الفيلسوف نيتشه قارئا لكانط ..ملامح النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط !

إذا كان نيتشه يعتمد في نقده لكل التصورات الميتافيزيقيا على المنهج الجينالوجي، باعتباره منهج يمتلك العديد من الأليات القادرة على تدمير أي تصور ميتافيزيقي. وقوة هذا المنهج ستظهر ضد ما يسميهم نيتشه ب” عمال الفلسفة”. وأهم هؤلاء العمال الفيلسوف الألماني إمانويل كانط ما هو النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط؟

إن النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط ليس بنقد محدود يكتفي بنقد المعرفة أو الأخلاق فقط، وإنما نقد يتجاوز حدوده لينتقد مشروع كانط بكامله.

يرى نيتشه في كانط أول فيلسوف جاء بفكرة النقد، أي نقد التصورات الميتافيزيقيا التي تدعي معرفة الشيء في الذي يقول عنه كانط عالم يستحيل معرفته، لأن العقل لا يستطيع أن يتجاوز عالم الظواهر الحسية، وهنا نيتشه يقول في كتابه العلم المرح” مع كانط صرنا نشك كألمان في القيمة القطعية للمعارف العلمية، كما صرنا نشك، فضلا عن ذلك في كل ما تسهل معرفته سببا وصار حتى الممكن معرفته ذاته يبدو لنا بما هو كذلك ذا قيمة أقل”.
وإذا كان العقل الكانطي محدود فإن النقد الذي ينتج عنه محدود، لأنه يتخلى عن وظيفته النقدية عندما يتعلق الأمر بالمسائل الأخلاقية والدينية.

وبهذا فالعقل النظري عندما يصل إلى هذا الحد، أي عندما يصل إلى الأمور المتعلقة بحاجتنا الدينية والأخلاقية، يتخلى عن حقه في التحليل والنقد، ويفسح المجال أمام عقل أخر وهو العقل العملي الذي لا يتطلع إلى النقد، بل يسعى إلى طمأنة النفس، لأن عالم النومين غير قابل للبرهنة، وغير قابل للإعتراض عليه ما دام يقع خارج الفهم. وهذا يعني بالنسبة لنيتشه، أن كانط لم يعتمد على النقد لصالح العلم، ولكن، أولا وقبل كل شيء، لصالح الدين والأخلاق. وأن كانط يسترجع في نقد العقل العملي المطلقات التي كنا نعتقد أن العقل الخالص هدمها، وأخيرا جعل العالم الأخلاقي ممتنعا عن النقد يرجع إلى إحساس كانط بقابليته للعطب أمام أي محاولة نقدية جدية.

وعلى هذا الأساس فإن نيتشه لا يعتبر النقد الكانطي نقدا حقيقا على الإطلاق؛ إذ: “لم يحدث كما يقول دولوز أن رأينا من قبل نقدا كليا أكثر تسامحا أو نقدا أكثر احترما، ولم يحدث أن رأينا من قبل نقدا للعقل بواسطة العقل، أي جعل العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته، أو تشكيله كقاض وطرف، حاكم ومحكوم، بل لم يحدث أن رأينا من قبل عقلا عاجزا عن البرهان”.

وكما يرفض نيتشه النقد الكانطي، فإنه يرفض كذلك أخلاقه الميتافيزيقية الكونية، التي تقول ما يكون مقبولا أخلاقيا، هو ما يكون مقبولا للجميع. وهذا في نظر نيتشه زيف وخطأ، لأنه لا يمكن أن توجد أخلاق مطلقة، إلا إذا كان البشر من طبيعة واحدة، وهذا شيء غير صحيح. وينتقد كذلك العمل الأخلاقي، لأنه المسؤول عن الانقلاب الخطير في القيم الأخلاقية، عن طريق تحويله للقيمة الأساسية للعمل من النتائج إلى الأسباب، هنا يقول نيتشه “خلال أطول مرحلة في التاريخ الإنساني، أي مرحلة ما قبل التاريخ، وكانت قيمة – أو عدم قيمة- عمل تأتي من نتائج هذا العمل….وكانت تلك هي الفضيلة، فضيلة النجاح أو الفشل التي تجعل الناس يحكمون على عمل ما بالجودة أو الرداءة…ولكن دفعة واحدة، بدت تباشير سيطرة خرافة جديدة وقاتلة، سيطرة تأويل ضيق تشرق في الأفق: أن أصل العمل نسب إلى النية التي كان ينبثق عنها، واتفق على أن قيمة العمل تكمن في قيمة النية، وهكذا صارت النية تشمل سبب العمل وما قبل تاريخه”.

بالتالي فالأخلاق الكانطية هي أخلاق الإنسان الحديث الذي يدعي معرفة الخير والشر في ذاتهما، ويرفض أوامره كقوانين شاملة. إنها أخلاق القطيع لأنها تعمل باسم العقل والعلم والفضيلة، وعلى ضمان هيمنة وانتصار غريزة القطيع على غيرها من الغرائز. لكن ما يجب معرفته، هو أن هذا النقد الذي يوجهه نيتشه لا يعني أنه يتخلى عنها وإنما يدعو إلى أخلاق طبيعية تقوم بفضح وإدانة للأخلاق المعادية للحياة. وهذا ما جعل نيتشه يضع محل العقل الكانطي إرادة قوة، لأنها تعود بنا إلى التجربة الماقبل-سقراط حيث لا يخضع الفيلسوف إلى القيم السائدة بل يحطمها ويضع مكانها قيما جديدة يقول زرادشت:”إن من يكون مبدعا في الخير والشر، ويجب أن يكون في البدء مدمرا، يمزق القيم تمزيقا” .

والنقد النتشوي لا يتوقف على الجانب الأخلاقي، وإنما يتجاوز ذلك ليتجه إلى نقد تصور كانط للجمال، حيث نجد كانط يؤسس تصوره على صفتين أساسيتين هما التجرد والشمول، ففي الأولى يقول كانط إننا نتأمل الجمال ونتذوقه دون رغبة أو منفعة؛ أي أن العملية الجمالية هي عملية يحكمها تأمل جمالي خالص”.
أما عن الشمول فهو يدافع عن كلية الجمال بعدما دافع من كلية الحكم الأخلاقي، أي أنه يستند إلى كينونة قبلية قائمة في كل الناس. وهذا في نظره خطأ فادح؛ لأن كانط استهدف المتذوق أو المشاهد على غرار المبدع، ذلك أن المشاهد ليس معروفا بما فيه الكفاية من معشر فلاسفة الجمال، وليس واقعة أو تجربة عظيمة، ولا هو نتيجة طائفة من الاختبارات المتينة” وبعبارة أخرى إن مفهوم التجرد في نظر نيتشه قد لطخ به الحكم الجمالي؛ لأن ما ندى به كانط يشبه سداجة أسقف القرية، والمقصود هنا يجب على الفن أن يكون المحرض الكبير للحياة، أو لإرادة القوة المترسبة في اللذة الجنسية؛ فعالة اللذة الجمالية، التي يسميها نيتشه “سكرا”، ترجع إلى الجهاز العصبي المشحون بطاقات جنسية، وإن حاجتنا إلى الفن والجمال هي حاجة إلى اللذائذ الجنسية. إذن فوجهة النظر الجديدة تشدد، على العكس من وجهة نظر كانط، على الأصل الحسي والجنسي، أو الحالة العضوية للفن.
كانت هذه أهم الاعتراضات التي وجهها نيتشه لفلسفة كانط النقدية. لكن نيتشه الجينالوجي لا يكتفي بدحض الآراء بل يتوجه إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتساءل عن السبب الذي يجعل كانط يتوقف بنقده في منتصف الطريق، ودفعه إلى رفع العالم الأخلاقي فوق النقد، واشتراط التجرد في الحكم الجمالي؟

الذي يراه نيتشه هو العلة في ذلك ترجع إلى صلة كانط العميقة بالدين؛ ففلسفة كانط تعد في نظر نيتشه، استمرارا للدين، ونجاح كانط ليس غير نجاح لاهوتي. ولهذا فنقد نيتشه للفلسفة الكانطية يطالها بوصفها، وبالأساس، لاهوتا مخادعا واحتياليا، أي بوصفها انحطاط.
والفكرة التالية التي سينتقدها نيتشه هي فكرة السلم الدائم كبديل للحرب.

ويرى نيتشه أن الحرب هي وحدها القادرة، في نظره على إقامة العدالة، وذلك راجع إلى أن العلاقات بين الدول لا يحكمها قانون العقل بل الاتفاق، والعرضية.
فالحرب بين القوى هو القاعدة، وأما التصالح أو السلم الذي نلحظه بينها، في بعض الأحيان، فليس إلا تصالحا مؤقتا بين إرادات أو قوى متساوية، تظل تترقب وتتربص الثوابت على غيرها عندما تتاح لها أدنى فرصة. وبهذا فالعقود والعهود ليست إلزاما أخلاقيا، وإنما هو إلزام حرص وفطنة. أي مشروط بالضرورة التاريخية أو الوضع القائم. ولهذه الأسباب فإنه يمكن للدولة أن تخرق المعاهدات، بل تغزو الدول الأخرى، دون أن تتوقع عقوبة مبررة، إذ لا توجد سلطة يمكن أن تنفذ هذه العقوبة. ويمكن القول أن هذه الفكرة هي النقطة المحورية التي جعلت نيتشه ينتقد فكرة “السلم الدائم”.
وبهذا يكون النقد النيتشوي يختلف عن النقد الكانطي، ودولوز يلخص الاختلاف الموجود بين التصورين في خمس نقاط:

1- لا مبادئ ضرورية، تكون شروطا بسيطة لوقائع مزعومة، بل مبادئ تعاقبية منطقية ولدائنية تعرض معنى المعتقدات والتفسيرات والتقويمات وقيمتها.
2- عوض الفكر التشريعي الذي يطيع العقل، يدعو نيتشه إلى تفكير بفكر ضد “العقل” غير أن اللاعقلانية هنا ليست ذلك الاتجاه الذي يعارض العقل من منطلقات خارجية: كالوقائع، أو القلب أو الشعور أو النزق أو الهوى، بل هي تقول بفكر متحرر من مبادئ العقل الخالص، والمنطق الصوري، وهذا هو معنى رمية زهور النرد.
3- يعارض نيتشه المشرع على النمط الكانطي لأنه عبارة عن قاضي محكمة يراقب توزيع مجالات النفوذ والقيم القائمة؛ بينما الجينالوجي هو فيلسوف المستقبل يبشرنا بنقد حربي لم يشهد له مثيل حتى الآن.
4- ليس الجينالوجي هو العاقل موظف القيم المتداولة، الكاهن والمؤمن، المشرع والمأمور، والعبد الظافر والعبد المهزوم؛ إنه بكلمة واحدة ليس الإنسان الارتكاسي، ليست الهيئة النقدية للإنسان المتحقق، ولا هي أي شكل مصعد للإنسان، الروح، العقل، وعي الذات، بل إنها إرادة قوة، إرادة إنسان يريد أن يكون متجاوزا، متقلبا عليه…”يمكنكم التحول إلى آباء للإنسان الأسمى وأجداد له: فليكن ذلك أفضل ما في عملكم”.
5- ليس الهدف من النقد هو الإنسان الأخير ولا إقامة ملكوت العقل، بل الشعور بطريقة مختلفة وبحساسية مغايرة، يقول نيتشه” إن عبقريتي تكمن في أنفي إنني أتشمم الأفات”.

المنطق كميتافيزيقا لدى الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل(1770-1831)

لقد بدأ هيجل بالمنطق – ليس بمعناه الذي نعرفه اليوم كقواعد للاستنتاج، وإنما بمعناه القديم والكلاسي كنسبة ratio أو عرض للأسباب والمبادئ أو المعنى الأساسي لأي شيء وما ينطوي عليه من عمليات، وذلك على نحو ما نستخدم مصطلحات مثل الجيولوجيا لنعني بهما معنى الأرض وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح البيولوجيا لنعني به معنى الحياة وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح السيكولوجيا لنعني به معنى العقل أو النفس وما تنطوي عليه من عمليات. وعلى هذا فقد كان المنطق بالنسبة إلى هيجل يدرس معنى أيِّ شيء وما ينطوي عليه من عمليات. وبشكل عام فإنه يترك العمليات للعلم، كما أن العلم يترك المعنى للفلسفة. إنه يقترح أن يحلّل لا الكلمات بطريقة عقلية (للخلوص منها باستنتاجات) وإنما السبب أو العقل أو المنطق في الحقائق وسيعطي لمصدر هذه الأسباب اسم الرب أو الله God وهو في هذا يشبه إلى حد كبير الصوفيين (ذوي الاتجاه الباطني) القدامى الذين يجعلون الرب واللوجوس (الكلمة) شيئاً واحداً – منطق العالم وحكمته.

فالعقل المدرِك (الواعي) يُضفي معنى للأشياء بدراسة أبعادها في المكان والزمان وعلاقاتها بالأشياء الأخرى المُدركة أو المُتذكَّرة. وكان كانط قد أطلق على مثل هذه العلائق اسم المقولات ، وعدَّد منها اثنتي عشرة مقولة رئيسية: الوحدة والتعددّية والكلية وأيضاً الحقيقة والنقيض والقَصْر، والسبب والنتيجة والوجود والعدم، والاحتمال والحتم. وأضاف هيجل مقولات أخرى كثيرة: الموجود المطلق، والانجذاب والتنافر، والتشابه والاختلاف.. فكل شيء في نطاق خبرتنا هو نسيج معقَّد من مثل هذه العلاقات، فهذه المنضدة – على سبيل المثال – لها مكان خاص، وعمر خاص وشكل خاص وتحمُّل خاص ولون خاص ووزن خاص ورائحة خاصة وجمال خاص، وبدون هذه العلاقات الخاصة تصبح المنضدة مجرد فوضى غامضة تُعطى مشاعر متنافرة منفصلة، أمّا إن وجدت هذه العلاقات استطاعت الحواس إدراكها كموجود (مُدْرَك) موحَّد. وهذا الإدراك في ضوء ما تعيه الذاكرة، وفي ضوء فهم الغرض تُصبح هناك فكرة. ومن هنا فإن العالم – بالنسبة إلى كل منا – هو أحاسيسنا (الداخلية والخارجية) حولتها المقولات (بالمعنى الآنف ذكره) التي نسقتها إلى أفكار ومُدركات مختلطة بالذكريات ومتأثرة بإرادتنا.

والمقولات ليست أشياء، وإنما هي طرائق وأدوات للفهم تقدم الشكل والمعنى لأحاسيسنا. إنها المقولات تكون النسق العقلي والمنطق والتكوين والسبب لكل شعور أو فكرة أو شيء. إنها جميعاً تكوِّن المنطق والعقل ولوجوس الكون، على وفق فهم هيجل.

والوجود الخالص هو أبسط أنواع المقولات وأكثرها كونية فعن طريق الوجود الخالص نحاول فهم خبرتنا – أعني الوجود كما ينطبق على كل الأشياء أو الأفكار دون تخصيص. وكونية هذه المقولة الأساسية هي أنها مقدّرة ومحتومة : فبافتقادها أي شكل أو سمة لا تستطيع أن تمثل أي شيء موجود، ومن هنا فإن فكرة الوجود الخالص أو الكينونة الخالصة هي من حيث نتائجها أو من حيث مفعوليتها مساوية للمقولة المناقضة لها – ونعني بها العدم أو عدم الوجود أو عدم الكينونة أو اللاشيء ، ومن هنا فهما بالفعل (الوجود والعدم) ممتزجان، فما كان غير موجود (غير كائن) يُضاف للوجود (لما هو كائن ويجرّده من لا حتميته أو يجرده من كونه محضاً خالصاً، فالوجود والعدم or يصبحان على أىة حال أمراً سالباً على نحو ما أو تحتوي الفكرة على شيء من السَّلب. أما مقولة الصَيرورة الغامضة فهي المقولة الثالثة، وهي أكثر المقولات فائدة، فبدونها لا يمكن إدراك أي شيء وهو يحدث أو يتخذ شكلاً. وتتبع كل المقولات اللاحقة النسق نفسه أي أنها تظهر من المزاوجة بين الفكرة ونقيضها.

من هذا التلفيق الهيجلي نشأ الكون (مثل آدم وحواء) من اتحاد أو اقتران (بين فكرتين) مما يعيد للذاكرة فكرة العصور الوسطى القائلة بأن الله خلق الكون من اللاشيء (من العدم). لكن هيجل حاجّ بأن مقولاته هذه ليست أشياء، وإنما هي طرائق لإدراك الأشياء، ولجعل سلوكها أو تحركها مُدْركاً أو مفهوماً، ويمكن التنبؤ به غالباً، بل ويمكن أحياناً السيطرة عليه.

لقد طلب منا بعض التقييد (التكييف) في معنى الفكرة ونقيضها (تلك الفكرة المقدسة في المنطق القديم) وهو أن A P لا يمكن أن تكون إلا A P أي لا يمكن أن تكون نقيض not A P. حسناً جداً لكن A P قد تصبح لا P أو نقيض P ( – A) فالماء قد يصبح ثلجاً أو بخاراً. فكل حقيقة – كما أدركها هيجل – هي في عملية متطورة من المواءمة أو الملاءمة. إنها – أي الحقيقة ليست في حالة وجود استاتيكي (ثابت) a وإنما هي في حالة سيّالة متحوّلة. فكل شيء ينساب. ففي رأي هيجل أن كل حقيقة وكل فكر وكل شيء وكل تاريخ ودين وفلسفة هي جميعاً في حالة تطور مستمر ليس من قبيل الانتخاب الطبيعي، وإنما من خلال تطور التناقض الداخلي (الفكرة ونقيضها) وما يتمخض عنه من نتائج، ومن ثم التقدم نحو مرحلة أو حالة أكثر تعقيداً.

