. اه.
فكيف يُقال بعد قراءة هذا الكلام للغزالي إنّه كان سببًا في انحطاط العلوم وإنّه كان يحرّم الرياضيات ويقول إنّها من عمل الشيطان كما يزعم تايسون؟! إنّ تايسون وأمثاله يعتمدون على أنّ الناس ينسبون الفلسفة للعقل والتفكير والإبداع، ولذلك يُعتبر كل ناقد للفلسفة في عداد المتخلّفين المتحجّرين من أعداء العقل والتفكير والإبداع! وهي نظرة موغلة في السطحية والتفاهة، لا يحملها إلا أصحاب الثقافة الضحلة.
“ كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية “ لقد كان الغزالي واعيًا بطبيعة الفلسفة في عصره، ولم يكن يناقش كلام الفلاسفة في الإلهيات عن جهل منه، بل بعد دراسة كلامهم وتقسيم علومهم على النحو الذي ذكرناه، وقد أخبر بهذه الدراسة للفلسفة في كتابه “المنقذ من الضلال” قائلا: “فعلمتُ أنّ ردّ المذهب قبل فهمه و الاطلاع على كنهه رميٌ في عماية، فشمّرتُ عن ساق الجدّ في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرّد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنوّ بالتدريس والإفادة لثلاثمئة نفر من الطلبة ببغداد. فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرّد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكّر فيه بعد فهمه قريبًا من سنة، أعاوده وأردّده وأتفقّد غوائله وأغواره، حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل، اطلاعا لم أشك فيه”. اه.
قارن الآن بين كلام الغزالي هذا وكلام تايسون السطحي في محاضراته، لتعلم مقدار الهوّة بين من تكلّم بعلم وعدل وبعد دراسة وتدبّر استمرّت لثلاث سنين، وبين من لم يكلّف نفسه قراءة صفحة واحدة من كتاب للغزالي حتى يعلم أنّ ما يتّهمه به لا حقيقة له!
لقد كان الغزالي في الواقع أكثر علميّة في تعامله مع الفلسفة من الكثير من فلاسفة الإسلام الذين وُصفوا بالعقلانية والإبداع. وإنّها لظاهرة غريبة جدّا أن توصف العقلية العلمية للغزالي، وهي الأقرب لمنهج التفكير العلمي، بالجهل والتخلّف، وأن يُنسب إليها انحطاط العلوم الإسلامية، بينما يوصف بالعقلانية مَن ابتلع كلام الفلاسفة السخيف في الإلهيات، كابن سينا والفارابي وأمثالهم ممّن سُمّوا زورًا “فلاسفة الإسلام”!
سبب ذلك في نظري هو تلك النظرة الساذجة الشائعة بأنّ الاشتغال بالفلسفة دليلٌ على العقلانية، وأنّ معارضتها دليل على التخلّف. ولو اطلع أصحاب هذا التفكير السطحي على ما تابع به الفارابي وابنُ سينا فلاسفةَ الإغريق في نظرية الفيض، وكلامهم عن العقول العشرة، وأنّه قد فاض عن العقل الأول عقلٌ ثان ونفس فلكية وجرم سماوي، وعن العقل الثاني فاض عقلٌ ثالث ونفس فلكية وجرم سماوي.. هكذا وصولا إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال في العالم، وكلامهم عن تسلسل الموجودات، ومحاولاتهم الساذجة في التوفيق بين هذا الهراء كلّه وبين العقائد الإسلامية.. أقول: لو اطلعوا على كتابات هؤلاء الفلاسفة في المسائل الإلهية لهالَهُم مدى السخف المتمثّل في البتّ بأمور غيبية دون دليلٍ من علم أو وحي!
“ إذا كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات “ ولقد درسنا بعض نصوص الفارابي في الجامعة قديمًا، فتعجّبنا ممّا حشا به كتابه من زعمٍ لأمور غيبية حول نشأة الخلق والفيض وتسلسل الموجودات دون أي دليل عليها، فحاصل كلامه فيها أنّه يدّعي هذه الأمور الغيبية ولا يجلب دليلا عليها، لا دليلا علميا ولا دليلا من الوحي، ولا شكّ أنّ هذا الكلام مخالف للمنهج العلمي. ومن هذا المنطلق كان الغزالي معارضًا شديدا للفلاسفة، لا لعلومهم المستندة إلى براهين علمية كالرياضيات، بل لخبطهم وتخليطهم في الإلهيات، ولذلك وجدناه يقول عنهم في “تهافت الفلاسفة” إنّهم “..لا تثبّت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنّهم يحكمون بظنّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين”.
لقد كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية، وما انتهى إليه من يقين.
مع التأكيد على أنّنا وإنْ كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات، ورأيناه يحشو كتبه بالأحاديث الموضوعة والقصص المنكرة، فنتج عن ذلك أنّه استند إلى مصادر غير علمية وبعيدة عن الوحي في بناء فلسفته وتصوّره الإيماني والأخلاقي.
لكنّا نردّد مقولة الإمام الغزالي ردّا على تايسون وأمثاله ممّن يتّهمونه بمحاربة العلوم: “ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”.
☚-تعريف المنهاج : هو تخطيط للعمل البيداغوجي ، فهو تصور متكامل ينطلق من المدخلات ( الاهداف ..) إلى المخرجات ( ما ينبغي أن يكون عليه المتعلم في نهاية سلك او مستوى دراسي ..). فالمنهاج هو جميع الخبرات والنشاطات أو الممارسات المخططة التي توفرها المدرسة لمساعدة المتعلم على تحقيق الاهداف المنشودة.
الفرق بين المِنهاج والمَنهج ؟ ▪المَنهج : مجموع الخطوات العلمية التي يتبعها الباحث، أثناء دراسة موضوع ما . ▪ اما المِنهاج : فهو تصور متكامل ينطلق من المدخلات الى المخرجات. ☚- تعريف التربية التربية الاسلامية : -التربية الاسلامية بمفهومه العام: ” تنمية جميع جوانب الشخصية الاسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الاسلام وتعاليمه بغرض تحقيق أهداف الاسلام في نشر مجالات الحياة”
سياق صدور منهاج مادة التربية الاسلامية ؟ جاء المنهاج إستجابة للأمر الملكي الصادر بمدينة العيون بتاريخ 26 ربيع الاخر 1437هجرية الموافق ل 06 فبراير 2016م . خضعت مناهج وبرامج ومقررات تدريس مادة التربية الاسلامية لمراجعة شاملة ، وذلك بهدف إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الاسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب المالكي السني ، والتركيز على القيم الاصيلة للشعب المغربي وعلى عاداته وتقاليده العريقة . وقد صدر المنهاج الجديد لمادة التربية الاسلامية عن مديرية المناهج في شهر يونيو لسنة 2016م.