هذا هو الديالكتيك الهيجلي الشهير (وهو دياليكتيك فيشته سابقاً، وديالكتيك تعني حرفياً الحوار). إنه ديالكتيك الفكرة ونقيضها والجميعة (أي ما يتمخض عن الفكرة ونقيضها من فكرة جديدة): فالفكرة أو الموقف ينطوي في باطنه على نقيضه ويطوّره ويناهضه ثم يتحد معه ليتخذ وَإيَّاه شكلاً جديداً. والمناقشة المنطقية لابد أن تأخذ شكل البناء الديالكتيكي من عرض ومعارضة وتوفيق. والتداول أو التشاور الحسّاس لابد أن يكون على هذا النحو – وزن الأفكار والرغبات بميزان التجربة. والمقاطعة أو التداخلات في أثناء المناقشة هي كما أصرّت مدام دي ستيل هي حياة الحوار، لكنها تصبح موتاً له (للحوار) إذا لم نجد للتناقض حلا توفيقيا، أو كانت الفكرة النقيضة غير وثيقة بالموضوع، فالجميعة الحقيقية Synthesis (أي الفكرة الناتجة عن الفكرة ونقيضها) ترفض الإثبات والنفي، وتتيح مكاناً لعناصر من الموقفين (الفكرتين) المثبتة والنافية. وكارل ماركس – تلميذ هيجل – كان يرى أنَّ الرأسمالية تحوي في طياتها بذور الاشتراكية، بمعنى أن الشكلين الاقتصاديين المتنافسين لا بد أن يتصارعا حتى الموت، وأن الاشتراكية لابد أن تسود، وتنبأ الهيجليون الأكثر تمسكاً بفكر هيجل أن الرأسمالية والاشتراكية سيتحدان معاً كما نرى في أوروبا الغربية الآن. وكان هيجل أكثر الهيجليين تطرفاً. لقد راح يتتبع المقولات – ليُظهر كيف أن كلا منها – بالضرورة – ناتج عن فكرة ونقيضها. ونظم حججه وبراهينه، وحاول أن يقسم كل عمل من أعماله في شكل ثلاثي (الفكرة ونقيضها والجميعة) وطبق ديالكتيكه على الحقائق كما طبقه على الأفكار. فأظهر أن التناقض والصراع والجميعة تظهر في السياسة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ.

لقد كان محققا أو واقعيا l بالمعنى الوسيط (المعنى الذي كان سائدا في العصور الوسطى): فالكون أكثر حقيقة من أي من أجزائه (ذراته) التي ينطوي عليها: فالإنسان يشمل كان البشر من كان منهم حيا أو من أغرق في الموت، والدولة أكثر حقيقة أو أعمق وجودا ، وأكثر أهمية وأطول عمرا من أي مواطن من مواطنيها وللجمال قوة خالدة يبقي حتى ما مات، فتظل بولين بونابرت ويبقى الجمال حتى لو أن أفروديت لم تكن قد وجدت في يوم من الأيام. وأخيرا وجدنا الفيلسوف الملزم (بكسر الزاي) يحمل كوكبة مقولاته على المقولة الأقوى والأشمل والأبقى. إنها الفكرة المجردة التي تتمثل فيها كونية كل شيء أو فكر أو عقل أو تكوين أو قانون، إنها الفكرة التي تمسك بالكون، إنها اللوجوس Logos أو الكلمة التي تجلل الجميع وتحكمه.

تعزية فيصل أزروال،في ذمة الله..20/03/1974-13/10/2020

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) صدق الله العظيم.

بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تلقينا نبأ وفاة المرحوم والمغفور له بإذن الله، احد المتعاونين الأوفياء مع مواطني الجماعة الترابية بركين، صغارا وكباراً، شبابنا وكهولاً، المسمى قيد حياته،فيصل أزروال صباح اليوم، ولد الفقيد بقرية تيغزى يوم 20 مارس 1974،كان يشتغل قيد حياته بالجماعة الترابية بركين، ليلتحق للعمل بالقيادة الترابية بركين، دائرة جرسيف، عمالة جرسيف، توفي صباح هذا اليوم بالمستشفى الإقليمي جرسيف يومه الثلاثاء 13 أكتوبر 2020م،وبهذه المناسبة الأليمة نتقدم ببالغ التعازي والمواساة لأسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة، راجين لهم جميعا جميل الصبر وحسن السلوان وللمرحوم الرحمة والمغفرة .


اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وقه فتنة القبر وعذاب النار.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

من هم الحكماء السبع؟

لابد من الإشارة إلى اختلاف الذي وقع في تصنيف الحكماء السبع، حيث قيل هم كل من طاليس، إنكسمانس، هيراقليطس، أنبوذقليدس، ديموقليدس، أنكساكوراس، فيثاغورث.

وقيل أيضا إن الحكماء الإغريق السبعة هم:

  • سولون من أثينا – “لا تكثر من شيء”.
  • خيلون الاسبرطي – “اعرف نفسك”.
  • طاليس – “التأكد يجلب الخراب”.
  • بياس من برييني – “كثرة العمال تفسد العمل”.
  • كليوبولوس من لندوس – “كل اعتدال محمود”.
  • بيتاكوس من ميتيليني – “اعرف فرصتك”.
  • بيرياندر من كورنث – “التفكير المسبق في كل شيء”.

أهم و أشهر عشرة(10) من الفلاسفة الإغريق و أكثرهم تأثيرا

1

أدخل الفلاسفة الإغريق مقارباتٍ مبدعةً إلى النَسَق الفلسفي السائد قديماً، ونأَوا بملاحظاتهم عن الشروحات التقليدية الأسطورية مُتبنّين بدلاً عن ذلك تفسيراتٍ تعتمد الاستدلال والبراهين. وشهدت اليونان القديمة صعود نجم العديد من الفلاسفة، ولكن من بين هؤلاءِ تميّز بعض الفلاسفة بأعمالهم وأفكارهم المُبتكرة في الفلسفة. فأفكارهم الفلسفية العميقة بخصوص العلوم الطبيعية البدائية والتطبيقات الأخلاقية لِقيَمهم الفلسفية في المجتمع وضعَتهم في منزلةٍ رفيعة إلى يومنا هذا. سنتعرف في مقالنا عن أهم الفلاسفة الإغريق وأكثرهم تأثيراً

10- بارمينيدس، 510 ق.م. – 560 ق.م.

الفلسلفة

كان بارمينيدس مُريدًا لفيثاجورس الذي كان شخصية معروفةً داخل النسق الفلسفي لليونان القديمة.

وكان لقصائده وأفكاره أثرًا عميقًا في الفيلسوف كزينوفانيس، ما دفع بأغلب المؤرّخين للجزم بأنه تتلمذ على يديه.
ويُعتبر بارمينيدس من أهمّ فلاسفة عصر ما قبل سقراط.

في عمله الوحيد الذي وصلَنا، والمُسمّى على نحو مناسب “في الطبيعة”، يحاول بارمينيدس أن يطرقَ أعقد سؤال على الإطلاق: “هل ثمّة وجودٌ أم عدم؟”

بصراحة، فمحاولتُه سبرَ أغوار هذه المعضلة الفلسفية (المجازيّة، بالنسبة للبعض) تقود إلى عبارةٍ متناقضةٍ بدلاً من إجابةٍ شافية. يقرّر بارمينيدس أنّ أيّما شيءٍ “موجود” فلا بدّ أنّه قد وُجِدَ على الدوام، حيث أنه لا شيء يتأتّى من “العدم”.

وبالتالي، يُصبح الأمر برمّته متناقضةً لِاستحالة التفكير بطبيعة الـلاشيء، واستحالة التفكير بشيءٍ لا يُمكِن تخيّله. على كل حال، قام الفلاسفة الذين جاؤوا بعده بتبسيط هذه المستحيلات الفلسفية.

9- أناكساجوراس 500 ق.م.– 428 ق.م.

أشهر الفلاسفة

شخصيٌة مهمّةٌ أخرى من عصر ما قبل سقراط، كان أناكساجوراس المولود في كلازومينيا (قرب إزمير، تركيا) عالماً وفيلسوفًا مؤثّرًا عاش في أثينا لما يقارب الثلاثين عامًا. وتمحورت آراؤه الفلسفية حول الطبيعة نفسها. وكما كان الحال عليه مع مُعظم فلاسفة الإغريق، فقد تعارضت أفكاره مع واصطدمت بالأيديولوجيات والعقائد السائدة في عصره، ما اضطرّه لمواجهة عواقبَ وخِيمةٍ كادت تكلّفه حياتَه.
ويُحسب لأناكساجوراس كونه أوّل مَن أسّس مذهبًا فلسفيًا بأكمله في أثينا، المدينة التي ستصل لذروة مجدها فيما بعد لتكون مركز ثقلٍ مجتمعيّ لمئات السنين اللاحقة.

كرّس أناكساجوراس معظم وقته لشرح الطبيعة على ماهيّتها، مفترضًا أن الكون ظلّ كتلةً غير متمايزة حتّى تدخّلت قوّةٌ محرّكةٌ بثّت النظام في الكون، وهو يُطلق عليها اسم “النوكس” (العقل الكلي).
آمن أناكساجوراس أنه في العالم المادي يحتوي كلُّ شيء جزءًا من كل شيء آخر. في البدء لم يكُن أي شيء على ماهيّته الحالية؛ بل كانت كل الأشياء ممتزجةً ببعضٍ بشكلٍ فوضوي، فجاء “النوكس” وبثّ حركةً ومنح معنىً للكيانات في هذه الفوضى..

8- أناكسيماندر 610 ق.م – 546 ق.م.

الفلسفة الإغريقية

يُعتبر أناكسيماندر الذي وُلد وعاش في ميليتوس (في مقاطعة “أيدين” التركية المعاصرة) يُعتبر أحد أشهر تلامذة طاليس، بل ومن نواحي متعدّدة خليفته الفلسفي. ويُعرف كأول الفلاسفة الذين كتبوا في الفلسفة كونه الكاتب الوحيد الذي وصلَنا ما دوّنه في بدايات تاريخ الفلسفة الغربية. وهو معروفٌ كأول العلماء المشتغلين بالعلوم الطبيعية والجغرافيا. وكذلك كان أول من أسّس لصورة عالم الكون المفتوح، مُبتعدًا بذلك عن فكرة الكون المغلق التقليدية. وبذلك يكون أوّل عالم فلك في تاريخ البشرية، رغم أنه بنى ملاحظاته على التخمين لا التجريب.

وقام بتوسيع نطاق الآراء الفلسفية لأستاذه طاليس، حيث طرح فكرة العنصر الأصيل “Arche” الذي يُردّ إليه أصل الكون. ولكن خلافاً لأستاذه، آمن أناكسيماندر أن هذا العنصر ذا كتلةٍ غير محدودة وهو أصل الأشياء. وعمل هذا العنصر الأصيل كنقطة مرجعية لتمايز المتضادّات كالحرّ والبرد، والنور والظلام… إلخ.

ورغم شحّة ما وصلنا من أعماله، بسبب الأجيال اللاحقة من الفلاسفة، يبقى أناكسيماندر أحد أهمّ العقول الفلسفية في اليونان القديمة.

7- إيمبيدوكليس 490 ق.م إلى 430 ق.م.

الفلاسفة الإغريق

كان إيمبيدوكليس من أبرز فلاسفة الإغريق في فترة ما قبل سقراط، ولقصائده تأثيرٌ كبيرٌ على شعراء لاحقين من أمثال لوكريتيوس.

وأحد أبرز معالم فلسفته هي نظرية العناصر الأربعة للمادة، القائلة بأن المادة تتكوّن من أربعة عناصر أساسية: التراب، الهواء، النار، والماء.

أصبحت هذه واحدةً مِن أقدم النظريات التي افتُرضت في فيزياء الجُسيمات، رغم أن بعض المؤرخين يعتبرونها جهدًا مبذولاً لنفي نظرية اللا-ثنائية عند بارمينيدس (الذي أنكر ثنائية التغيير والحركة للكون، مُنتصرًا لرأي ثبات الكون).

بكل بساطة رفض إيمبيدوكليس وجود الفراغ، معارضًا بذلك فلسفة بارمينيدس بالكامل. واقترح أن العالم يتألف من قوى محرّكة متعارضة، بمعنى: الحبّ كمسبّب للاجتماع، والخلاف كمسبّب للانفصال. وهو أول من وضع وصفًا تطوّريًا عن نشوء الكائنات.

6- زينون الإيلي 490 ق.م – 430 ق.م.

أهم الفلاسفة

في الوقت الذي كان فيه معظم فلاسفة الإغريق مشغولون بفحص أدلّتهم ومعارفهم لتفسير الطبيعة على ما هي عليه، كرّس زينون وقته لتوضيح المعضلات والمتناقضات التي زخرت بها الحركة والكثرة. والجدير بالإشارة أنه حاول وضع شروحات مفصّلة للمقدّمات المنطقية المتناقضة الموجودة في العالم المادي قبل نشوء علم المنطق كما نعرفه.

كما بنى زينون على أفكار بارمينيدس الفلسفية وذبّ عنها أمام المعارضة السائدة التي وُوجِهت بها في عصره.

وأثار زينون عدّة متناقضات تلقّتها أجيالٌ لاحقة من الفلاسفة بالنقاش والجدل. والكثير من الجدل القائم في عصره بخصوص متناقضاته أدّى إلى تقسيم الزمان والمكان إلى ما لا نهاية. مثلاً وجود المسافة، يعني بالضرورة وجود نصف المسافة… وهلمّ جرّا. كان زينون الأول في تاريخ الفلسفة الذي يثبت وجود مفهوم اللا-نهائية.

5- فيثاغورس 570 ق.م – 495 ق.م.

فيثاغورث

فيثاغورس هو فيلسوف من عصر ما قبل سقراط، ولكنه اشتُهر بنظرياته وأفكاره في الرياضيات أكثر من الفلسفة. في الواقع فإن أشهرَ ما عُرِف به فيثاغورس هو نظرية تحمل اسمه: مبرهنة فيثاغورس. ورغم كونه أحد أكثر الأسماء المألوفة من بين شخصيات عصر ما قبل سقراط، إلا أن المفاجأة تكمن في أن ما نعرفه عنه هو أقلّ القليل.

يُنسب إليه فضل إنشاء مدرسة ٍفلسفية اجتذبت نحوه العديد من المُريدين.

ومن خلال هذه المدرسة حاول فيثاغورس أن يجدَ تناغمًا متبادلاً بين حياة الواقع والوجوه العملية للفلسفة. ومع هذا لم تنحصر تعاليمه في مجال الفلسفة كما نعرفها، بل تجاوزتها إلى مسائل حياتيّة كـ”قواعد السلوك” و “الطعام اليومي” وغيرها.

رأى في العالم التناغمَ الأسمى وصبا في تعاليمه لوصف الكيفيّة الأمثل لحياةٍ مُتناسقة.

4- سقراط 469 ق.م – 399 ق.م.

الفسلفة والعلوم

اجترحَ سقراط منظورًا جديدًا كليًا بتحقيقه نتائجَ عمليّة من خلال تطبيق الفلسفة في حياتنا اليومية، وهو الأمر الذي كان غائبًا إلى حدّ كبير في نهج فلاسفة ما قبل سقراط.

كما نأى سقراط بنفسه بعيدًا عن التخمينات المادية المتواصلة التي أشغل بها الفلاسفة السابقون أنفسهم تحليلاً واستيعابًا. وحاول إرساءَ نظامٍ أخلاقيّ يقوم على إعمال العقل البشري بدلاً من التسليم للعقائد الدينية المتنوعة والمتنافرة بطبعها.

وبدلاً من إطلاقه أفكار مبنية على تفسيراته الخاصة، اعتاد سقراط مساءلة الناس بلا هوادة عمّا يؤمنون به، محاولاً إيجاد تعريفاتٍ للفضائل من خلال حواراته مع أولئكَ الذين يدّعون الفضيلة.
تبوّأ سقراط مكانةً رفيعة والتفّ حوله العديد من الأتباع، ولكن أصبح له أعداءٌ كثيرون.

وفي نهاية المطاف قادته معتقداته ومنهج فلسفته الواقعي إلى الإعدام. ولكن يُمكن القولُ بأنّ استشهادَه الفلسفي -بالدرجة الأولى- هو ما جعله الشخصية الأيقونية التي نعرفها.

3- أفلاطون 427 ق.م – 347 ق.م.

فلسفة

كان أفلاطون تلميذًا لسقراط ويبدو تأثّره واضحًا بالنهج الفلسفي لأستاذه. ولكن في حين كان سقراط مشغولاً للغاية بتفسير الفلسفة حصرًا من خلال الاستدلال البشري، استرسل أفلاطون في الدمج بين المنهجين الفلسفيين الرئيسين: ما-ورائيات فلاسفة فترة ما قبل سقراط ومعتقداتهم بخصوص الطبيعة مع المعتقدات الأخلاقية السقراطية.

وقطب الرحى في فلسفة أفلاطون هو منهجٌ بثلاثة تفريعات أساسية: الديالكتيك، الأخلاق، الفيزياء. ونقطة التلاقي بينهن كانت نطرية المُثُل. فبالنسبة لأفلاطون كان أرقى أشكال المُثل هو “الخير” والذي اعتبره مصدر الوجود والمعرفة. أما في الفيزياء اتفق أفلاطون مع معظم الأفكار الفيثاغورسية.

وتقدِّم غالب أعماله، وبالأخص عمله الأهم “الجمهورية”، مزيجاً لأوجه متعددة من علم الأخلاق، الفلسفة السياسية، والما-ورائيات وغيرها مسكوبةً جميعها في قالبِ فلسفةٍ عمليّة، منهجية، وذات معنى.

2- أرسطو 384 ق.م – 322 ق.م.

الفلاسفة الإغريق

كان أرسطو أكثر تلاميذ أفلاطون تأثيرًا. وبنى أرسطو تفسيراته على الحقائق المكتسبة من التجربة الحياتية، وهذا اتجاه يختلف عن أسلوب أستاذه الذي فضّل منهجًا متجاوزًا للمحسوسات. أثبت أرسطو مقدرةً كتابيةً خصبة ولغوية مبدعةً، إذ قام بإعادة صياغة وهيكلة المفاهيم السائدة في معظم مجالات المعرفة التي اشتغل بها.

في الوقت الذي كانت فيه الخبرة بالمعارف البشرية تسبح في العموميات، قام أرسطو بترتيبها في أصنافَ مستقلّة كالأخلاقيات، علم الأحياء، الرياضيات، والفيزياء -وهو التقسيم الذي ما يزال متَّبعًا ليومنا هذا.

يُعتبر أرسطو رمزًا هامًا من فلاسفة اليونان القديمة، وانتشر تأثيره خارج حدودها مكانًا وزمانًا.

1- طاليس الملطي 620 ق.م – 546 ق.م.

الفلسفة الإغريقية

يتربع طاليس على رأس القائمة لدوره المحوري في تخصيب تربة الفلسفة الإغريقية التي انبثقت منها الأجيال اللاحقة من مشاهير المفكّرين، المنظّرين، المناطِقة، الفلاسفة، والمشتغلين بالما-ورائيات. ويُعرف لدى المؤرخين على أنه أبو الفلسفة الإغريقية.

والكثير من أيديولوجية طاليس وصلت إلينا عبر وصف أرسطو الذي أشار أن طاليس كان أول مَن بحث في المبادئ الأساسية لنشوء المادة. كما يُعتبر طاليس مؤسس فلسفة المذهب الطبيعي.

كفيلسوف، لم يقصُر طاليس نطاق بحثه في مجال معرفيّ محدّد، بل كان منهمكًا في محاولة فهم الجوانب المتعدّدة للمعرفة: كالفلسفة، الرياضيات، العلوم، الجغرافيا وما إلى هنالك. ويُذكر أنه طوّر معيارًا دقيقًا لتفسير حدوث التغيير في الأشياء. وقدّم الماء على أنه المادة الأولى التي انبثق منها العالم.

حظي طاليس بتقدير الإغريق القدماء، وعادةً ما أضفَت فرضيّاته معنىً وثقِلاً للأفكار الموجودة عن الطبيعة.

مفهوم الدولة عند الفيلسوف اسبينوزا

إن سبينوزا، بعد أن كان قد انتهى من كتاب “الأخلاق” ربما أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان “حيواناً سياسياً”، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات “الرسالة السياسية”، موطداً العزم، كما فعل في تحليل الانفعالات، على أن يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أو الفيزياء:

رغبة في بحث مادة هذا العلم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أو أرثى لها، بل على أن أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو(162). ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة علم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي أن تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا أن نتصور الإنسان قبل أن يعدل التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر أن تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في “حالة الطبيعة” إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في “اللواياثان” تقريباً. وفي “جنة الشر” هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أو ظلم، صواب أو خطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا “كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً.. ولا تقاوم الصراع أو الكراهية أو الغضب أو الخيانة أو بصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة(163)”. وبمقتضى “حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أو الاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أو لغذائه(165).

ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، ربما كان يعيش بالفعل في جماعات اجتماعية. ومن حيث أن الخوف من الوحدة كان في كل الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي(166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما حدث هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أو قوتها من “الحق الطبيعي” للفرد أو من قوته. ولا ريب في أن الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل “النزوع للمحافظة على الذات(167)”- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليشمل أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. أن التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، كل هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها. ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:

دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، فعلى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه… والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون(168).

ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم “لا قانون”-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:

إن العقل يستطيع حقاً أن يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا…. أن الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً أن يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة الذهبية الوارد ذكرها في الأشعار، أو برواية مسرحية(169).

وينبغي أن يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من أن يحيوا حياة العقل:

ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه…. أن غاية الدولة حقاً هي الحرية(170).

ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أو على الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل أن تحدد الدولة أي المذهب الدينية يلقن للناس. وينتقل سبينوزا إلى بحث الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزو لويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:

المظنون أن التجارب تعلمنا أن وضع السلطة في يد رجل واحد مدعاة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يكتب له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام التركي، على حين أن أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أو الديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة… إن الاسترقاق. لا السلام، هو الذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها(171).

وقد تكون الأرستقراطية “حكومة الصفوة” ممتازة، لو لم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أو الأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أو الأشراف من كل الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن أن تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تعلمنا علم اليقين أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي أن الأمور تجري على عكس ما نريد(172).

وهكذا شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهو على سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. أن الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أو أولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على كل شيء، وما أيسر أن يفسدها الجشع والترف(173). ومع ذلك “أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية(174)” واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم(175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا “أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح(176)”. وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره(177). وما ينبغي أن يكون هناك إلا ضريبة واحدة:

الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها أن تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين مقابل إيجار سنوي… وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم(178).

وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.

سلسلة من التأثيرات
في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا أن ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بن جرسون وأورييل أكوستا. ولا بد أن دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة “الأخلاق” معبداً ممتازاً للعقل. قال سبينوزا “أن بعض الناس” يبدءون فلسفتهم من الأشياء المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله(179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.

إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التقاليد على أشد الاعجاب بهم ولو أنه في تمييزه بين عالم الأشياء العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو “الأخلاق” عند نيقوماخوس(180). ولكنه قال لأحد أصدقائه “لم يكن أفلاطون وأرسطو وسقراط كبيرون عندي(181)”. أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً كل الإنسجام مع أبيقور. أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في “الرسالة الجامعة” الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. أن قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما قال به هو تعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.

وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو (كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانو بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير والفكرة عن كتاب برونو “المحافظة على الذات(182)” وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم المعرفة الأسمى، بمعنى رؤية كل الأشياء في الله-ولو أن المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.

وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت أن يجعل الفلسفة تتمشى مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في أن أية فكرة لا بد أن تكون صادقة، إذا كانت “واضحة متميزة”. وقبل وعمم رأي ديكارت في أن العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات(183).

وواضح أن “لواياثان” هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. أن الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهو قابل لمجرد خلود غير ذاتي، أو لا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في “لواياثان” تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشتركة “للحالة الطبيعية” و “الميثاق الاجتماعي” انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من “دوائره الملكية” إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هو الذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه “الفلورنسي البالغ الذكاء”، ومرة أخرى بأنه “أعظم عبقري… بعيد النظر(184)” ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في “حالة طبيعية” وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.

وخفف سبينوزا من كل هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق(185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مفصل يتسم بالدقة الألمانية(186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولو أنه مبني على خبرة شخصية، عبارة عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إن وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التوقع الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أو الحقيقة الأساسية أو القانون الكوني، وكم من مرة أعلن عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق كل شك أو جدل أو غموض أو لبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان كل المنطلق وسيلة عقلية أو آلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم؟ وهكذا يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أو آلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يبدو حقيقياً، أو شيء يبدو مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد أن قال المنطق كلمته.

وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من كل معنى ورحمة وأمل، بل أن المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في أن كل الأشياء وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أو العلة الواحدة أو الله، وحينئذ-كما قال بيل-فإن الله هو العامل الحقيقي في كل الأفعال، والعلة الحقيقية في كل الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هو الذي قتل نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على أن هذا “أسخف وأبشع فرضية(187)” وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676-1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. أن نظرية “الجواهر الروحية المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية)” قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعلن لبينتز يوماً أن شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أو تدابير العناية الإلهية في عملية الكون(188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد “الحاد” سبينوزا انضم إليها ليبنتز “حماية لشخصه”. أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكاد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بمذهب الجبرية عنده، “وبأخلاقه” القائمة على المذهب الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أو المذهب الباطني البارز في كتاب “الأخلاق”، وقد نتخيل رد الفعل في فولتير أو ديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هو لباخ، لعبارات مثل “أن الحب الروحي العقلي لله هو نفس الحب الذي يحب به الله نفسه(189)”.

وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه “لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا(190)” أن التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على مذهب وحدة الوجود، هو بالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد أن جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل “فلسفة الوجدان” الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هو نوفاليس، أطلق على سبينوزا “الثمل بحب الله”. وقال هردر بأنه “وجد في رسالة الأخلاق” التوفيق بين الدين والفلسفة. وكتب شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن “سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس(191)” و “وارتد” جيته الشاب عندما قرأ “الأخلاق” لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جو الهدوء في كتاب “الأخلاق”، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه “لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول أن تكون سبينوزياً”، وعبر من جديد عن إله سبينوزا بأنه “العقل المطلق” وربما تسرب شيء من “نزعة المحافظة على الذات” عند سبينوزا إلى “إرادة الحياة” عند شوبنهور، و “إرادة القوة” عند نيتشه.

ولمدة قرن من الزمان عرفت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة “مؤلفاً متأخراً أسمع منه أن تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد”. وكتب الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن “حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة”. وتحدث سيرجون ايفليف عن “الرسالة اللاهوتية السياسية” بأنها “كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة” أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، قال أنه “زعيم كبير للكفرة الحديثين(192)”. وفي 1739 ارتاع هيوم-وهو من أتباع مذهب اللاأدرية-في حذر من “الفرضية البشعة” التي جاء بها “ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في كل الأنحاء(193)”. ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من “الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في “ملكة الأحلام كوين ساب” وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. ووقع جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فقال عنها “تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً”. وترجم جورج اليوت “الأخلاق” بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيو آرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدو أن الدين والفلسفة أثبت كل نتاج الإنسان على مر الزمان. أن بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.

أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما كتبها. أن الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته كل الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة أن يصور الله على أسس يمكن أن يسيغها العلم. أن نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على أن نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في كل جيل، وفي كل مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في مقابل هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال العلم والفلاسفة والقديسين. أن ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هو الذي كتب روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون “وقواعد” نيوتن. و “أخلاق” سبينوزا، وهو الذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهو الذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولو أنه صلبه، أن الإنسان فعل كل هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.

العدل والجور والمعاد عند الفيلسوف ابن رشد رحمه الله(ت. 595ه)

العدل والجور

هذه مسألة من المسائل الهامَّة التي ثار من أجلها الخلاف واشتدَّ النِّزاع بين الأشاعرة وبين المعتزلة والفلاسفة، ومن ثَمَّ نرى ابن رشد في بحثه لها لا يذكر المعتزلة في نقده، على حين ينال الأشاعرة بفيض من نقده اللاذع الشديد.

وهي مسألة تقوم في أساسها على مسألة الحُسْنِ والقُبْح في الأفعال، أذلك يرجع إلى العقل، كما يرى المعتزلة والفلاسفة، أم إلى الشرع كما يرى الأشاعرة؟ ولذلك سنرى كل فريق يبني رأيه في مسألة العدل والجور على رأيه في مُشْكِلَة الحُسن والقبح.

ويبدأ فيلسوف الأندلس البحث بقوله: «قد ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جدًّا في العقل والشرع، أعني أنَّها صرَّحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع بل صرح بضده.»٥٢
ثم يُلَخِّص ابن رشد هذا الرَّأي بأنَّ الإنسان يُوصف بالعدل تارة، وبالجور أُخرى؛ لأنَّ الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رَضِيه الشَّرع كان عادلًا، ومن أتى ما نهاه عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائرًا، أمَّا الله سبحانه وتعالى وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعلٌ هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدلٌ، وكان مِنْ هذا أن قالوا ليس شيء في نفسه عدلًا، ولا شيء في نفسه جورًا، بل كل ذلك يرجع إلى الشرع الذي أمر بأي معصية لكان ذلك عدلًا، وهذا في غاية الشناعة وخلاف المسموع والمعقول!٥٣
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ موقف الأشاعرة في هذه المَسألة «خلاف المسموع والمعقول»؛ وذلك لأنَّ الله وصف نفسه بأنَّه القائم بالقسط، وبأنَّه لا يظلم، وهذا إذ يقول (سورة آل عمران: ١٨): شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وإذ يقول (سورة فصلت: ٤٦): وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وإذ يقول أيضًا (سورة يونس: ٤٤): إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا. يُريد فيلسوفنا بهذا أنْ يُقَرِّر على ما نعتقده، بأنَّ هذه الآيات — وأمثالها في القرآن — تشهد بأنَّ منَ الأفعال ما هو في نفسه عدل كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم كتعذيب البريء الذي لم يجترح إثمًا.

ولكن الغزالي مَثَلُه في هذا مثل سائر الأشاعرة، يرى هنا أنَّ لله ألَّا يُثيب المُطيع كما له أن يعذب الحيوان والطفل البريء بما يشاء، وأنه بهذا وذاك لا يكون ظالمًا؛ لأنَّه يتصرف في ملكه بما يُريد، وكما يَرَى هو لا يرى غيره، فلا يُتَصور في حقه الوصف بالظلم، ما دام شرط هذا الوصف غيرَ موجود في حَقِّه، وهو التصرف في غير الملك أو مخالفة أمر من له عليه حق الأمر.٥٤
على أنَّ لنا أن نقول بأنَّ الأشاعرة حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنَّه تعالى وإن كان لا يَجِبُ عليه إثابة المطيع إلا أنه سيفعل هذا حتمًا تحقيقًا لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنه حين تُحل هذه المشكلة هذا الحل الذي يحقق لله العدالة والإرادة والقدرة بإطلاق، يشعر الإنسان أنَّه تحت حكم إله ليس عادلًا كل العدل فحسب، بل ورحيمًا أيضًا إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العُصَاة، وأنَّه لن يضيع أجر من أحسن عملًا.٥٥
ومع هذا فإنَّ ابن رشد لم يَسلَم له رأيه حتى الآن، بل عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن لا تدلُّ بظاهرها لرأيه، وأنْ يُفسر آيات أُخرى تشهد لرأيه، مثلًا جاء في سورة المدثر: (آية ٣١): كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي سورة السجدة: (آية ١٣): وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، إلى آيات أخرى تدلُّ — إذا أخذت حرفيًّا ومُستلقة عن غيرها — على أنَّ الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جورًا طبعًا.

وهنا نرى ابن رشد لا يعيا بالجواب عن هذه المشكلة، إنه يرى بحق أنَّ هذه الآيات ظاهرها لا يَتَّفِقُ وآيات أُخرى تدلُّ على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى (سورة الزمر: ٧): وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ إذ منَ البيِّن بنفسه أنَّه متى كان الله لا يَرضى الكُفر لأحد من عباده، فإنَّه لا يرضى طبعًا أن يوقع أحدًا في الضلال المؤدي إليه.٥٦ والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب منعًا للتعارض بين آيات القرآن تأويلُ آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأُخرى، فهذا هو اللازم عقلًا، وما يتفق وعدْلَ الله الشامل العام.
ولكنْ كيف يؤوِّل هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما آنفًا؟ إنه يرى في الآية الأولى التي تقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، إشارة إلى أنَّ مشيئة الله الأزلية اقتضت أن يكون في بعض الناس خلق مُهَيَّئون للضلال بطباعهم وبأسباب أُخرى عرضت لهم، لا أن الله تعالى هو الذي يضلهم.٥٧ ولكن لنا أن نتساءل: وهذه الطباع التي هيأتهم للضلال، مَن الذي خلقها فيهم؟ وهذه الأسباب التي قادتهم إليه، من الذي كان السبب الأول فيها؟
على أنَّ فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأُخرى التي تقول: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. إنه يَرَى أنَّ ما يكون خيرًا للأكثر من الناس قد يكون سببًا لشر — هو هنا الضلال مثلًا — يُصيب الأقل، فليس من الحِكْمَة أَلَّا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خَلْقه والأمر هكذا يكون عدلًا كل العدل،٥٨ ولهذا جاء في آية أخرى (سورة البقرة: ٢٦) قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.
وفي الحق لو لم يجئ الإسلام وينزل الله القرآن على محمد، ﷺ؛ ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لما صار من كفر به إلى الضلال الأبدي والخلود في النار، ولكنه كان من أعظم الخير والعدل للبشرية جميعًا أنْ جَاءَ هذا القرآن الذي هُدي به أضعاف أضعاف من كان سببًا عارضًا لإمعانهم في الضلال والكُفر، فالله إذن لم يقصد قصدًا أوَّليًّا أولئك الذين كفروا به، ولكن أراد الخير الكامل والسعادة التامة لأُمَّة رسوله المصطفى، وإن كان سببًا لشقاء من كفروا به.