أولا : منطلقات مراجعة وتدقيق منهاج التربية الاسلامية. 1- المنطلقات العامة للاصلاح التربوي : 1-1 – الميثاق الوطني للتربية والتكوين .( هو دستور تربوي و مرجعية أساسية للاصلاح، حظيت بتوافق جميع مكونات المجتمع المغربي، جاء هذا الميثاق نتيجة للازمات والتخبطات التي كان يعيشها النظام التعليمي المغربي ،وقد تم صياغته سنة 1999م) فقد حدد الميثاق الوطني للتربية والتكوين الفلسفة التربوية والمرتكزات الثابتة لاصلاح النظام التربوي المغربي ، وكذا الغايات الكبرى المتوخاة منه ، وحددها في : ✔- التأكيد على دور المدرسة والمجتمع ؛ ✔- وضوح الاهداف والمرامي المتوخاة من الاصلاح ومن مراجعة المناهج . 2-1 – الرؤية الاستراتيجية 2015\2030 ( هي بمثابة خطة إستراتيجية ، أعدها المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ، لاصلاح المدرسة المغربية في المدة الزمنية خمسة عشر سنة( 15)، ما بين 2030\2015). يكمن جوهر هذه الرؤية في : ✔- الانصاف وتكافؤ الفرص ؛ ✔- الجودة للجميع؛ ✔- الارتقاء بالفرد والمجتمع . 3-1- إستراتيجية الوزارة في مراجعة المناهج والبرامج . فلسلفة الدولة واستراتيجيها من خلال المراجعة للبرامج والمناهج .
2- الاختيارات والتوجهات العامة للاصلاح التربوي. اعتمد الاصلاح التربوي الاختيارات والتوجهات التربوية الاتية: أ)- إختيارات وتوجهات في مجال القيم : وهي مستقاة من المرتكزات الثابتة المنصوص عليها بالميثاق الوطني ، وحددت في : ♡ قيم العقيدة الاسلامية؛ ♡قيم الهوية الحضارية ومبادئها الاخلاقية والثقافية؛ ♡ قيم المواطنة؛ ♡ قيم حقوق الانسان و مبادئها الكونية . ب)- إختيارات وتوجهات في مجال تنمية وتطوير الكفايات . ويتعلق الامر بالكفايات الاستراتيجية ، التواصلية، والمنهجية ، والثقافية والتكنولوجية. وهي كفايات تتداخل وتتكامل فيما بينها ، تروم تمكين المتعلم من معرفة ذاته و غيره ، وتسليحه بأدوات التواصل المختلفة وتمهير توظيفها ليرقى بنفسه ومجتمعه. ج) – إختيارات وتوجهات في مجال المضامين . من أهم التوجهات والاختيارات في هذا المجال : ♧ اعتبار المعرفة موروثا بشريا مشتركا ؛ ♧ إعتماد مبدأ التكامل والتنسيق بين مختلف أنواع المعارف ؛ ♧ إعتماد مبدأ الاستمرارية والتدرج في بناء المعارف الاساسية؛ ♧ تجاوز التراكم الكمي و تلقين المضامين المعرفية وجعل المعرفة وظيفية؛ ♧ تنويع المقاربات الديداكتيكية و البيداغوجية …
متشبعا بقيم الدين الاسلامي ، معتزا بهويته الدينية والوطنية ، محافظا على تراثه الحضاري ، محصنا ضد كل أنواع الاستلاب الفكري؛
منفتحا على قيم الحضارة المعاصرة في أبعادها الانسانية؛
ملما بقيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان المنسجمة مع خصوصيته الدينية و الوطنية والحضارية؛
متمسكا بالسلوك القويم المعتدل والمتسامح والمثل العليا المستمدة من روح الدين الاسلامي . 2-1- مواصفات مرتبطة بالكفايات و المضامين : و تتمثل في جعل المتعلم :
ممتلكا لرصيد معرفي في مجال العلوم الشرعية واللغوية والادبية والعلوم الانسانية؛
ممتلكا لادوات التعامل مع انواع الخطاب ( الشرعي، الادبي …) وقادر على فهم التراث العربي الاسلامي والانساني؛
قادرا على معرفة ذاته المتشبعة بالقيم الاسلامية السمحة والقيم الحضارية وقيم المواطنة ، وحقوق الانسان ، وبلورة ذلك في علاقته مع الاخرين؛
ملما بمكونات الثقافة العربية الاسلامية والانفتاح على مختلف الثقافات ؛
متمكنا من توظيف وسائل التكنولوجية الحديثة من أجل إستدماج قيم العقيدة الاسلامية.
ثالثا : مرجعيات وأسس بناء منهاج التربية الاسلامية . يرتكز منهاج التربية الاسلامية على المرجعيات والأسس الاتية: 1- المرجعيات : أ) – مرجعية شرعية: حيث تستند دروس التربية الاسلامية إلى: ♡ خصوصية المعرفة الاسلامية المستمدة من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ ♡ وحدة العقيدة وفق مقاربة تتجاوز الخلافات الكلامية وتربط المتعلم بالابعاد العلمية للاعتقاد السليم المؤطر لسلوكه وتفاعله مع الغير؛ ♡ الثوابت المغربية المتمثلة في إمارة المؤمنين ، والمذهب المالكي، والعقيدة الاشعرية، والتصوف السني. ♡ مبدأ تأصيل المفاهيم الشرعية ، إنطلاقا من المرجعيات الشرعية. ب ) – مرجعية العلوم الانسانية: حيث تستند الى: ◇ مستجدات الفكر الانساني في مجال العلوم الانسانية المنفتحة على قضايا المجتمع والاسرة والاقتصاد والحقوق والبيئة والمحيط ؛ ◇ الانفتاح على الادبيات الحديثة التي تعالج هذه المفاهيم ، في مداخل : التزكية، الاقتداء، الاستجابة، القسط، الحكمة؛ ◇ الانفتاح على فسلفة القيم ومنظومة حقوق الانسان المتعارف عليها دوليا . ج ) – مرجعيات المقاربات البيداغوجية المتمركزة حول المتعلم . تنطلق من مركزية المتعلم وفاعليته ، وتؤسس لكل الانشطة التعليمية المرتبطة بالمادة على إنجاز المتعلم وتنمية وتعلماته ودعمها من خلال : ♤ تشخيص التمثلات وتعديلها وتصحيحها ؛ ♤ اعتماد بيداغوجيا تأطير السلوكيات وبناء المواقف الايجابية؛ ♤ اعتماد وضعيات تعليمية ذات معنى بالنسبة للمتعلم؛ ♤ اقتراح وضعيات تقويمية تقيس درجات تحقق الاهداف التعليمية ، ونمو الكفايات مع ضرورة الانتقال من مركزية المعرفة والهدف التعليمي إلى وظيفية كل منهما ؛ ♤ اعتماد مقاربة ديداكتيكية تستحضر وظيفية النصوص من أجل استثمارها واستهداف تنمية مهارات الاستدلال والاستشهاد والاستنباط لدى المتعلم ؛ ♤ اعتماد بيداغوجية القدوة لبناء المواقف وترسيخ السلوكات الايجابية. 2- الاسس الوظيفية لمنهاج التربية الاسلامية. يتأسس منهاج التربية الاسلامية على الموجهات الاتية: ١- الشمول : بمعنى تدرج محاور ومضامين ومفاهيم برامج مادة التربية الاسلامية؛ ٢- الارتقاء : تطوير مستوى معالجة القضايا والمفاهيم المقترحة عبر سنوات وبرامج السلك؛ ٣- الانفتاح – بتغليب الموضوعات المرتبطة بواقع المتعلم ، سواء على المستوى العقدي والتعبدي والحقوقي والمذهبي … ٤- التجديد : وذلك بالتركيز على المعطيات العلمية الحديثة ذات العلاقة باهتمامات المتعلم وعقيدته.