ومن الواضِحِ بَعْدَ هذا كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور «كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنَّه إنما خلق أسباب الضلال؛ لأنه يُوجد عنها غالبًا الهداية أكثر من الضلال.»٥٩
أمَّا لماذا جاءت في هذا المعنى تلك الآيات المُتَعَارضة بظاهرها؛ حتى احتاج الأمر إلى التأويل، فإنَّ فيلسوف الأندلس يجيب بأنه كان ضروريًّا أن يفهم الجمهور أنَّ الله مع عدالته المُطْلَقة هو خالق كل شيء: الخير والشر؛ وذلك بسبب ما كان معروفًا — قريب عهد بالرسالة — من القول لدى بعض الأمم من وجود إلهين: واحد للخير وآخر للشر، فكان من الضروري تقرير أنه لا خالق لشيء ما إلا الله وحده، ولكن على معنى أنَّ خلقه للشر من أجل ما يكون سببًا للخير لأكثر الناس؛ فيكون خلقه للشر إذن عدلًا وخيرًا حقًّا.٦٠
ومهما يكن من شيء، فإنَّ هذا القدر من التأويل ليست معرفته واجبة على جميع الناس في رأي ابن رشد، ولكنَّ هذا واجب لمن عرض لهم فقط الشك في هذا المعنى؛ وذلك لأنَّه «ليس كل أحد من الجمهور يشعر بالمعارضات التي في تلك العمومات، فمن لم يشعر بذلك فغرضُه اعتقاد تلك العمومات على ظاهرها.»٦١ حتى لا يكون البحث في هذا سببًا لدخول الشك في قلبه.
هكذا سَلِم لابن رشد التدليل على أن الفعل يصح أن يوصف لنفسه بالحسن والعدل أو بالقُبح والجور، وعلى أنَّ أفعال الله تعالى تُوصف لذلك بالعدل دائمًا، كما سَلِم له أيضًا الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ إذا أُخذت بظاهرها أنها مُتعارضة في هذا المعنى، وذلك دون أن ينزل إلى رأي الأشاعرة الذي يراه شنيعًا وضد الشرع والنظر العقلي الصحيح.

(٩) المعاد وأحواله

■●■●■●■●■●■●■●■■●■■●■

كون الإنسان يُبعث بعد موته ليُجزى عَمَّا عَمِل في الدار الدنيا، وليحيا حياة أخرى سعيدة أو شقية، هو كما يقول ابن رشد «مما اتفقت عليه الشَّرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء.»٦٢ ولا نِزَاع فيه بين الفَلاسِفَة وبين رجال علم الكلام.
وذلك لأنَّ الإنسان لم يُخلق عبثًا، بل خُلِقَ لِغَايَةٍ جَليلة يُعتبر تحقيقها بأفعاله ثمرة وجوده في الدَّار الدنيا، فلا بدَّ إذن من أن يؤدي حِسَابًا عَمَّا عمل في سبيل هذه الغاية.

وكذلك؛ من الناس من يحيا في هذه الدار الدنيا حياة لا يجد فيها من السعادة ما يُكافئ فضيلته وأَعماله الخيِّرة، ومِنَ النَّاس من هم في مُتعة من اللذات والخيرات مع بُعدهم عن الفضيلة، فلا بدَّ إذن من حياة أخرى، بعد هذه الحياة التي يشقى فيها الفاضل وينعم الرذْل الشرير، يجد فيها كل إنسان من الجزاء ما يكون كِفاء ما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الحاضرة.

ولهذا وذاك كان الاتفاق في هذه المسألة، مسألة المعاد والجزاء، يرتكز على ما جاء به الوحي وقامت عليه البراهين الضرورية عند الجميع، وفي ذلك يقول الله تعالى (سورة المؤمنون: ١١٥): أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ويقول (سورة النجم: ٣٩–٤١): وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.

لم يجد ابن رشد إذن أي عناء في التدليل على مبدأ المعاد، وإنما الذي بذل فيه جهده هُنا هو بيان أنَّ هذا المعاد وما يتبعه من ثواب أو عقاب سيكون روحانيًّا لا جُسمانيًّا أيضًا كما يرى المتكلمون، وإثبات هذا بطريق يناسب الخاصة والعامَّة حسب المبدأ الذي أخذه على نفسه في كتابه «كشف الأدلة».

وهذا المجهود الذي بذله ابن رشد في بيان رأيه ورأي أسلافه فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، وفي التدليل عليه سيكون الحكمُ له أو عليه في الفصل التالي الخاص بالخصومة بينه وبين الغزالي، وإنما طريقتنا هنا كما في سائر المسائل التي تقدمت في هذا الفصل، هي عرض رأي فيلسوف الأندلس وتدليله عليه كما أراد، ومُقارنته برأي بعض أعيان المُتكلمين وبالأخص إمام الحرمين وخريجه أبو حامد الغزالي.

•••

ذهب المتكلمون إلى أنَّ بعث الأجسام ثابت بالسمع وجائز عقلًا مع هذا، أمَّا السمع ففي القرآن كثير من الآيات التي تثبته، ومنها قوله تعالى (سورة يس: ٧٨-٧٩): وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.

والعقل يُجيز البعث الجسماني أيضًا، فهذا هو إمام الحرمين الجويني يقول مستدلًّا بالعقل على جوازه: «ووجه تحرير الدليل أننا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدَّرناها مثلًا لها لقضي العقل بتجويزها، فإنَّ ما جاز وجوده جاز مثله؛ إذ من حُكْم المثْلين أن يتساويا في الواجب والجائز.»٦٣
ولا يختلف الغزالي في هذا عن شيخه الجُويني، فهو يقرر أنَّ المعاد (يريد الروحاني والجسماني معًا) دلت عليه الأدلة القاطعة الشرعية، وأنَّه ممكن عقلًا بدليل الابتداء؛ فإنَّ الإعادة خلْق ثانٍ، ولا فرق بينه وبين الابتداء.

ولسنا الآن بسبيل استلهام الغزالي لشيخه إمام الحرمين في هذه المسألة وفي أكثر آرائه الكلامية، وإنَّما الغرضُ بيان أنَّ رجال علم الكلام مُجْمِعُون على أنَّ المَعَاد الجسمي لا الروحي فقط سيكون في الدار الأُخرى.٦٤ علينا إذن بعد هذا أن نعرف ماذا يرى ابن رشد في كيفية المعاد، وكيف يثبت رأيه في هذه العقيدة الأساسية في كل الأديان.
إنه يقرر أنَّ الشرائع وإن اتفقت على مبدأ المعاد، فإنها اختلفت في كيفيته، بل «في الشاهدات التي مثَّلَت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أنَّ من الشرائع من جعله روحانيًّا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معًا.»٦٥
وذلك بأنَّ مما لا شك فيه أن للنفس بعد الموت إن كانت فاضلة حالًا تُسَمَّى سعادة، وإلا فحال أُخرى تُسَمَّى شقاء، والوحي الذي جاء في بيان هذا الحال يختلفُ باختلاف الأنبياء، ومن ثم كان اختلاف الشرائع في تمثيلها.٦٦
وفيلسوفنا يذكر سببين لاختلاف الشرائع في التمثيل لتلك الحال:٦٧
اختلاف ما أدركه الأنبياء من الوحي من هذه الأحوال، أو لأنَّ الذين مثلوا هذه الأحوال بمُثُل مادية قد «رأوا أنَّ التمثيل بالمحسوسات هو أشدَّ تفهيمًا للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركًا … وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام.»

إنه إذن يذهب كما هو واضح من هذا إلى أنَّ المعاد سيكون روحانيًّا فقط، إلا أنه لا يُعنى هنا بإبراز هذا الرأي ولا بالتدليل عليه؛ وذلك لأنَّ المقام مقام توفيق بين الحكمة والشريعة بالتدليل على العقائد الدينية الأساسية تدليلًا يُوافق الخاصة والجمهور.

بل إنَّه يكتفي هنا بعد أن استدلَّ لأصل البعث من القرآن بأنْ يقول بأنَّ التمثيل الذي في شريعتنا يُشبه أن يكون أتم إفهامًا لأكثر الناس، وأكثر تحريكًا لنفوسهم إلى ما هنالك، والأكثر هم المقصود الأول من الشرائع، وذلك بخلاف التمثيل الروحاني، فهو أشد قبولًا عند غير الجمهور، وإنه لهذا المعنى نجد المسلمين فرقًا مختلفة في فهم التمثيل الذي جاء في الشريعة للمعاد وأحواله.٦٨
وتدليل ابن رشد لما ذهب إليه نجده في كتابه «تهافت التهافت»، وسنعرض له في الفصل التالي، وسنرى إنْ كان يُمكنه تأويل كل الآيات القرآنية التي تُؤَكِّد المعاد الجسماني والسعادة والشقاء الجسمانيين، أو إنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا، ولكنه ينتهي من هذه المسألة هنا بقوله: «والحق في هذه المسألة أنَّ فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظرًا يُفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة؛ فإنَّ هذا النَّحو من الاعتقاد يُوجِبُ تكفير صاحبه؛ لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلومًا للناس بالشرائع والعقول.»٦٩
•••

هذا، وإلى هنا انتهى ابن رُشد من التدليل على ما رأى التدليل عليه من العقائد الدينية الأساسية، تدليلًا يُنَاسِبُ الخَاصَّة والعامة من الناس، وإلى هنا أتمَّ في رأيه عملًا كبيرًا في سبيل الجمع أو التوفيق بين الشريعة والحكمة، فقد بيَّن أنَّ عقائد الدين يمكن أن يستدل عليها من الشرع ومن العقل معًا، وأنَّه لا يُوجد بين هذين المعنيين خلاف في شيء ما.

وإنَّ عليه بعد ذلك كله ليتم له ما أراد، أن يهدم تهافت الغزالي، وهذا ما سنراه في الفصل التالي الذي سيعالج فيه — ضمن ما سيعالجه من مسائل — بالبحث الطويل العميق بعض ما تناوله بإيجاز في كتابه «كشف الأدلة عن عقائد الملة» كما رأينا في هذا الفصل الذي انتهينا منه، نعني بذلك مثلًا مسائل: قدم العالم، وعلم الله، والحياة الأُخرى وما سيكون فيها من ثواب وعقاب.

السلطة عند الفيلسوف شوبنهاور – الفيلسوف شوبنهاور وإرادة السلطة..

شوبنهاور وإرادة السلطة

معظم الفلاسفة ذهبوا للبحث في الأنظمة السياسية وتشكلاتها، تبعاً لسياقات محددة، فبين نزعة الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز لتأييد الحكومة المطلقة، ونزعة سبينوزا لتأييد النظم الديمقراطية، ثمة بون شاسع بين التوجهين، غير أن ما يسترعي الانتباه ذاك التحليل المعمّق من قبل الفيلسوف الألماني شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة والإرادة، حيث يمكن أن نختبر من خلاله فهم نموذج التفكير السلطوي، إذ تمكن هذا الفيلسوف من سبر أغوار الإنسان، واكتشاف ما بداخله من إرادة السلطة؛ ما ينتج نوعاً من التعارض بين هذه الرغبة، وكل ما يخالفها.
إن قراءة في أحوال المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو في مرحلة الاستقلال، يحمل الكثير مما يمكن أن نعدّه وصفاً لعالم عميق من التكريس لنموذج النفي للمختلف، وقمع كل ما يمكن أن يؤدّي إلى نموذج عادل. هذا المخاض الذي يختبره العالم العربي لا يمكن أن يؤرّخ مع انطلاق شرارة الربيع العربي، إنما هو ممتد من لحظة جلاء الاستعمار إلى يومنا هذا، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ، ثمة الكثير من التأملات التي تشي بأسباب هذا الإصرار على تبني الديكتاتورية، أو السلطة المطلقة.
إن ما نشهده الآن في قطاعات كثيرة من العالم العربي (دول الربيع العربي) يحمل معه وعياً لا يمكن أن نصفه إلا بأنه حلقة من حلقات التطور الحتمي للتخلص من النظم الديكتاتورية، على الرغم من عمق تأصلّها في وعي الإنسان العربي وثقافته، بوصفها قدراً لا يمكن الانفكاك منه، نتيجة سيطرة العقلية الحاكمة التي تسوغ وجودها تبعاً لعوامل؛ تنهض على استغلال ما يوجد لدى البعض من نزعة لتبني بعض الأيديولوجيات، أو النظم العصبية، أو أي وسيلة تستغلها السلطة لتمكين وجودها، ومن ذلك ابتكار الخوف من المجهول الخارجي، أو الاضطراب الداخلي، وهي أدوات تتيح للسلطة البقاء لأطول وقت ممكن. وهذا ربما يدفعا إلى تحليل تأمل سلوك السلطة المطلقة، أو دواخلها النفسية من منظور تأصل هذه النزعة القائمة على الرغبة الجائعة لدى الديكتاتور، قياسا بآراء شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة.
وهنا يبدو السّؤال الأكثر إثارة للجدل، لماذا يصرّ الديكتاتور على البقاء في السلطة، مع الرغبة بنفي الجميع من أجل أن يستمر في ممارسة وجوده؟ مع أن التاريخ ينقل لنا حتمية زوال الديكتاتور مهما طال وجوده… غير أن عقله الباطن يتجاهل هذه الحقيقة المطلقة، كما ثمة نوع من الإنكار العميق لدى هذا الديكتاتور، بحيث يكون منفصلا ًعن الواقع ليرى في وجوده جزءاً من كيان وجود أمة ما؟ وبأنه لا يمكن أن تستمر هذه الأمة إلا بوجوده، وبذلك فقد أضحى الأمر وجودياً بالنسبة إليه. ولعل هذا يفسر بداعي الرغبــــة العميقة القائمة على البقـــاء، على الرغم من كل المخاطر، والكلفة العالية، إذ يضطر الديكتاتور من أجل السلطة للتضحية بنصف شعبه، حيث يقتنع بأن وجـــوده أهم من وجود الشـــعب، وعلى الشعب أن يرحل، أو أن يباد كي يبقى.
هذا الأمر يعيدنا مرة أخرى إلى تحليل شوبنهاور الشّديد التبصر في ما يتعلق بفهم نزعة الإرادة التي تتولد عن الرغبة في السلطة، ففيلسوف التشاؤم يبدو في هذا التوجه على قدر كبير من الذكاء، حيث استطاع فهم الطبيعة البشرية العميقة التي تتعلق بالأشياء، بما فيها السلطة، من منطلق الرغبة التي لا يمكن أن تنتهي، أو تنضب.

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة، بما في ذلك رغبة الحكم، فالإرادة الديكتاتورية – إن صح هذا التعبير- تنطلق من ذلك العماء الذي يتجاهل كل ما هو حوله، فشوبنهاور يرى أننا لا نريد شيئاً إذا وجدنا أسباباً له، ولكننا نبحث عن أسباب له لأننا نريده، وبهذا ينتفي العقل، وتصبح الرغبة هي المسيطرة، وهكذا نرى بكل وضوح، كيف يمكن لديكتاتور أن يحطم وجود أمة ما؛ لا لشيء إلا لأنه يعتقد أن وجوده ينتمي إلى أسباب معقولة، أو موجبة؟ لقد أصبح الديكتاتور غير متصل بالعقل، إنما بالرغبة التي تجعله يخوض حروباً أو يعتقل معارضيه، أو يتحالف مع الشيطان للمحافظة على البقاء الذاتي، فالمنطق العقلاني – في هذا السياق – يصبح غير فاعل؛ لأننا مهما حاولنا إقناع الديكتاتور بخطأ سلوكه فإنه لا يستجيب، ومن هنا تنشأ قيم التدمير، التي يمكن أن تقضي على كل شيء من أجل ذات تحكمها الرغبة، أو إرادة البقاء في السلطة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه قيم (التدمير الذاتي) الذي تمارسه السلطة قبل رحيلها، حيث تسعى لتدمير كل شيء.
يرى شوبنهاور أن الإنسان في طبعه محكوم برغبته في البقاء، وهو غالباً ما يتناسى هزائمه، وينظر إلى مكاسبه أو انتصاراته، وهذا يتصل برغبته في البقاء، وتوفير كافة السّبل التي تجعله على اقتناع بأن وجوده مبرر، ومن هنا يسارع الديكتاتور إلى سرد كافة تفاصيل ما أنجزه من إنجازات وهمية، على الرغم من أنه أفسد أكثر مما أصلح، وعليه فإنه لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة، ونقصد بها الإرادة (الرغبة) المحكومة بذاتها، وهي ما يطلق عليها شوبنهاور إرادة الحياة – على الرغم من الاختلاف في تفسير (الحياة) – التي تصبح جزءاً بنيوياً من وجود الديكتاتور، فهذه الصّورة من الحياة لا تعني نموذجا معاشاً أو طبيعياً، إنما تعني الحياة في السلطة، وبذلك فهو لا يمكن أن يتخيل نفسه خارج السلطة، ولا سيما بعد أن يكون قد استحوذ عليها.
ثمة إشكالية عميقة تتصل بقيم التعليم التي تنشأ عليها الأجيال، كونها تقوم على ثقافة منتشرة، بأن وجود السلطة أزلي، وبأن الآخر ينبغي أن يكون خاضعاً، وألا يتمكن من سلب هذه الأفضلية، مع رفض الإيمان بتداولها، وبذلك لن نتمكن من الوصول إلى نموذج الحرية والديمقراطية الحقّة، ما لم ننزع عنها الرغبة بالتفوق، ونفي الآخر، وهي ثقافة مجتمعية غالباً ما تنشأ في المجتمعات التي تنهض على تكريس سلطة القيم العسكرية أو العصبية، أو في المجتمعات التي لم تتمكن من تطوير نظم حضارية مدنية، مع أن ثمة الكثير من الدول ذات القدرات أو النزعات العسكرية، غير أنها غالباً ما تخضع هذه المنظومة العسكرية لمنظور مدني مؤسسي صارم، ينهض على فلسفة الدولة المدنية، ولهذا يجب أن تُغذّى المؤسسة العسكرية على احترام النموذج المدني. يرى البعض أن هذه الرغبة (المدمرة) ربما تتسلل إلى بعض الأنظمة الديمقراطية لتجلب بعض الحمقى إلى الحكم، ولعل هذا ما دفع سبينوزا إلى القول بضرورة منع هؤلاء الحمقى، وغير المتعلمين من الوصول إلى السلطة – على الرغم مما يحمله هذا الرأي من تناقض- غير أن البناء المؤسسي للدولة يحول دون وجود سلطة مطلقة، يتحكم بها الطرف (المشّوه) الذي وصل عن الديمقراطية، وهنا تختلق وسائل منع التفرد في الحكم، وبذلك نذهب إلى أن النموذج الأنسب يتمثل بالتفكير الحضاري القائم على نفي الذات من أن تكون مصدر كل شيء؛ بعبارة أخرى محاربة ثقافة (الاستحواذ) التي تعمقت في العقلية، التي خرجت من رحم الاستعمار، كون الأخير هو المسؤول عن إيجاد هذه النماذج؛ إذ كان على الدوام محكوماً بالحاجة للتعامل مع تابع، أو ما يمكن أن نطلق عليه «وكلاء الاستعمار» الذين يكفلون بقاء الهيمنة. وكم تبدو عبارات شوبنهاور شديدة الصدق في التعبير عن الكثير من قيمنا التي يبدو فيها العقل في مجال من الضيق، كون إرادة السلطة، والتعطش لها لا تتعب، فالعقل يتعب، بيد أن الإرادة لا تتعب، كما يقول شوبنهاور.
وفي الختام ربما يكون العالم كله شر، وربما لن يتوقف الشر، لأننا مسكونون بمخاوفنا وهواجسنا من الآخر، وعندما يأتي الديكتاتور فإنه يأتي محمولاً على أكتاف الشر، فيخشى الرحيل لاعتقاده بأن وجوده بات محكوما بالنهاية، ومن هنا، فهو يسعى للبقاء إلى النهاية، فالرغبة تعيش على ذاتها، وهي جائعة دوماً؛ ما يعني أننا أمام معضلة تحتاج إلى تكريس أنماط ثقافية، تبدأ من التعليم للتخلص من نير مفاهيم السلطة المطلقة، أو وعي الديكتاتور، ولكن كل حركة في هذا الاتجاه لا بد لها من ثمن باهظ.