رابعا : مفاهيم أساسية في مادة التربية الاسلامية: 1- التربية الاسلامية: هي ” مادة تروم تلبية حاجات المتعلم الدينية التي يطلبها منه الشارع ، حسب سيروراته النمائية والمعرفية والوجدانية والاخلاقية وسياقه الاجتماعي والثقافي “ ويدل هذا المفهوم على تنشئة الفرد وبناء شخصيته بأبعادها المختلفة الروحية والبدنية واعدادها إعدادا شاملا ومتكاملا ، وذلك استندا الى : ■ المبدأ : ضرورة الاستجابة للحاجات الدينية الحقيقية؛ ■ الغاية: اكتساب القيم الاساسية للدين المتمركزة حول قيمة التوحيد ؛ ■ المداخل : ” التزكية “، و ” الاقتداء” ، و ” الاستجابة”،و ” القسط ” ،و ” الحكمة” . ☚- الغاية من التربية الاسلامية هو تحقيق التوازن في كيان الانسان بين جوانب الشخصية كلها. ☚ المصلحة: مقصود الشارع من تشريع الحكم ، وهي تتمثل في الضروريات الخمس : حفظ الدين ، وحفظ النفس، وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال .فكل ما يفوتها هذه الضروريات فهو مفسدة وكل ما يحققها فهو مصلحة . كما اكد على ذلك ابو حامد العزالي في كتابه ” المستصفى من علم الاصول “ 2- مقاصد التربية الاسلامية المقاصد جمع مقصد ، والمقصد ما تطلبه وتتوجه اليه . وفي الشرع ، هي “غايات الشارع من احكامه والغايات التي لاجلها وجود الشيء” ان المقاصد هي الغايات التي لاجلها وضعت الاحكام وهي المحافظة على الكليات . اذن فالمقصد والغاية الكبرى للتربية الاسلامية هي تحقيق كمال حرية الانسان من خلال اخلاص العبودية لله وحده، وبذلك يتحرر الانسان من اي عبادة أخرى ، ولا تتحقق هذه الغاية الكبرى الا من خلال تحقيق المقاصد الاربعة الاتية: 1- المقصد الوجودي :ويتحقق من خلال الايمان بوجود الحق سبحانه وفهم حقيقة خلق الله تعالى للانسان وما ذلك الا من اجل العبادة وعمارة الارض . 2- المقصد الكوني : الايمان بوحدة البشر من حيث المنطلق والمصير وتكامل النبوات ، باعتبار الانبياء رسل الله الى الناس من اجل اخراجهم من الظلمات الى النور وهداية الخلق للحق ، وكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونموذج الكمال الخَلقي والخُلقي . 3- مقصد الحقوق : وتتعلق بالقيم الحقوقية الاربعة الكبرى : الحرية ، والقسط ، والمساواة ، والكرامة. 4- المقصد الجودي: يتحدد هذا المقصد بالنفع للفرد والمجتمع وتحقيق المبادرات الطيبة لصالح الفرد والمجتمع من خلال المنظومة الاخلاقية: التضامن ، التعاون ، الاحسان … 3- القيمة المركزية والقيم الناظمة للمنهاج . -القيم هي ” معيار وغاية نابعة من الشرع ومنبثقة من العقيدة الاسلامية ، يقصدها المسلم عند قيامه بالاعمال ، وتقف في اعلاها غاية الغايات وهي مرضاة الله تعالى” -القيمة المركزية هي التوحيد ( التزكية ) اخلاص لله سبحانه وتعالى .
القيم الناظمة والفرعية : • المحبة : الذي يرتبط ب(الاقتداء)؛ • الاستقامة : ( الاستجابة)؛ • الاحسان : ( الحكمة) ؛ •الحرية 🙁 القسط ). ☚” فمفهوم القيم او القيمة يشكل أهمية كبيرة في منهاج التربية الاسلامية، فمدرس التربية الاسلامية ، يبحث في المصادر و المراجع يتخذ من المقاصد والقيم الناظمة بوصلة هادية ومرشدة حتى لا يتيه في تفاصيل وجزيئيات المعارف وإشكال العلوم الشرعية”.
4- المداخل الرئيسية لبناء منهاج التربية الاسلامية.
المداخل: جمع مدخل وهو “المنطلق العام الذي نطل من خلاله على الظاهرة” فهو ” يضم مجموعة من القضايا أو التصورات المرتبطة التي توجه رؤيتنا للظاهرة موضوع الدراسة”. وفي منهاج مادة التربية الاسلامية المستجد ، يعد المدخل نقطة لدراسة مادة من المواد المصنفة ضمن باب من ابواب الدين ككتاب العقيدة ( التزكية) ، او باب الفقه ، إذا تعلق الامر بقضايا الشريعة( الاستجابة)، او باب السلوك إذا تعلق الامر بالمعاملات والاخلاق ( القسط والحكمة) ، او باب السيرة النبوية ( الاقتداء) وهي مداخل مندمجة ومنسجمة . وقد تم بناء المنهاج الدراسي لجميع المستوايات الدراسية من السلك الابتدائي الى نهاية السلك الثانوي التأهيلي وفق المداخل الرئيسية الاتية : التزكية، الاقتداء، و الاستجابة، والقسط والحكمة. 1-التزكية : يقصد بها تزكية النفس وتطهيرها بتوحيد الله وتعظيمه ومحبته …. 2- الاقتداء: يقصد به معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال وقائع السيرة وشمائله وصفاته الخلقية والخلقية … 3- الاستجابة: ويقصد به تطهير الجسم والقلب لتأهيل المؤمن لعبادة الله وشكره بالذكر والدعاء .. 4- القسط : ويقصد به تعرف المتعلم مختلف الحقوق : حق الله في التعظيم والتنزيه، وحق النفس في التربية والتهذيب وحق المخلوقات في الاصلاح والرعاية ، وحق الخلق في الرحمة والنفع والنصح.. 5- الحكمة : ويعني اصلاح النفس وتهذيبها والسمو بها وتطهيرها وفق توجيهات الشرع …
خامسا: الاهداف العامة لمنهاج التربية الاسلامية. يتوخى المنهاج تحقيق الاهداف الاتية: ☆ -بناء الشخصية الاسلامية المتوزنة والمنفتحة عند المتعلم ؛ ☆- تنشئة المتعلم على قيم التعايش والتكافل والتضامن والتسامح والانفتاح واحترام الاخر؛ ☆- ترسيخ عقيدة التوحيد وقيم الدين الاسلامي … ☆- التشبت بالهوية الدينية والثقافية والحضارية المغربية؛ ☆- تعرف المتعلم على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومقاصدها وفقهها والاقتداء به ؛ ☆ – اكتساب معارف مرتبطة ارتباطا مباشرا بالقضايا الاساسية ذات الاهمية العالمية؛ ☆- اكتساب القيم واخلاق وميولات اصيلة تنمو وتنفتح على التراث الوطني والعالمي… ( انظر وثقية المنهاج صفحة 9 و 10)
سادسا : المهارات الاساسية :
يروم منهاج التربية الاسلامية بسلك التعليم الثانوي إقدار المتعلم على تنمية المهارات الاساسية الاتية: ✔- فهم النصوص الشرعية وتحديد دلالاتها ؛ ✔- تحليل النصوص الشرعية والفكرية وتحديد مضامينها؛ ✔- استنباط القيم والقواعد والاحكام من النصوص الشرعية؛ ✔- استخراج المضامين والقيم والقضايا الرئيسية المثارة في مختلف النصوص؛ ✔- تمثل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم باستثمار وقائع السيرة؛ ✔- اتقان اداء العبادات ( الطهارة ، الصلاة، الصيام. ..) ✔- الاستدلال بالنصوص الشرعية في وضعيات تواصلية بيانية او حجاجية؛ ✔-التعبير عن الرأي في وضعيات تواصلية او اثناء المناقشة….. ( أنظر وثيقة المنهاج صفحة 10 و11)
سابعا : كفايات التعليم الثانوي بسلكيه الاعدادي والتاهيلي .