أصل الأخلاق عند الفيلسوف نيتشة

من المباحث الفلسفية ذات الطابع الجدلي التي ثارت حولها نقاشات كثيرة ومازالت إلى يومنا هذا، هي قضية الأخلاق و أصلها وفصلها، ومن بين أكبر الأساطين الذين خاضوا في هذا الجدل وكانت لهم نظريات قوية وذات تأثير واسع وانتشار كبير، هما الفيلسوفان كارل ماركس مؤسس المادية التاريخية وفريدريك نيتشه فيلسوف القوة، وكلاهما عاشا في القرن التاسع عشر وكلاهما كانا من رواد الفلسفة الألمانية الحديثة، ويشكلان حركة متنافرة، فالاتجاه الذي يسير فيه كارل ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه فريدريك نيتشه.

ماركس يقول بأن الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء و المعدومين، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف كارل ماركس ممثل المدرسة الماركسية، فهذه المدرسة ترى أن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصاديا في المجتمع

من المباحث الفلسفية ذات الطابع الجدلي التي ثارت حولها نقاشات كثيرة ومازالت إلى يومنا هذا، هي قضية الأخلاق و أصلها وفصلها، ومن بين أكبر الأساطين الذين خاضوا في هذا الجدل وكانت لهم نظريات قوية وذات تأثير واسع وانتشار كبير، هما الفيلسوفان كارل ماركس مؤسس المادية التاريخية وفريدريك نيتشه فيلسوف القوة، وكلاهما عاشا في القرن التاسع عشر وكلاهما كانا من رواد الفلسفة الألمانية الحديثة، ويشكلان حركة متنافرة، فالاتجاه الذي يسير فيه كارل ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه فريدريك نيتشه.

ماركس يقول بأن الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء و المعدومين، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف كارل ماركس ممثل المدرسة الماركسية، فهذه المدرسة ترى أن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصاديا في المجتمع.

ودائما ما كانوا هم من يصنع الأخلاق التي بها يضمنون بقاء ونماء مصالحهم المادية، فالقيم الأخلاقية انعكاس لعلاقات الإنتاج والطبقة المسيطرة اقتصاديا هي الطبقة المسيطرة أخلاقيا، في كل العصور والمجتمعات، سوءا كان ذلك في النظام الإقطاعي أو الرأسمالي أو الاشتراكي، فالقيم الأخلاقية مصدرها الطبقة المالكة لقوى الإنتاج.

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحياة الاقتصادية للشعوب والأمم لها تأثير على ثقافة الناس وأخلاقهم، ولكن ما ينكر على الماركسية هو ذلك الغلو في تفسير نشأة الأخلاق بهذا العنصر وحده، فهناك عوامل أخرى منها الفلسفة نفسها.

فالأيديولوجية الماركسية كان لها تأثير في الأخلاق العالمية ولازال الى يومنا هذا، وفي الزمن القديم كان هناك أنبياء ومصلحون استطاعوا تغير أخلاق الناس منهم النبي محمد عليه السلام مع العرب، حيث ألغى كثير من الأخلاق التي كانت سائدة في عصره، منها وأد البنات و شرب الخمر وأكل الربا، كما لا يستطيع أن ينكر أحد تأثير الفلسفة الزاردشتية والمانوية في فارس.

ويذهب نيتشه إلى أن أخلاق الرحمة والإحسان والصبر هي حيلة ابتكرها الضعفاء لكي يضحكوا بها على الأقوياء، ولكي يأخذوا من منهم مكاسب ومنافع، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف نتيشه، حيث يرى أن الأخلاق هي من صنع الفقراء، وقليل الحيلة و من لا قوة لهم، فهم عندما يفقدون كل وسائل الصراع و المقاومة، يلجؤون إلى حيلة الأخلاق لكي يحصلوا بها على المنافع من الأقوياء، وبناء على هذا قسم الأخلاق إلى قسمين هما أخلاق السادة وأخلاق العبيد.

عدُّ فلسفة نيتشه الأخلاقية غائية في التوجه، إذ يُهاجم الأخلاق المُلتزمة بالاعتبارات الميتافيزيقية “ما وراء الطبيعة”، والتجريبية “ما يَنتج عن تجربتها”، وهذا لتأثيرها الضارِّ على ازدهار المجتمع البشري “الإنسان الأعلى لدى نيتشه”، ويتضح في نصوص نيتشه عدم دعمه للمواقف الليبرالية “المساواة بين البشر على سبيل المثال”، ولكنه لم يقدم تصوّراً منهجيّاً سياسيّاً عن طبيعة الدولة، ولم يقدّم فلسفة سياسية ما، بل يهدف نيتشه إلى تحرير الكائنات بشرية المميزة بوعيها من مفهومهم الخاطئ للأخلاق؛ وليس تحويل المجتمع كله.

يُعدُّ نيتشه من أكبر الناقدين للأخلاقيات التقليدية الأوروبية والأسس المسيحية في عصره، ويعدُّ الوعيَ الأخلاقيَّ غيرَ متعلقٍ بجوهرٍ معينٍ، بل الجوهر هو ابتكار تاريخي، ومن هنا يحدد نوعين من الأنماط الأخلاقية التي مرَّ بها التاريخ وهما:

نمط جيد/سيئ good/bad؛ تدل كلمة “جيد” على امتيازات الطبقة الاجتماعية، مثل الشجاعة في مجتمع يمتلك طبقة عسكرية كبيرة، أو الشهامة في مجتمع يمتلك نخبة ثرية، أو الصدق في مجتمع يمتلك طبقة استقراطية عُليا؛ ففي مثل هذا النمط يرتبط الخير بالفضائل الحصرية للنظام من القوة والسلطة والصحّة التي يتميَّز بها النُبلاء من الاستقراطيين، بينما كلمة “سيئ” في هذا النمط تعني أن تكون فقيراً للفضائل العٌليا مثل القوة والسلطة، ويقصد بهذه الفئة طبقة العبيد والفقراء.

ونمط جيد/شرير good/evil؛ وهو النمط الذي تطوّر عن النمط الأصلي “جيد/سيء” بفعل تمرُّد العبيد على مفهوم الأخلاق السائد؛ فالأشخاص الذين عانوا من الاستبداد والتسلُّط المستمر من قِبَلِ الطبقة العليا الاستقراطية، قد صاغوا نمطَهم الأخلاقي العاطفي المتآكل من الكراهية ضد أعدائهم “طبقة النبلاء” وحولوه من الجيدِ/السيئ إلى الجيد/الشرير، المُصمَّمِ لغرض الإدانة الأخلاقية لهؤلاء الأعداء والنزعة الانتقامية ضد استبدادهم.

وأصبح هذا النمط سائداً لدى فئة كبيرة من طبقة العبيد، وتبعاً لعدم قدرتهم أن يكونوا من طبقة الأقوياء “الاستقراطية”، فإنَّهم يستخدمون المساواة المُطلقة للتخفيفِ عن أنفسهم والتعايش مع وضعهم دون أن يتزايد الحقد في نمطهم الأخلاقي ممّا يجعلهم في دائرة الخطر والمواجهة، وبواسطة إنكارهم للتفاوت الطبيعي بين الطبقات الاجتماعية، مثل القوة والذكاء والجمال، صاغ العبيد طريقتهم للهروب من مواجهة ضعفهم والتخلُّص من شعورهم بالدونيَّة أمام أخلاق السَّادة عن طريق قِيَمٍ جديدة.

ولذلك يربط فريدرك نيتشه النمطَ الأخلاقي الثاني “الجيد/الشرير” مع الأديان المسيحية واليهودية والمطالبة المساواة الاجتماعية أو الاقتصادية منها مثل الشيوعية والاشتراكية، وينتقد نيتشه مبدأ المسامحة في منظومة أخلاق العبيد؛ إذ يعدُّ ذلك ضعفاً وتهويناً على أنفسهم لأنهم لا يمتلكون المخالب “القوّة”، ولهذا ظنُّوا أنفسهم أنهم أخلاقيُّون، وروَّجَ الكهنة لهذه الأفكار في أوروبا ليخلِّصوا الضعفاء من شعورهم بالضعف واستبداله بالقِيَم الأخلاقية، وبشَّروا بالزُّهد في الحياة على الدوام لتعويضها بالوعود الماورائية مثل الفردوس الأعلى، إضافةً لتمثيلهم أن الخير والجيّد يكمن في الفقراء؛ وحسب رأي نيتشه فإنَّ هذا ترخيص واضح للدعوةِ إلى العدمية النيتشوية ” وهي تسخيف الحياة وإسقاط القِيَم العُليا” التي تُنهك أوروبا والتسمم بأخلاق العبيد بدلاً من الحثّ على امتلاك القوّة للوصول إلى الإنسان الأعلى والمجتمع الأسمى.

ومن الخطابات التي واجه بها نيتشه القِيَم الدينية في النمط الثاني “أخلاق العبيد”؛ رفضه لكلِّ القِيَم التي تُبنى على الوعود الميتافيزيقيا “يقصد الحياة الأخرى في الاعتقاد الديني”، بل يرى أن القِيَم تكمن في الحياة المادية لا غيرها وهي المكان الوحيد الذي يحتويها ويُحافظ عليها ويسمح لها بالازدهار عن طريق القوّة؛ وهنا يُطرح السؤال “ما القوّة؟ ومن يجب أن يمتلكها؟” وحسب القُرّاء النيتشويُّون وتحليل نصوصه تتمثل القوّة في الحياة بذاتها “حياة البشرية” ولا سيما حياة “أعلى الرجال”.

ما قدَّمه نيتشه في إطروحاته عن جينالوجيا الأخلاق هو تحليل وتنقيح يمتدّ إلى مفاصل الأخلاق التقليدية والدينية كلها دون توضيحٍ منه على نحوٍ صريحٍ لقِيَم أخلاقية مُعيَّنة يجب أن تُتَّبع، لكن مع ذلك يُؤَوّلُ نيتشه بجهاتٍ مُتعدِّدة من قبل الباحثين في فلسفته، ومع صعوبة استبدال قِيَم الأخلاق الدينية المُمتدة في تفاصيل الفكر البشري، يعتقد نيتشه أنَّ مهمة الفلاسفة هي إيجاد قِيَم جديدة على الدوام.

يقول فتحي المسكين وهو مترجم كتاب “جينالوجيا الأخلاق”، وأستاذٌ للفلسفة الحديثة والمعاصرة في الجامعة التونسية:

“يجب علينا أن نحترس من أيّ فهم “أخلاقويّ” لكتابات نيتشه: مثلاً أن نعدّه معارضاً يائساً من الأنوار الحديثة أو داعياً خطيراً إلى البربرية، أو قومياً متعصباً ضد المكاسب الحقوقية للدولة الليبرالية، تلك أفكار مسبقة أو ضروب مريضة من الفضول، إنه يمارس أنواراً جديدة ويدفع بها بعيداً عن أي أنوار سابقة

رؤية نقدية لفلسفة ديفيد هيوم.. ماهي ملامح ريبية هيوم وشكوكه ؟

إذا كان النقد هو الفعل الأصيل للعقل الإنسانيِّ فإنَّ عودتنا للحظة هيوم التاريخيَّة تجعلنا ندرك شروط إمكان قوله وتوجُّهه الفلسفيِّ، ومدى صواب هذا التوجُّه لأنَّ فلسفته تبقى بالضرورة رهينة واقعها التاريخيِّ. فالفيلسوف لا يغادر عصره رغم أنَّه يصبو إلى مطلق ما يتجاوز من خلاله ضرورة الزمان والمكان اللَّذين أنتجاه.

قد تبدو محاولة الريبيِّين تقويض العقل بالحجاج والعقلنة هوسًا مفرطًا على الرغم من أن هذا التقويض هو المرمى الأكبر لكلِّ مباحثهم ومنازعاتهم. فهم يجهدون للعثور على الاعتراضات ضدَّ تعليلاتنا التجريديَّة كما ضدّ تلك التي تعود إلى الوقائع والوجود»
فما هي طبيعة ريبيَّة هيوم وإلى أيِّ حدٍّ يمكن اعتبارها أحد عناصر البناء الغربيِّ للفكر الحديث؟ إذ لا أحد ينكر دور فلسفته النقديَّة في بناء العقل الحديث وما توصَّل إليه من نتائج نظريَّة وعمليَّة. وهل يمكن أن نعتبر هذه الريبيَّة مؤشرًا نفهم من خلاله طبيعة الحداثة الغربيَّة التي جعلت من نفسها نموذجًا مُعولَمًا فكرًا وسياسة وأخلاقًا.

ما هي ملامح ريبيَّة هيوم وشكوكه؟

تقوم فلسفة هيوم على فكرة كثيرة التكرار في مؤلَّفاته ألا وهي فكرة الطبيعة الإنسانيَّة، ويربط هذه الطبيعة بفكرة الاعتقاد والإدراك والتفكير وغيرها من المفاهيم التي يحاول تفكيكها دومًا من خلال العودة إلى فكرة الطبيعة الإنسانيَّة. كما نلاحظ أنه يقيم دومًا مقارنة بين حياة الإنسان العاديَّة أو الطبيعيَّة والاعتقادات التي يحملها في حياته اليوميَّة والعمليَّة وحياة الفيلسوف الفكريَّة التي تتجاوز اعتقادات الإنسان اليوميَّة لبناء الأنساق الفلسفيَّة التي تريد احتلال مكان الاعتقادات القائمة فعلًا في الممارسة والحياة.

ونلاحظ تهكُّم هيوم من هذه الفلسفات التي يراها غريبة الأطوار غير مجدية وغير نافعة لأنَّها منحت العقل مقامًا لا ينسجم مع طبيعته، وسمحت له بنسج عوالم خياليَّة فكريَّة لا واقع لها ولا حجَّة.

«ماذا نعني بريبيِّ؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن ندفع مبادئ الشكِّ والحيرة الفلسفيَّة؟»[2]. بهذا السؤال يوجِّه هيوم بحثه في معنى الريبيِّ وينتهي بنا إلى أهميَّة الاعتدال في الريبيَّة ضدَّ الريبيَّة المغالية المتطرِّفة التي تؤدِّي إلى استحالة النظر والعمل وضدَّ الدوغمائيَّات الفلسفيَّة التي تبني أنظمة فكريَّة وتعتبرها يقينيَّات حقيقيَّة لا يمكن أن ينال منها ريب الريبيِّين. ولا شكَّ في أنَّه لا يوافق على هذين التصوُّرين للفلسفة الريبيَّة من جهة والفلسفة الدوغمائيَّة من جهة أخرى. إنَّه إذن ينادي بضرورة ممارسة ريبيَّة معتدلة تسمح للعقل بالنقد ومراجعة أفكاره باستمرار.