تعريف الكفاية : -قدرة المتعلم على التصرف بفعالية أمام نمط معين من الوضعيات .
قدرة المتعلم على جلب مختلف التعلمات واستحضارها من أجل حل وضعية مشكلة. ☚ لا يمكن بناء الكفاية لدى المتعلم بدون وضعية مشكلة، فالنجاح في حل الوضعية المشكلة، يعتبر دليلا على تمكن المتعلم من الكفاية. 1- كفايات التعلم الثانوي الاعدادي: السنة الثالثة الاعدادي نموذجا . ” ان يكون المتعلم في نهاية السنة الثالثة قادرا على حل وضعيات مشكلة مركبة ودالة بتوظيف مكتسباته المرتبطة بالقران الكريم ( سورة الحشر والحديد ) وتمثلاته المتعلقة بأسماء الله الحسنى تعظيما ومحبة ، وبأهمية الدين في تزكية حياة الفرد والمجتمع ، ومعارفه حول سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وشمائله وهديه ومحبته واقتداء ، مطبقا ما تعرفه وتدرب عليه من عبادات ( الطهارة، الصلاة ، الصيام ، الزكاة ..) مدمجا ما اكتسبه من موارد حول حقوق الله والنفس والغير والبيئة وما يرتبط بذلك من قيم ومماراسات تعبر عن انخراطه ومبادرته وسلوكه الايجابي ” ( انظر وثيقة المنهاج صفحة 11)
2-كفايات التعلم الثانوي التأهيلي .
اولى باك نموذجا: ” يكون المتعلم في نهاية السنة الاولى من سلك البكالوريا ، قادرا على حل وضعية مشكلة مركبة ودالة ، بتوظيف معارفه المرتبطة بالقران الكريم ( سورة يوسف ) ، وتمثلاته الخاصة بالايمان والعلم والفلسفة وعمارة الارض ومعارفه حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله وهديه توقيرا ومحبة واقتداء ، مستدمجا التمثلات المتعلقة بفقه الاسرة ( زواج ، طلاق، رعاية الاطفال ..) استيعابا واستجابة لقيم حقوق الله والنفس والغير والبيئة وما يرتبط بمبادئ الانخراط والمبادرة والسلوك الايجابي “ ( انظر وثيقة المنهاج صفحة 19)
ثامنا : مفردات برنامج الثانوي الاعدادي والتأهيلي .( الغلاف الزمني ) 1- الثانوي الاعدادي: ☚- ينفذ برنامج التربية الاسلامية بكافة المستويات بمعدل ساعتين منفصلتين في كل اسبوع ؛ ☚- يقدم كل اسبوع موضوع من موضوعات الاقتداء، والاستجابة والقسط والحكمة في حصتين ( ساعتين)؛ ☚- تقدم سورة قرآنية في كل اسبوع من كل سنة دراسية؛ ( يجب حفظ جميع السور المقررة في المستويات الاعدادية ، وهي كالاتي :
ق ولقمان بالنسبة للاولى اعدادي؛
النجم والحجرات بالنسبة للثانية اعدادي،
الحشر والحديد بالنسبة للثالثة اعدادي ) ☚- عدد الحصص في كل اسدس 16 حصة ، وكل حصة تتكون من ساعتين ، ومجموع الساعات هي 32 ساعة . ( انظر وثيقة المنهاج صفحة 12)
2 – الثانوي التأهيلي : ☚- ينفذ برنامج التربية الاسلامية بكافة المستويات بمعدل ساعتين في كل اسبوع؛ ☚- يقوم كل موضوع من موضوعات: التزكية، الاقتداء ، الاستجابة ، القسط ، الحكمة، في حصتين ( ساعتين ) ؛ ☚- تقدم سورة قرأنية واحدة في كل سنة دراسية . تنبيه ! ( يجب حفظ السور المقررة في مستويات الثانوي التاهيلي وهي كالاتي :
سورة الكهف : بالنسبة للجذوع المشتركة؛
سورة يوسف : بالنسبة للسنوات الاولى من البكالوريا ؛
سورة يس : بالنسبة للسنوات الثانية من البكالوريا .)
🔺 من اراد التفصيل فليرجع الى وثيقة المنهاج .
الحمد لله بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
كنت على الدوام أجد في تفكير كارل ياسبرز شيئًا يستفزني ويثير فيَّ «غريزة القتال»، وربما لم يكن في وُسعي أن أصف هذا الشيء على وجه التحديد، ولكني أستطيع أن أعبِّر عنه — على نحوٍ لا يخلو من الغموض — بأنه ذلك التناقض بين نزعة إنسانية يدَّعيها في كتاباته ويحرص على أن يؤكد إيمانه بها، ونزعة غير إنسانية تؤدي إليها هذه الكتابات إذا ما نظر إليها المرء بعين النقد والتحليل، ولم يكتفِ بأخذ أقواله على علاتها، أو قلْ إنه التناقض بين كلماتٍ ظاهرة تفيض اعتزازًا بالعقل، ومعانٍ باطنة تهدم ما يستند إليه العقل من ركائزَ عميقة.
ولقد كان من الطبيعي أن يظل حكمي هذا على ياسبرز غامضًا؛ لأن الأساس الوحيد الذي كان يرتكز عليه هو تلك الكتابات التي تنتمي إلى مرحلته الفلسفية الرئيسية، وهي المرحلة التي توقفت عند أوائل الثلاثينيات، وتتميز هذه المرحلة بأن كتاباته فيها كانت نظرية في الغالب، تنتمي إلى مجال علم النفس أو الفلسفة. ولكن ظهور وانتشار مؤلفات المرحلة الثانية من حياته الفكرية — وهي المرحلة التي بدأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي يعالج جزءٌ غيرُ قليل منها موضوعاتٍ سياسيةً أو حضارية — ساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الاتجاهات الحقيقية لتفكير ياسبرز ولطريقته في النظر إلى المشكلات التي تهدِّد عالمنا المعاصر. وعلى الرغم من أن مؤلفات هذه المرحلة الثانية ليست أهم ما كُتِبَ، فإنها قد كشفت عما كان مستورًا، وأظهرت بصورة صريحة ما لم يكن يتوصل إليه المرء من قبلُ إلا بصورة ضمنية.
•••
في كتاب «الموقف الروحي للعصر» — الذي ألَّفه ياسبرز عام ١٩٣٠م — يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلًا يردِّد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمُّق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله — في رأيه — عصرُ الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيمُ الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدَّد شكل حياته في المستقبل.
وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذرَ في إغفاله كلَّ ما عدا الغرب في الفترة التي ألَّف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحدَه هو المحور الذي تدور حوله كلُّ أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عامًّا بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل — أعني في الصين — وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، رُوح جديدة سَرَت في شعوبٍ ذات حضارات عريقة، وهي رُوح لا يعود من الصعب معها — لكل مفكر فاحص — أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوجَ ازدهارها.
وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدِّد — في مقدمة كتابه هذا — المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيَّأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهْم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقًا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولَّد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمةَ تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.
وحين يحدِّد ياسبرز السمات التي تميِّز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدُّم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمةٌ تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمُّع العفوي العابر المفتقَر إلى التنظيم، الذي يَسهُل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفرادُه ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملَّقها الحكام ويتقرَّب إليها قادة الرأي العام.
ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها — في عصرنا الحاضر — تُنظَّم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتمُّ كلُّ شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباءً، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تَعُد الآلةُ أسلوبًا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضًا أسلوبًا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.
لقد أصبح العمل اليومي رتيبًا متكررًا مملًّا لا هدف له، «أصبح الإنسان محرومًا من العالَم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرَّد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة — مهما اتسع معناها — لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.
إن العصر الحاضر يَرُدُّ الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسانُ لذة الاستمتاع بالتجارِب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تُتاح للإنسان في عالمٍ كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقُبٍ أشبهَ ما يكون بلقطاتٍ متقطعة في شريط سينمائي يُعرض في سرعة لاهثة.
فهل نجد للفرد مكانًا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلًا لأن يُسْتَغْنَى عنه، ويمكن أن يَحُلَّ أي فرد آخرَ محله، ما دامت ماهيته لم تَعُد شخصيته الفريدة المميزة، أو كِيانه الحق الذي لا يُسْتَبْدَل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتَحُل الكفاءة والفعالية — أيْ حُسْن أداء الوظيفة — محلَّ العبقرية.
ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنانَ للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناسَ أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلقٌ ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقًا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهُوَّة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه.
•••
لست أود أن أستطرد طويلًا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز — في أول الثلاثينيات — للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالمٍ لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها — على أية حال — صورةٌ مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرًّا مستطيرًا يهدِّد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آنٍ واحد.
هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهلٍ غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثَّل في التقدُّم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدْرِ الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدُّم التكنولوجي قد وُجِدَ ليبقى، وليس ثمَّة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقًّا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحةِ صخرةٍ نعلم مقدمًا أنها لن تتحطم.
على أن هذا لا يعني أنَّ نقْدَ العصر محرَّمٌ على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدًا لعصره بمعنًى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصبَّ على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدالَ في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيلٌ بأن يوصلنا إلى نتيجةٍ ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.
فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثيرٌ إيجابيٌّ على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالًا تامًّا، ولنضربْ لذلك مثلًا واحدًا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يُدْخِلَ في بيته روائعَ الأعمال الفنية، كالنُّسَخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أُتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصةٌ الاستمتاع بتجارِبَ روحيةٍ عميقة لم تكن متاحة من قبلُ إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مَثَلٌ واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تُحْدِثَه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصوَّر تضادًّا زائفًا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلَّم به — في هذا المجال على الأقل — دون نقد أو تحليل.
على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثَّله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنًا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهدِ ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقْدٍ يوجَّه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي — في جميع عهوده، أو في عهدٍ واحد منه على الأقل — كان يتصف بكلِّ ما يفتقر إليه الحاضر من قدرةٍ على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عنايةٍ بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدِّد فترةً معيَّنةً في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجةٍ تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيًا قاطعًا.
وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبقَ إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذاتُ طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية — بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل — فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصِّص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غيرَ سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك — بلا شك — نظرةٌ رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتمًا إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قُورن بأي عصر سابق.
في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كلَّ ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم — في رأي ياسبرز — لا بُدَّ أن يكون قاصرًا محدودًا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسانُ المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمَد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.
وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبيِّن حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجةٍ دائمةٍ إلى إيمانٍ يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانبَ أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حدٍّ يَحُسُّ معه المرء بأنه يتحول تدريجيًّا إلى شخصٍ معادٍ للعلم، وبأنه يسعى عامدًا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسِّع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا — وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبلُ — بانطباعٍ عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيًّا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملًا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسعُ من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز — في نقده للعقل العلمي — يعطي المرء إحساسًا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.
ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفاتٍ من النوع الذي يعاديه، يوجِّه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهمٍ للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحةً في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيِّب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» — وهو كتيِّب ينتمي إلى فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية — يوجِّه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلًّا منهما مفتقرًا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزًا على إيمانٍ متنكِّر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفةٍ محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.
فكلُّ علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقًا، وتعبير «العلم الشامل» تناقضٌ في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدَها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوينٍ مركَّب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوعٌ من المنهجية المنظَّمة التي تعلِّمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدَّد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدمًا ونوجِّه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلمَ أداةً للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.
على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوُزَ حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائمًا من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلةً لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل — في رأي ياسبرز — أشكالًا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعًا شاعريًّا عند نيتشه أو علميًّا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكِّر أشبهَ بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارًا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدًا كبيرًا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.
ولكن هل يحق لياسبرز — في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم — أن يوجِّه إلى خصومه نقدًا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدمًا إيمانًا بالعلم يتجاوز بكثير نطاقَ الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طَوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءًا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرًا من مظاهر ضَعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصومًا ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذٍ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني — على أية حال — هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز.
•••
مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدُّم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم — في أغلب الأحيان — مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداةً لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجزٌ في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزًا، فلو حكمنا على ياسبرز بناءً على فلسفته النظرية وحدَها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.
على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحوٍ لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهاتٌ تندرج قطعًا ضمن الفئة التي يُطْلَق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.
ولسنا نود أن نتحدَّث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عُولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابًا آخرَ يلقي على آرائه السياسية ضوءًا ساطعًا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يُعَدُّ من أواخر ما كتب.
كان ياسبرز قد أدلى بحديثٍ تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ Thilo Koch»، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرًا إلى ما تضمنه من آراءٍ غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة Die Zeit الألمانية عام ١٩٦٠م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات — بالإضافة إلى الحديث الأصلي — هي التي تؤلِّف مادة هذا الكتاب. ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسِّم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدِّم إلى الجماهير الغفيرة وعودًا لا تحقِّقها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.
والموضوع المباشر الذي يتصدَّى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلَّى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك — على أية حال — حدودٌ حديثة نسبيًّا، لا ترجع إلى أكثرَ من سبعين عامًا (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركِّزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.
إن ياسبرز ينظر إلى ألمانيا الشرقية لا على أنها دولة، بل على أنها «إقليمٌ اعتدَت على استقلاله سلطةٌ أجنبية»، ثم يتساءل: «كيف يمكن إنقاذ إخواننا في الشرق من العبودية؟ أليس هناك طريق سوى إعادة التوحيد؟» إن هذا الطريق يؤدي إلى ظهور النزعات الوطنية المتطرفة التي عانت منها ألمانيا في أيام هتلر؛ ولذلك يَرُدُّ ياسبرز بقوله: «إن الوحدة التي تهمنا اليوم هي الوحدة الكونفدرالية لأوروبا، ووحدة أوروبا مع أمريكا» (ص٢٥ من الترجمة الفرنسية).
وفي رأي ياسبرز أن الوضع الحالي في ألمانيا، وإن كان قد ترتَّب على الحرب، فإنه لا يمكن أن يتغيَّر بالحرب؛ لأن القنبلة الذرية ستقضي عندئذٍ على الجميع (ومعنى ذلك أنه لو لم تكن هناك قنبلة ذرية، لكان من الجائز أن يدعو ياسبرز إلى تغيُّر هذا الوضع بالحرب!) إن وضع التقسيم هذا هو الجزاء الذي استحقه الألمان نتيجة لتعاونهم مع هتلر، وعلى الألمان أن يتحملوا مسئوليتهم من ذلك، ولا يحاولوا إعادة دولة بسمارك، وإلا تسببوا في فناء البشرية، كما كانوا منذ عام ١٩٣٣م سببًا في تعاستها.