«يجب الإقرار بأنَّ هذا النوع من الريبيَّة حين يكون أكثر اعتدالًا يمكن أن يفهم بمعنى معقول جدًا»[3]. وهذه الريبيَّة التي يسمِّيها معندلة تقف وسطًا بين دوغمائية الفلاسفة وريبيَّة القدامى. ريبيَّة معتدلة يشرَّع لها ليجعل من مشروعه الفلسفيِّ مشروعًا معتدلًا رغم ريبيَّته التي سمَّاها ريبيَّة معندلة أيضًا. وليؤكِّد صدق توجُهه هذا يستدعي هيوم ثلاثة أنواع من التيَّارات القائمة:

  • التيَّار الأوَّل يمثِّله الإنسان العاميُّ الحامل لاعتقاداته الحسيَّة والفكريَّة في رؤيته للعالم وعدم التشكُّك فيه.
  • التيَّار الثَّاني يمثِّله الفلاسفة الذين ينقدون التصوُّر العاميُّ ويبيِّنون تهافته باعتبار أنَّ الحواسَّ لا تعطينا إلَّا تمظهُرات خاطئة لا يمكن الثقة فيه. ومن ثمَّ فإنَّ الحقيقة الفعليَّة هي التي يبنيها العقل إذ ليس العالم في حقيقته إلَّا ما استطاع العقل أن يتمثَّله ويتصوَّره.
  • التيَّار الثالث هو تيَّارٌ ريبيٌّ قديمٌ وعميقٌ ينتسب إلى البيرونيَّة أي المدرسة الريبيَّة الأولى التي عرفها اليونان. يقدم إلينا جميع الحجج للتشكيك في قدرات الحسِّ والعقل معًا، وأنَّ المعرفة غير ممكنة مطلقًا.»لا يكن لأيِّ بيرونيٍّ أن يتوقَّع لفلسفته أيَّ تأثير على الذِّهن أو يكون تأثيرها إن وُجد مفيدًا للمجتمع، ويجب عليه على العكس أن يُقرَّ بأنَّ كلَّ الحياة البشريَّة ستفنى إن سارت مبادئه بصورة كليَّة وثابتة.
  • وسيتوقف كلُّ حوار وكلُّ فعل على الفور، وسيبقى الناس في سبات كامل إلى حين يضع عدم إشباع الحاجات الطبيعيَّة نهاية لحياتهم البائسة «

بهذا تتأكَّد نزعة هيوم الرافضة للريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة، ومعياره في هذا الرفض هو النفع الواقعيُّ والحياتيّْ. وهو معيار لا ندري من أين استقاه إذا استبعدنا طبيعة الحياة الإنسانيَّة الواقعيَّة التي يعتبرها مرجعًا مهمًّا في تقرير كل شيء.
يمكن من خلال ما تقدَّم من تعبير عن موقف هيوم من الريبيَّة نفسها أن نتصوَّر قناعاته التي انطلق منها ليبرِّر ريبيَّته المتعدلة كما أراد أن يسمِّيها. إنَّه يرى نفسه ريبيًّا يواجه دوغمائيَّة الأنساق الفلسفيَّة من جهة، ويرى نفسه في الوقت نفسه حاملًا لمشروع في المعرفة أو نظريَّة خاصة في المعرفة. والحامل لنظريَّة في المعرفة لا يكون ريبيًّا فكيف يسمِّيها ريبيَّة إذن؟

«هناك حقًّا ريبيَّة أكثر اعتدالًا، فلسفة أكاديميَّة يمكن أن تدوم وأن تكون مفيدة في الوقت عينه، ويمكن أن تتحصَّل جزئيًّا عن البيرونيَّة أو الريبيَّة المتطرِّفة عندما نجري فيها بواسطة الحسِّ العامِّ والتفكير بعض التصحيح في شكوكها غير المتمايزة»

ينطلق هيوم إذن من مسلَّمة الريبيِّين ويكلِّف نفسه تعديلها لتجني تطرُّفها تحقيقًا للفائدة والمنفعة الطبيعيَّة والإنسانيَّة لمواجهة كلِّ أشكال الوثوقيَّة التي بَنَتها الفلسفات قديمًا وحديثًا وبمختلف مدارسها

. ويضع لنفسه معيارًا مهمًّا هو الحياة الطبيعيَّة والنفع:» فالطبيعة هي أبدًا فائقة القوَّة من أجل مبادئها».

الفائدة والمنفعة مبدآن مهمَّان عند هيوم ينطلق منهما لتقرير موافقته لأمر أو رفضه. وإلى جانب هذه القيمة يضع لنا مرجع نظر للتحقُّق من صدق تفكيرنا.

إنَّه الوجود الخارجيُّ والواقع على الرغم من وعيه بالشكوك العديدة والاعتراضات الكثيرة التي قدَّمها الفلاسفة قبلَه والذي شكَّك طويلًا في مدى موضوعيَّة الواقع الخارجيِّ واستقلاله عن إدراكاتنا، فلعلَّ العالم الخارجيَّ ليس له إلَّا وجود في الذِّهن الَّذي لولاه لما كان للعالم الخارجيِّ وجود. ويمكن أن نؤكِّد هذا التصوُّر حين نعرف أنَّ هيوم استفاد كثيرًا من أعمال فيلسوفين مهمَّين هما جون لوك والأب بركلي.
أمَّا لوك فلا شكَّ في أنَّه الأب الأوَّل للتوجُّه التجريبيِّ في نظريَّة المعرفة الغربيَّة الحديثة. ولا شكَّ في أنَّه في اتِّجاهه إلى ديكارت أب الحداثة الغربيَّة والعقلانيَّة القائمة على الكوجيتو يحاول التخلُّص من وطأة الكوجيتو المتعالي ليُرجع العقل إلى فضائه الأول الأصليِّ أي الواقع الحسِّيِّ الحاضر أمام أدواتنا الإدراكيَّة الظاهرة أي الحواسَّ محاورًا ديكارت ومن سار سيره في تشكيكهم في قدرات الحسِّ المخادع حسب تصوُّرهم، وأنَّ وهم الخداع هذا هو الذي أوقعنا في وهم العقلانيَّة المتعالية التي وضعها الكوجيتو فما كان على لوك إلَّا أن يعيد للتجربة الحسِّيَّة مكانتها الأصليَّة وفاعليَّتها الحقيقيَّة في بناء المعرفة.

ولا شكَّ أيضًا في أنَّ تجريبيَّة لوك الفلسفيَّة التي استعاد فيها منزلة الإدراكات الحسِّيَّة مخلِّصًا العقل من أوهام الكوجيتو الفطريَّة[8]، لم يتوقَّف عند حدود التجربة الحسِّيَّة، ولم يحبس الفكر في دائرة هذه التجربة وإنَّما وسَّع أفقها لأنه اعترف بالدين والمسيحيَّة والإيمان متحرِّرًا في الوقت نفسه من سلطة رجال الدين الكاثوليك ليبني رسالة في التسامح يفصل فيها بين الأمر الإلهيِّ والسلطة البشريَّة باعتبار مدنيَّة سلطة الإنسان التي لا تستطيع أن تتحوَّل إلى سلطة إلهيَّة مطلقة لا يستأثر بها إلَّا الله نفسه الذي لم يكلِّف أحدًا أو جهة لمثل سلطانه على الأرض.»لو أنَّ ممارسة الدين تُترك بسلام للاختيار الشخصيِّ ولو يسمح لكلِّ فرد أن يمارس العبادة الدينيَّة بطريقته الخاصَّة فلا يتظاهر بدافع الزهو الشديد بذاته بأنَّه أكثر معرفة وأكثر اهتمامًا بروح غيره من البشر وخلاصهم الأبديِّ أكثر من اهتمامه بنفسه فهذا من شأنه حقًّا أن يهدِّد السلام في العالم»[9]. ومؤرِّخو الفلسفة يعلمون جيَّدًا أنَّ لوك لم يوضح لنا في فلسفته كيف يمكن أن نحقِّق هذا الإيمان إذا سلَّمنا بنظريَّته في المعرفة القائمة على أساسٍ تجريبيٍّ خالص.

والمعروف أنَّ لوك كان محافظًا على عقيدته الإيمانيَّة رغم خصامه الصريح مع السلطات الكنسيَّة ودعوته لمقاومة الإكراه الدينيِّ وإزالة السلطة الدينيَّة. ففي أوائل 1596 قبل أن يشرع في كتابة أيٍّ من مؤلَّفاته الرسميَّة، وضع بحماسة وتخيُّل تصوُّرًا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي ينظر فيها إلى العقل بوضوح بوصفه عبدًا للعواطف، فبدلًا من أن يسيطر العقل ببساطة على أفعال الإنسان وتصرُّفاته فإنَّه لا يعدو أن يكون مجرَّد وسيلة لتبرير رغباته.[10]. ومع ذلك فإنَّ لوك يعتقد أنَّ «تصوُّرَه لنطاق الفهم البشريِّ وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشريِّ» هو المفهومَ الذي أقرَّ هو نفسه بأنَّه رائعته الفكريَّة؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي عَلِقَ في مخيِّلة الأجيال القادمة.[11]وبهذا استطاع وضع تجربة فلسفيَّة جديدة في أوروبا الأنكليزيَّة تقوم أولًا على تجريبيَّة المعرفة وحدودها، وذاتيَّة الإيمان وخصوصيَّته، وتسامح السياسة ومدنيَّتها، وسلطان الإله المطلَق الذي لا يمثِّله أحد في الأرض إلا حالة المؤمن به الذي اختاره طوعًا وتعبُّدًا.
وأما بركلي فقد سار في اتِّجاه آخر رغم أنه دعَّم الموقف التجريبيَّ، اتِّجاه يهدف إلى إثبات وجود الله بصورة مغايِرة لما هو سائد عند من سبقه من رجال الدين والفلاسفة. ورغم أنَّ مهمَّته القصوى ترمي إلى هذه الغاية أي إثبات وجود الله إلَّا أنَّه أكَّد على الطابع الحسِّيِّ للمعرفة بشكل مغاير لمذهب الحسِّيين والتجريبيِّين قبله الأمر الذي جعل بركلي متميِّزًا ومختلفًا عمَّن جاء قبله من أصحاب نظريَّات المعرفة العقليَّة والمثاليَّة والمادِّيَّة والحسِّيَّة وغيرهم. وقد انطلق مذهبه في المعرفة من فرضيَّة أولى مهمَّة هي أنَّ الإدراك لا يكون إلَّا حسِّيًّا لأنه الوسيلة الوحيدة التي تطلعنا على العالم الخارجيِّ إلَّا أنَّه يجب أن نميِّز «بين ما تدركه الحواسُّ وبين ما نستدلُّه من ذلك الإدراك بالعقل والذاكرة ما يعني في النهاية أنَّنا ندرك فحسب أفكارنا وتصوُّراتنا. ففي البدء كانت الفكرة أو الصورة وفي النهاية أيضًا كانت الفكرة أو الصورة»[12]، وأساس هذا التصوُّر وضامنه هو الوجود الإلهيّْ، فكلُّ شيء ندركه إنَّما يأتي من قِبَل الله وليس من مصدر آخر.

وإذا ما أقدم امرؤ ووضع هذه البديهيَّة موضع تساؤل فإنَّه ينزلق مباشرة إلى النزعة الشكِّيَّة التي اعتبرها بركلي المأزق الكبير الذي يواجه المادِّيَّة. فالأشياء عنده لا تتمتَّع بوجود حقيقيٍّ دائم إلَّا من حيث أنَّها قائمة في عقل الله، أو في العقل الَّلامتناهي. وهذه النقطة تمثِّل حجر الزاوية في فلسفة بركلي كلِّها» [13]. فالمعرفة بهذا المعنى حسِّيَّة وحقِّيَّة ما نعرفه لا يعود إلى عقلنا أو ما وصلنا من محسوسات خالصة لأنَّ المادة في آخر الأمر ليست إلَّا مجموعة من الصفات الحسِّيَّة التي يرجعها بركلي إلى مجرَّد تأثيرات ذاتيَّة غير مفرِّق في ذلك بين الصفات الثانويَّة والصفات الأوَّليَّة، وينتهي من هذا كلِّه إلى أنَّ الجوهر الماديَّ لا وجود له [14]. وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنَّه ينتهي بالضرورة إلى التسليم بروحانيَّة النفس لأنَّ روحانيَّتها شرط وجود لمحات العقل وحدوساته، والتسليم ضرورة الإلهيَّة لكونها شرط وجود إدراكتنا نفسها لأن ما يصلنا من الحواسِّ لا يكفي لبناء فكرتنا عنها.

فالله ضامنٌ للحقيقة ولكن بمعنى مغاير للمعنى الديكارتيّْ. وهو الضامن الذي يقي العقل من الوقوع في الرَّيب. وبالتالي لا يمكن للماديِّ إلَّا أن يكون ريبيًّا بالضرورة لأنه يكتفي بإدراكاته الحسِّيَّة ولا يمنح للوجود الإلهيِّ أيَّ قيمة معرفيَّة أو وجوديَّة.
وبالعودة إلى فلسفة لوك وبركلي يتبيَّن لنا بوضوح الأسباب الفعليَّة التي وجَّهت فلسفة هيوم هذا التوجُّه. فهو من جهة يذهب مذهب الحسِّيين الذي أسَّسه لوك قبله لما اعتبر العقل صفحة بيضاء، وأنَّ كلَّ ما في العقل ليس له من مصدر إلَّا الواقع المحسوس. غير أنَّ لوك لم يصل به القول والاستننتاج إلى أبعاد الدين والإيمان بالله في نظامه الفلسفيِّ علمًا وأخلاقًا وسياسة. وهذه النقطة الأخيرة ستكون محلَّ نقد هيوم الذي يقرُّ بأنَّنا لا نستطيع التسليم بمثل هذا الأمر لأنَّ المدركات الحسِّيَّة لا توصلنا إلى ذلك بقدر نستطيع فيه أن نثق في استنتاجاتنا الثقة التامَّة. ولكنَّ هيوم من جهة أخرى كان عارفًا بالنقد الذي قام به بركلي للردِّ على المذهب الحسِّيِّ الذي أقامه لوك وعارفًا بالموقف الذي قدَّمه في خصوص طبيعة الإدراك والعقل والحقيقة، وكذلك منزلة الله ودوره في بناء اليقين والحصول عليه. بل كان عارفًا تمامًا بخطورة التنبيه الشديد الذي صرَّح به في أنَّ الماديَّ لا يمكن أن يكون إلَّا ريبًّا. هذه المعرفة اجتمعت جميعها عند هيوم ليُقدِم على بناء تصوُّر ريبيٍّ اعتبره معتدلًا ضدَّ الريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة من خلال تأكيده على الإدراك الحسِّيِّ والاكتفاء به في جميع تصوُّراته المعرفيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة وغيرها.

إنَّه واعٍ تمام الوعي لقيمة مشروعه الفلسفيِّ المبنيِّ على الإدراك الحسِّيِّ والمعترف بالريبيَّة وإن كانت معتدلة، والمقبلة على موقف سلبيٍّ من المسألة الدينيَّة والإلهيَّة لكونها تخرج ضرورة من دائرة الإدراك الحسِّيِّ الذي يمثِّل منطلق هذه الفلسفة.

ما هي الطبيعة البشريَّة عند هيوم؟

أقام هيوم بناءه الفلسفيَّ على فكرة الطبيعة البشريَّة بل جعلها عنوانًا لكتابه الأشهر «رسالة في الطبيعة البشريَّة». ولتحليل هذه الطبيعة تناول المسائل التالية: تحليل الإدراك العقليِّ وتحليل العواطف وتحليل الأخلاق. ولتعريفها يقول: «يمكن للفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة أن تُعالج بحسب كيفيَّتين مختلفتين لكلٍّ منهما مزيَّتها»

، وهذا يعني أن علم الطبيعة البشريَّة هو الفلسفة الخلقيَّة، فقد ساوى بينهما أي الفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة. والجواب عن هذه المسألة موجود في نوعين من الفلسفات قال عنها هيوم فلسفات الفعل وفلسفات العقل. أي أنَّ فلسفة الفعل تنظر إلى الإنسان من جهة كونه إنسانًا فاعلًا أي أنَّه مولود للفعل أساسًا. وفلسفة العقل تراه عاقلًا أكثر من كونه فاعلًا. وهم يجتهدون في تربية ذهنه أكثر من تهذيب أخلاقه، إذ «يعتبرون الطبيعة الإنسانيَّة موضوعًا للتأمُّل النظريَّ ويفحصونها فحصًا دقيقًا سعيًا لإدراك تلك المبادئ التي تسيِّر أذهاننا وتثير أحاسيسنا، وتجعلنا نقبل أو ننكر موضوعًا بعينه أو فعلًا بعينه أو سلوكا بعينه»

. وبهذا التمييز يريد هيوم أن يبيِّن موقفه الصريح والواضح من الفلسفة الميتافيزيقيَّة التي يعتبرها وهمًا وشعوذة مقابل الفلسفة الأخرى التي يقول عنها إنَّها علم، وأن الميتافيزيقا تنتشر دومًا في المواقع التي لم يدخل إليها العلم والتفكير الحقيقيّْ. «إن المنهج الوحيد الذي نقدر به على تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة هو أن نجدّ في تقصِّي طبيعة الذِّهن البشريِّ وأن نبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته أنه ليس مُعدًّا بأيِّ وجه من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيَّة والمستغلَقة»

. إن معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم الميتافيزيقيِّ، وهم القدرة على النفاذ إلى موضوعات مستغلَقة على الذهن استغلاقًا فضلًا عن وهم العلميَّة

. فإذا كانت معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم أي الميتافيزيقا فإنَّه بالضرورة لا بد من أن يكشف لنا هيوم كيف نخرج من الوهم إلى الحقيقة، ومغادرة الميتافيزيقا إلى العلم سيكون من خلال «معرفة الطبيعة الإنسانيَّة أي إنشاء علم الطبيعة البشريَّة هو قبل كلِّ شيء وعلى نحو رئيسيٍّ نقد لا يمكن أن يقوم به إلَّا على تحليل قوى الذِّهن وامتدادها الطبيعيّْ»

وهو تحليل فعليٌّ وواقعيٌّ لأنه يقوم على وقائع أثبتت جدواها في العلوم التي نعرفها والتي لا يخفي هيوم إعجابه بها، ونعني بهذا الفيزياء التي أرساها نيوتن ومن معه من العلماء. «وهكذا، فإنَّ مجرَّد معرفة مختلف عمليَّات الذِّهن وفصل بعضها عن البعض الأخر إلى ما يناسبها من الأبواب، وإصلاح كلِّ تلك الفوضى الظاهريَّة التي تتغشَّاها كلَّما جعلناها موضوعًا للتفكير والبحث إنما هو إقامة لجزء غير هيِّن من العلم»

يشهد هيوم بصدق العلم ويقينه منهجًا وحقائق، ويرى أنَّ هذا الصدق يمكن استعماله لفهم جغرافيا الذِّهن ومعرفة طبيعته لإبعاد أوهامه، وبهذا ينفي هيوم إمكان الشكِّ في هذه المجالات، وهو ما يؤكِّد رفضه للريبيَّة المطلَقة والمغالية واكتفائه بريبيَّة معتدلة. فما دام يحمل إمكان اليقين فهذا يخرجه ضرورة من دائرة الريبيِّين ونجاح العلوم دليل قويٌّ عنده على نجاح الذِّهن في هذا المجال وما عليه إلَّا أن ينسجم مع نفسه ولا يغادر قواه هذه نحو مبادئ عقليَّة وهميَّة من إنشاء الفلاسفة الذين يصنعون الوهم ويصدِّقونه ويروِّجونه.