وفي هذا الصَّدد ينبغي أن نعود إلى الرأي الذي عرضه ياسبرز في كتابٍ آخرَ ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هو «الذنب الألماني». في هذا الكتاب يفرِّق ياسبرز بين مفهومين رئيسيين متعلقين بفكرة الذنب؛ فهناك الخطأ الأخلاقي والجريمة من جهة، والمسئولية السياسية من جهةٍ أخرى، أما الخطأ الأخلاقي فلا يمكن أن يُنْسَبَ إلا إلى عدد قليل من الألمان، والجريمة بالذات لم يقترفها إلا عدد قليل جدًّا منهم! وأما المسئولية السياسية فشيء يختلف عن ذلك كلَّ الاختلاف، «فمَنْ كان يعيش في بلد، ولم يهاجر بحيث لا يعود متضامنًا مع الدولة، ومَنْ لم يتصدَّ لمنع الجريمة في هذا البلد مسئولٌ سياسيًّا، ويجب أن يتحمل تبعات مسئوليته مع المذنبين الآخرين.» وإذن فعلى الألمان أن يتحملوا انقسامهم بوصفه نتيجةً ضرورية لمسئوليتهم السياسية عن العهد النازي.
فإعادة التوحيد إذن مطلبٌ ثانوي نسبي، أما الحرية فهي المطلب المطلق، وإذا لم يكن ثمَّة مفر من الاختيار بين الأمرين، فإن للحرية الأولوية دون أدنى شك، ومع ذلك فإن الألمان في رأي ياسبرز يحتاجون إلى مران طويل على الحرية؛ لأنهم اعتادوا الاستبداد وأيدوه طويلًا، وقد أورد ياسبرز في كتابه نصَّ محادثةٍ عجيبة دارت بينه وبين أحد المسئولين الأمريكيين، سأله فيها هذا الأخير عن رأيه في إدخال نظام برلماني في ألمانيا بعد الحرب مباشرة، فكان من رأي ياسبرز أن الحرية ينبغي أن تُمْنَحَ بالتدريج لشعبٍ لا يقدِّرها ولم يعتدْها بعدُ، وأن الحرية المفاجئة قد تؤدي إلى هدم بذور الحرية الأولى في نفس هذا الشعب، بينما كان رد الأمريكي (الذي وجدها فرصةً لا تُعَوَّض) هو أن الأمريكيين لا يستطيعون الانتظار طويلًا في منح الحرية؛ لأن هذا «ضد مبادئهم» (ص١٠٣–١٠٥).
ويلخِّص ياسبرز موقفه في هذا الصدد فيقول: «لو تعاونَّا دون قيد أو شرط مع الغرب بأكمله — تحت السيطرة الفعلية لأمريكا — لأمكننا أن نضمن الحرية السياسية الداخلية، وأن نضمن كذلك أمنًا نسبيًّا، هو الوحيد المتاح لنا في الموقف العالمي الراهن؛ فالحد من سيادتنا هو شرط بقائنا، وهو وحدَه الذي يحمينا من روسيا، وكذلك من القوى التي تفجَّرت داخلنا أيام حكم هتلر» (ص١١١). ومن هنا كان ياسبرز يعارض الأصوات التي دعت — من بين صفوف اليمين ذاته — إلى وقوف أوروبا ضد أمريكا، أو استقلالها عنها مثل ديجول، ويتخذ من أديناور في تهالكه على أمريكا مثلًا أعلى له.
والحق أن الضجة التي أثارتها آراء ياسبرز هذه إنما تدل على أنه برغم خضوعه الذليل للغرب ولأمريكا بالذات، التي يؤكد أنها هي مصدر نعمة ألمانيا الغربية («أننا في ألمانيا الغربية أحرارٌ بفضل كرم المنتصرين لا بفضلنا نحن»)؛ برغم هذا كله، لم يستطِع أن يحظى باحترام مواطنيه أنفسهم، حتى لقد علَّق مراسل إحدى الصحف على آرائه بقوله: «لقد أطلق كارل ياسبرز في مقابلته التليفزيونية قوى المعارضة الساخطة من الأحزاب والمنظمات السياسية والجرائد اليومية في الجمهورية الاتحادية، والواقع أن خروشوف نفسه لم ينجح أبدًا في أن يثير ضده مظاهرة إجماعية كهذه!»
تلك المقارنة بينه وبين خروشوف — الخصم الأكبر لألمانيا الغربية في ذلك الحين — ليست مجرد مبالغة كلامية، بل هي تحمل دلالة ضمنية عميقة، هي الفرق بين الاحترام الذي يلقاه الخصم العنيد المتمسك بموقفه، والازدراء الذي يقابل به النصير حين يكون متهالكًا متداعيًا، «ملكيًّا أكثر من الملك». ألم يصل حقد ياسبرز إلى حد التفكير في أمورٍ لا تجلب عليه سوى السخرية والازدراء؟ لقد أعرب مثلًا عن خوفه من أن تؤدي قلة الأيدي العاملة في ألمانيا الشرقية (التي يسميها دائمًا بالمنطقة المحتلة أو ما شابه ذلك من الأسماء) إلى قيام الروس بجلب عدة ملايين من الصينيين للعمل فيها، فيكون في ذلك أيضًا حلٌّ لمشكلة زيادة السكان في الصين (ص١٢٩).
•••
إن مشكلة ياسبرز الكبرى في هذا الصدد هي أنه — برغم كل قدراته الفكرية التحليلية — لم يحاول لحظة واحدة أن يتوقَّف ليسائل نفسه عن معنى «الحرية» السائدة في العالم الغربي، ولم يبذل أي جهد لتحليل هذا المفهوم، وهو الذي كتب من الصفحات ألوفًا مؤلفة في تحليلِ مفاهيمَ أقلَّ أهميةً بكثير من هذا المفهوم الحيوي. حقًّا إنه حلَّل معنى الحرية في مواضعَ أخرى، ولا سيما في كتابه الأكبر «الفلسفة»، ولكن ما كان يعنيه عندئذٍ كان الحرية الوجودية، التي هي جزءٌ من كِيان الإنسان، لا الحرية السياسية أو الاجتماعية التي يكتسبها بعض الناس ويفقدها البعض الآخر، والتي يحتاج بلوغها إلى جهد وكفاح.
ولم يحاول ياسبرز أن يتجاوز نطاق الحرية الشكلية الظاهرية في العالم الغربي لينفذ إلى العوامل الخفية المعقَّدة التي تتحكم في تشكيل الرأي العام الغربي دون وعي منه، بحيث يبدو هذا الرأي العام معبرًا عن نفسه وهو في حقيقة الأمر يردد آراء القوى الخفية التي تتحكم في الصحافة والإذاعة ووسائط التعبير المختلفة، عن طريق الإعلان والسيطرة المالية والإدارية.
لم يحاول ياسبرز أن يقارن بين حرية الغرب المزعومة داخل بلاده، وبين استعباده للشعوب المستعمرَة، واستنزافه لموارد الشعوب شبه المستعمرة، ولم يرتفع له صوتٌ يندِّد بهذا النوع من العبودية والاسترقاق، بل إن بكاءه كله لم ينصب إلا على «مواطنيه في الشرق»!
لم يحاول ياسبرز أن يفكِّر بعمق في معنى تلك الحرية التي تكون حصيلتها النهائية هي شن الحروب وإحاقة الكوارث بالشعوب. وإنصافًا له أقول إنه تنبَّه في أحد مواضع كتابه إلى الفارق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية، وكان ذلك في صدد الحديث عن تلك الأغلبية التي اقترعت في ألمانيا لصالح هتلر، فقال: «عندما تقوم أغلبية بهدم الحرية ذاتها، وتجعل شخصًا خارجًا عن القانون يفعل ما يحلو له، لا تعود تلك الأغلبية ديمقراطية.» وهذا رأي صحيح كلُّ الصحة، ولو طبقناه على تلك الأغلبية التي اقترعت لصالح جونسون؛ لأصبح الكلام متسقًا كلَّ الاتِّساق، ولانطبق بدقةٍ على موقف الناخب الأمريكي الذي يظن نفسه «حرًّا» إزاء سفاح فيتنام، ومنكر الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكن ياسبرز — للأسف البالغ — لم يقُم بهذا التطبيق.
وعلى أية حال فقد عاش ياسبرز ليشهد أعنفَ مراحل حرب فيتنام وأكثرها وحشية، ولم يرتفع له صوتٌ باستنكارها، وكذلك عاش ياسبرز ليشهد أبشع فصول المأساة الفلسطينية، ولكن هذه — على أية حال — قصة أخرى؛ فقد كانت زوجته يهودية، وكان لها عليه — فيما يبدو — سلطان غير قليل.
•••
إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من قراء هذه المقال سوف يحتجون بصمت لأني حاسبت ياسبرز فيه على آرائه السياسية في الوقت الذي كانت رسالته فيه — طوال الجزء الأكبر من حياته الفكرية — فلسفيةً قبل كل شيء، على أن ياسبرز ذاته كفيلٌ بالرد على هذا الاحتجاج؛ إذ هو يدافع بقوةٍ عن تدخل الفلسفة في السياسة، مؤكدًا أن الفيلسوف قد لا ينجح في أمور السياسة اليومية التفصيلية، ولكنه قادر على أن يلقي ضوءًا ساطعًا على السياسة البعيدة المدى، والاتجاهات العامة لشئون الحكم، وهو يرفض بشدة الرأي الذي يتهم الفلسفة بأنها خيالية واهمة، تشيد قصورًا في الهواء، ويدافع عن حق الفيلسوف في أن يتدخل في الأمور السياسية، بل يؤكد أن من واجب الفلسفة أن تواجه الواقع وتتغلغل في صميم الحياة (ص١٨، ١٩).
ولقد أكد ياسبرز — في مستهل الحديث التليفزيوني الذي أشرت إليه من قبلُ — أن الفلاسفة كانوا على الدوام يُبْدُون آراءهم في السياسة، وأن هذا يَصدُق على أعظم الفلاسفة في التاريخ، مثل «كانْت» وهيجل ونيتشه (ومن قبلهم أفلاطون بالطبع)، ولنستمعْ إليه وهو يقول: «لقد بَدَتْ لي الفلسفة منذ شبابي شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن مجرد قراءة كتب بديعة أو البقاء بمعزل عن العالم؛ فهي — على عكس ذلك — بدت لي شيئًا يرشدني ويبعث فيَّ القوة عن طريق فهْم الواقع الحاضر لعالمي ولذاتي … ففي الوقت الحالي — وبالنسبة لي على الأقل — يبدو لي من الواضح أن الأرستقراطية (الفكرية) أصبحت اليوم عتيقة بالية، وأن الإنسان الذي يفكر ويريد أن يفعل شيئًا ينبغي له أن يسير في الطرقات إن جاز هذا التعبير، وأن الفلسفة يجب أن تُثبِت — من الآن فصاعدًا — أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس» (ص١٩٥-٦).
ذلك هو رأي ياسبرز في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، فهل يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة التي توصَّل إليها فلسفة «تسير في الطرقات» هي أن الغرب — بزعامة أمريكا — هو وحدَه حامي حمى الحرية في العالم المعاصر؟ هل هذه هي الصيغة التي يمكن حقًّا أن «تنتشر بين الناس»؟ ذلك — على أية حال — هو المدى الذي بلغه تفكير ياسبرز السياسي.
كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز و لكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد. في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه. هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة و خاطئة و جب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، و هذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. و هذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول أن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الانقليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية. الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد و متعالي عليه. عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، و الامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. و بهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين: لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده. و كذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ. و عندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. و يغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، و ماهية الفكر في التأمل الثاني، و وجود الله في التأمّل الثالث و الرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. و يبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد و التي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد. و لا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد و ذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد و النفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. و لكن لماذا لم تعتبر “التأمّلات” هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟ إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في “التأمل الأول” هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا” ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، “ثالثا” إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) و بطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم و النفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، و ينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين و لذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات و لكنه يكون مكملا له. و هذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات. عملية توحيد الجسد و النفس في كتاب “الانفعالات” متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند “سبينوزا” و “لايبسيز” و إنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض و خالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات ؟
عند أرسطو و لتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة و من مادّة و الصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة و ذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل و نقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. و بهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإلاه وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. و هذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. و علاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل و معنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. و لهذا فتكوين جوهر معين يفهم “بالفعل” (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل. و هذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار و ذلك لعدّة عوامل: لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل. لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود و كذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. و من هذه الزاوية لم تعد “الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. و عندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام و يعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط. لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد و هذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. و بالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر Symétrie بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.
لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في “أي شكل” التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للأنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد. فكيف تتحدّد النفس في التأملات ؟
تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة : على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر و على نطاق الذهن. و هذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت و لأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر و يبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد و هو “الكوجيتو”. يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول و في التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن أن لا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، و لكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. و هذا يمثل نوعا من المفارقة “Paradoxe” لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. و هذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو و كأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله و هي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد. نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول و التأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. و لكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. و وجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. و ماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر و كذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي Modale، ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية و خاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما و لهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع. و تتمثل إشكالية هذا النّص في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك و التجربيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم و الرائحة و الحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. و النتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاث مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد : 1) الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية. 2) وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية. 3) إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر. 4) الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور. أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل و نعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. و لذلك فكلمة “أيسر” تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب. ذلك “أن الفكر أسبق معرفة من الجسم” هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار و نحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة. بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي “substra” أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا “المسبب لذاته”. فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة). و من هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد و النفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنتربولوجية، و نعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة و إنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، و هو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. و لكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا “الموقف الانثربولوجي” ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد و بساطة هذه النّفس و توحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب “الانفعالات” حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق و أيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب “الانفعالات” لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل و جملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب “التأمّلات” وإنما لكتاب “الانفعالات”. إنّ النظرة الديكارتية للإنسان و التي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنتربولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. و هذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، و عن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة و عقل من جهة أخرى، و لكن لا العقل و لا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف ؟ إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة و تبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة و انفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، و هذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. و النظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل و لو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات و لا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنتربولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت و حدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده و نفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس و الجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، و إنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا و الجسد مجموعة حركات و انفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، و تعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد و الفكر.