«لقد ظلَّ الفلكيُّون طويلًا يكتفون بالاستدلال انطلاقًا من ملاحظة الظواهر على الحركات الحقيقيَّة التي للأجسام السماويَّة وعلى نظامها ومقاديرها حتى طلع عليهم أخيرًا فيلسوف بدا أنَّه توصَّل بأوفق البراهين إلى تحديد القوانين والقوى التي تسيِّر دورات الأفلاك وتوجِّهها»

.
يتبيَّن إذن ممَّا تقدَّم أنَّ هيوم مؤمن بقيمة ما انتجه العلماء من قوانين تفسِّر حركة الطبيعة، ومؤمن أيضًا بأنَّ منهجهم هذا هو الذي يجب اعتماده لفهم الطبيعة البشريَّة، ويعني بالطبيعة البشريَّة ذهن الإنسان في كيفيَّة عمله واشتغاله قصد القطع كليًّا مع الفلسفات الميتافيزيقيَّة التأمُّليَّة التي يراها وهميَّة. وبما أنَّ الأمر بيَّن على هذا النحو فإن َّهيوم يوجزه بقوله: «إنَّ كلِ موادِّ التفكير مشتقَّة إمَّا من إحساسنا الداخليِّ أو من إحساسنا الخارجيِّ وإنَّما إلى الذِّهن والإرادة وحدهما يرجع مزج هذه وتركيبها, وبعبارة فلسفيَّة ساقول إنَّ كلَّ أفكارنا، وهي أضعف إدراكاتنا ونسخ من انطباعاتنا، هي أقوى تلك الإدراكات»

. وبناء عليه، فإنَّ المرجعيَّة الواقعيَّة الحسِّيَّة تبقى المحكَّ الأخير للحكم على القضايا والأفكار وأنَّ أيَّ لفظ مستعمل بغير مدلول أو فكرة يتعيَّن علينا أن نتحقَّق من صدقه من خلال التحقُّق من مدى انطباقه على انطباع حسِّيٍّ ما لأنه لا بد للفكرة، أيِّ فكرة كانت، من أن تكون مشتقَّة من انطباعٍ حسِّيٍّ فإذا امتنع تعيين أيٍّ من الانطباعات مصدرًا لهذه الفكرة يحقُّ لنا أن نرتاب في صدقها ووجاهتها. وبهذا يقرُّ هيوم بأنَّ بإمكاننا التخلُّص من جميع الأفكار التي لا تعود لأيِّ انطباع حسِّيٍّ وتنتهي الخصومة نهائيًّا بين الأفكار لأنَّ المعيار صار جليَّا وواضحًا.

فلا يمكن التسليم بوجود الأفكار الفطريَّة أو الأفكار التأمُليَّة التي لا أساس حسِّيًّا لها، وفي هذا ضرب جذريٌّ لجميع النظريَّات الفلسفيَّة التي بنت نظريَّاتها في المعرفة على أساس العقل الخالص المؤمن بفطريَّة الأفكار أو بعضها، والمؤمن بأنَّ العقل هو الأداة الوحيدة القادرة على بناء المعرفة الحقَّة التي صارت في نظر هيوم معرفة وهميَّة زائفة سبب كلِّ ميتافيزيقا.

إذا كان الأمر كما بيَّنا فكيف يقرُّ هيوم بصدقيَّة المعارف العلميَّة بنوعيها: الفيزيائيِّ والرياضيِّ، خاصَّة أنَّها لا تعود جميعها إلى الانطباع الحسِّيِّ أو الوقائع الحسِّيَّة؟
يرى هيوم أنَّ الوقائع نوعان والعلاقات نوعان: علاقات الأفكار وعلاقات الوقائع. أمَّا علاقات الأفكار فتنسب إليها العلوم الرياضيَّة عمومًا من أرثمطيقا وهندسة وجبر… «، وأنَّ قضايا من هذا النوع تُكشف بالعمل البسيط للفكر من غير ما تبعيَّة لأيٍّ ممَّا يوجد في الكون. ورغم أنَّه لم يوجد قط دائرة ولا مثلَّث في الطبيعة فإنَّ الحقائق التي برهن عليها إقليدس ستظلُّ إلى الأبد حافظة على يقينها وبداهتها»

فالرياضيَّات يقينيَّة يقينًا ثابتًا دائمًا رغم أنَّها لا تعود إلى أصل حسِّيٍّ أو واقعة فعليًّا.

أما الوقائع أو علاقات الوقائع فيتسرَّب إليها الشكُّ بصورة أسهل، وقد توقعنا في أوهام ولذلك وجب الانتباه إليها أكثر وتحليلها بشكل أدقَّ وأعمق. وبما أنَّ أغلب الوقائع تعود في النهاية إلى استدلال سببيٍّ يربط بين السبب والنتيجة، فإنَّه من الضروريِّ أن ننظر في طبيعة هذا الاستدلال للتأكُّد من مدى صدقه وقوَّته حتى نتأكَّد من سلامة استنتاجاتنا العقليَّة المتَّصلة بالوقائع الفعليَّة.

وبما أنَّه لا يمكن لنا تجاوُز ما تمنحه لنا حواسُّنا أو ذاكرتنا عن حواسِّنا فإنَّ تحليلنا يجب ألَّا يتجاوز هذا المُعطى لأنَّه الأساس الذي لا يطاله ريب.

يتجلَّى إيمان هيوم والتزامه بالحسِّ كأداة واحدة فاعلة في عمليَّة الإدراك في تصوُّره للسببيَّة ونقده للمقاربات الفلسفيَّة التي سبقته في تاريخ الفلسفة الغربيَّة. ولعلَّ اهتمامه الشديد بنقد السببيَّة يعكس لنا شدَّة تمسُّكه بموقفه في نظريَّة المعرفة الحسِّيَّة، فلا شيء خارج الإدراك الحسِّيّْ. ولأنَّ الأمر على هذه الشاكلة يجب الاكتفاء بما تقدِّمه لنا الحواسُّ في هذا الأمر وعدم إضافة أيِّ أمر آخر لأنَّ أيَّ إضافة مهما كان مصدرها لا ثقة فيها إن لم نقل إنَّها وهميَّة لا قيمة علميَّة لها بل ومشوَّهة لواقعيَّة الحدث والواقعة الطبيعيَّة.

وبالنَّظر العميق والدقيق لما يحدث في الطبيعة، وملاحظة كيفيَّة ظهور الوقائع والأحداث، نرى تعاقُبًا بينها فهمه أنصار الميتافيزيقا بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وهو فهم لا يستقيم حسِّيًّا لأنَّه لا أساس له أي لا يوجد ما يؤكِّده. فما نلاحظه أمامنا لا يتجاوز حدَّ تعاقُب الأحداث واقترانها من دون أن نستطيع تجاوُز ملاحظة الاقتران والتعاقُب إلى القول بأنَّ أحدهما سبب والآخر نتيجة فضلًا عن قولنا بأنَّ الأسباب نفسها يجب أن تؤدِّي إلى النتائج نفسها، وهو المبدأ الأهمُّ في التفكير العلميِّ المعروف بمبدأ الحتميَّة.

فكلُّ ما نلاحظه في عمليَّة الاحتراق مثلًا هو اقتران النار بالاحتراق من دون أن نجد ما يؤكِّد حسِّيًّا أنَّ النار هي سبب الاحتراق، وبما أنَّ الأحداث تتكرَّر فإنَّها ترسخ عادة في أذهاننا أنه كلَّما لاحظنا النار قلنا بوجود الاحتراق، وهي إضافة ذهنيَّة لا أساس حسيًّا لها، ومن هنا يتسرَّب الوهم إلى الذِّهن حسب هيوم، لأننا نضيف إلى الوقائع ما ليس فيها. «إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكتشف بالعقل وإنَّما بالتجربة»

وأنَّ الاقتران والتكرار يصنعان العادة التي تمنح فكرنا معرفة النتيجة من السبب لا لأنَّ السبب فاعل وإنما لتكرار اقترانهما. «إنَّ كل الاستنتاجات المأخوذة من التجربة إذًا هي من أثر العادة لا من أثر الاستدلال»

. وهذا يعني أنَّ العادة هي المفهوم الجديد الذي سيأخذ محلَّ الاستدلال عند هيوم لأنَّ مفهوم العادة عنده قرين التجربة وتكرارها بينما الاستدلال قرين العقل المجرَّد، وبالتالي فالاستدلال وهميٌّ بينما العادة واقعيَّة تعبِّر عن واقع فعليّْ.ويلخِّص هيوم هذا المعنى في قول واحد: «إنَّ كلَّ مفعول هو حدث مختلف عن سببه. ولا يمكننا بالنتيجة أن نكشف عنه ضمن السبب.

وعندما يعمد الذِّهن أول أمره إلى تصوُّره أو استنباطه قبليًّا فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا تحكُّمًا»

. ويتأكَّد إيمان هيوم بفاعليَّة التجربة كأصل أول لجميع تفسيراتنا والقوانين التي ننتهي إليها باستبعاده الصريح لفاعليَّة الرياضيَّات أيضًا رغم إيمانه بيقينها، فالهندسة نفسها رغم دقَّة استدلالاتها تبقى عاجزة عن معالجة هذا الوضع وكليلة عن أن توصلنا إلى معرفة العلل القصوى».

وأنَّ الاستدلالات المجرَّدة تستعمل إمَّا لمساعدة التجربة في الكشف عن هذه القوانين، أو لتحديد تأثيرها في بعض الحالات الخاصَّة حيث يتوقَّف ذلك التأثير عن مدى تدقيق المسافة أو الكمِّيَّة»

جديربالذكر هنا أنَّ هذا المنهج في النظر إلى الواقع الحسِّيِّ يعمِّمه هيوم ليستعمله في المسألة الأخلاقيَّة والمسألة الدينيَّة ليؤكِّد سلامة توجُّهه وصدق اتصاله بالواقع الحسِّيِّ تحصينا للنفس من أيِّ وهم يمكن أن يتسلَّل إليها مثلما هو حاصل عند جميع الفلاسفة الذين يؤلِّفون الكلام والمجلَّدات ويبنون فلسفات ميتافيزيقيَّة لا تتجاوز صحَّتها صحة معاني الكلمات التي لا تحيل إلى أيِّ واقع وهي التي كانت سببًا في تعميق الوهم الفكريِّ الذي ساد قرونًا ولا يزال.

وأنَّ الموقف الريبيَّ المعتدل الذي وضعه هيوم يراه الحلَّ الأمثل لبناء نظريَّة في المعرفة قائمة على أساس متين لا يمكن أن يتسلَّل إليه الوهم. «وأنَّ العادة هي الدليل الأكبر للحياة الإنسانيَّة إذا. فهذا المبدأ وحده هو الذي يجعل تجربتنا مفيدة لنا ويجعلنا نتوقع في المستقبل نسقا من الأحداث مماثلا لتلك التي كانت ظهرت في الماضي أما بدون تأثير العادة فإنَّنا سنكون جاهلين تمامًا لكلِّ واقعة تتجاوز ما هو حاضر مباشرة للذاكرة والحواسّْ»

الواقع الحسِّيِّ ومجالا الأخلاق والدين:

يعمِّم هيوم تحليلاته في مجال الطبيعة الإنسانيَّة وسيكولوجيَّة المعرفة التي لخَّصها في مفهوم الواقع والعادة وينقلها إلى مجالَيْ الأخلاق والدين. ولا شكَّ في أنَّ تخصيصه لمجال الأخلاق مبحثًا خاصًا وكذلك للدين دليل واضح على ذلك.

إذ يبدو كما يقول «أنَّ شغفنا بالفلسفة كشغفنا بالدين معرَّض للمؤاخذة بهذه النقيصة»

وأنَّ النقد الذي وجَّهه إلى نظريَّة المعرفة هو نفسه الذي وجَّهه للأخلاق والدين. ولهذا يطرح السؤال التالي: على أيِّ أساس نقيم أحكامنا الخلقيَّة، أنُقيمها على أساس المنطق العقليِّ أم على أساس الميول الوجدانيَّة؟ هل يكون الحكم على شيء بأنه فضيلة وعلى آخر بأنه رذيلة من قبيل الحكم على شيء بأنَّه مُثبث الأضلاع، أو يكون من قبيل تأمُّلنا للشيء الجميل نختلف في الحكم على جماله باختلاف أذواقنا وطرائق النشأة التي نشأناها؟

وعلى هذا الأساس، يذهب هيوم إلى أن الحكم الأخلاقيَّ لا أساس عقليًّا له وإنما يعود إلى الذوق والعاطفة وذلك لأنَّ الجانب الأخلاقيَّ في الإنسانيِّ قوامه الإرادة والعمل «، ومعنى هذا أنَّ الخير والشر يصحبان مقولتين أساسيَّتين في الطبيعة البشريَّة مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواسِّ الأخرى من رؤية وسمع ولمس»
مقولتان مرتبطتان بحالة الشعور بالرضا إزاء الأفعال.
والأمر نفسه في الدين والمسألة الإلهيَّة يرجعها هيوم إلى القاعدة نفسها الخبرة الحسِّيَّة والطبيعة الإنسانيَّة التي لخَّصها في قوله بالعادة.

وعلى أساس هذه القاعدة ناقش الَّلاهوت المسيحيَّ في الأدلَّة التي يقدِّمونها على وجود الله، كما ناقش الفلاسفة أيضًا في المسألة نفسها ليؤكد أمرًا واحدًا هو أنَّه لا يمكن إثبات أيِّ قضيَّة بمثل هذا المنهج وأن استعمال هذه الحجج تسير ضدَّ إثبات الدين ووجود الله لأن لا قدرة للإدراك البشريِّ على فعل ذلك. «لأن الكم والعدد هما الموضوعان الوحيدان للمعرفة والبرهان «

، وإثبات حقيقة الدين أو إثبات وجود الله ليس من القضايا الرياضيَّة أي ليس من القضايا العقليَّة البرهانيَّة. ولعلَّ في محاولة هيوم الدفاع على أبيقور في المدينة الذي ثار على معتقداتها ومن ثم الأخلاقيَّات التي تقوم عليها إثبات من قبله بأنَّ الدين والاعتقاد مرتبطان بالواقع والسياسة أيضًا، وأنَّ الدفاع عن موقف أبيقور للتأكيد على أنَّ عدم اعتقاده بالاعتقادات المدينة ذاتها ليس له من غاية إلَّا سلامة المدينة وأمنها أيضًا عكس ما يدَّعيه أعداؤه، بل ربما الحجج التي يقدِّمها أبيقور أقوى من حجج أعدائه، وكأنَّ هيوم يقحم المسألة الدينيَّة فلسفيًّا في سياقَيْ المعرفة البشريَّة من جهة، والأخلاق والسياسة من جهة أخرى، وينتهي دفاعه عن أبيقور إلى إثبات خطورة حجج الخصوم على الاعتقاد بالوجود الإلهيِّ واليوم الآَّخر.وهي نتيجة مربكة لأنَّ الفلاسفة الذين يسعون لإثبات وجود الله، ويقدِّمون الحجج والبراهين على ذلك، إنَّما يفعلون ذلك دفاعًا عن الدين وتأكيدًا لفكرة وجود الله، بينما يرى هيوم أنَّهم في الحقيقة يثبتون العكس وهم لا يدركون ذلك:

«إن الفلاسفة الدينيِين، إذ لا يعتقدون بتراث أجدادكم ولا بمذهب كهنتكم يطلقون العنان لفضول متسرِّع محاولين أن يروا إلى أيِّ حدٍّ يمكنهم أن يقيموا الدين على مبادئ العقل، وهم بذلك يثيرون الشكوك التي تتولَّد طبيعيًّا من تقصٍّ فطن نفّاذ بدلًا من أن يخمدوها»

إنَّ الذين يثبتون وجود الله حسب هيوم إنما يوقعون الناس في ريبيَّة خطرة، ولتأكيد نظرته يذكِّرنا باعتماد الفلاسفة العقلانيِّين إلى نظريَّتهم العقليَّة في المعرفة والتي أثبت تهافتها، ويذكِّرنا باستعمال هؤلاء الفلاسفة الحجَّة الطبيعيَّة التي تدعونا إلى النظر في الطبيعة ودقَّة صنعتها لينتهي إلى السبب الأول أي وجود الله ويرى اعتمادا على نظريَّته في المعرفة الحسية القائمة على فهم الطبيعة البشريَّة التي تتأسَّس على الخبرة الحسِّيَّة والعادة إلى أنَّ أساس حجج الفلاسفة الدينيِّين خاطئ بالضرورة لأنَّهم يحملون العقل ما لا طاقة له به. وحريٌّ الول أنَّ قوانين الطبيعة تعود إلى أصل تجريبيٍّ خالص، واعتماد البرهان على العلم الطبيعيِّ إضعاف لفكرة وجود الله وليس تأكيدًا لها. وبهذا، فإنَّ الموقف الريبيَّ من وجود الله واليوم الآخر يصير أقوى في هذه الحالة.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإلى أيِّ مجال تنتمي مسألة الوجود الإلهيِّ واليوم الآخر وغيرها من المسائل المتصلة بالدين والكهنوت المسيحي الكاثوليكي الذي كان مسيطرا في ذلك العصر وما هو البديل المناسب لتعويض ضعف حجج الفلاسفة الدينيين.

فما دام الفلاسفة يعتمدون على الحجج العقليَّة النظريَّة أو التأمُّليَّة، أو الحجج القائمة على أساس النظر في النظام الطبيعيِّ فإنَّ حججهم موصلة للريبيَّة ولا تثبت شيئًا، ولهذ يصرُّ هيوم على قوله: «فمن النظام في الصنعة تستدلُّون على أنه يجب أن يوجد تخطيط وتدبير في الصانع. فإن كان لا يمكنكم إسقاط هذه النقطة يتعيّن عليكم أن تسقطوا الخلاصة. وأنتم تدَّعون أنَّكم لا تقيمون الخلاصة على مجال أوسع مما تسوِّغه ظاهرات الطبيعة. تلك هي حقوقكم وآمل أن تسجلوا النتائج»
يحاول هيوم تعميق ما ذهب إليه بمعالجته مسألة أصل الشر في العالم، وما علاقتها بصفات الكمال التي ينسبها الفلاسفة إلى الآلهة، ويرى أنَّ السبب يجب أن يكون دومًا من جنس الأثر، وإذا سلَّمنا بوجود الألهة فكيف نفسِّر وجود الشرِّ اعتمادا على المنهج نفسه والحجة نفسها، أي السبب والمفعول؟.
يلخِّص هيوم موقفه على النحو التالي: إنه يصنِّف المعارف والمجالات والقدرات الطبيعيَّة في الإنسان.
أنَّ الخبرة وحدها هي التي تعلِّمنا طبيعة السبب والأثر وحدودهما، وتجعلنا قادرين على ان نستدلَّ على وجود شيء من وجود آخر. وفي هذا السياق نجد التاريخ والجغرافيا والفلك
السياسة والفلسفة الطبيعيَّة والفيزياء والكيمياء هي العلوم التي تعالج الوقائع العامة.

الإهيَّات أو الَّلاهوت الذي يثبت وجود الله والنفس تتقاسمه مجالات أهمَّها تحليلات الوقائع الجزئيَّة وتحليلات الوقائع العامَّة وتتأسَّس على العقل بقدر ما تستند إلى الخبرة. «ولكن أفضل قاعدة وأصلبها توجد في الإيمان والوحي الإلهيّْ»

الجمال الخلقيُّ والطبيعيُّ من مجالات الذوق والشعور.
ويمكن نختم تحليلنا لفلسفة هيوم المعرفيَّة وما يتَّصل بها من مجالات السياسة والأخلاق والدين، بقول الأخير نفسه: «حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أن نتلف؟ إذا أخذنا بيدنا أيّ مجلّد بيدنا أي مجلّد في اللَّاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلًا، هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ كلَّا. إذن إرمِه في النار لأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن سوى سفسطات وأوهام»

رؤية نقديَّة لفلسفة هيوم:

هيوم ناقدًا لهيوم:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يبدو مشروع هيوم الفلسفيِّ موجَّهًا نحو هدف واحد ووحيد ألا وهو نقد الميتافيزيقا، وسايره الفيلسوف الألماني كانط بعد ذلك في مشروعه النقديّْ. ورغم الاختلاف بين الفلسفتين هيوم وكانط إلَّا أنَّنا يمكن أن نقرَّ بتشابُه في الموقف والاتِّجاه. فالعقلانيَّة النقديَّة الكانطيَّة قامت على أساس الريبيَّة اللطيفة التي أنشأها هيوم وحاول غيجاد حلول للمشاكل والصعوبات التي أثارها نقده لنظريَّة المعرفة العقليَّة والتجريبيَّة معًا من خلال دعوة لمعرفة جغرافيا الذِّهن البشريِّ ومعرفة الطبيعة البشريَّة. وقد استفادت الفلسفة الغربيَّة كثيرًا من هذا المشروع النقديِّ، وواصلت النظر في المسألة لإيجاد حلٍّ لمسألة الاستقراء، وعلاقة الاستنباط بالاستقراء، والعقل الصوريِّ رياضيًّا ومنطقيًّا بالعقل التجريبيِّ في العلوم الطبيعيَّة بمختلف أنواعها. وبقطع النظر عن الحلول التي ساقها الفلاسفة الغربيُّون بعد هيوم، فإنَّ مقاربة هيوم النقديَّة تحمل تناقضًا داخليًا لا يستطيع هيوم تجاوزه أو الخروج عنه. ويتمثل هذا التناقض في طبيعة خطابه الداخليِّ نفسه فهو يصنع خطابًا للإقناع بقوَّة موقفه ووجاهته بمنهج مغاير للمنهج الذي يدافع عنه.
ولتحليل هذا الموقف علينا أن نوضح أمرين: أولهما أنَّ هيوم يرى أن َّالعقل لا يفكّر إلَّا من خلال التجربة والحسِّ، وأنَّه لا حجَّة لمن يطلق العنان للعقل لينتج سفسطة ووهمًا وخداعًا ويعني الميتافيزيقا. فالحجَّة الحسِّيَّة هي اقوى الحجج ولا يوجد سواها. وثانيًا يقرُّ هيوم بصدق العقل الرياضيِّ في منهجه الاستنباطيِّ ويرى أنَّه لا صلة له بالعالم الطبيعيَّة وبالعمليَّات الذهنيَّة التي تريد فهم هذا العالم. ونستنتج من خلال هذين الأمرين أنَّ المنهج إمَّا حسيٌّ تجريبيٍّ أو رياضيٍّ ليكون مقبولًا بعيدًا عن كلِّ وهم وسفسطة. إذا سلَّمنا بأطروحة هيوم هذه وذهبنا معه هذا المذهب لنستتخدمه في تفكيرنا ونطبِّقه في فهمنا للمسائل التي تعترضنا، فإنَّنا سنُضطرُّ إلى نفي الصدق عن مشروع هيوم نفسه. فما كتبه وما تركه لنا من مؤلَّفات في الطبيعة البشريَّة والفاهمة والعواطف والأخلاق والدين والسياسة وغيرها فإنَّنا نجده لا يستعمل منهجه هذا. أي لا نجده يستعمل منهجه التجريبيَّ الذي لا يتجاوز العالم المحسوس ولا يستعمل أيضًا المنهج الرياضيّْ. وإذا كانت الحقيقة تسكن العالم الحسِّيَّ، حسب قوله، وإذا كان المنهج الحقيقيُّ هو المنهج الحسِّيُّ، حسب رأيه، فإنَّ منهج هيوم في جميع كتاباته ومحتواها خالية من جميع شروط الصدق التي عرضها ودافع عنها. فكلُّ قارئ لإنتاجه لا يجد الشرط الحسِّيَّ ولا التجريبيَّ ولا الرياضيَّ وإنَّما يجد تأمُّلات واستنتاجات منطقيَّة ينتقل فيها من فكرة إلى أخرى من دون أن تكون أيُّ فكرة من هذه الأفكار فكرة حسِّيَّة بل جميعها تأمُّلات عقليَّة خالصة لا واقع لها.
إنَّ هذا التناقض والتعارض الذي وقع فيه هيوم طبيعيٌّ جدًا بل ضروريٌّ ولا يستطيع تجاوُزه لأنَّ العبارة القائلة إنَّ الحقيقة تجريبيَّة ليست في الواقع تجريبيَّة وإنَّما هي عقلية مجرَّدة خالصة، ويكون مثَلُه كمَثَل من يقول إن الحقيقة لا تكون إلَّا علميَّة، فنستنتج من هذا أنَّ قوله خطأ إذن لأنه ليس قولًا علميًّا. بهذا تكون العبارة ناسفة لنفسها لما تناقض محتواها. أو من يكتب لنا بأنَّ العبارة الرياضيَّة هي العبارة الصادقة، فنستنتج من هذا أنَّ عبارته هذه ليست صادقة بالضرورة لأنَّها ليست رياضيَّة ومن ثم لا يمكن قبولها.
إن استعمالنا لمحتوى فلسفة هيوم لنقد فلسفته وكتاباته تفضي في النهاية إلى نسف فلسفته من الأساس، فلا أساسَ تجريبيًّا لكلِّ كتاباته، ولا أساسَ رياضيًّا لها أيضا، أي لا يوجد أيُّ مظهر من مظاهر الصدق التي اشترطها في كتابته نفسها. إن هذا المفكر الكاتب المتأمِّل ينسف محتوى فلسفته بنفسه وممارسته لأنَّ منهج كتابته وشروطها تناقض المنهج الذي يدعو إليه وشروطه.

نقديَّة هيوم وريبيَّته:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

أكَّد هيوم على الطبيعة البشريَّة، وحاول تعيين جغرافيا الذِّهن البشريِّ لتطهيره من الميتافيزيقا والأوهام، كما يزعم، واطمأنَّ موقفه إلى الحواسِّ والخبرة الحسِّيَّة والتجريبيَّة، وشكَّك في فكرة السببيَّة وفي العلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، مؤكِّدًا في الوقت نفسه على فكرة العادة، وجعل هذا الأساس هو المرجع الذي يفصل في المسائل إن كانت المسألة قابلة للمعالجة الفعليَّة أم من المسائل الوهميَّة التي لا تحتاج إلى نظر لأنَّ العقل غير مؤهَّل للنظر فيها، وذهبت به قناعته التجريبيَّة إلى التشكيك في الدين والمسائل المتعلِّقة بالألوهيَّة وغيرها. وقد اعتبر الريبيَّ هذا فتحًا جديدًا في الفلسفة الغربيَّة أثَّر على جميع التيَّارات التي أتت بعده بجميع صورها، واستوى في ذلك من ينتمي إلى المدارس العقليَّة أو التجريبيَّة، وعرفت أقصى تأثيراتها في الفلسفات الوضعيَّة وغيرها. إنَّ هذا التوجُّه الجديد في الفلسفة الغربيَّة المتأثِّر بنقديَّة هيوم وريبَّيته جديد فعلًا في الفكر الغربيِّ ولكنه ليس غريبًا في تاريخ الفلسفة. إنَّ جلَّ ما ذهب إليه هيوم تمَّت معالجته في مدارس فلسفيَّة قديمة منذ أرسطو الذي آمن بأنه من فقد حسًّا فقد علمًا، وقال بالاستقراء، وبنى الأرغانون وقواعده، وتحدَّث عن صعوبات المقدِّمات التي يقوم عليها القياس نفسه بما في ذلك القياس البرهانيّْ. ولكنَّ الأهمَّ من كلِّ هذا، أنَّ ما ذهب إليه الإمام الغزاليُّ بنقده للاستقراء في كتابه «معيار العلم» من جهة، وفي نقده لفكرة السببية من جهة أخرى، ونقده لفطريَّة المبادئ العقليَّة من جهة ثالثة، جعله بالفعل يثير المسائل نفسها التي أثارتها ريبيَّة هيوم، إلَّا أنَّه رفض القول بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وقال بالاقتران بينهما وفسَّره بالعادة أيضًا، كما فسَّره هيوم، وهو انتهى في محطة أولى إلى ما انتهى إليه الأخير، وهو نقد الحجج التي تقوم على هذه المبادئ، واعتبرها متهافتة، وبيَّن تهافتها فعلًا في كتابه «تهافت الفلاسفة». إلَّا أن ما قام به الغزالي لم يستطع هيوم إنجازه وهو الخروج من حالة الشكِّ الدائم في الحقيقة واليقين، وحالة الاكتفاء بما تقدِّمه الحواسُّ من أساس تجريبيٍّ لبناء المعرفة. لئن انطلق الغزالي من منطلقات هيوم نفسها، وانتهى إلى النتائج نفسها، فإنَّ هذا العمل النقديَّ لم يكن إلَّا مقدِّمة لإعادة السؤال الفلسفيِّ الأول: ما الإنسان، وما العلم، وما حقيقته، وما أصنافه ودرجاته، وما اليقين، وكيف يمكن الحصول عليه؟ وهو ما فسَّره الغزالي في «المنقذ من الضلال» إجمالًا وحلَّله في بقيَّة مؤلَّفاته مميِّزًا بين العقل الغريزيِّ والعقل المكتَسب، وبين درجات المعرفة الحسِّيَّة والعقليَّة والصوفيَّة الإشراقيَّة.
ليس غرضُنا في هذا السياق عرض أطروحة الغزالي الفلسفيَّة والمعرفيَّة، وموقفه من الحقيقة واليقين، ومنزلة العقل وحدوده، وقيمة المنهج الإشراقيِّ في ذلك ومنزلته، وإنما غرضُنا أن نبيِّن أن هاجس هيوم النقديَّ ليس بالجديد في تاريخ الفلسفة، وأنَّه وإن وقفت معالجته في حدود ريبيَّته الَّلطيفة كما أرادها، فإنَّ الفلاسفة الآخرين قبله وبعده عرفوا كيف يعالجون المسألة نفسها ويتجاوزونها. فمحدوديَّة نظرة هيوم في تفسيره للطبيعة البشريَّة واضحة جليَّة وقد جعلته من جهة لا يرى أيَّ شيء، ومن جهة ثانية يعارضها ولا يلتزم بها لمَّا عرض فلسفته وفسرها كما بيَّنا آنفًا.

الرياضيَّات والطبيعيَّات وإشكال اليقين:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

اعتقد هيوم في الحقيقة التجريبيَّة والحقيقة الرياضيَّة، من دون سواهما. وما يؤكِّد اعتقاده هذا نجاح العلوم في عصره التي تمثِّلها فيزياء نيوتن وبقيَّة العلماء قبله وبعده الذين جسَّموا الثورة الكوبرنيكيَّة. غير أنَّه لم يدرك قيمة الرياضيَّات في ذاتها بوصفها علمًا صوريًّا يكشف كيفيَّة عمل الذِّهن وكيفيَّة بناء براهينه. ولم يكشف العلاقة الضروريَّة بينها وبين العلوم الطبيعيَّة، فلم نرَ لها أيَّ أثر أو دور في بناء الحقيقة الطبيعيَّة التي أرادها حسِّيَّة. والغريب في الأمر أنَّه لم يتمكَّن من فهم نسق نيوتن الفيزيائيِّ الذي كشف عنه في كتابه الأشهر «المبادئ الرياضيَّة في الفلسفة الطبيعيَّة»، والذي بيَّن فيه الدور الأساس الذي يجب أن تضطلع به الرياضيَّات في بناء علم الطبيعة، فلا يستقيم علم الطبيعة خارج حدود الرياضيَّات، أي كما فهمها هيوم خطًّأ لمَّا فصلها عن الرياضيَّات وجعلها حسِّيَّة تجريبيَّة خالصة. فالعقل الفيزيائيُّ عقلٌ رياضيٌّ أولًا وتجريبيٌّ ثانيًا. وهذا ما أكَّده تاريخ العلم بعد نيوتن وهيوم، فلم تعد التجربة هي القاضي الأعلى للعلم – حسب تعبير غاستون بشلار- وأنَّ الرياضيَّات هي عقل العلم ولغته وشرط نجاح تفسيره وبناء قوانينه. وبهذا نفهم أنَّ ريبيَّة هيوم ليس لها أساسٌ علميٌّ حتى داخل العلوم التي يؤمن بها، بل إنَّ هذه العلوم نفسها دليل تهافت ريبيَّته وشكوكه وكلِّ أُسُس فلسفته ونتائجها.
إنَّ العقلانيَّة العلميَّة هي عقلانيَّة رياضيَّة بالأساس، ولعلَّها أخذت هذه الميزة من كلمة عقلانيَّة نفسها التي تعني في الِّلسان الَّلاتينيِّ الحساب أو العقل الحسابي.
إلى جانب تهافت مشروع هيوم النقديِّ الذي أدخل الفلسفة في توجُّه ريبيٍّ بسبب تناقُضه الداخليِّ وتعارُضه مع منهج العلم وبنيته التي يقرُّ هو نفسه بصحته، يمكن أن نضيف إلى هذا الأمر إشارة أخيرة مهمَّة تتمثَّل بأسلوبه في التفلسف، وهو الأسلوب الذي ناقض فيه محتوى مشروعه وخالفه لأنَّه تفلسفٌ تأمُّليٌّ صرفٌ يربط بين الأفكار، ويبني الاستنتاجات ويركِّبها ويطوِّرها ويدفعها إلى الأمام كلَّما تقدَّمت به الفكرة. وهذا يعني أنَّ العقل الفلسفيَّ ليس العقل التجريبيَّ وإنَّما هو العقل التأمُّليُّ لكونه يملك قدرات فعليَّة على تمكين العقل من كشف حقيقة نفسه وحقيقة فعله، وهذا يؤكِّد لنا أنَّ المنهج التأمُّليَّ منهجٌ مهمٌ جدًا ومناسب للعمليَّة الفلسفيَّة. أمَّا إذا أضفنا إلى هذا العقل التأمُّليِّ البُعد الإيمانيَّ الذي يقرُّ هيوم بأهمِّيَّته في بناء الدين من دون أن نرى له أثرًا في فلسفته، فإنَّنا ننتهي إلى رؤية عقليَّة تأمُّليَّة متسامية يمنحها الإيمان قدراتٍ أخرى تتجاوز حدود العقل الماديِّ أو الخبريِّ والعقل الرياضيِّ معًا. وبهذا تنفتح الفلسفة أمام آفاق أخرى لا يمكن لفلسفة هيوم تصوُّرها.