نفي الفعل المتبسبب. علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل. التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه. و يظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، و هذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم و بالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. و بصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة و بين الانفعالات المنفعلة ( ليس له نفس المعنى عند سبينوزا و ديكارت، فعند ديكارت ” تختلف جوهريا عن ذلك لأن هي تابعة للروح و تابعة للجسم.
لعل أكبر حدث في تاريخ البحث الفلسفي المتعلق بسبر أغوار النفس الإنسانية منذ عهد سقراط الذي دعا الإنسان إلى معرفة نفسه هو اكتشاف مبدأ الكوجيطو على يد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. يمثل هذا الحدث ثورة حقيقية في حقل الممارسة النظرية التي تجعل من التفكير موضوعا لها. ولفهم هذه الثورة لابد من إلقاء ولو نظرة خاطفة على تاريخ هذه الممارسة قبل مجيء ديكارت ليتسنى لنا إدراك وفهم مدى عمق التغير الذي أحدثه “أب العقلانية الحديثة” في النظرة إلى الذات المفكرة وطريقة التفكير فيها. ولتحقيق هذا الغرض نرى أنه من الضروري التذكير بالخطوط العريضة لنظريات المعرفة لدى أكثر الفلاسفة السابقين شهرة من أجل مقارنتها مع نظرية ديكارت. وسوف يتم التركيز على نظرية المعرفة لدى كل من أفلاطون وأرسطو الذين كان لهما تأثير كبير في تاريخ الفكر على امتداد قرون عديدة. ترتكز نظرية المعرفة الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها أن المعرفة تتحقق من خلال الانتقال والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من كل ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي. وإذا كان أفلاطون قد جعل من العدد والماهيات الرياضية المبدأ الذي يقوم عليه انسجام العالم المعقول، فلأن العلاقات الرياضية في نظره تظل على الدوام ثابتة لا تتغير، وهو ما يفسر خلود العالم. إن فعل المعرفة هنا لا يختلف عن فعل الوجود، إنه فعل المشاركة في الوجود؛ فقد أوضح أفلاطون في كتابه “الجمهورية” كيف ينبغي أن يكون النظام الاجتماعي لكي يتسنى للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوره الحكماء. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا أصبح الأفلاطونيون يولون أهمية قصوى لدور الصورة في عملية المعرفة، وأصبحت معرفة الموجودات عندهم تعني مشاركتها في صورها أو نماذجها المثلى. ولما كانت الصورة هي التي تنقل الشيء من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل، ولما كانت تمثل حقيقة الشيء أو جوهره، أمكن القول بأن فعل المعرفة كفعل الوجود، وهو ما عبر عنه المفكر الأمريكي Pedro Amaral بقوله: To know something is just like being something ويعني ذلك، حسب قوله، أن المعرفة هي المشاركة في الوجود.، وتعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثل فعل المعرفة، إذن، في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، هذا مع العلم أن موضوع الفلسفة اليونانية هو الوجود بما هو موجود حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصور للمعرفة إلى حد ما مع نظرية المعرفة الأرسطية. تتبلور المعرفة في نظر أرسطو من خلال تشكل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأشياء، فإن تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكل العقل. وهكذا يصبح العقل كموضوعه. ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطية على حد سواء هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هو أنه غير هذا التصور للمعرفة وكيفية تحققها رأسا على عقب: أفرغ العقل والعالم من الصور، وألقى بمبدأ التماثل جانبا وعوضه بعملية التمثل الذهني représentation؛ لم تعد المعرفة تتحقق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. وإذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، وبذلك دفع بعملية المعرفية إلى مستوى الميتا méta وهو التفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي conscience. ولأول مرة في تاريخ الفلسفة، ربما بعد ابن سينا (أنظر مقالتنا: “تطور مفهوم النفس من المعلم الأول إلى الشيخ الرئيس”)، أصبحت لهذا المفهوم دلالة تتجاوز معنى الإدراك الباطني الفوري المباشر، إلا أن ديكارت لم يحدد دلالته بشكل صريح، وظل يركز على بيان أهمية الوعي ودوره في حياة الإنسان. الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت يمثل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميزة للإنسان، والعنصر الحاسم في تصوره لمفهوم الشخص، وتكمن وظيفته في كونه يمكننا من الإدراك الفوري للذات المفكرة. يرى ديكارت بأن أكثر الأشياء وضوحا في هذا العالم هي الأفكار، وتنطوي تأملاته على مصادرة صريحة إلى هذا الحد أو ذاك مفادها أن هناك نوعا خاصا من النشاط المعرفي الذي يجعلنا على اتصال بتفكيرنا ويمكننا من التعرف عليه والإحاطة به والتحكم فيه، وبذلك تنكشف لنا طبيعة الفكر وطبيعة الذات المفكرة. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة: يستطيع زيد أن يستوعب ويفهم عملية حسابية كعملية الجمع مثلا: 2+2=4 وهذه العملية الحسابية هي سلسلة من عمليات التفكير، وعندما نتأمل هذه السلسلة تنجلي طبيعة التفكير وطبيعة الذات المفكرة والموضوع المفكَّّر فيه، وهذه الأقانيم الثلاث هي مظاهر تجربتنا الذهنية. ولا يحتاج المرء إلى بذل أي مجهود لمعرفة أصل هذه التجربة المتمثل في الأنا المفكرة، أو الأنا الديكارتي، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، ولا تستمد وجودها إلا من ذاتها باعتبارها ذاتا مفكرة، وهذه الذات مكتفية بذاتها، لا تحتاج في وجودها إلى شيء آخر. ولذلك لزم أن تكون السمة المميزة للشخصية هي الحرية. فالشخص الذي حصل له الوعي بذاته باعتباره ذاتا مفكرة، هو بالضرورة كائن حر. وهكذا أصبح مفهوم الوعي عند ديكارت مرادفا لمفهوم الحرية..ذلك لأن الوعي يوجد في استقلال عن الجسد ولا يتأثر بالعامل البيولوجي ولا بعوامل المحيط الخارجي. ولكي تتضح الفكرة أكثر لابد من استعراض تصور ديكارت للإنسان، وهو ما يستلزم تسليط بعض الأضواء على المبادئ أو المصادرات الأساسية التي تقوم عليها فلسفته(*). ذكرديكارت في رسالتين وجههما للملكة إليزابيت بتاريخ 21 مايو و28 يونيو من عام 1643- واللتان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخص مركزلنتائج “التأملات”- أن فلسفته الميتافيزيقية تقوم على ثلاثة مفاهيم أولية، تمثل في نظره المرتكزات الأساسية لكل معرفة إنسانية، وهي المفاهيم التيلدينا عن الروح، والجسد، والعلاقة بين الروح والجسد: يتعلق المفهوم الأول بتصورناللروح، ويشمل العقل والإدراك الحسي والإرادة ومختلف النوازع الانفعالية؛ ويتعلق المفهوم الثاني بتصورنا للجسم، وهو مفهوم الامتداد الذي تُرَد إليه أشكال الأجسام وهيئاتها وحركاتها؛ ويتعلق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح والبدن، وهو مفهوم الوحدة التي تتجلى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، وقدرة البدن على التأثير في الروح وإثارة انفعالاتها. يقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويشمل الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، وما يميزه هو الامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويشمل الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن