نظام العدالة بين الفيلسوف كانت والفيلسوف جون رولز

     شغلت فكرة العدالة اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ لأنها أسمى قيمة اجتماعية في الحياة. وقد ربط بعض المفكرين بين فكرة المجتمع المثالي والمجتمع الذي تسود فيه العدالة؛ إذ تشكل "العدالة" المدلول الحقيقي لجميع القيم والمثل التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع. والعدالة– بصفة عامة – تكمن في صميم فلسفة الأخلاق والسياسة، وهي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، على حد قول الفيلسوف الأمريكي جون رولز (1921 –2002) (1)، إن لم تكن هي الفضيلة الوحيدة؛ بمعنى أنها فضيلة أساسية للأفراد في تعاملهم مع الآخرين (2)؛ أي أنها فضيلة شخصية واجتماعية في آن واحد. وهذا هو ما جعل سقراط (470 – 399 B.C) يثور في وجه السوفسطائيين، ويرفض نسبية الفضيلة، مؤكداً أن الفضيلة واحدة رغم تعدد مسمياتها، وهي تكمن في الضمير الإنساني الحي الذي يرشدنا دائماً إلى الخير؛ أي في سلوك الصدق والابتعاد عن الكذب، وطريق الأمانة والعدل. وهكذا فرغم تعدد أسماء الفضائل إلا أنها في جوهرها فضيلة واحدة، هي الطريقة التي تكمن في تعاملنا مع الأفراد والمجتم.  
 ولقد حظي مفهوم "العدالة الاجتماعية" بقدر كبير من الأهمية على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة، وفي الخطابات المعاصرة، وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطني. ومن هذا المنطلق، تعدّ العدالة قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر بعضهم مع بعض؛ فهي محور مهم في الأخلاق وفي الحقوق وفي الفلسفة الاجتماعية؛ حيث تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية. العدالة إذن فضيلة شخصية سامية، وهي موجودة دائماً في سياق اجتماعي معين.

والحقيقة أن الرؤية السياسية لمحاورة "الجمهورية" لأفلاطون (427 – 347 B.C) يمكن أن نراها تخطيطاً لذلك السياق الاجتماعي نفسه؛ فأفلاطون هو صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم في تاريخ الفكر الغربي، وهو واحد من أوائل العلماء الاجتماعيين، وأقواهم تأثيراً، حيث طبق منهجه المثالي بنجاح على تحليل حياة الإنسان الاجتماعية وقوانين تطورها؛ فضلاً عن شروط استقرارها(5). وقد عبّر أفلاطون عن ذلك في الكتاب الرابع من "محاورة الجمهورية" بقوله: "إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلاً من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره". وفي الموضع ذاته يقول: "العدالة هي أن يمتلك المرء ما ينتمي فعلاً إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به"(6).
 ولقد نشأ نزاع حول مفهوم "العدالة" الاجتماعية خاصة في التعامل مع قضايا مثل: توزيع الدخل، والسيطرة، واستخدام الموارد الطبيعية، وتوزيع الفرص التعليمية والوظيفية التي انتشرت على نطاق واسع في مجتمعاتنا، وقام عدد من الفلاسفة بتقديم رؤى مختلفة حول مفهوم العدالة، وارتباطها الوثيق بالأخلاق والقانون؛ وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق والواجبات والالتزامات بما يتماشى مع روح كل عصر. ومن هؤلاء الفلاسفة جون رولز، حيث أكد في مواضع كثيرة من كتاباته على أن المفهومين الأساسيين في مبحث "الأخلاق" هما مفهوما "العدل" و"الخير"، يقول في كتابه "نظرية في العدالة

“أعتقد أن مفهوم “الشخص الأخلاقي” ذاته قد تم استنباطه من مفهومي “العدل” و”الخير”، وهكذا تتحدد البينة لنظرية أخلاقية من خلال الطريقة التي تنتظم بوساطتها الصلة بين هذين المفهومين

 من هذا المنطلق، بدأ تصور رولز للعدالة من معارضته لتصورات "الفلسفة النفعية" التي بلورها عدد من الفلاسفة النفعيين أمثال: "جيرمي بنتام". (1748 –1832)، و"جون ستيوارت مل" (1806 –1873) .... وآخرين، والتي سيطرت على الفكر السياسي والأخلاقي في العالم الغربي. وقد تبنت هذه الفلسفة مبدأ المنفعة بوصفه غاية لكل سلوك أخلاقي، وعلقت أخلاقية الأفعال الإنسانية على مدى ما تحقق من منافع أو تدفع أضرار (أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس)، وأقرت بأن الأفعال تكون صائبة إذا كانت تميل إلى تحقيق السعادة، وتكون خاطئة إذا مالت إلى الشقاء والتعاسة

أراد رولز أن يقدم بديلاً عن “المذهب النفعي”؛ لأنه لا يقدم تفسيراً مرضِياً للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو مطلب – على حد قوله – “ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية

وعلى صعيد آخر، تناول كانط (1724 – 1804) مفهوم العدالة على خلاف "المذهب النفعي"؛ حيث تقوم الأخلاق عنده على العقل وحده، مادام هو مصدر الإلزام الخلقي، ومن هنا نسب كانط إلى الأخلاق صفة "الضرورة المطلقة"، ونادى بوجود قوانين أولية كلية وضرورية في مضمار السلوك الإنساني. وفي كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" يقدم أوجه الإختلاف بين المبادئ الأخلاقية وقوانين الطبيعة، ويذهب إلى أن الاختلاف بينهما يكمن في إحساسنا الذاتي بالإلزام بطاعة القوانين الأخلاقية. يقول: "إن كل إنسان لابد أن يسلم بالقانون الأخلاقي، أعني قاعدة الإلزام... هذه القاعدة لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وُضع فيه، بل لابد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها

وترتبط القوانين الأخلاقية عند كانط بمفاهيم “الحرية” التي تفرض حدوداً على التصرفات الخارجية للناس، وعلى نواياهم الداخلية، ويعتمد أساس هذه النظرية على مبدأ “الحق”، وهو شامل لجميع البشر، ومستمد من الحتمية المطلقة من خلال مفهوم “الإرادة الخيرة” التي توجه الإنسان نحو غايات وأهداف عامة تصحح مبدأ السلوك كله. ومن هنا رأى كانط أن “القانون” يعُد أمراً واجباً، ومن الضروري فرضه وإجبار الآخرين على طاعته، لأنه مجموع الشروط التي تلائم بين حريتنا وحرية الغير، وفقاً لناموس شامل للحرية، أو على حد قوله: “القانون هو مجموع الشروط التي يمكن أن توحد حرية الفرد مع حرية الآخر وفقاً لقانون كلي للحرية

. كذلك رأى كانط أن السيادة لا يمكن تقسيمها، ولا يمكن حماية وضع الفرد كإنسان عاقل ومستقل إلا من خلال وجود دولة مدنية.
لذلك ومن كل ما سبق، نحاول في هذه الدراسة رصد محاولات الفيلسوف الأمريكي جون رولز فيما يخص تصوره لنظام العدالة ونظام حكم القانون، ومحاولته الفريدة لطرح تنظير سياسي اجتماعي أخلاقي يدعم استقرار المجتمعات على نحو متكافئ ومتساو، خاصة بعد إصدار كتابه: “نظرية في العدالة”؛ إذ أثار -هذا الكتاب -جملة من التساؤلات التي تميزت بكثافتها أكثر مما أثارته أية نظرية أخرى في العدالة الاجتماعية خلال القرن العشرين. وكذلك الدور الذي أداه التصور الكانطي لنظرية “الحق” و”استقلالية الذات”، و”مبدأ الأمر المطلق”، و”نظرية الواجب” التي تقوم على تأكيد أولوية الحق على الخير؛ بخلاف “الفلسفة النفعية” السائدة في المجتمعات الغربية الليبرالية. كما أراد رولز أن تنال الشعوب حقها من خلال عدم المساس بمصالحها وذلك باحترام القانون العادل، ويتحقق هذا عندما يُعامل المجتمع أفراده كشخصيات أخلاقية، وقد أطلق عليه “قانون الشعوب”، ومعناه أن تلتزم كل الشعوب بأهداف “قانون الشعوب” ومبادئه في علاقاتها المتبادلة. وفكرة مجتمع الشعوب – كما عبر عنها رولز – هي فكرة يوتوبية واقعية تصور نظاماً اجتماعياً قابلاً للتطبيق، يكفل الحقوق والعدالة السياسية لجميع الشعوب

، كذلك كما صرح “كانط”: “يجب أن يقوم قانون الشعوب على أساس اتحادي بين دول حرة”.

مبادئ العدالة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 تُعد نظرية العدالة عند رولز أهم محاولة فلسفية لبناء قاعدة نظرية للممارسة الليبرالية، فقد أكد على أن هدفه هو "تقديم تصور للعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، كما وجدت في أعمال لوك، وروسو، وكانط"

. معنى ذلك أن هدف رولز الذي يسترشد به هو التوصل إلى نظرية في العدالة قابلة للتطبيق وبديلة عن التصورات النفعية الكلاسيكية والحدسية للعدالة، والتي سادت التقليد الفلسفي فترة طويلة من الزمن. وقد بدأ بتعريف العدالة بأنها: “الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية. ومهما كانت النظرية متسقة ومقتصدة لابد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات، مهما كانت درجة كفاءتها وجديتها لابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة”

. العدالة إذن هي أساس الهيكل الاجتماعي، لذا وجب أن تتفق سائر الإجراءات التشريعية والسياسية مع ما تقضي به مبادئ العدالة. ومن هنا يتعين – في نظر رولز – تحديد القواعد والمبادئ التي تسيٌر المؤسسات الاجتماعية للعدالة

وذلك من خلال وضع نظام للعدالة مُنصف يتم تطبيقه على البنية الأساسية للمجتمع؛ أي على “المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة وبطريقة تلاؤمهما مع بعضهما مع بعض في ترسيمة نظام تعاوني موحد”

إن المادة الأولية للعدالة عند رولز هي البنية الأساسية للمجتمع، بمعنى آخر: "هي الطريقة التي تُوزع من خلالها المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدد تقسيم المنافع الناتجة عن الشراكة الاجتماعية"

والمقصود بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها ما يدل على الحماية القانونية لحرية التفكير، والأسواق التنافسية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن هنا يرى رولز أن “أحد الأهداف العملية للعدالة كإنصاف هو توفير أساس فلسفي وأخلاقي مقبول للمؤسسات الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف يبحث – رولز – في الثقافة السياسية العامة لمجتمع ديمقراطي، وفي تقاليد التأويل الخاصة بدستوره وقوانينه الأساسية، طلباً لأفكار مألوفة معينة يمكن صياغتها في مفهوم للعدالة السياسية”

. ويعتقد رولز أن بعض هذه الأفكار أكثر أساسية؛ من بعضها الآخر، وأكثرها أساسية هي فكرة المجتمع بوصفه نظاماً منصفاً من التعاون الاجتماعي الزمني من جيل إلى الجيل الذي يليه؛ والتي يعدها رولز فكرة منظمة ومركزية لتطوير مفهوم سياسي لعدالة نظام ديمقراطي.
وفي هذا الشأن، يؤكد رولز أنه من غير الممكن أن يتفق المواطنون على سلطة أخلاقية مثل: نص مقدس، أو مؤسسة دينية، أو تقليد من التقاليد؛ أو حتى بالرجوع ما عدّه بعضهم (قانوناً طبيعياً) لذلك لا يوجد بديل – عنده – أفضل من الاتفاق على “فكرة منظمة للمجتمع”، أي نظامٍ منصفٍ من التعاون بين أشخاص أحرار ومتساوين”

. وهذا ما يسمى “بالوضع الأصلي” الذي يجتمع من خلاله أشخاص أحرار لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود المجتمع، لا سيما توزيع الخيرات الأساسية كالحقوق، والحريات، والثروات…الخ وإعادة هيكلة المكاسب والتكاليف التي تنجم عن التعاون الاجتماعي

.
من هذا المنطلق، يتساءل رولز: ما هي مبادئ العدالة التي تنطبق بشكل رئيس على البينة الأساسية للمجتمع، وتحكم التخصيص للحقوق والواجبات، وتنظم التوزيع للمنافع الاجتماعية والاقتصادية؟ يرى رولز أن مبادئ العدالة التي تحكم المجتمع هي “المبادئ التي سوف يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون يهتمون بتحقيق مصالحهم الذاتية في وضع مبدئي من المساواة، ويجب أن تنظم هذه المبادئ جميع الاتفاقيات الأخرى، وتعين أنماط الشراكة الاجتماعية وأشكال الحكومات التي يمكن تأسيسها”

. وقد صاغ مبدأين رئيسين للعدالة هما: المبدأ الأول: يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغيره ضمن أوسع نسق من الحريات؛ أي أن “لكل شخص الحق ذاته -والذي لا يمكن إلغاؤه- في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات ذاته”. المبدأ الثاني، يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن في آن واحد أن نتوقع عقلياً أن تكون في مصلحة كل واحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع، بمعنى آخر: “يجب أن تحقق ظواهر اللا مساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين: أولهما: يفيد أن اللا مساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساوية منصفة للفرص، وثانيهما: يقتضي أن يكون ظواهر اللا مساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم أقل مركزاً (وهذا هو مبدأ الفرق)

.
ويرى رولز ضرورة أن يعرض هذان المبدآن على وفق ترتيب ملزم؛ أي أنهما يعرضان بحسب معيار الأولوية؛ فيجب أن يستوفي مبدأ الحريات المتساوية قبل الركون إلى مبدأ مساواة الفرص المنصفة، ويجب تطبيق مبدأ مساواة الفرص المنصفة قبل اللجوء إلى مبدأ الفرق

. فيقول: “والمبدأ الأول سابق للمبدأ الثاني، وكذلك تسبق المساواة المنصفة بالفرص في المبدأ الثاني مبدأ الفرق”

وعلى ذلك، يجب أن نرتب هذه المبادئ في ترتيب تسلسلي، هذا الترتيب – كما عبر عنه رولز – “يعني أنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية المصانة بواسطة المبدأ الأول أو التعويض عنها من خلال منافع اقتصادية واجتماعية أكبر

.
والواقع أن التركيز الشديد من جانب رولز على الأسس العقلانية في المفاضلة بين المبادئ المختلفة للتوصل إلى تلك المبادئ التي يقبلها الإنسان ويعدّها ملزمة له، إنما هو أمر يذكرنا بالمنهج الكانطي في التوصل إلى الأمر الأخلاقي المطلق، فالأمر المطلق عند كانط هو ذلك المبدأ الذي ينبع من طبيعة الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً حر الإرادة، ومن ثم فهو ينطبق على البشر جميعاً بوصفهم كذلك؛ ويميزهم عما سواهم من الكائنات والموجودات. يقول كانط في هذا الشأن: “كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين، والكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى: هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك”. ويقول في الموضع ذاته: ” إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادة لم يتمكن منها الخير تماماً يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائن عاقل بوساطة مبادئ عقلية حقاً، ولكن لا تستطيع هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. ولذلك فإن تمثل مبدأ موضوعي من حيث إنه ملزم للإرادة يدعى أمراً (عقلياً)، والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليه الأمر المطلق”

.
والجدير بالملاحظة أن من أهم الانتقادات التي وجُهت إلى كانط في هذا الخصوص، هو أن الأمر المطلق الذي يقول به ويُحدد خصائصه لا يوضح لنا – على وجه التحديد – ما المبادئ الفعلية التي تنطبق عليها هذه السمات والخصائص؛ أي أن الأمر الكانطي المطلق يحدد لنا ما الذي يتعين علينا فعله في الواقع. وهذا هو في الحقيقة ما استطاع أن ينجو منه رولز، فالوضع الأصلي هو في جوهره مفهوم يوضح لنا ما تلك المبادئ التي يختارها أشخاص أحرار يتسمون بالعقلانية وحرية الإرادة، في حين أن العقل الخالص عند كانط هو الذي يمدنا بالمبادئ الأخلاقية؛ هذه المبادئ ممثلة في مبادئ العدالة عند رولز، التي يتم اشتقاقها من مقدمات معينة تتمثل في شروط الوضع الأصلي، التي تمتزج فيها عوامل عدة منها: الحقائق السيكولوجية والتفاعل الاجتماعي في سياق من الندرة والمطالب التنافسية. وهكذا، ينأى رولز عن الطابع العقلاني الخالص الذي اتسم به كانط، في الوقت الذي تظل فيه نظريته تردد في أعماقها النغمة الكانطية المميزة نفسها

 القانون بين العام والخاص

يُعد كتاب كانط "المبادئ الميتافيزيقية لنظرية الحق" من أهم الكتب التي تناولت فلسفة القانون في مجال السياسة والأخلاق. وقد عالج موضوع "الحق"(30) في كثير من محاضراته، خاصة ما يتعلق بالحق الطبيعي أو القانون الطبيعي، فضلاً عن إشاراته إليه في ثنايا حديثه عن الفلسفة الأخلاقية بوجه عام. وفي مستهل حديثه عن نظرية القانون يتساءل كانط: ما القانون؟ (31) يجيب: القانون -بحسب العقل- لا يتعلق إلا بالعلاقة الخارجية العملية القائمة بين الأشخاص بعضهم ببعض، من حيث إنهم بأفعالهم يؤثر بعضهم في بعض تأثيراً مباشراً؛ إنه لا يحدد علاقة الحرية للواحد مع الرغبة أو الحاجة للآخر، بل علاقة حرية الفاعل مع حرية غيره. وفي هذه العلاقة المتبادلة بين الحريات لا يُنظر في مادة الإرادة؛ أي في الغاية التي ينحو إليها كل واحد، بل يُنظر فقط في الشكل الذي تتخذه هذه العلاقة. وعلى هذا فإن القانون هو مجموع الشروط التي يخضع لها ملكة الفعل الحرة لكل شخص إذا كانت قاعدته تُمكن من مثل هذا الاتفاق، ومن هنا جاءت القاعدة الأساسية: " افعل خارجياً بحيث يمكن للاستعمال الحر لإرادتك أن يتفق مع حرية الجميع وفقاً لقانون كلي"(32). إن المسألة الجوهرية في هذه القاعدة – كما يرى كانط – هي تبرير استعمال القسر لمنع الناس من التعدي على حرية الآخرين، وهذا القسر الذي يفرض بشكل قانوني لا يمكن تبريره إلا لضمان الحرية.
ويتألف كتاب "نظرية الحق" عند كانط من قسمين: الأول يتناول القانون الخاص، والثاني القانون العام. في القسم الأول يعالج العلاقة بين القانون الخاص أو الطبيعي، وبين القانون العام خاصة القانون السياسي. ويتناول القانون الخاص ما يتعلق بالملكية، أو -على حد تعبير كانط – "ما لي" و "ما لك"، ولهذا يبدأ بحثه في النظرية العامة للقانون الخاص بتعريف الملكية على النحو التالي: "ما لي بحسب القانون هو ما أنا مرتبط به إلى درجة أن استعمال الغير له دون موافقتي من شأنه أن يضر بي. والملكية هي الشرط الذاتي لإمكان الاستعمال بوجه عام"(33). ويُدرج ضمن موضوعات القانون الخاص: التعاملات والعقود التي أصبحت مألوفة في الوقت الحاضر.
ويتطرق كانط أيضاً إلى مناقشة الحقوق التي يتعين على الأشخاص القيام بها، وتتضمن الحقوق الواجبة على الأشخاص مثل: حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الوالدين على أبنائهما، وحقوق صاحب المنزل على من يعمل في خدمته. وفي القسم الثاني يتناول القانون العام، أو القانون السياسي؛ أي العلاقة القانونية بين المواطن من ناحية والوطن من ناحية أخرى، أو الدولة. ولا يمكن أن يكون هناك حق خاص خارج نطاق الوضع المدني، بمعنى أدق خارج نطاق دولة ذات قدرة على فرض أساليب قسرية تستطيع بها ضمان الحقوق الخاصة للمواطنين. ويرى كانط أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة في علاقات البشر بعضهم مع بعض إلا في ظل مجتمع يشكل دولة مدنية (34).
 أما رولز، فقد رأى أن الحقوق السياسية والمدنية للفرد حقوق لها حرمه لا تُنتزع، وأن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. لقد آمن رولز – مقتفياً خطى كانط – أن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها.  ويترتب على ذلك أن الواجب الأول للدولة تجاه مواطنيها هو أن تحترم هذه القدرة على الاستقلال الذاتي، وأن تترك للمواطنين حرية العيش وفقاً لاختياراتهم الذاتية، وأن تعاملهم، وفقاً لعبارة كانط، كغايات وليس كوسائل. يقول كانط: "إن الكائنات العاقلة تخضع جميعاً للقانون الذي يقضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر كوسيلة أبداً، بل أن تكون المعاملة لهم دائماً وفي الوقت نفسه كغايات في ذاتها"(35). الواجب الأول للدولة الليبرالية– عند رولز -هو أن تحمي الحريات المدنية الأساسية للفرد، والتي لا يوجد شيء يمكن أن يُعوض عنها(36). وعلى هذا الأساس عنى رولز بما يسمى "حق الشعوب"، عدَّه مفهوماً سياسياً يختص بمبادئ القانون الدولي ومعاييره. ويتوازى مع هذا المفهوم مفهوم آخر، وهو "مجتمع الشعوب" التي تتبنى مُثل ومبادئ حق الشعوب في علاقاتها المتبادلة.

قانون الشعوب
يسعى رولز في كتابه ” قانون الشعوب”(37) الصادر عام 1999، إلى أن يوسع نطاق أفكاره حول العدالة لتشمل الساحة الدولية، وقد حاول أن يبين موقف الليبرالية من إمكانية العلاقة مع الآخر غير الليبرالي؛ وحجة رولز هي أن” قانون الشعوب” لا يقضي بأن تكون جميع المجتمعات ليبرالية؛ بل يكفي أن تحترم الحد الأدنى من الليبراليات التقليدية فقط؛ مثل: حرية التعبير، وحرية العقيدة الدينية؛ يقول: “إن قانون الشعوب يؤمن بوجهة نظر سمحة وإن لم تكن ليبرالية، ومن القضايا الجوهرية في السياسة الخارجية للمجتمعات الليبرالية أن تقرر إلى أي حد يمكن قبول الشعوب غير الليبرالية”(38).
ويستعمل رولز كلمة “شعوب” بدل كلمة “دول”؛ لأنه وجد في الشعوب سمات تختلف عن سمات الدول منها: أن الشعوب لا تحركها منافعها الخاصة، بل تحدد مصالحها الأساسية بشكل معقول دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى؛ أي أن الشعوب تمتلك جانباً أخلاقياً، بخلاف الدول، التي دأبت أن تكسب مصالحها، حتى وإن كانت على حساب مصالح دول أخرى؛ وأن الشعوب لا تمتلك السيادة حتى في التعامل مع مواطنيها، مما يعنى أن الدول الكبرى والمنظمات الدولية تمتلك كامل الحرية في التدخل في شؤونها (39). و”الدول هي الطرف الفاعل في العديد من نظريات السياسة الدولية حول أسباب الحرب والحفاظ على السلام. وكثيراً ما يُنظر إلى الدول على أنها عقلانية شديدة الحرص على قوتها – أي قدرتها (عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً) على التأثير على الدول الأخرى – وتعمل دائماً على تحقيق مصالحها الأساسية”(40).
وهذا يذكرنا برأي كانط في كتابه “مشروع للسلام الدائم” الذي نشره عام 1795 ، والذي أعلن فيه أن إنشاء “حلف بين الشعوب” هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها. ولابد من الاعتراف –على حد قوله –”بأن الدول ما زالت في علاقاتها الدولية على حال من الهمجية والانحطاط البهيمي، وأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من هذا الوضع هو اقتلاع الداء من جذوره والاستعاضة في كافة العلاقات الدولية عن حالة الطبيعة بحالة الشريعة وتنظيم الأمم جميعاً عن طريق تعاقد حر بين الأفراد؛ أي جمع هذه الأمم في تحالف سلمي”(41).
ويقدم رولز مفهوم “قانون الشعوب” من خلال نظريتين هما: “النظرية المثالية” التي تشمل مجتمع الشعوب الديمقراطية الليبرالية والشعوب السمحة(42) التي تتمتع بسمات معينة تجعلها مقبولة لتصبح جزءاً من مجتمع الشعوب. والنظرية الأخرى هي “النظرية اللا مثالية” ويندرج تحت هذه النظرية نوعان من المجتمعات: النوع الأول: مجتمعات ترفض فيها الحكومات أن تحترم قانوناً معقولاً للشعوب، يطلق عليها تسمية الدول الخارجة على القانون، ويناقش رولز فيها الإجراءات التي يمكن للشعوب الليبرالية والشعوب السمحة أن تلجأ إليها في مواجهتها لمثل هذه الدول. النوع الثاني من المجتمعات التي يندرج تحت النظرية اللا مثالية هو المجتمعات المغلوبة على أمرها، مجتمعات مثقلة الكاهل بظروف غير مواتية؛ أي مجتمعات لها ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية تجعل من الصعب – وربما من المستحيل – أن تصبح مجتمعات جيدة التنظيم سواء ليبرالية أو سمحة(43).
ويحدد رولز مبادئ المساواة بين الشعوب مؤكداً أن مثل هذه المبادئ سوف تفسح المجال لأشكال متعددة للروابط التعاونية والاتجاهات بين الشعوب، إلا أنها لم تصل إلى قيام ما يسمى “بالدولة العالمية”. وهنا يوافق رولز ما ذهب إليه كانط في الاعتقاد بأن الحكومة العالمية سوف تكون حكومة هشة ممزقة بحروب مدنية مستمرة، عندما تحاول الثقافات المنفصلة أن تكسب استقلالها السياسي(44). يقول كانط: “إن فكرة قانون الشعوب تقتضي الانفصال بين الكثير من الدول المجاورة المستقلة، وهي في نظر العقل أفضل من ضم تلك الدول تحت لواء دولة واحدة، تطغى على سائرها، وتصير ملوكية شاملة، فالواقع أنه كلما اتسعت رقعة الدولة ضعفت قوة القوانين”(45).
من هذا المنطلق يحدد رولز المبادئ المتعارف عليها للعدالة بين شعوب حرة وديمقراطية، وهي ثمانية مبادئ على النحو الآتي:
1- الشعوب حرة ومستقلة، كل شعب يحترم حريات الشعوب الأخرى واستقلالها.
2- يجب على الشعوب أن تحترم المعاهدات والتعهدات.
3- الشعوب على قدم المساواة، وهي أطراف في الاتفاقيات التي تلتزم بها.
4- تحترم الشعوب واجب عدم التدخل.
5- الشعوب لها الحق في الدفاع عن النفس، ولكن ليس لها الحق في شنِّ الحرب، أو التحريض عليه لأسباب غير الدفاع عن النفس.
6- تحترم الشعوب حقوق الإنسان.
7- تلتزم الشعوب بقيود محددة في ممارسة الحرب.
8- يجب على الشعوب مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها، التي تعيش تحت وطأة ظروف غير مواتية، تمنعها من أن يكون لها نظام اجتماعي وسياسي عادل أو سمح (46).
يرى رولز أن هذه المبادئ تتطلب الكثير من الشرح والتفسير، وبعضها غير ضروري في مجتمع شعوب جيدة التنظيم كالمبدأ السابع الخاص بالسلوك في الحرب، والمبدأ السادس حول حقوق الإنسان. أما المبدأ الرابع (مبدأ عدم التدخل) نجد أن رولز يعتقد بوجوب تقييده بضوابط وقيود في الحالة العامة للدول الخارجة على القانون، وعلى الرغم من أن هذا المبدأ مناسب لشعوب منظمة بصورة جيدة ؛ فإنه لا يصلح لمجتمعات شعوب غير منظمة، تكثر فيها الحروب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

الانتقادات التي وُجهت إلى نظرية العدالة
يُعد مايكل ساندل (5 مارس – 1953) من أهم المفكرين المعاصرين الذين تحدثوا عن معنى المساواة والحرية والعدالة التوزيعية، ومن أبرز الذين تناولوا طرح رولز عن العدالة والليبرالية السياسية التي يمثلها بالدراسة والنقد في كتابه: “الليبرالية وحدود العدالة”؛ حيث ينطلق ساندل من النظر في مدى صحة المقولة التي ترى أن المجتمع الليبرالي مجتمع يحرص على عدم إملاء أي طريقة معينة في الحياة على أفراده، تاركاً لهم أكبر حرية ممكنة في تحديد القيم التي يتبنونها والغايات التي يسعون إليها في الحياة. وعلى الرغم من أن ساندل رأى أن ليبرالية رولز مدينة لكانط في معظم آرائها الفلسفية، كما أنها جاءت معارضة للتصورات النفعية من حيث قولها بأسبقية الحق على الخير؛ فإنه رأى عيب هذه الليبرالية المعاصرة في كونها لم تأخذ بعين الاهتمام مسألة الجماعة، بل اهتمت بتفرد الذات بشكل قبلي، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التي يفترض مسبقاً أنها منفردة بنفسها؛ لكن الذات – كما يراها ساندل – هي ذات مجسدة ضمن نسيج من العلاقات الاجتماعية والإنسانية(47).
وصف “ساندل” وصفاً دقيقاً – في معرض حديثه لنقد الليبرالية – غياب المساواة والعدالة في النظام الليبرالي الغربي، بالرغم من كل التطور الذي لحق به، فقد رأى أن ثمة جماعات تتعرض للظلم (كجماعة وليس كأفراد)، وأن الطبقة المهيمنة في النظام الجديد – لحظة التأسيس – تبقى مسيطرة في جميع اللحظات التي تليها، مادام النظام الليبرالي يقدم الحرية في تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية؛ ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام.
أما أمارتيا صن (3 نوفمبر – 1933) فقد أقر- عند نقده لرولز – بأن مفاهيمه الأساسية ظلت تقدم له الكثير عند بحثه في مشكلة العدالة، وبأن أعمال رولز تُعد تحولاً مهماً في الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، يقول “صن”: “لا يسعني البدء بانتقاد رولز دون الإقرار أولاً بعظيم أثره في فهمي الخاص للعدالة والفلسفة السياسية عموماً، وعظيم الدَّيْن الذي أدين له به. فقد أشعل في نفسي جذوة الاهتمام الفلسفي بموضوع العدالة”(48).
لقد رأى “صن” أن نظرية العدالة تشتمل على متطلبات إعمال العقل في تحليل مفهومي “العدل والظلم”، وقد حاول الذين كتبوا في مفهوم العدالة -على مدى مئات السنين في مختلف أرجاء العالم- تقديم أساس فكري للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكري الدقيق له، ومن ثم تطرقوا إلى تحليل المعنى الخاص بإعلاء قيمة العدل. ومن هنا، يعتقد صن أن الاشتغال على مستوى المؤسسات، في التنظير للعدالة، الذي يطلق عليه “المقاربة المؤسسية الما-فوقية”، المرتبطة بنمط تفكير العقد الاجتماعي السائد بتأثير من رولز، ومن تأثر بهم، كروسو وكانط (في الفلسفة السياسية المعاصرة فيما يخص مفهوم العدالة)- يظل قاصراً من ناحية عدم اهتمامه بالسلوك الفعلي للناس. بمعنى آخر: إن المؤسسية الما فوقية -في بحثها عن الكمال، تركز – في المقام الأول – على الوصول إلى المؤسسات العادلة، ولا تهتم مباشرة بالمجتمعات الفعلية التي ستنبثق في النهاية من تلك المؤسسات؛ إذ لابد لطبيعة المجتمع الذي سينتج عن أي مجموعة معينة من المؤسسات أن تعتمد على سمات لا مؤسسية، كأنماط السلوك الفعلي للناس وتعاملاتهم الاجتماعية(49).
ولا شك أن القائلين بمذهب “المؤسسية الما فوقية” الباحثين عن مؤسسات عادلة تماماً -فيما يرى “صن”- قد قدموا تحليلات مضيئة للواجبات الأخلاقية والسياسية التي ينطوي عليها السلوك المناسب اجتماعياً؛ مثل: كانط، ورولز. فكلاهما شارك في البحث المؤسسي الما فوقي، لكنهما قدما تحليلات بعيدة الأثر لمتطلبات المعايير السلوكية. وبالرغم من أنهما ركزا على الخيارات المؤسسية؛ فإنهما أغفلا السلوك الفعلي للناس المرتبط بما هو واقع؛ أي ما يطلق عليه “المقاربة الما تحتية” التي تركز على الواقع الفعلي للمجتمعات

وتُعد الانتقادات والردود المتبادلة التي قامت بين رولز ويورجين هابرماس (18 يونيو – 1929) من أهم المناقشات المعاصرة التي أثارتها نظرية العدالة بوصفها إنصافاً، خاصٌة ما يتعلق بالمقاربة الليبرالية السياسية التي تقيدت بحدودها وتأسست على مقولاتها. وقد ارتكزت انتقادات هابرماس الرئيسة لنظرية رولز في العدالة على ثلاث مسائل هي: أولاً، التشكيك في قدرة الوضع الأصلي – كما جاء في العدالة بوصفها إنصافاً – عن التعبير عن حكم أخلاقي موضوعي حيادي واجبي بشأن مبادئ العدالة، ثانياً: الإخفاق في عدم توضيح الشروط والضوابط التي يتعين على الأطراف المشاركة في التفاوض التوصل من خلالها إلى مفهوم سياسي للعدالة يمكنه أن يقوم على أساس أخلاقي ملائم. ثالثاً: الإخفاق في تحقيق الهدف المتمثل في المواءمة بين الحريات والحقوق الليبرالية الجوهرية وفق المفهوم الليبرالي المعاصر وبين مفهومها عند القدماء

 يرى هابرماس أنه لا يمكن للمواطنين الذين يُفترض أنهم يتمتعون بالاستقلال الذاتي أن يمثلوا عبر الأطراف المفتقرين لهذا الاستقلال، فالمواطنون ذوو قوة أخلاقية بوصفهم أعضاء في مجتمع ديمقراطي مثالي حسن التنظيم، ولهم حس بقيمة العدالة والقيم السياسية الأخلاقية عموماً. إذن، فكيف لمبادئ العدالة – التي جرى التعاقد عليها – أن تتناسب مع شروط تفكير غير موافقة لعقل المواطنين العام؟ كيف لهذه المبادئ أن تعبر عن الشرعية السياسية الليبرالية؟

ولا شك – فيما يرى هابرماس – أن الحقوق والحريات الليبرالية السياسية -بوصفها رؤية مثالية -هي تنظيم للعلاقات بين مواطنين متفاعلين قادرين على اتخاذ قرارات وأحكام حقيقية. ومن ثم فإن رولز لا يقدم حلاً كافياً لمشكلات الاستقرار في ظل واقع التعددية، فالحريات والحقوق الأساسية مثل: الضمير والملكية -وغير ذلك، مما عده رولز أولوية دستورية لا تنازل عنها ولا مقايضة لها بغيرها -تبدو غير منسجمة مع المقاربة الجمهورية التي تقول بأولوية المشاركة السياسية بوصفها حقاً يجعل المواطن مستقلاً ومؤكداً ذاته كعضو في الجمهورية، ولخيره السياسي العام المتمثل في الاستقرار الاجتماعي السياسي. وبناء عليه، فإن ليبرالية رولز السياسية غير قادرة على التعامل مع واقع التعددية بشكل ملائم(53).
ورغم جميع هذه الانتقادات يمكن رؤية تأثير “جون رولز” ومن قبله “كانط” في أعمال معاصرة أخرى تخص مفهوم العدالة، منها أعمال: توماس ناجل (4 يوليو – 1937)، وتوماس سكانلون (1940)، وروبرت نوزيك (1938 – 2002)، وكثير غيرهم الذين تأثرت تحليلاتهم لمشكلات العدالة تأثراً قوياً بنظرية “كانط” و “جون رولز”.

المراجع والمصادر:
(1) يُعد “جون رولز” من أبرز فلاسفة الفكر الليبرالي السياسي المعاصر، فقد أثارت كتاباته كثيراً من القضايا المتداولة على الساحة الدولية اليوم، ويحتدم في الغرب حوار وجدل مستمران بشأن موضوعات مثل: العدالة والإنصاف، والليبرالية السياسية، وحقوق الإنسان، وقضايا المجتمع المدني، والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت متداولة في الفكر السياسي المعاصر. وقد حاول “رولز” عبر مؤلفاته ترسيخ الأسس التي بُنيَت عليها النظرية الليبرالية بأبعادها المختلفة، وأكَد الحرية الفردية وتنمية قدرات الإنسان الذاتية.
– يُنظر إلى: جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم د. عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم – ناشرون، المركز الثقافي العربي، الجزائر، 2006، ص 111.
محمد العمراوي، العدالة الاجتماعية: مقاربة معرفية للمفهوم والأبعاد، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، المغرب، 2015.
محاورة الجمهورية لأفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 83 من دراسة المترجم.

 الواقع أن "جون رولز" كان اسماً مجهولاً خارج الأوساط الأكاديمية ، أو على وجه الدقة : خارج دائرة قراء البحوث الفلسفية المتخصصة؛ لكنه بعد صدور كتابه: "نظرية في العدالة" أصبح من ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جميع المثقفين في معظم أنحاء العالم. وقد وصف كتابه بعض المفكرين السياسيين بأنه "تحفة فريدة"، وإسهام لا نظير له في مجال الفلسفة السياسية؛ وربطوا بين هذا الكتاب وبين الأعمال العظيمة الخالدة "لأفلاطون" و"جون ستيوارت مل" و"كانط".
  - يُنظر إلى: أنطوني دي كرسبني، وكينيث مينوج، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة ودراسة د. نصار عبد الله، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996،  ص 132 -131 .               
 جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلي الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الث، نظرية في العدالة، ص 12.
  إمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوى،  الهيئة المصرية العامة للكتاب، 
   - يُنظر أيضاً إلى: د. عبد الرحمن بدوي، إمانويل كنت. فلسفة القانون والسياسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979        ،  ص26.   
  جون رولز، قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام، ترجمة محمد خليل، المشروع القومي للترجمة،   عدد(1074)، 2007، ص 20.                                      
  كانت، مشروع للسلام الدائم، ترجمة د. عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1952، ص 51.  
  جون رولز، نظرية في العدالة، ص 38.

 بومدين بوزيد، فلسفة العدالة في عصر العولمة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، 2009، ص 146.  
   - أيضاً: عادل صابر راضي، الفكر الليبرالي السياسي المعاصر (جون رولز أنموذجاً)، مجلة الفلسفة، العدد                          العاشر، 2013، ص 95.      
  جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة       العربية للترجمة، بيروت - لبنان، 2009، ص 90.

الوجود واشكالياته ومفهومة عند الفيلسوف مارتن هايدغر

مارتن هايدغر (بالألمانية: Martin Heidegger)‏ (20 سبتمبر – 26 مايو 1976) فيلسُوف أَلَمَّانِي. ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928.وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927) ؛ دروب مُوصَدة (1950) ؛ ما الذي يُسَمَّى فكراً (1954) ؛ المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961)؛ نداء الحقيقة؛ في ماهية الحرية الإنسانية (1982) ؛ نيتشه (1983)

هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الإبستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

في مؤلفه – الوجود والزمن – يسعى مارتن هيدجر، المؤسس الحقيقي للوجودية بعد هسرل، إلى البحث عن مفهوم الوجود من خلال إعادة تأسيس الميتافيزيقيا، لكشف فلسفة الوجود وليس لأنشاء فلسفة للوجود، لذلك بحث عن الأنطولوجيا الكامنة المستترة أو التي كما هي أو التي من المفروض أن تكون على شاكلة معينة حسب التصور الهيدجري الفلسفي العام – الوجودية -، ولم يبحث عن إنشاء أنطولوجية تأليفية تركيبية.

في هذا الكتاب، أكترث هيدجر بمسألة غير واضحة لأول وهلة، وأرتبك في التمايز ما بين الوجود لذاته، والوجود في ذاته. لكن نحن نعتقد، لدى الدراسة المتمعنة في مجمل مؤلفاته، إنه أقرب فلسفياُ إلى الوجود لذاته الذي يتناسب أكثر أيضاُ مع الفلسفة المتعالية الترانسندنتالية. فدعونا نأخذ المعطيات بروية:

أولاُ :

هيدجر يدرك، تمام الأدراك، نقطة الأنطلاق لديه ويضعها ويرستقها بالضبط في الموقع الذي تستحقه. وحينما يتسائل ويصوغ الحيثيات على صيغة أسئلة محددة، فأنه على دراية أكيدة بالمسوغات الجوهرية المحركة لخلفيتها، ويسترسل في فرضياتها لتبدو في النهاية أكثر أنسجاماُ مع المشروع العام.

ثانياُ :

هيدجر يدرك إن معظم الفلاسفة الذين سبقوه – سيما أرسطو – قد عالجوا مفهوم الوجود من خلال محتوى الموجود، فحينما تحدثوا عن الميتافيزيقيا – الوجود – قصدوا الفيزيقيا – الموجود – فأختلف لديهم مستوى المحمول والموضوع، وأرتبكت، حسب هيدجر، مصادر ومخططات موضوعات الطبيعة. فالفيزيقيا التي هي الموجود الحاصل بالفعل – لأنه الموجود وليس لأنه موجود – لايمكن أن تكون موضوعة للميتافيزيقيا التي من المفروض أن تعالج مفهوم ماورائي لأساس المشكلة برمتها، أي تحديداُ مفهوم، محتوى، وطبيعة الوجود.

هنا، نحن ندرك إننا إزاء ورطة لغوية تعبيرية، لأن الموجود الهيدجري هو موجودي وليس وجودي، كما أن وجوده هو وجودي وليس موجودي، وهذه هي النقطة الأستراتيجية الرائعة التي تحتضن تصوره. ولتبيان ذلك نقول إن الميتافيزيقيا لدى أرسطو هي الفيزيقيا لدى هيدجر، والوجود لدى هيدجر هو – الميتاوجود – المفترض لدى أرسطو.
ثالثاُ : وعندما يتساءل هيدجر عن الشيء الذي يجعل الموجود موجوداُ، فيؤكد مضطراُ إنه الوجود الذي يمنح الموجود موجوديته دون أن يمنح نفسه – موجوديته – وكأن الميتافيزيقيا تخلق الفيزيقيا دون أن تسمح لنفسها بالقفز إلى الوجود الأرسطوي أو الميتاوجود الهيدجري، رغم أنه تارة يؤكد إن الفيزيقيا هي الموجود الذي مازال موجوداُ بما هو كذلك من ذاته ويجعل وجوده حاضراُ. وكأن اللاحضور – الغياب – يدفع بالحضور إلى الحضور دون أن يتمكن هو بالقفز إلى الحضور..

رابعاُ :

وحينما يقيم هيدجر هذه القطعية الأبدية، يحتسبها من جانب واحد منسجم مع نقطة الأنطلاق، ومتوازي مع جوهر تصوره العام، فالقطيعة التي لايمكن أن تكون من جانب – الموجود – الذي هو حضور عيني وليس حضوراُ فلسفياُ، كما توهم الكثيرون، هي من جانب – الوجود – الذي هو قبل كل شيء حضور فلسفي، لذلك يفارق هيدجر عن قصد وبدراية كاملة ما بين الأنطولوجيا والأونطيقي ( الفرق الأنطولوجي )، وكأنه يفارق ما بين رؤيا هيجل – تصور محض – ورؤيا توماس الأكويني – فعل صرف -، فالأنطولوجيا هي الوجود وما ورائيته ولاحضوره، والأونطيقي هو الموجود وأمتلاؤه وحضوره وهمومه وآلامه وكبده وربما أغترابه..

خامساٌ :

وإن ما يعزز مضمون الفقرة الرابعة، هو أن هيدجر يوضح حالة، في الحقيقة أفتراضية، ويزعم أن الوجود إذا ما أصبح – موجوداُ – لسبب ما، أصبح موجوداُ بالفعل، وأنتفى أن يكون – وجوداُ -، وهذه الحالة وأن كانت أفتراضية إلا أنها تدلل على ذهنية هيدجر، التي هي بالأساس متهمة بالغموض والأرتباك، وتشير إلى مرجعية تصوره الفلسفي، سيما وإن الحالة العكسية مرفوضة بالأساس، أي الأنتقال من الموجود إلى الوجود. وربما لهذا السبب تحديداُ، يستمر هيدجر في التأكيد ( لماذا كان ثمة موجود، ولم يكن بالأحرى لاشيء؟ وهذا ما يجبرنا على تصويغ السؤال الأول، ماذا عن الوجود؟ ).

سادساُ :

الوجود الهيدجري هو ما هو كائن وليس ما هو يكون، فالصيرورة كميكانيزم للتحول والتطور أو التفاعل أو الغثيان الرأسمالي تخص الموجود ولاتتعرف أبداُ إلى الوجود، بل هي لاتعرفه أصلاُ، وكأننا إزاء معادلة، الوجود هو الوجود، والموجود هو الموجود، مع مراعاة إن الثاني هو ما قبل الأول، والأول هو ماوراء ذاته. لذلك يحق لنا التأكيد إن الصيرورة ليست عملية أو رؤيا فلسفية في فلسفة هيدجر. وهذا ما يفضي بنا إلى النقطة السابعة والثامنة والتاسعة.

سابعاُ :

فيما يتعلق بالسلب والإيجاب، يغدوان مفهومان خاصان بالموجود والوجود والعلاقة فيما بينهما، فالموجود الذي يحجب الوجود يمثل عامل السلب في التصور الهيدجري، والوجود الذي بفضله ينكشف الموجود يمثل عامل الإيجاب فيه.

ثامناُ :

إن التقويض أو التحطيم الهيدجري، هو في الحقيقة بناء يجسد عاملاُ إيجابياُ هدفه إعادة الحياة إلى الميتافيزيقيا، أي مصالحة الوجود مع الوجود، وإعادة الأول إلى الثاني الذي ليس إلا الأول نفسه، وكأن الميتافيزيقيا ألغت الوجودية من الوجود ومنحتها للموجود، وحان آوان أن يسترد الوجود ميتافيزياقيته، ليترك الفيزيقيا للموجود..

السؤال عن الوجود

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

الوجود عند هايدغر لا ينفصل عن الحقيقة (أو الأليثين- ) التي بمفهومها اليوناني تعني اللاتحجب. لأن كل تعامل أو حكم على الموجود لا يتم الا إذا ظهر عن تحجبه. فهل قصد هايدجر باللاتحجب، الأنا المتعالي ؟. هايدجر يجد في تفسير الفلسفة اليونانية ان الإنسان ليس مركز التجربة ومحورها بل هو الموجود اللامتححب.
لقد صرح هيدجر ان السؤال عن الوجود هو الذي حرك فكره

السؤال عن الوجود في أفق الزمان

◇◇◇◇◇◇♧♧◇♧♧♧◇♧♧♧♧◇

في كتاب الوجود والزمان يتحدث هيدجر عن الوجود (أو الدازين- ) و يعني به الوجود الإنسي الذي يبقى دائما على علاقة بالموجودات ويتميز عن سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه.
هيدجر سلط ضوء جديد على تاريخ الميتافيزيقا من افلاطون حتى مناقشي القرن العشرين لموضوع الوجود و أكسى الفينومنولوجيا ثوبا انثروبولوجيا جديد، تعذر على رائدها هوسرل التعرف عليها.
كتاب الوجود والزمان كان بداية انقلاب جديد في الفكر الفلسفي و من المهم في هذا الكتاب معرفة الهدف الأساسي و هو السؤال عن الوجود، و ارتباطه بمشكلة الزمان لأن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود.
الكتاب مقسم إلى قسمين: الأول يتناول تفسير الآنية الوجودية من جهة زمانية بحتة و تفسير الزمان بوصفه الأفق الترانسندنتالي للوجود. أما القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية “للتحطيم الفينومينولوجي” لتاريخ الانطولوجيا على المستوى الزماني.
بدأ هيدجر من محاورة السفسطاني للإجابة على سؤال قديم قدم الميتافيزيقا. وهو لا يعني أن يصلنا بالتاريخ، بل يريد تصفيته مما يشوبه من غموض و التباس.
هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه، إن لم نسأل أولا عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده ؟. السائل يتفرد عن غيره من الكائنات إلى أنه الموجود الذي يهتم بوجوده. وتحليل الآنية لا يتم من خلال تأملات انثروبولوجية أو نفسية أو اجتماعية، بل الهدف هو التعرف على ماهية السائل.
ويصف هيدجر هذا السؤال بالأنطولوجيا الأساسية التي تريد تحليل اسلوب وجود السائل وتبين مقومات موجوداته. من حيث هو الوحيد الذي له علاقة دائمة مع ذاته و كينونته، أي أن له خاصية التواجد. التي لم تفطن لها الانطولوجيا التقليدية.
المهمة الرئيسية للسؤال عن الوجود تقوم على تحليل الآنية من جهة وتحطيم تاريخ الأنطولوجيا من ناحية أخرى.
ومن الصعوبة أن نقول شيئا عن الآنية، لأن العالم يغرينا بما نعرفه ونكرره في حياتنا اليومية.
هايدجر يقترح طريق دائري يبدأ بالموجود وينتهي بالوجود، ومن ثم يبدأ مرة أخرى بتحليل الآنية بعد أن حدد الوجود.
ماذا يقصد هايدجر من تحطيم تاريخ الانطولوجيا ؟. يقصد ان الآنية محتضنة في التراث والعادات والتاريخ بشكل عام، ولهذا نراها تترك مام امرها للتاريخ لاجتياز قراراتها الحاسمة، دون أن تكلف نفسها مشقة استشراف هذا التراث لاستشفاف وجودها التاريخي الخاص. فلا بد ازالة الحجب التي تراكمت على التراث والرجوع إلى المنابع الاصلية للمفاهيم والمقولات التي شوهتها المذاهب المتوالية التي اهملت السؤال الرئيسي عن الوجود.
يؤكد هيدجر ان منهجه فينومنولوجي، ولكن ليس بالتصور الهوسرلي الذي يرد كل شيء إلى الأنا الخالص (الذي يبقى حتى لو فني العالم). ويقول انالنطولوجيا ممكنة إذا أصبحت فينومنولوجيا. لأن الفلسفة هي انطولوجيا فينومنولوجية تبدأ من تفسير الآنية بوصفها مسار كل سؤال فلسفي.

وقبل أن أبدي أعتراضاتنا على مجمل هكذا تصور، أحبذ أن أسجل طبيعة الأمور الآتية :

الأمر الأول :

إن الوجود الهيدجري لايراهن على خاصيته كوجود، إنما ثمت عامل يوشك ألا ينفصل عنه، وهو الزمن، أو ما سمي بالزمن الوجودي، وربما من الأنسب تسميته بالزمن الأنطولوجي. وهذا بدوره سيكون موضوع حلقة خاصة، لأن هيدجر أستخدم مفهوماُ له خصوصيته – الزمن الزماني – الذي ينم عن جملة معطيات في العلاقة ما بين الموجود والوجود، ولا يتوقف الأمر عند هذه النقطة لأننا سنرى إن ما يسمى بالزمن التزمني يناسب طبيعة الموجود دون الوجود..

الأمر الثاني :

لن نذكر كافة الأعتراضات، لأننا سنؤجل قسماُ منها لدى الحديث عن الوجود لدى الآخرين، سيما هيجل، وسندخر قسماُ آخراُ عند الحديث عن مفهوم الزمان لدى صدر الدين الشيرازي..

الأمر الثالث :

لقد تعرض الكثير من السادة للمدلولات المختلفة لدى هيدجر، دون أن ينتبهوا إلى أمر في غاية الخطورة والأهمية، وهو أن بعض آرائه لاتمثل حالة عامة، ولاتتعلق بكل تصوراته الفلسفية، إنما هي حالة خاصة بل جزئية تتعاشق فقط مع إحدى مكونات تصوره العام، الوجود، الموجود، وجود الموجود الأنساني، مثل الغياب، العدم..

والآن، أسمحوا أن أسجل الأعتراضات التالية:

الأعتراض الأول :

في المفاصلة ما بين الوجود الميتافيزيقي، والموجود الفيزيقي، عبر مفهوم الفرق الأنطولوجي، يدرك هيدجر جيداُ إن أحدهما بات غائباُ عن الآخر، فلا الوجود يستطيع أن يدنو من الموجود دون أن يحترق، ولا الموجود مؤهل أن يرتقي إلى مجال الوجود، لذا وجد نفسه مضطراُ اضطراراُ يدعو إلى الشفقة، أن يجد جسراُ ما بينهما لكي يتسنى له أن يمنح الوجود دفقه المفترض، وأن يوهب الموجود طاقة موجوديته. وما كان هذا الجسر إلا وجود الموجود الأنساني. وهذا ما سندحضه من زاويتين أثنتين، الزاوية الأولى : ياترى ما هي المفارقة مابين الأنسان والنمور والأسود والأشجار والزيزفون والنفل البري من الزاوية الأنطولوجية. أليس الأنسان في النهاية، زيد وعبيد وفاطمة وخديجة وجورج وميشيل تماماُ مثل النمور والأسود والنباتات لو سميناها بأسماء خاصة. الزاوية الثانية : ثم لو أستطاع الأنسان، عن طريق المنفتح الهيدجري، أن يتمتع بخصائص الموجود كموجود، وبعض خصائص الوجود كوجود، فما أدرانا ألا يتمتع بها بعض الاخرين من الموجودات، بل جميع الموجودات، عندئذ يهوى ويذوي الفارق الأنطولوجي ما بينهما.

الأعتراض الثاني :

بصدد المنفتح الهيدجري يرتكب هيدجر مغالطة لاتغتفر، فهو يعتقد إن وجود الوجود نفسه يرتهن بنا، وكأنه يفكر فينا وبنا، وكأننا نفكر فيه وبه. وإذا كان الأمر على هكذا صيغة، فالحري بنا أن نستنبط الأستنتاج المنطقي الموازي، وهو أن الوجود في النهاية ليس إلا وجود الموجود الأنساني، وهذا ما يرفضه هيدجر رفضاُ مطلقاُ لأنه يؤكد إن الفارق الأنطولوجي هو مابين الحضور وماهو حاضر، وما بين الوجود وما هو موجود.

الأعتراض الثالث :

في المفاضلة ما بين الوجود والموجود والمحتوى الأنساني، نستشف أمراُ غريباُ في جدلية التصور الهيدجري، فهو يخشى أن ينزلق الوجود إلى النسيان كميتافيزيقي، وهو في الحقيقة ينزلق بالضرورة إلى النسيان المطلق، ليس لنفس السبب وإنما لسبب آخر واضح هو أن هيدجر قد أستبدل الوجود المفترض بالموجود الأنساني الذي حل محل الأول في شروط وجوده، وليس في شروط كينونته التي لادور لها في هذا المقام..

الأعتراض الرابع:

في حيثية الأدراك الفلسفي، لدى هيدجر منطوق الموجود الذي كان من المفروض أن يكون صفة ل( الوجود ) تحول إلى موصوف بحاجة إلى صفة، ومنطوق الوجود الذي لايمكن، ومن شدة الحرص،أن نستخدم صفته، ومنطوق – الموجود الأنساني – الذي نحتار في توصيفه. لكن من المؤكد إن الموجود الأنساني لايمكن إلا أن ينتمي إما إلى الأول، وإما إلى الثاني، ولايجوز أن ينتمي إلى أي ثالث حسب محتوى الفارق الأنطولوجي الهيدجري. وطبقاٌ لهذه الرؤية لابد أن ينتمي إلى الأول – الموجود – لأنه لو أنتمى إلى الثاني لكنا إزاء كارثة حقيقية. وبما أنه ينتمي بالضرورة إلى الأول فإن الثاني يصبح غائباُ إلى الأبد.

الأعتراض الخامس :

يؤكد هيدجر إن الوجود هو الذي يجعل الموجود موجوداُ، ويرتكب مغالطتين، الأولى : إن – موجوداُ – هنا هو صفة للوجود وليس صفة للموجود، أي بمعنى أن الموجود موجود كوجود وليس كموجود، وبالتالي، لا الميتافيزيقيا تلبث كما هي هيدجرية، ولا الفارق الأنطولوجي يصمد كما هو هيدجري، لأن الموجود هو وجود حقيقي وفعلي طبقاُ لمنطوق هكذا تصور. الثانية : إذا كان الوجود هو الذي يجعل الموجود – موجوداُ – فلا مندوحة أن نعي كيف يتم ذلك، هيدجرياُ الوجود لايخلق الموجود، كما لايستطيع أن يكشف عنه لأن هيدجر نفسه من الموجودات، فلم يبق أمامنا إلا القول على مضض، وبالصيغة السلبية حصرياٌ، إن لولا الوجود ما كانت الموجودات، هذه هي الصيغة الوحيدة القابلة للنقاش، وهي صيغة مرفوضة، لأن الموجودات، أما أن تدل على ذواتها، أو على ذاتيتها، في الحالة الأولى، نصبح إزاء مستويين غير متوافقين فيما يخص منطوق الوجودية، وفي الحالة الثانية، نمسي في خصام قاتل مع هيدجر نفسه..

الأعتراض السادس :

لكي ندرك فلسفة هيدجر بصورة أجمل وأوضح، ينبغي أن نميز ما بين سؤالين مختلفين أساسيين. الأول : ماهي حقيقة الأنسان ووجوده، والثاني : ماهو الوجود وحقيقته. في أساس فلسفته، ينطلق هيدجر من تصور الوجود وحقيقته، لذلك قلنا إنه يدرك تماماُ نقطة الأنطلاق لديه، لكن تصور الوجود وحقيقته شيء، والإجابة الفعلية عن وقائعية هذا الوجود وحقيقته شيء مستقل آخر. وبما أنه لايدرك الوجود ولم يدركه حتى مماته، أنبرى في الشرح لمسألة حقيقة الأنسان ووجوده، وأنغرق في تداعياتها التي أستغرقته. لذلك عندما يتحدث عن الزمن، سيما عن الزمن التزمني، لايستطيع إلا أن يؤكد إن الأنسان لايعيش في الزمن، لأنه لو قالها لأكد أن الوجود الأنساني هو الوجود نفسه وهذا ما لا يرضاه، ومن هنا يزعم إن وجوده له زمنه وهذا أساس وجوهر ما عرف فيما بعد بمفهوم الدازاين الهيدجري. وأعتراضنا هنا إن الدازاين الهيدجري غير خليق أن يؤصل أساس الوجود الهيدجري، وإن كان من الممكن، وفي أحسن الأحوال، أن ينبهنا إلى موقعه المفترض..

الأعتراض السابع :

حينما نتحدث عن الموجود لدى هيدجر فأننا نتجاوز حدود المسموح به أنطولوجياُ، لأن أي من – الموجود – لايملك إلا أمتلائه وحضوره، أي جسم وشكل وهيئة وهيكل مثل الحيوانات، الطيور، الناس، الورود، الأشجار، وهذه الأشكال أو الأجسام ليست لها إلا الصفة الفردية، بمعنى تلك الشجرة، وهذه الزهرة، أو ذاك الذئب، تماماُ مثلما نقول هذا زيد وذاك عبيد. لذلك نؤكد إن فلسفة هيدجر، بعد أن راهنت على مفهوم الوجود الميتافيزيقي وأنغرقت في الموجود الأنساني، تعاملت مع تلك الهيئات الفيزيقية كالموجودات، وليس كالموجود. وأعتراضنا واضح وبديهي، من يسلب عن الموجودات قوة الوجود، يسلب عن الوجود قوة الموجودات، وبالتالي قوة الموجود، وبالتالي قوة صفة الموجود في الوجود، وبالتالي قوة الوجود في الوجود، وهذا أخطر ما يمكن أن تقترفه أي فلسفة كمغالطة..

الأعتراض الثامن :

نحن لو فارقنا ما بين فعل الكون وفعل الوجود لأدركنا، بطبيعة القضية، إن هيدجر الذي أنطلق بكل جدارة ومعرفة ووعي من فعل الكون، أنغمس كلياُ، وأختنق في غياهب فعل الوجود، وأستسلم للقلق والذعر والعوامل المرضية في المجتمعات الرأسمالية، دون أن ينتبه كمحصلة أن عليه الإجابة على السؤال التقليدي الهيدجري، ما هو الوجود، السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه هيدجر، لأنه لو أجاب عليه لأنتفى الوجود، ولأنتهى إلى الأبد.

مصادر

♧♧♧♧♧◇◇◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

^ هايدغر الفيلسوف الوجودي/ بقلم: بولس الخوري/ثلاثون عاماً على رحيل هايدغر..

الموسوعة الفلسفية /، عبدالرحمن بدوي
الفلسفة الوجودية / عبدالرحمن بدوي

خطف، فإغتصاب،ثم قتل.. انها قصةالطفل عدنان بوشوف

بعد أيام من البحث، الطفل عدنان بوشوف،ذو إحدى عشرة سنة، القاطن بالجماعة الترابية بني مكادة

بمدينة طنجة، وُجد هذا اليوم السبت 12 شتنبر 2020م،مدفونا أمام منزل الجاني، فبعد ما خطفه المغتصب وإعتدى عليه جنسيا، وهتك عرضه، تمادى في جرمه وقتله، بل ودفنه في حديقة حي النصر بالشارع العام بالقرب من شقته التي يكتريها بمعية ثلاثة أشخاص آخرين..

الجاني المغتصب ينحدر من مدينة القصر الكبير، عازب، يبلغ من العمر 24 سنة، مستخدم بإحدى الشركات بالمنطقة الصناعية كزناية، يقطن بحي بني مكادة بمدينة طنجة..

بماذا يفسر هذا الفعل الشنيع من وجهة علم النفس؟

هذا الفعل بيدوفيلي، هو نوع من الإضراب يعاني منه الجاني، بحيث جسد الطفل يشكل له موضوع إغراء، عبر مجموعة من الأفكار والإستيهامات الجنسية المنحرفة، علميا المرتكبون لهذا الفعل يتميزون بالعدوانية، والعنف، يتصيدون فرصة إصطياد جسد الطفل.

الدراسات تقول ان المعتدي والغاصب المرتكب لهذا الجرم، 80٪ يكونون من محيط الاسرة، سواء من العائلة أو من الجيران والذين يعرفون محيط أسرة الضحية.

الفاعل لهذا الجرم، 70٪ يكونون تعرضوا للإعتداء الجنسي، وبالتالي يعيدون إنتاج هذا السلوك الذي مُورِس عليهم..

ويعيدون إنتاج هذا السيناريو، بمرارته وبشاعته، من التلذذ بجسد طفل بريئ، ونهش جسده، وقضاء شهوة حيوانية منحرفة، و إنتهاء بقتل الضحية، ودفنه من أجل طمس معالم الجريمة..

هل هناك علاج لمثل هاته السلوكيات المنحرفة؟

من خلال تجربتنا المتواضعة في الحقل السيكولوجي:

1-نوصي بتربية جنسية لفلذات أكبادنا، الأطفال، إبتداء من السن الثالثة من العمر.

2-يجب على المجتمع تحمل مسؤوليته، بالتحسييس والتتبع، والمراقبة، والعمل على سبل الوقاية..

3-تنبيه الأطفال بالإبتعاد عن كل شخص يشكل تهديد للسلامته الجسدية ولو من داخل الأسرة..

4-يؤكد الخبراء الدوليين في مجال حماية الطفولة أن المتحرش والمغتصب لأي طفل يتربص به بمعدل شهر تقريبا قبل ارتكاب فعلته ، حيث يمر من مراقبته ومراقبة تحركاته ، إلى القاء التحية عليه ، ثم كسب ثقته بهدايا كالحلوى وماجاورها ، الى لمسه وتقبيله قبل عادية ، وأخيرا استدراجه بسهولة تامة الى مكان خال للإنفراد به وارتكاب جريمته.

نصيحتي كأب أوجهها للآباء وللمربين بصفة عامة . خصصوا هامشا ولو ضيقا يوميا للحوار مع ابنائكم ومتعلميكم. وخاصة الآباء. عند طاولة العشاء مثلا أو اجعلوا أبناءكم يحكون لكم عن يومهم بشكل عام . وحللوا خطابهم واستنتجوا . مثلا اذا أخبرك ابنك او تلميذك ان شخص ما القى عليه التحية ، أو اشترى له حلوى ، فهي بداية المصيبة . تدخل قبل فوات الأوان. راقب إبنك من بعيد ولاحظ . أعود وأكرر ، تواصلوا مع أبنائكم ، استمعوا إليهم ،وابتعدوا عن الهاتف قليلا .

إن جريمة إغتصاب طفل بريئ لايمكن تصور آثارها النفسية والسيكولوجية، لأنها ببساطة جروحها لاتندم ولو بعد حين، ولو بعد التدخل النفسي السيكولوجي..

الوحش ليس هو ذلك الذي يشاهدونه أطفالكم في الرسوم المتحركة، و لا هو ذلك الذئب الذي يتربص من هو أضعف منه في الغابة، الوحش قريب من البيت من المخبزة، الوحش ليس في الغابة، هو بيننا يأكل و يمشي و يكتري بيتا فيه يغتصب و يقتل و بجانبه يدفن جثة طفل كان يلعب و يدرس و يحلم. طفل كان يسكن بالغابة الكبيرة الموحشة و المتوحشة التي ظنناها المدينة.
ما أبشع الحياة حين تنتهي فيها حياة طفل بهذا الشكل و ما أبشع الموت حين يأتي به القدر على يد وحش .

يقول البروفيسور المصطفى الحدية،

الاعتداء الجنسي على الأطفال!!
إن الاعتداء الجنسي يدخل في إطار الانحرافات والاضطرابات النفسية المرضية الناتجة عن نمو نفسجتماعي غير سوي تبعا لنوعية وخصوصيات البنيات الاسرية والتربوية التي تواجد فيها المنحرف
في طفولته وحتى في مراهقته.ان هذه البنية الأسرية التنشيءية بحكم ما يسود فيها من مناخ نفسي عموما وعلاقات خاصة بين أفرادها ،لاسيما إذا كانت هذه الأخيرة تتصف بالتوتر والقلق والضيق واللامبالاة والحرمان والتسلط في المعاملة، وفي حالات كذلك مطبوعة بالدلال والفشوش…إزاء الأطفال مما يؤدي ويسهل استدراجهم بسهولة من قبل المعتدين جنسيا.فعلى العموم تعتبر البنية الأسرية المتوازنة ،مجالا خصبا لنمو سليم.
مناسبة هذا الحديث هو تفشي ظاهرة الإعتداء الجنسي في المجتمع ، فحسب اطلاعنا على بعض الإحصاءات.تبين لنا بالفعل أن الظاهرة مقلقة وتتطلب منا كلنا العناية الدقيقة في سبيل بناء مجتمع متوازن خال نسبيا من الاضطرابات والانحرافات المرضية .2800 اعتداء جنسي على الأطفال، ضمنها536اغتصابا و1756هتك عرض بالعنف ومع الأسف من المتابعين أباء واشقاء ،هذه المعطيات حسب آخر تقرير لرئاسة النيابة العامة.
إن الظاهرة لها ما يفسرها وتستدعي منا في مجال العلوم النفسية والاجتماعية والقانونية والتربوية كل الاهتمام. والمطلوب استعجالا هو الحيطة والحذر فيما يتعلق بالأطفال من قبل الآباء وكل إنسان سوي يقدر مخاطر الاعتداء الجنسي على نفسية وحياة الشخص في الكبر.

ماهو رأي الدين في هذا الفعل الشنيع؟

ما فعله هذا المجرم يسمى حرابة، وحكمه في الإسلام أنه يقتل ويصلب، قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
الله الرحيم الذي خلقه يأمرك يا ولي الأمر أن تقتله أو تصلبه أو تقطع يديه ورجليه من خلاف، فهل نحن أعلم أم الله؟ أم أننا أرحم بالخلق من الله؟
إن ما حصل لعدنان قد يحصل لولدي وولدك، ولا حل في قوانين البشر يمكنه أن يردع هؤلاء، فالله الذي خلقهم يقول لك هذا هو الحل معهم، ويقول لك {ولكم في القصاص حياة} فلماذا كل هذا التمرد على شريعة الله؟ ولماذا يزعم الجاهل أنه أرحم بالخلق من الخالق؟
أنا لا أطالب بإعدام هذا القاتل وإنما بإقامة حد الحرابة عليه، كي يكون عبرة لغيره، فشهوة عابرة قضاها هذا الحيوان، أصبحت سببا لشقاء أسرة بل مجتمع بكامله، فكم من الرعب بث في الأسر، وكم من الأسى والحزن وزعه على الشعب المغربي بأكمله.
من حق كل مواطن أن يطالب بحقه العام في هذه الجريمة، فقد طعننا هذا المجرم في أكبادنا هذا الصباح، ونحمل المسؤولية للدولة بكل مؤسساتها ونطالبها أن تطبق في هؤلاء وفينا شرع الله، فنحن قابلون بحكم الله، وراضون بعقوباته، ومستعدون للتحاكم إليها جميعا، لا أحد منا فوق الشريعة، بل هذا هو أصل التعاقد بين الحاكم والمحكوم، قال ملك الملوك {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وقال {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فهل نظن أن هناك حكما أحسن من حكم الله؟ وهل يعرف أحد حقوق الإنسان مثل خالقه الذي خلقه وكرمه وجعله خليفة؟
وأنت يا والد عدنان، نقول لك اصبر واحتسب، فولدك ولدنا ومصابك مصابنا، وليجعل الله ولدك شهيدا يتقلب الان في الجنة إن شاء الله…
وأنتم أيها الآباء، لا تغفوا عن تحصين أبنائكم بالأذكار التي كان يحصن بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين، وكان يحصن بها إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل، فالله هو خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

✍هامش سريع على حادث مؤلم:
لا ألفاظ في اللغة يمكن أن تحيط بقبح وبشاعة الجرم الذي ارتكبه الوحش الحقير في حق الطفل البريء عدنان رحمه الله.. ولا سلوى يمكن أن تطفئ لهيب الحزن في قلبَي والديه وقلوب المغاربة عامة جراء الأفعال الشنيعة التي تعرض لها الطفل الصغير..
غير أن القصاص من المجرمين بما هو حق لأسرته ولمجتمعه يعني الضرب بقوة لا تردد فيها على أيدي السفلة الذين يعتدون على صغارنا الأبرياء إرضاء لنزواتهم البشعة..
ان هذه الجريمة بفداحة ثمنها وشدة ألمها يمكن أن تتحول إلى نقطة نهاية لهذه المآسي إذا تمت معاقبة هؤلاء المجرمين بعقوبات تردع كل النوايا الإجرامية المماثلة في النفوس المريضة.. بما يشيع الأمن النفسي لدى الأسر وأطفالها..
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].. أي أن تنفيذ الحكم الشرعي في مستحقه يضمن حياة الأمان المجتمعي لعموم الناس.. ويذهب وساوس الخوف والريبة التي تعصف بالحياة..!.

رحم الله الطفل عدنان وألهم ذويه الصبر والسلوان ،

وإنا لله وإنا إليه راجعون . وأقصى العقوبة للجاني ليكون عبرة لغيره. ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب..

ماهو رأي القانون في هاته النازلة؟

تحليل هاديء للمحاميةسعاد الرغيوي

بداية ندين جميعا الجريمة التي تعرض لها الطفل عدنان، وبالتأكيد نتعاطف مع أهله.
ولا بد من حفظ مركز الضحية وذويها في مثل هذه الحالة وإيلاءها العناية الكاملة.
وطبعا يجب ان تتحقق العدالة.
لكن ما معنى العدالة؟
الجريمة/ الحدث أصبحت الآن واقعا، لا شيء سيعيدنا إلى ماقبلها.
العقاب لا يوقف الجريمة ولا يحد منها، المجتمعات التي تنتهج مقاربة دراسة الجريمة ودراسة طبيعة المجرم ثم تعالج وتتصدى عبر الدراسة والعلم أصبحت تغلق السجون، والمجتمعات التي تحكم عاطفتها قبل عقلها، وتنجرف في تيار الانتقام والعقاب تتزايد فيها الجريمة وتتطور وسائل الإفلات من العقاب لدى المجرم وتكثر فيها بنايات السجون.
لماذا الطفل عدنان حظي بكل هذا التعاطف؟ غيره كثير يتعرض لما تعرض له ولأبشع، طفلات وأطفال، صغار وكبار.
لأنه واحد “منا”، طفل جميل، أنيق، قد يكون ابن أي منا او أخا صغيرا لأي منا. ليس “ابن الشارع”، ليس من “الهامش”. وصلت الجريمة إلى باب المستنكر إذن، لم تعد بعيدة، لم يعد تعاطفا إذن، بل خوف.
نمر يوميا على أطفال الشوارع، نراهم بأعيننا ولا نريد أن نرى أنهم محرومون من كل أسس الحياة الكريمة لأي إنسان فبالأحرى للأطفال، لا نسألهم كم مرة يتم اغتصابهم في اليوم، لأنهم ليسوا “منا”، لا نفعل شيئا، لا نستنكر، لا نرى الجريمة ولا نطالب بإنزال العقاب.
نحن مطبعون مع كل انواع الجرائم التي لا تمسنا، اغتصاب “أطفال الشوارع”، أغتصاب النساء، اغتصاب سنوات من حياة الشباب العاطل المنتظر لفرصة الإرتماء في البحر.
ردود الفعل العاطفية والمنفعلة لن تعيد عدنان ولن تحمي غيره، لأن من ارتكب الجرم هو نحن جميعا، هو مجتمعنا، مرتكب الفعل ليس إلا اليد التي نفذت، هو واحد منا، وغدا، وإن قتلنا هذا “المنفذ”، سيخرج آخر، فنحن مجتمعا ونظاما أنتجنا منه الكثير.
محاربة الجريمة لا يتم بارتكاب جريمة أخرى، بل هو أعمق من ذلك بكثير، وأكثر تكلفة وجهدا.
السياسة الجنائية التي تعتمد على العقاب سياسة فاشلة.
الدول التي تطبق عقوبة الإعدام تزداد فيها الجريمة وتتطور.
الدول التي تطبق عقوبة الإعدام تستغلها أيضا ضد المعارضين السياسيين.
عقوبة الإعدام حل محدود جدا في مفعوله إذ ينصرف للجاني وحده، حل جبان وسهل لمشكل اجتماعي يتطلب معالجة علمية مبنية على علم النفس والاجتماع والطب وغيرها.
عقوبة الإعدام ” أن تقتل من قتل لأنه قتل”.

المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة البشرية عند ديفيد هيوم

ينظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة أخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد. ومعنى هذا أن ما يفهمه هيوم من مصطلح “الفلسفة الأخلاقية ليس مقتصرًا على ما يُفهم عادة منه أنه يخص مبحث الأخلاق فحسب هيوم تنقسم المعارف البشرية إلى فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي والأحيائي والرياضي، وفلسفة أخلاقية تضم كل ما يخص الإنسان، ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية هي والسياسة والاقتصاد والدين، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية. وكان في ذلك منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته الأخلاقية من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم.

ولذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو “محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية”، وهو يقصد بالموضوعات الأخلاقية كل أجزاء كتابه: الفهم الإنساني والانفعالات والأخلاق.
لم يكن هيوم هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي. وهو يقصد من المنهج التجريبي تتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى، فهو يدرس المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس، ويدرك الأخلاق انطلاقاً من الانفعالات. والحقيقة أن البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية، وهو يعترف بذلك بالفعل ويذهب إلى أن علم النفس هو العلم الفلسفي الحقيقى عن جدارة. والملاحظ أن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية، ولذلك نستطيع أن نفهم مصطلح “الطبيعة البشرية” باعتبارها العنوان العام لفلسفته على أنه الطبيعة السيكولوجية للبشر. ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث.
كما يقصد هيوم من تطبيق المنهج التجريبي على الموضوعات الفلسفية والأخلاقية أن يكون مُشِّرح الطبيعة البشرية، مثلما يفعل الطبيب ودارس الجسم الإنساني عندما يشرح الجسم ويكشف أن الأنسجة والتكوين الداخلي ووظائف الأعضاء. وهدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية في مجال الموضوعات الأخلاقية. كما يهدف هيوم من تشريح الطبيعة الإنسانية الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة. وقد أخذ إيحاءه في ذلك من الإنجاز الذي حققه نيوتن لعلم الطبيعة أو الفيزياء. اكتشف نيوتن عدداً قليلاً من المبادئ التي تحكم كل حركة فيزيائية سواء على الأرض أو في الأفلاك، وينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة، يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً مثلما أمكن لنيوتن أن يتوصل إلى مبادئ الطبيعة الفيزيائية ولأن العلم النيوتوني هو في الأساس علم للحركة، فقد نظر هيوم أيضاً إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم للحركة، لكنها الحركة النفسية لا الحركة الفيزيائية، وبذلك انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الانفعالات والأحاسيس، والمشاعر، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق.

لكن هيوم الذي بدأ بالاعتقاد في أن علم الطبيعة البشرية يجب أن يكون علماً لحركة النفس، وذلك في “بحث في الطبيعة البشرية” انتهى في مؤلفاته اللاحقة إلى النظر إلى ذلك العلم على أنه علم وظائف لا علم حركة، ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس. ولذلك فهو لم يطبق نموذج العلم النيوتوني بحذافيره، لأن المنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية لن يكون بحثاً عن الحركة مثلما هو الحال مع الفيزياء. بل سيصبح بحثاً عن الوظيفة. وهذا هو بالضبط ما يميز هيوم عن توماس هوبز مثلاً، وهو أيضاً السبب الذي جعل هيوم يتوصل إلى أن أفعال النفس صادرة عن ملكات معرفية وأخلاقية، وتحدث بتوسع عن الإدراك الحس والمخيلة والفهم باعتبارها ملكات معرفية.

إن سبب إعجاب هيوم بالعلم الطبيعي النيوتوني هو أن هذا العلم قد نجح في تفسير حركة الأجسام الأرضية والسماوية بقليل من المبادئ العامة والكلية، وهذا ما جعله يحاول دراسة الطبيعة الإنسانية بنفس الأسلوب الذي درس به نيوتن الطبيعة الفيزيائية، هادفاً التوصل إلى أهم القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني، الأخلاقي والمعرفي والسياسي والاقتصادي. وكان هيوم ينظر إلى المنهج التجريبي على أنه هو المنهج العلمي، وأن الدراسة العلمية للطبيعة البشرية هي دراسة من منطلق المنهج التجريبي.
ومن متطلبات المنهج التجريبي رفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، بل ترك البحث يأخذ مجراه الطبيعي ملاحظاً سلوك الإنسان تاركاً التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، مثلما كان يفعل الفلاسفة القدماء، ولا يمكن أيضاً الانطلاق من ملاحظة سلوك الباحث نفسه والتأمل في ذاته على طريقة ديكارت. ذلك لأن هيوم يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. هذه الطريقة استخدمها ديكارت، وتوصل بها إلى أن الإنسان ذو طبيعة مفكرة في الأساس ويوجد باعتباره شيئاً مفكراً، وما الجسد الإنساني سوى ملحقاً بالعقل. وقد توصل ديكارت إلى هذه النتيجة الخاطئة من وجهة نظر هيوم لأنه اعتمد على التأمل وحده وعلى الحدس الداخلي الذي أثبت به وجود الأنا أفكر ووجود الإله والعالم، وعندما يعكف المفكر على تأمل فكرة ذاته وحسب يدرك خطأ ً أنه وجود مفكر وحسب. وفي مقابل ديكارت يرفض هيوم طريقة التأمل الداخلي هذه ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف. وفي ذلك يقول هيوم

.
وتقترب طريقة تفكير هيوم من نيوتن ومنهجه في جانب أساسي من فلسفته، وهو المتعلق بالمعرفة. ذلك لأن نيوتن قد درس الطبيعة على أنها مكونة من ذرات بسيطة ومن حركة عامة هي الجاذبية. وهيوم كذلك يدرس الطبيعة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار. وترابط الأفكار هذا ينظر إليه هيوم على أنه شبيه بالتجاذب بين الأجسام في مجال الفيزياء النيوتونية. يقول هيوم في ذلك “هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي”.

يُشِّبه هيوم في هذا النص ترابط الأفكار وفق مبدأ عام بالاتحاد والتفاعل بين الأجسام الفيزيائية وفق مبدأ الجاذبية، وهو يستعير نفس مصطلح “الجاذبية” ليصف ما يحدث بين الأفكار في المخيلة والذاكرة، وهو ذاته المصطلح الذي يصف حركة الأجسام في الفيزياء النيوتونية.
ينطلق هيوم في بحثه في الطبيعة البشرية من فكرة أساسية، لم يتوصل إليها ببرهان عقلي أو استدلال، بل عن طريق ملاحظة سلوك البشر. تذهب هذه الفكرة إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني، سواء كان معرفياً أو أخلاقياً أو فنياً، هو الإحساسات. فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأحمر نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم، ونسعى بذلك للحصول على اللذة وتجنب الألم. والطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شئ ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر. أما العقل فلا يحتل دوراً في هذه المجالات، ويقتصر دوره على المجال العلمي وحده. والهدف الأساسي لدى هيوم هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية التي تجعلها تسلك سلوكها المعروف عنها. وأهم توجهات الطبيعة الإنسانية التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي الانفعالات. ويعلي هيوم من شأنها حتى أنه يعطيها الأولوية على العقل ذاته، ويجعل العقل نفسه خاضعاً لها. ويقول في ذلك “العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شئ سوى أن يخدمها ويطيعها”.
والحقيقة أن هذه النظرة للطبيعة الإنسانية والتي تعطي الأولوية للانفعالات على العقل مناقضة تماماً للنظرة التقليدية للإنسان والتي سادت التفكير الفلسفي منذ أرسطو الذاهبة إلى أن الإنسان كائن عقلاني في الأساس، والتي تُعِّرفه على أنه حيوان ناطق، وتميزه عن باقي الكائنات الحية بما لديه من عقل وقدرة على التفكير. لكن هيوم يقف ضد هذا الميراث الطويل ويقر بأن الانفعالات والأحاسيس والعواطف هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية. وقد كان مبرره في ذلك قوياً، لأن الإنسان يسلك في حياته اليومية حسب نفس الصفات التي حددها هيوم للطبيعة البشرية، بالإضافة إلى أن استخدام العقل والتفكير العقلاني مقصور على الممارسة العلمية. إذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الانفعال والإحساس والعاطفة لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فحسب فلسفة هيوم فإن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. هذا الدور التنظيمي المحدود للعقل يجعل للانفعال الأولوية القصوى لدى هيوم، فلا يمكن للشئ الذي يقتصر دوره على التنظيم أن يكون موجهاً، أو دافعاً للسلوك، بل إن العقل نفسه لدى هيوم يعد ملكة في خدمة الانفعال، حيث تضفي شيئاً من العقلانية والتبرير العقلاني المنطقي لدوافع وتوجهات ليس لها أدنى علاقة بالعقل بل تنتمي كلها إلى الانفعال. ويصر هيوم على أن العقل ليس له أي دور في حياة البشر وسلوكهم. كما أن دوره منعدم في مجال الاعتقاد، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد وعلى أساس العقل وحده لا يمكن الوصول إلى أي اعتقاد، وإذا كان البشر يسلكون وفقاً للعقل لتوقفوا عن الإيمان بأي اعتقاد لكن هذا غير صحيح بالمرة، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل أى دور في حياتهم.

كتاب بحث في الطبيعة الإنسانية

يتكون كتاب “بحث في الطبيعة الإنسانية من ثلاثة كتب، الأول عن الفهم، وفيه يتناول هيوم الأفكار من حيث أصلها وأجزاءها وما يجري عليها من تجريد وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد والاحتمال. والكتاب الثاني عن الانفعالات، وفيه يتناول هيوم الكبرياء والتواضع، والحب والكره، والإرادة. والكتاب الثالث عن الأخلاق، وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلم، والخير والإحسان. والكتاب بهذه الصورة يحتوي على نظرية في المعرفة في الكتاب الأول، وسيكولوجيا للانفعالات في الكتاب الثاني، ونظرية أخلاقية في الكتاب الثالث. لكن سبق أن قلنا أن أساس نظرية هيوم في الطبيعة البشرية هو النظرة إلى الكائن البشري من منطلق الانفعال لا العقل، ولذلك فإن البداية الحقيقية لنظرية هيوم هي في الكتاب الثاني حول الانفعالات لا الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة. وهذا ما جعل أبرز الباحثين في فلسفة هيوم وهو نورمان كيمب سميث إلى الذهاب إلى أن الكتاب الثاني هو البداية الحقيقية لفلسفة هيوم، وما الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة سوى تطبيق لنظرية حول الانفعالات لم يقدمها هيوم إلا في الكتاب الثاني. وقد ذهب كيمب سميث إلى أن بداية هيوم بالمعرفة كانت خاطئة، إذ كان عليه أن يبدأ بالانفعالات منطلقاً منها إلى المعرفة والأخلاق لا العكس، وأن هذه البداية الخاطئة أدت إلى سوء فهم لفلسفة هيوم، إذ أدت إلى اشتهار هيوم بأنه فيلسوف الشك، وإلى النظر إلى الفهم الإنساني على أنه يشكل أساس الانفعالات والأخلاق وهذا غير صحيح.

فلم يتبنى هيوم نظرة شكية في الفلسفة من منطلقات ابستمولوجية بل من المنطلق السيكولوجي الذي وضعه في الكتاب الثاني حول الانفعالات، ما الشكية الابستمولوجية عنده والتي تنصب حول السببية والاعتقاد وأفكار الجوهر والعلاقة سوى توسيع لنظرته الشكية حول الانفعالات. وهذا ما جعل سميث يعيد ترتيب أفكار هيوم ويبدأ بالانفعالات منتقلاً منها إلى الأخلاق وأخيراً إلى المعرفة.
هيوم قبل أن يعرض للانفعالات كان عليه أن يتعامل مع عناصر الإدراك الحسي البسيط، ومع الكيفية التي يفهم بها العقل الأشياء، فتلقي الانطباعات الحسية من الخبرة التجريبية له الأولوية على تكوين النفس للانفعالات. ويبدو أن هيوم كان مدركاً أن البحث في الطبيعة البشرية، حتى ولو كان أساسها انفعالي، يجب أن يبدأ بالقدرة على تلقي الانطباعات الحسية وتكوين الأفكار وإقامة الصلات بينها، فهذا هو أول مستوى يكشف عن تعامل الطبيعة الإنسانية مع الخبرة.

الانطباعات والأفكار

لا يطلق هيوم على موضوعات العقل مصطلح “الأفكار” كما فعل لوك، بل يطلق عليها “إدراكات”، وهو يقسم هذه الإدراكات إلى نوعين: الانطباعات والأفكار. ويميز هيوم بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى، ذلك لأنه كي يتمكن العقل من التفكير والاستدلال فيجب أن يكون حاصلاً في البداية على انطباعات تأتي من الإحساس والإدراك الحسي. وفي حين أطلق لوك مصطلح “الأفكار” على كل عناصر العقل سواء كانت حسية أو عقلية، مجردة أو انفعالية، فإن هيوم يضع في البداية “الإدراكات” ويقسمها بعد ذلك إلى انطباعات حسية وأفكار، محتفظاً في هذا التقسيم بالمعنى الأصلي للأفكار والذي يدل على الجانب العقلي المجرد من عناصر التفكير.
ويميز هيوم بين الانطباعات والأفكار على النحو التالي

إن الفرق بينهما يتمثل في درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي. فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية أفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأل مرة في النفس. وأعني بالأفكار الصور الخافتة لهذه في التفكير والاستدلال، مثل تلك التي تظهر في هذا البحث.

ومعنى هذا أن الفرق بين الانطباعات والأفكار هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة، والاثنان عنده من نوع واحد، إذ هما معاً إدراكات. وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة. وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً، بمعنى أنه لا يتلقى الانطباع الحسي نفسه بل يتلقى صورة ذهنية عنه.
ولأن هدف هيوم الأساسي سواء في الكتاب الأول من “بحث في الطبيعة البشرية” أو في كتابه الآخر في المعرفة وهو “بحث في الفهم الإنساني” الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة انفعالية في الأساس، فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار. ولأن الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة. ويمكننا النظر إلى هذه النظرية على أنها سيكولوجية أو تكوينية. فهي سيكولوجية لأنها ترد ا لمعرفة إلى تأثر الحواس بالأشياء في صورة انطباعات وأفكار، وهي تكوينية لأنها تتبع عملية المعرفة إلى أبسط مكوناتها أو مدخلاتها الأولى من الإحساسات. كما أنها في نفس الوقت تطورية، ذلك لأن النظر إلى المعرفة على أنها تبدأ بمرحلة الإحساس، ثم الإدراك الحسي الذي يتلقى الانطباعات ثم الذهن الذي تنطبع فيه الإحساسات في شكل صور ذهنية، ثم صنع الذهن من هذه الصور الذهنية لأفكار ثم لعلاقات، يعد نظرية تطورية في المعرفة، شبيهة بعلم النفس المعرفي التطوري عند جان بياجيه. ولقد سبق أن لاحظنا أن هذا التشابه مع بياجيه ينسحب على نظرية المعرفة عند لوك. ولذلك ينظر إلى لوك وهيوم على أنهما من إرهاصات علم النفس المعرفي الحديث، ومن الممهدين لبياجيه. والذي يجعل نظرية هيوم في المعرفة نظرية سيكولوجية أنها تركز على عملية التفكير باعتبارها عملية وظيفية إجرائية، حتى أنه يميل إلى النظر إلى الانفعال المعرفي للذهن البشري على أنه يرجع إلى ملكات ذهنية، إذ يذهب في سياق شرحه لنظريته في المعرفة إلى النظر إلى الإحساسات والربط بينها على أنها وظيفة لملكة الذاكرة والمخيلة على التوالي، والنظر إلى وظيفة الربط بين الانطباعات والأفكار على أنها وظيفة لملكة الفهم. هذا التأكيد على الملكات المعرفية باعتبارها قائمة بوظائف هو الذي يميز نظرية هيوم عن نظرية لوك، وهو أيضاً الذي جعل هيوم هو المؤثر الأكبر على كانط الذي سوف تكتمل على يديه نظرية المعرفة باعتبارها نظرية في وظائف وملكات الذهن البشري.

ويضيف هيوم إلى نظريته حول العلاقة بين الانطباعات والأفكار توضيحاً ضرورياً، يقول فيه أنه مثلما أن الأفكار صور للانطباعات، فيمكننا أن نكوِّن أفكاراً ثانوية تكون صوراً للأفكار الأولية. فاللون الأحمر الذي أفكر فيه هو صورة ذهنية لإدراكي الحسي لهذا اللون، وهذه الصورة الذهنية هي فكرة أولية، تؤدي إلى تكوين لفكرة ثانوية تكون صورة ذهنية من مستوى ثاني أكثر تجريداً عن فكرة اللون ذاتها. ويذهب هيوم إلى أن هذا التمييز بين فكرة أولية وفكرة ثانوية ليس استثناءً من نظريته حول أولوية الانطباعات على الأفكار بل هو تأكيد لها، ذلك لأن هذا التمييز يثبت إمكان أن تقوم الفكرة الأولية بدور انطباع من مستوى ثاني يؤدي إلى ظهور فكرة ثانوية. ومعنى هذا أن ما يسميه هيوم بالانطباع ينسحب على ما تستقبله الحواس من إدراكات، وأيضاً على ما يستقبله العقل من أفكار أولية.
ويميز هيوم بين نوعين من الانطباعات: انطباعات الإحساس وانطباعات التفكير أو الانعكاس. ويقول عن انطباعات الإحساس أنها “تنشأ في النفس أساساً، من أسباب غير معروفة”.
لكن كيف تكون أسباب انطباعات الإحساس غير معروفة؟ إن هذا التصريح من قبل هيوم يعد من أكثر أجزاء فلسفته غموضاً، وكان مصدراً لاعتراضات كثيرة من قبل دارسي فلسفته، ويمكننا تبرير فكرة هيوم هذه بمعرفة رأيه في النفس. كان الأحرى لهيوم أن يؤكد تأكيداً حاسماً على أن انطباعات الإحساس تتمتع بصحة ويقين مطلق مثلما ذهب لوك، إلا أنه لم يفعل ذلك واختلف عنه. وتعد هذه النقطة من أهم الجوانب التي اختلفت فيها تجريبية هيوم عن تجريبية لوك. إن هيوم في العبارة السابقة لا يتحدث عن وجود الانطباعات الحسية ذاتها، فهو لا يشك في وجودها أو في الموضوعات الحسية التي تؤثر على أعضاء الحس، بل يشك في كيفية الانطباع نفسه، في النفس الإنسانية، ذلك لأن عملية الانطباع في حد ذاتها تنطوي على موضوع مدرك حسياً ينطبع في النفس، وعلى النفس التي يظهر فيها الانطباع. لا يشك هيوم في وجود وحقيقة الموضوع المنطبع أو الانطباع ذاته، بل يشك في موضوع الانطباع وهو النفس، ذلك لأن النفس ذاتها لا تعرف بانطباع حسي بل بعملية استدلال عقلية مجردة. وما يعرف بانطباع حسي يكون ضرورياً، أما ما يعرف باستدلال وبرهان يكون احتمالياً. كيف إذن تُعرف الانطباعات الضرورية بشئ محتمل مثل النفس؟ وكيف يُعرف ما هو مباشر وغير متوسط عن طريق وسيط غير مباشر وغير واضح لدى الذات الإنسانية أثناء عملية الانطباع؟ كل هذه الصعوبات هي التي جعلت هيوم يضع العبارة السابقة التي يشك فيها في أسباب نشوء الانطباعات الحسية في النفس، ذلك لأن النفس لا تعرف مباشرة وبوضوح أثناء عملية الانطباع، وتأتي معرفتها بعد ذلك بممارسة التفكير في العمليات الذهنية التي تقوم بها. وكل ما نعرفه عن النفس هو تلك العمليات الذهنية، أما النفس ذاتها من حيث الجوهر فلا نعرفها، ذلك لأن هيوم لا يعتقد في أن النفس الإنسانية جوهر ثابت بعكس ما ذهب ديكارت ولايبنتز، وكل ما نعرفه عنها هو آثارها وأفعالها، وهي في حقيقتها ليست سوى هذه الأفعال، فهي وظيفة وليست جوهراً ومن أجل ذلك ذهب إلى أن سبب الانطباع لا يمكن معرفته بما أننا لا نعرف النفس معرفة حقيقية باعتبارها جوهراً. وإذا فكرنا في النفس على أنها ليست سوى مجموعة من الأفعال الذهنية فكأننا بذلك نردها إلى وظيفتها الحسية وحسب، أما جوهرها العقلي فلا يمكن معرفته. وإذا كانت النفس هي سبب نشوء الانطباعات فيها لكانت بذلك جوهراً، لكنها ليست جوهراً، بالتالي فسبب الانطباعات لا يمكن معرفته. أما انطباعات التفكير فيذهب هيوم إلى أنها ترجع إلى الأفكار. فعندما يؤثر انطباع ما على أعضاء الحس ويجعلنا ندرك الحرارة أو البرودة، العطش أو الجوع، اللذة أو الألم، فإن لهذا الانطباع نسخة أخرى يستقبلها العقل تبقى فيه بعد أن يختفي الانطباع، وهذه النسخة هي ما يسميها هيوم فكرة. هذه الفكرة عن اللذة والألم عندما ترجع إلى النفس، تنتج انطباعات جديدة بالرغبة والإحجام، أو الرجاء والخوف، وهي ما يطلق عليه هيوم انطباعات التفكير لأنها مستقاة من التفكير حول الانطباعات الأولية السابقة. ومعنى هذا أن انطباعات التفكير تسبق الأفكار، لكنها لا تعتمد على انطباعات الإحساس. وبذلك يمكننا ترتيب العملية الذهنية في الترتيب التالي: انطباعات الحواس ، وأفكار أولية، وانطباعات التفكير، وأفكار ثانوية، وأفكار مجردة (المكان والزمان والسببية والاعتقاد

المعرفة وحدودها عند الفيلسوف جون لوك

جون لوك (29 أغسطس 1632 – 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke)‏ هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك)

درس جون لوك في كرايست تشيرش

في أكسفورد وأصبح طبيباً ومستشاراً للايرال أوف شافتسبري. ثم تحّول إلى الفلسفة، فأنتج طوال فترة عملية غير قصيرة مؤلفاً قيِّماً في موضوع المشكلات التي يستطيع الفهم البشري التعاطي بها .
وقد تولى لوك عدداً من المناصب الحكومية، ولكنه فقد حظوته لما نُفي شافتسبري عام 1683م، ولكن الملك وليام الثالث من إنكلترا رحّب بعودته وعيّنه مستشاراً للحكومة في ميدان سكّ النقد.
في عام 1667 أصبح طبيباً خاصاً لأسرة أنتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في (1689–1692) مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.
اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان “مقالتان عن الحكومة” تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر وليس ضد هوبز كما كان يظن البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة الشرطة له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها: مقال خاص بالفهم البشري

وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704. كان لجون لوك دور كبير غير مباشر في الثورة الأمريكية إذ أن كتابه ((رسالتان في الحكم)) كان محط إعجاب الأمريكيين وكانت من ضمن آرائه في الكتاب أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية ويجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته، وقد ساهمت آرائه في زيادة وعي الأمريكيين الذين اعتنقوا آرائه وقرروا تنفيذها.ومن أشهر عباراته الفلسفية”الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً…. وتتم مقاومتها غالباً… لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد”

فلسفة جون هوك

•••••••••□□□□□□□□□□□□□□□□

لقد كان لوك فيلسوفا تجريبيا حسيا ومن أكبر أعمال لوك مقال عن الفهم الإنساني الذي يشرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم. اشتهر جون لوك زعيم الحسيين بعبارته المشهورة:”إذا سألك سائل:متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة:عندما بدأت أحس”.لقد سلم لوك بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده وإمكانياته وقد وضح ذلك في معظم كتبه ولا سيما كتابه (مقال في الفهم الإنساني) وكتابه (عن العقل البشري)وخلاصتهما أن العقيدة السائدة قبل لوك هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار الفطرية الموروثة منذ الولادة دون أن يكتسبها العقل من التجارب التي تمر به أثناء الحياة ولقد بلغ من رسوخ هذا المذهب في نفوس أنه لم يكن يستهدف حتى لمجرد البحث والجدل.وكان ديكارت من أشد المدافعيين عن صحته وتبوته، أما لوك فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء الفطرية بأشد الإنكار.ويقول في ذلك “انها ((أي الأفكار الفطرية))ليست مطبوعة على العقل بطبيعتها، لأنها ليست معرفة بالنسبة للأطفال والبلهاء وغيرهم.
ظهرت فلسفة لوك في عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التي كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى في كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التي أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني في نفس الوقت(3 )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية. ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التي تجمع في نفس الوقت بين حق الملكية الذي يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التي تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذي يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفي نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة في اعتماد العقل حكماً في كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التي وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التي تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحي من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذي سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحي والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية في اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى. ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً في المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذي تحرر العقل عندهم من أي تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هي طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التي صنعت نفسها وثروتها بالانشغال في العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهي كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية في فلسفة لوك هي التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك في المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، في مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهي الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.

مراتب المعرفة وحدودهاعدل

يذهب لوك إلى أن العقل البشرى يستطيع الوصول إلى الصدق والحقيقة في معارفه، ولذلك فهو يرفض وجهة النظر الشكية رفضاً تاماً. والحقيقة أن مذهبه التجريبى كان يمكن أن يؤدى به إلى نزعة شكية، مثلما هو الحال عند هيوم، وذلك من منطلق أن كل معرفة تأخذ نقطة انطلاقها من الحواس والإدراكات الحسية معرضة للشك. لكن نفس المنطلق التجريبى الذي أدى ببعض المذاهب الفلسفية إلى الشك مثل مذاهب الشك اليونانية كمذهب زينون الإيلى والمذهب الشكى الحديث لدى هيوم، يؤدى لدى لوك إلى القطع بيقين وصحة المعرفة الإنسانية. وتنقسم المعرفة عند لوك حسب طبيعتها ودرجة اليقين فيها إلى معرفة حدسية intuitionist ومعرفة استدلالية demonstrative( 44). والمعرفة الحدسية عنده أكثر يقينية وصدقاً من المعرفة الاستدلالية. وهذا الرأى غريب بعض الشئ، ذلك لأن لوك يرفض فيه أن تكون المعرفة القائمة على مبادئ عقلية مجردة تستخدمها في براهين للوصول إلى الصدق ذات أولوية أو أفضلية على المعرفة الحدسية، ذلك لأنه يرفض نظرية الأفكار الفطرية منذ البداية، ويرفض فكرة أن يكون لدى العقل البشرى مبادئ قبلية يتوصل بها إلى حقائق بالاستدلال والبرهان. ولذلك لا ينتمى لوك إلى فئة الفلاسفة العقليين الذين يعطون الأولوية للمعرفة الاستدلالية من مبادئ عقلية، وينضم إلى فئة التجريبيين. ويبدو لأول وهلة أن إعطاء لوك الأولوية للمعرفة الحدسية متناقض مع مذهبه التجريبى، ذلك لأن رده كل المعرفة البشرية إلى الخبرة التجريبية يجعل قوله بأولوية المعرفة الحدسية متناقضاً، وهو تناقض ينشأ عن الاعتقاد في أن الحدس الذي يقصده لوك هو فعل روحى خالص متحرر من أى خبرة تجريبية. لكن مفهوم لوك عن الحدس مختلف تماماً عن أى معنى عقلى أو مثالى للحدس، فالحدس عنده تجريبى تماماً؛ إذ هو قوة في الذهن يستطيع بها إدراك الحقيقة تماماً كما تدرك الحواس الأشياء( 45)، ولذلك فهو في نفس مرتبة الإدراك الحسى. وإذا كان الإدراك الحسى هو الفعل الذي تقوم به الحواس، فإن الحدس هو الفعل الذي يقوم به العقل، وهذا الحدس هو نوع من الإدراك الحسى الخاص بالعقل. وعلى الرغم من أن هذا الحدس غير حسى، إلا أنه مثل الرؤية الحسية تماماً، فهو مباشر وغير متوسط، وفيه لا ينشغل العقل بإثبات أو فحص أى شئ برهانياً، بل يدرك الحقيقة مثلما تتلقى العين الضوء بمجرد أن تتوجه إليه. وما يجعل لوك يعطى الأولوية للحدس أن كل برهان أو استدلال في الدرجة الثانية من المعرفة وهي المعرفة الاستدلالية تعتمد على حدس مباشر وواضح، إذ تبدأ بهذا الحدس صانعة منه كل العلاقات والارتباطات بين الأفكار. ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة في طريقها بالطريقة المنطقية، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التي يتبعها العقل في معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هي ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل في إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التي ترجع إلى الإدراك الحسى

ومعنى هذا أن الحدس الذي يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هي الفهم الإنسانى والتي تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى. والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التي تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة

. وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار. والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل عن الإدراكات الحسية، واتفاقها فيما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هي المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهي المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التي يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علم مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة في إدراك حسى بل هي مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذي يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية في الصغر والكسور والأعداد المتناهية في الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين في الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذي يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهي كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل في الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة في الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً في الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها في الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، في صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة في ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق في الواقع. أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذي تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذي هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة. أما معرفة الإله فهى معرفة برهانية استدلالية، إذ نعرف وجود الإله من ملاحظتنا للترتيب والنظام في الطبيعة متوصلين بذلك استدلالياً إلى ضرورة وجود كائن وضع هذا النظام والترتيب. أما وجود العالم فهو معرفة حسية، إذ نعرف وجوده بما نتلقاه من إحساسات بأشيائه المختلفة.

المصادر

رسالة في التسامح / جون لوك

مقال في الفهم البشري / جون لوك

فلسفة الجمال عند الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل1770-1831

فلسفة هيجل الميتافيزيقية

تعتبر فلسفة هيجل ذروة ما بلغته الفلسفة المثالية في ألمانيا، فهي أشمل من أطروحات أستاذه فتشه وزميله شلنج، رغم أنه استعان بأطروحاتهما، فقد كان مهتماً بأطروحاتهما الفلسفية ومطلعاً عليهما اطلاعا تاماً، حتى أن أول كتاب نشر له كان عنوانه “في الفرق ما بين نسق فيتشه ونسق شلنج في الفلسفة”…

لقد ولد هيجل في سنة 1770 م من أسرة تنتسب إلى الطبقة الوسطى، هاجرت عائلته من إقليم كرنيتا في النمسا لأسباب دينية واستقرت في إقليم اشفابن جنوبي ألمانيا، فقد لاقت عائلته اضطهاداً دينياً لأنها تنتمي إلى المذهب البروتستنتي. تلقى تعليماً عالياً في صغره، فأبوه كان موظفاً عالي الرتبة، درس هيجل اللاهوت والفلسفة في معهد توبنجن، ولكنه لم يمارس مهنة القسيس كما كان ينبغي، بل انتقل في سنة 1793 م إلى برن ومن ثم إلى فرانكفورت للعمل بوظيفة مربٍ لأبناء العائلات الثرية.

بعد ذلك، أنتقل إلى يينا في سنة 1801 للالتحاق بفتشه وشلنج، وكانت محطة مهمة في حياة هيجل الفلسفية، فقد دشن فلسفته فيها من خلال إلقاء محاضرات تعتبر لب فلسفته المعروفة في التاريخ وظاهريات الروح، وبدا نجم هيجل في تصاعد، وبعد بضعة سنين ذاع صيته في ألمانيا كلها وأصقاع أخرى من أوربا، وتجمّهر حوله التلاميذ والإتباع، وأضحت فلسفته تمثل مدرسةً فلسفيةً بعد أن بلغت شهرته أوّجها في مرحلة مقامه في “برلين” سنة 1818م، ولكن لم يطل به المقام، إذ مات في سنة 1831م بداء الكوليرا في ذات المدينة.

لعل أفضل تشبيه نستطيع أن نشبه به فلسفة هيجل هو الهيكل المشيّد البناء، والشاهق الطول، والمنسجم الأبعاد، فمذهبه هو عبارة عن نسق متكاملة، ولا مشاحة أن يهتم هيجل هذا الاهتمام ببناء فلسفة على هذا الأساس المتقن، إذ أن الفكر الذي لا يصاغ بهذه الصورة النسقيّة لا يعتبر فلسفة علمية لدى هيجل الذي يقول: “وما لم تشكل الفلسفة نسقاً فإنها لن تكون نتاجاً علمياً”.

مذهب هيجل هو عبارة عن ثالوث فلسفي، كل حلقة من هذا الثالوث ينقسم بدوره إلى ثالوث فرعي، وتنقسم هذه بدورها إلى حلقات فرعية أخرى، وهكذا تنقسم فلسفته في إطارها العام إلى ثلاث حلقات رئيسية هي: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وتنسجم هذه التقسيمات والحلقات مع منطق فلسفة هيجل الجدلية.

المنطق في مذهب هيجل الفلسفي هو مقولة الفكرة في ذاتها (وهي القضية)، وفلسفة الطبيعة هي الفكرة في الآخر أي في تخارجها إلى الموضوعات (وهي النقيض)، والقسم الأخير من الثالوث الهيجلي هو الروح المطلق، إذ أنها (المركب) الذي يتكون من القضية ونقيضها، وتتجلى الروح المطلقة فيه عن نفسها في العالم عائدةً إلى ذاتها بعد أن فارقتها في مرحلة النقيضة. هذا ما يعرف بالديكالطيقي الهيجلي، وأضحى له شأناً عظيماً في فلسفة التاريخ، إذ صور التاريخ في صيرورة دينامية تسير على هدى هذا المنهج.

تنطلق فلسفة هيجل بدايةً من المنطق، لأنه هو ” علم الفكرة في وسطها الفكري الخالص “… أي أنه ” علم الفكر: بقوانينه وأشكاله المتميزة ” (موسوعة العلوم الفلسفية – ص 79) الذي يهتم بمقولات ونشاطات العقل من حيث أنه هو ذاته، وعلى هذا الأساس يؤكد هيجل على أنه لا ينبغي أن ” يُفهم على أنه يعني منهجاً أو صورة، بل على أنه يعني الشمول الذي يتطور ذاتياً لقوانينه، وأشكاله الخاصة، وهذه القوانين هي عمل الفكر نفسه، وليست مجرد واقعة حقيقية يكشفها، ولابدّ أن يخضع لها”

وطالما أن المنطق هو مقولة الفكرة في ذاتها، فإن الطبيعة هي الفكرة في الآخر، وهي تتلمس ذاتها في العالم الواقعي ، إذ أنها “تتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفسها وتستبطن في فكرة الإنسان” في النهج الديكالطيقي، الطبيعة هي المرحلة الثانية، وهي نقيضة القضية الأولى (الفكرة/العقل)، على أنه لا ينبغي أن ننظر لمفهوم الطبيعة هنا على أنها خروج عن الفضاء الفكري والروحي، فالطبيعة ليست إلا الفكرة، ولكنها في تخارجها عن ذاتها، ففلسفة هيجل لم تهتم بالمادة في الطبيعة، وإنما بفكرة الطبيعة، بخلاف العلوم التجريبية، وكان هيجل يحرصّ على أن لا يزاحم الفيلسوفُ العالِمَ الطبيعي في حقله المعرفي.

وفي فلسفة الروح، وهي المرحلة الأخيرة من الثالوث الهيجلي، نصل إلى مربط الفرس في فلسفة هيجل فيما يتعلق بمبحثنا هذا، لأن الروح المطلق تتمثل في الفن، وكذلك في الدين والفلسفة، وهذه هي ذات” فينومينولوجيا الروح التي يرينا فيها هيغل الوعي وهو يترقى رويداً رويداً من الإشكال الابتدائية للإحساس وصولاً إلى العلم، ثم المنطق حيث يتحدد التصور في ذاته، ثم فلسفة الطبيعة التي تشير إلى اللحظة التي يغدو فيها الروح غريباً عن نفسه، وأخيراً فلسفة الروح التي تبين عن عودة الروح إلى ذاتـه في القانون والأخلاق والدين والفلسفة، فالمذهب إذن ملحمة رحيبة للروح “تجربة” كما يقول هيغل نفسه”.

هذه الملحمة تشبه ملحمة الأوديسة، التي يغترب فيها الملك “عوليس” في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، ثم يعود بعد غياب طويل إلى وطنه وزوجه، فالفكرة في تخارجها عن ذاتها للطبيعة، تشعر بالاغتراب، والحنين إلى العودة إلى ذاتها تارة أخرى، ولكنها هذه المرة، لا تعود كفكرة في ذاتها كما في المرحلة الأولى، بل تعود محملة بعلوم عن الآخر، فتتحوّل روحاً مطلقاً، لأن الروح لا يمكن أن تستقل بإدراك ذاتها وحسب، ولكن لابد لكي تبلغ أوّجها أن تدرك الآخر، وعودة الفكرة إلى ذاتها حينئذٍ هو تجلّى للروح المطلق بكل جلالها وعظمتها، ولا غرو أن تكون هذه محط فلسفة هيجل كلها في فلسفة الحضارات الإنسانية من تاريخ وقانون وأخلاق وفن ودين.

وتنقسم فلسفة الروح إلى ثلاث حلقات فرعية تندرج – كما قلنا آنفاً – إلى الثالوث الرئيسي من فلسفة هيجل المطابق للمنهج الديكالطيقي. (1) الروح الذاتية مضمونها هو العقل البشري منظوراً إليه نظرة ذاتية على أنه عقل الذات الفردية. أما في (2) الروح الموضوعية، فهي تبدأ بالخروج من ذاتها إلى الآخر في الخارج، هو عالم الموضوع، ولكنه ليس بالعالم المادي، بل هو العالم الروحي (الفكري) – أي عالم المؤسسات والتنظيمات: القانون والأخلاق والدولة. ويتحد الذاتي مع الموضوعي فيشكلان (3) الروح المطلق التي تمثل الروح البشري في تجلياتها في الفن والدين والفلسفة، وهذه المراحل لا ينبغي أن تفهم على أنها مراحل زمنية، ولكنها بالأحرى منطقية، إذ تُستنبط كل حلقة من الأخرى استنباطاً منطقياً.

  • فلسفة هيجل في الجمال والفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

فلسفة الجمال والفن لدى هيجل مشتقة من فلسفته الميتافيزيقية، وفي مقدور من أطلع عليها – ولو لماماً – أن يتكهن بفلسفته في الجمال، هيجل يستهل فلسفة الجمال من خلال فلسفته في الروح المطلق التي تنشأ من التضاد ما بين المتناهي واللامتناهي، كمركب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها – أي القضية ونقيضها، “فالروح يعقل التناهي بالذات بوصفه نفيه، فيدرك عن هذا السبيل اللامتناهي، وما حقيقة الروح المتناهي هذه سوى الروح المطلق، فالروح المطلق هي تلك الكلية هو الحقيقة العليا”

والجمال الفني هو موضوع للمتناهي، وهكذا يصبح جزءاً لا تجزأ من هذه الجدلية التي تحدث ما بين المتناهي واللامتناهي، ويتمخض عنها الروح المطلق.

وهناك رابطة أخرى ما بين الجمال الفني والروح المطلق، وهي رابطة الوعي بالحقيقة، فـ”أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم”

، وجمال الفن من هنا يتلاقى مع الروح المطلق بحكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة…!

فمكانة الفن في النسق الهيجلي الفلسفي تقبع في مرحلة الروح المطلق من فلسفة الروح، وهي آخر عماد في ثالوثه الفلسفي كما سبق أن ذكرناها، ويشترك مع الفن في هذه المنزلة الفلسفة والدين، لأنهم جميعاً يمارسون فعلهم على موضوع المطلق والحقيقة العليا.

ماهيـة الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يعرّف هيجل الفن بأنه تجسد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، “وتكمن مهمة الفن في التوفيق بين هذين الجانبين: الفكرة وتمثيلها الحسي بتشكيل كلية حرة منهما”

مقدار تطابق الفكرة مع الشكل هو الذي يحقق درجة سمو الفن، ولكي يحقق هذا، لابد أن يشتمل على عدّة شروط: أولاً: لابدّ أن يكون المضمون الذي ينبغي تمثيله صالحاً للتمثيل فنياً، ثانياً: لا يجوز أن يشتمل مضمون الفن على شيء مجرد، وثالثاً: يجب أن يكون الشكل والصورة عيّنيين في الجوهر ويتلاقيان وينسجمان مع بعضهما البعض، وهذا التطابق هو ما يكوّن “المثال”… عليه، يؤكد هيجل بـ”أن الفكرة والتمثيل يتطابقان في الفن الأكثر رقياً على نحو موافق للحقيقة، بمعنى أن الشكل الذي يتجسد فيه الفكرة هو الشكل الحقيقي في ذاته، وأن الفكرة التي يعبر عنها تشكل بدورها التعبير عن حقيقة”

وتشكلُ “المثال” في الفن الراقي هو الذي يقصيه عن التلبس بمفاهيم أخرى قد يتلاقى مع بعض أوجهها، مثل الرغبة وما تنطوي عليها من اللذة والألم، وهما من دواعي المادة، فالفن لا يرتكز على “الرغبة” وإن تلاقى معه في اهتماماته بالحسي، إذ أن الرغبة تنحو إلى الأشياء في الطبيعة مدفوعةً بشهوتها للاستهلاك بخلاف الفن الذي لا يخضع لرسم الاستهلاك، وبتالي النزعة الفنية لدى البشر منزهة عن الحسية النفعية.

ولا يعني هذا – طبعاً – بأن الفني يلغي الحسي إلغاءً تاماً، أو أنه ينشد الفكر المحض أو الكلاني (إذ أن هذه هي مهمة الفلسفة)، بل هو يكتفي بتجلي الفكر بالظاهر الحسي، من هنا يخبرنا هيجل بأن الفن يحتل “منتصف الطريق بين الحسي المحض والفكر المحض، يمثل الحسي بالنسبة إلى الفن لا المادية المباشرة والمستقلة، مادية النبات والحجر والحياة العضوية على سبيل المثال، وإنما المثالية التي لا يجوز الخلط أصلاً بينها وبين مثالية الفكر المطلق”

… ولا يقصد هيجل بظاهر الحسي هو أن الفن لا يلامس الأعماق، ولكنه يقصد بأن الفكرة في الفن تتجلى في شكل حسي، ندركها بحواسنا، فالمنحوتة الفنية على سبيل المثال تعبر عن فكرة في صورة مجسمة، فالظاهر الحسي هو الشكل الفني.

لذا، الفن من منظور المظهر الذاتي عبارة عن نشاط روحي وحسي معاً، ليس آلياً كما هو الحال مع الأشياء في الطبيعة، ولا عملياً كما هي مع الأفكار الفلسفية، لذا “هذا النشاط لا يتعامل مع أفكار محضة أو مجردة، بل ينبغي أن يكون في آن واحد حسياً وروحياً”

. منتجات هذا النشاط لدى هيجل هي من إبداع التخيّل، فإن كان الفن مضمون روحي يتم التعبير عنه عن طريق التمثيل الحسي، فإن “التخيل هو الذي يضفي على هذه المضامين أشكالاً حسية”

والتخيل هو المجازى الذي يضفي معنى على الفن، فيقدمه من صورة حسية سواء كانت قصيدة أو رواية أو رسمة أو غير ذلك من صنوف الأشكال الفنية الجمالية…!

جمال الفن والطبيعة

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يساهم الفن في إبراز الوعي الذاتي للروح المطلق، لأنه التعيين “الحقيقي” الفردي لها في الخارج من خلال تمثيلها تمثيلاً حسياً، فالفن من حيث أنها موضوع للحقيقة هو الذي ” يعقل ويمثل الوجود بوصفه حقيقياً في تظاهراته الظاهراتية، أي في توافقه مع مضمون متماسك المنطق تجاه ذاته، وله بذاته قيمته الذاتية، ليس حقيق الفن إذن الصوابية المحضة البسيطة، وهو ما يقتصر عليه ما يسمى بمحاكاة الطبيعة، بل على الفن كيما يكون حقيقياً، أن يحقق التوافق بين الخارج والداخل”

، وهذا لا يتأتى للطبيعة ، لأنها عاجزة عن جعل هذه الحقيقة مدركة بموجودات جزئية مثل الشمس والقمر، بحكم خصوصياتها بالذات وجمودها.

وهذا ما دفع بهيجل إلى أن يميل إلى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة، يقول هيجل مؤكداً على هذا: ” في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فأن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن”.

كما أنه يقرر بأن هناك فرق ما بين الحسي (الطبيعي) وبين العمل الفني الموضوعي، فرغم “أن العمل الفني يعرض نفسه لحدسنا أو لتمثلنا الحسي، الخارجي والداخلي، تماماً كما تفعل الطبيعة الخارجية أو طبيعتنا الذاتية الداخلية” إلا أن الحسي في الفن “يوجد أساساً وجوهراً من أجل الروح… والجانب الحسي في العمل الفني لا يوجد ولا يجوز أن يوجد إلا من أجل الروح”

والنظرية الكلاسيكية التي تصرّ على أن دور الفن هو محاكاة الطبيعة لأنه يشترك معها في الجانب الحسي هي نظرية باطلة في رأي هيجل، فهذه النظرة تتجاهل “المثال” في الفن الذي يميّزه عن الطبيعة… فضلاً على أن الطبيعة فاقدة للحرية، بخلاف الفن الذي يقوم على الحرية، بحكم أنه هو الممثل للروح المطلق في الحسيّ.

الفن والأخلاق

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طالما أن جمال الفن هو جمال خالص يسمو على الأغراض والرغبات، فلابد – إذن – أن يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق، بل أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه، “فلئن لم يكن بد بأي ثمن من غزو هدف نهائي إلى الفن، فإن هذا الهدف يجب أن يكون من طبيعة يكفي معها نفسه بنفسه، وعليه، لا يمكن لغايته المفترضة إلا أن تكون غاية في ذاتها”

ولا يرى هيجل بأن الفن خاوٍ من كل دلالة أخلاقية، ولكن يرفض أن يكون هو الغاية النهائية للفن، كما “لا يرى مانعاً أيضاً أن توجد الوصايا الأخلاقية في العمل الفني بشكل ضمني، بشرط ألا تظهر فيه بصورة جلية ولا تقدم لنا كواجب ينبغي العمل به” .

أنواع الفن وتمظهر فكرة الجميل في الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

بعد أن بيّن لنا هيجل “فكرة الجمال” في الفن، أخذ يرصدها في صنوف الفنون وأشكاله عبر التاريخ، من هنا يربط فلسفة الجمال بفلسفة الروح والتاريخ معاً.

فدرجة الجمال في الفن تعتمد على مدى تطابق المضمون مع الشكل وتعيّنات الفكرة في الواقع، ثم تماهيهما في “المثال” كجوهر واحد، وعلى هذا الأساس، صوّر هيجل أشكال هذه العلاقة التي تربط الروحي بالحسي في آصرة الفن في ثلاثة أشكال:

المرحلة الرمزية – الفن المعماري

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طبعاً هيجل لا يقصد بهذا الفن الرمزي الذي يذهب إلى أن التعبير عن التجربة الفنية يتم من خلال إيحاء تصويري ترمز للعاطفة والأفكار الجمالية التي يراد توصيلها كما قد نظن لأول وهلة، ولكنه يقصد بها تخلف المادة الحسية عن التعبير عن الفكرة، فالشكل الفني هنا فقط يشير إلى الفكرة رمزاً، ولكن يفشل في الإفصاح عنها إفصاحاً خليق بالفكرة ذاتها، يلخص الدكتور نوكس مراد هيجل في الفن الرمزي، فيقول: “في هذا الفن تبدو الفكرة غامضة مشوشة وغير محددة، فلم تستطع إخضاع المادة، هناك قصور في الفكرة قصور وفي المضمون الأمر الذي نتج عنه بالتالي قصوراً في الشكل”

يرجع هيجل هذه المرحلة إلى نتاج الحضارات الشرقية القديمة في الفن، إذ “أنه يقدم لنا مدلولات غير متفردة بعد، وبمعنى أن الأشكال المرتبطة به يمكن أن تكون متطابقة وغير متطابقة على حد سواء”

. إذن الفن المعبرة عنه من خلال الرموز هو فن ملتبس وغامض، في حاجة إلى كدّ ذهني كيما يتم رفع الستار عن المعنى المحجوب، وهذا ما نشهده مثلاً في الفنون القديمة، سيما لدى الهنود والفراعنة، فهذه الحضارات عبرت عن معانٍ في قوالب رمزية مجسدة لا تشكل “المعنى” المراد وفقاً لرأي هيجل، فتم مثلاً تصوير “القوة” في شكل حيوانات مثل الأسد، مع أنها ليس هي حقاً مغزى “الفكرة”، وهذا يعتبر تطاولاً على الفكرة ذاتها وتمددها الحر – هكذا يفقد الفن الرباط الذي يبقي الفكرة مطابقة للجسد بكل عفوية وحرية، فتنفصل الفكرة عن تعيّينها في الخارج الحسي حيث أنها “حرية مجردة ولا متناهية تطلق العنان لنفسها فيها تراهم [أي الفراعنة والهنود القدماء] لرغبتهم في جعل المادة مطابقة يدفعون بها نحو المسيخ، ويشوهون الشكل ويجعلونه غريباً بشعا أو تراهم يدرجون الفكرة الكلية في الأشكال الأشد قبحاً “

ونشهد مثل هذه الأمثلة الكثير في أساطير الأولين، ففي ظل عجز الإنسان عصرئذٍ عن تفسير العالم حوله والتعبير عن أفكاره ارتمى في أحضان فن محفوف بالألغاز والأحاجي…!

فن العمارة هو الأبرز في هذه المرحلة، ففن العمارة تطوّر في ظل التعبير عن الإلهي، وذلك من خلال بناء المعابد، ولكن لم يكن في مقدوره أن يقوم بذلك، لسيادة المادة (فهو أكثر الفنون اعتماداً على المادة الصماء) على فكرة المطلق – الإلهي.

يقدم لنا هيجل مثالاً على ذلك هو بناء الأهرامات فهي قبور محصنة للملوك تمثل كما يقول هيجل “صورة الفن الرمزي في مطلق بساطته، فهي عبارة عن بلورات هائلة الحجم، أشكال خارجية خلقها الفن لتحمي شيئاً ما داخلياً، وعلى نحو يوحي إلينا حقاً بأنها ما وجدت إلا لتسوير هذا الداخلي الذي تجرد من الطبيعي المحض” فالأهرام هي “المظهر الشكلي للمضمون الفني حقاً مضمون الانفصال عن الحياة العينية والمنظورة” رغم ذلك ليست “هي بعد بمملكة يسري في أوصالها تيار حي، ما هي بعد بمملكة الروح الحر والحي، وإن أرتقت ما فوق الحسي”

المرحلة الكلاسيكية – فن النحت

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة، يتفتق العقل البشري، ويصبح قادراً على تمثيل المطلق في صورة محسوسة تعبر عن تجليه في الفن، لقد ردمت الهوة هنا ما بين الفكرة والمادة المجسدة لها، وأصبح للفن تعييناً فردياً مباشرة في الطبيعة بعكس بعض التجسّيدات الرمزية التي كانت تحاكي المطلق بإشكال مشوهة أو غامضة، لقد أضحى الشكل الإنساني المثالي علامة على هذه المرحلة، من هنا نلج عصر النحت حيث يتم اختزال المطلق في الجسد البشري، كما يتم تجسيد الحضور الإلهي في المعابد التي سبق أن تم انجازها في الفن المعماري، النحت أكبر قدرة على تشكيل المادة، لكي تعبر عن الروح، لا في رموز حيوانية أو شكلانية، ولكن في أجساد بشرية مكتملة، هذه هي الفردانية الروحانية التي يسعى لها الفن.

رغم ذلك، لا يزال الفن حبيس المحدود، وإن تطابقت فيه الفكرة بالشكل إلا أنه لم يحقق “المثال” في أعلى صورته المطلقة، فهو يصوّر المتناهي من دون حرية تامة، و”تصور الجانب الإلهي الذي يتجسّد تصور معيب خاطئ، ذلك لأن الله ينبغي أن يكون حراً وروحاً لا متناهية، في حين أن آلهة اليونان لم يكونوا أحراراً أو لامتناهين”.

المرحلة الرومانسية – الرسم والموسيقى والشعر

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة الأخيرة لا نشهد قصوراً في تعبير المادة عن الفكرة كما في الفن الرمزي، بل بالعكس من ذلك، نشهد علواً في الفكرة على المادة، فالروح المطلق يسمو على المادة، لتغدو حرة تتجلى من دون قيود الحسي “من دون أن تكون بها حاجة كيما تتفتح إلى اللجوء إلى وسائل حسية أو على الأقل إلى التعرض لضغط هذه الوسائل”

يسمى هيجل هذه المرحلة أيضاً بالفن المسيحي، فالفن الكلاسيكي نجح في تقصي الروح في المثال البشري، عبر المنحوتات التي نحتت لتعبر عن الآلهة في العصر الإغريقي، لكنها ظلت حبيسة المادة، بينما هي في المرحلة الرومانسية تتخطى حواجز المادة المحسوسة في الجزئي العيني، وأخذت تعبر عن الإله المسيحي المطلق لدى جمهور المؤمنين. ولم يعد المضمون عبداً للشكل، بل طغى المضمون على الشكل، فتجلّتْ الفكرة في حرية أكبر في الفن الرومانسي، فالحياة الداخلية الذاتية هي التي تسيطر على الشكل، وتبرز سمو أكبر للروح المطلق، فتصل إلى أعلى ذرى وعي ذاتها بذاتها.

من هذا المنظور، من الطبيعي أن تتجلى الروح المطلق في فنون أكثر تجريديةً من فن العمارة والنحت كما هو الحال في المرحلتين السابقتين، فالرسم والموسيقى والشعر هي الفنون البارزة في هذه المرحلة الرومانسية، ويرجع هذا لجوهرها الذي يتسم بالتجريد الروحي، فالرسم تصوير أرقى من النحت، لأن الفكرة فيه تتخطى الأبعاد الثلاثية الحسيّة، وتستبدل هذا بالظل والنور والألوان، وطالما أن الفن الرومانسية يعبر عن الحراك الذاتي للروح، نجد أن الموسيقى والشعر أقرب تعبيراً عن جوهر هذه الروح، فالمادة الحسية التي تتشكل فيهما الفكرة هي الصوت والنغم اللذان يجوبان الفضاء بكل حرية وانطلاق كأطياف نورانية ويلبسنا الجوارح الحسية من سماع ونظر، فتحدث تجربة التلقي الجمالية…!

  • نقد فلسفة الجمال الفن لدى هيجل

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

كما رأينا لم يهتم هيجل بتأمل جوهر الجمال والفن وحسب، ولكن تأمل تطور الفن في تاريخ البشرية من وجهة نظر الفلسفة الهيجلية، وبخلاف اتفاقنا مع هيجل على تقسيماته تلك التي تبدو لنا في بعض الأحيان متعنتة ومتحاملة لصالح الفن المسيحي الغربي على الفن الشرقي إلا أننا لا نستطيع أن ننكر سعي هيجل في النفاذّ إلى تحليل الفن في الحضارات السابقة بصورة شمولية وكونية لم يسبقه إليها أحد من قبل، وإطلاع هيجل الموسوعي على الفنون في الحضارات الأخرى ساعده على انجاز ذلك.

طبعاً النظريات الحديثة في الفنون لا تتفق مع كثير من أطروحات هيجل، لاسيما حول العلاقة التي تربط المضمون بالشكل، وتشكل المعنى، مثلاً لم يعد اليوم ينظر إلى “المعنى” على أنه جوهر ثابت، وهذا يعلي من شأن الفن الرمزي الذي يعول على ظاهرة المعنى المتعدد الدلالة، وهو أمر لم يرق لهيجل، وظنّ بأنه عيب فني، إلا أن إبراز هيجل لهذين العنصرين المهمين في الفنون في فلسفته، وتمييز أنواعه بهذا الصورة، يعتبر انجازاً من انجازات النظرية الجمالية الفنية لدى هيجل!

كما أن هذا ما جعل هيجل يخلط ما بين “الجليل” و”الجميل” في الفن الرمزي (أقصد هنا الإشاري الدلالة أي الذي يشير إلى “معنى” ولا يعينه في سياق واحد ومعنى واحد) فيقول: “الجليل هو طغيان الفكرة على المادة، حين تعجز ملكة الفن عن التعبير عن الفكرة في إطار مادي مطابق، لذا الفن الرمزي هو أقرب إلى الجليل منه إلى الجميل في كثير منه”

، ولكن الفرق لا يكمن في نقص الدال على المدلول كما يقول هيجل، ولكن في دلالة المعنى ذاته لدى المتلقي.

إن أطروحة هيجل في تاريخ الفنون نزعت الفن من السياق التاريخي، وجعلت من الفن تجريداً حتى لو لم يقرّ هيجل بذلك، كما أن تطور الفن من الرمزي إلى الكلاسيكي، ثم بلوغه مأربه النهائي في الرومانسية هو إعلان عن موت الفن بحكم أنه يرمي إلى أن الفن قد وصل مداه، ولا غرابة أن تلهم فلسفة هيجل أدلوجيات دعتْ إلى نهايات للتاريخ، نجد هذا في الطرح الشيوعي على يد كارل ماركس، وفي الطرح الليبرالي على يد فرنسيس فوكوياما، وقد تأثرا بفلسفة هيجل عن التاريخ.

كما أن ربط هيجل الفن بالروح والفكرة المطلقة من خلال وحدة المضمون والشكل لا يستقيم مع دعوته بأن هدف الفن هو ذاته، وهذا ما تنبه له الدكتور نوكس في قوله: “هذا التصور يلقي ظلاً من الشك على جدية تأكيد هيجل في أن غاية الفن تقوم في ذاته، ولكن الحقيقة هي أن هذا الفصل بين المضمون والشكل إنما يرتب جملة نتائج هامة، هو يستكمل في تحديد هيجل للفن كرمز حسي لمضمون ميتافيزيقي”

فهيجل يعزو إلى الفن هدفاً خارج جماليته، وهو التعبير عن الروح المطلق.

عجزُ المسيحية في الغرب عن تصور الله تصوراً مجرداً هو عجزٌ يمكن نسبته إلى قصور في مَلَكة التصور (وهي ملكة لا تنمو إلا في أطوار متقدمة في عمر الإنسان كما يخطرنا بذلك علم النفس التكويني الحديث) لا في ملكة التمثل الحسي كما يقول هيجل، ، بل التصور المسيحي وفقاً للدراسات الحديثة في الأديان امتزجت بالتصورات الوثنية التي كانت سائدةً آنذاك في ظل الدولة الرومانية، فوجدت نفسها مقلدة لتجسيد الإله في أيقونات، لذا هذا التصور هو انفعال أكثر من كونه فعلاً، أي أنه دخيل على الفن المسيحية، وليس نتاجا واعياً لها وهو ما يخالف خصائص الروح الواعية بذاتها. كما أن تقليل هيجل من أمر الفنون الوثنية الإغريقية، هو كذلك تقليل من شأن الفن المسيحي، فالمثال الفني في كلاهما هو ذات التجسيد الإلهي، أما التمايز فيما بينهما فهو تمايز مفتعل مرده التحامل الديني أكثر من أي شيء آخر!

المراجع:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

أفلاطون، هيبياس الأكبر، ترجمة علي نجيب إبراهيم، دار كنعان، دمشق 2003

أميل برهييه، تاريخ الفلسفة – مجلد القرن التاسع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1997

ثيوكاريس كيسيديس، هيراقليطس، جذور المادية الديالكتيكية، ترجمة حاتم سليمان، دار الفارابي، بيروت 2001

جعفر الشكرجي، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال ، دار حوران، دمشق 2002

عبدالرحمن بدوي، حياة هيجل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980

عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1984

عمانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005

فراس السواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق 2002

موسوعة لالاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت 1996

نوكس، النظريات الجمالية كانط – هيجل – شوبنهاور، ترجمة محمد شفيق شيا، دار منشورات بحسون الثقافية، بيروت 1985

هيجل، الفن الرمزي، الكلاسيكي، الرومانسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1986

هيجل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1988

هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة، د. إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

ولتر ستيس، فلسفة هيجل – فلسفة الروح، المجلد الثاني، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

[1] فراس السواح، دين الإنسان – ص: 141

الميتافيزيقيا عند الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا1632-1677

باروخ سبينوزا
فيلسوف (1632 – 1677)
باروخ اسبينوزا فيلسوف هولندي ، حاول تأسيس عقيدة جديدة ، أراد من خلالها استبدال العقائد المبنية من الخرافة ، وفكرة التدخل الإلهي المباشر في ضبط الذات ، بعقيدة جديدة غير شخصية ، شبه علمية ، ومتوافقة مع الزمن ..
باروخ : كلمة تعني ( مبارك ) باللغة العبرية . وقد ولد في الوسط اليهودي في أمستردام ، بينما انحدر أسلافه من اليهود الشرقيين الذين فروا من شبه الجزيرة الاسبانية 1462.
نبغ هذا الفيلسوف منذ صغره ، حيث كان مولعاً بالمعرفة جداً، وعُرفَ بذكائه الحاد ، وتلقى تعليما دينيا مكثفاً ، حيث اتبع كل الطقوس والعبادات والأعياد الدينية اليهودية المختلفة ، ولكن تدريجياً بدأ يعزل نفسه عن إيمان ذويه ، ويبتعد عن أفكار أسلافه شيئاً فشيئاً .
لكونه شعر بأنه ” قد أصبح مقيداً بوجهات نظر وأفكار الآخرين” .على حد تعبيره.
ثم أخذ يُبين أفكاره الخاصة ،
والتي بدأها في كتابه الهام ” الأخلاق ” الذي ألفه باللاتينة ونشر عام 1677 .
وفيه تحدى اسبينوزا بشكل مباشر أفكار العقيدة اليهودية بخاصة والعقائد الأخرى بعامة .
قائلاً فيه : انّ الله ليس ذاتاً مفارقة، تقع خارج هذا العالم ، وليس هناك من يسمع صلواتنا ، أو يصنع المعجزات لنا ، أو يعاقبنا على آثامنا “.
” ليس هناك حياة أخروية ، والانسان ليس هو المخلوق المفضل على العالمين عند الله ، والكتب السماوية (التوراة وسواها) كتبها أناسٌ قدماء.”.
” والله ليس حرفياً أو محارباً يدعو المؤمنين به لحمل السيف المقدس و راية الجهاد والدفاع عنه . وهو لايطلق الاحكام ، ولا يكافئ الأطهار ولا يعاقب الأشرار .
وكل تصور أو تمثيل عن ذات الله هو مُجرّد خيالات ، وكل الطقوس التقليدية في العبادات له هي أساطير الاولين ومحض خرافة .
لكن و بالرغم من كل مما سبق، لم يعتبر اسبينوزا نفسه ملحداً ، بل كان يُصر بشدة على أنه هو المدافع المخلص والحقيقي عن الله .
لقد أخذ مفهوم ” الله ” دوراً جوهرياً في فلسفة اسبينوزا ، لكن الله لديه لا يشبه بتاتاً ” الله ” المُحدث عنه في التوراة أو الكتب السماوية الأخرى .
اله اسبينوزا هو اله ليس شخصاً ، أو هو ليس ذاتاً مفارقة ، يمكن فصلها عن الطبيعة أو عن الوجود أو روح متعالية بعيدا عن العالم .
الله لديه هو الكون و قوانينه ، هو المُسبب ، وهو الحقيقة ، وهو القوة الفعالة ، في كل موجود وفي كل ما سيوجد .
الله لديه ليس فيما وراء الزمان ، ولا يمكن تجسيده ، ولهذا عبر عن ذلك بقوله :
” أياً ما كان فهو من الله ، و لا وجود أو تصور من دون الله . “
من خلال كتاباته المتعددة حاول اسبينوزا أن يدحض فكرة الصلوات ، ورأى أنه في الصلاة كثيراً ما يدعو الانسان الله كي يُغير له نظام الكون حسب رغباته ومصالحه أو مشاعره، ولكنها طريقة خاطئة تماماً ، لأنه على الانسان انْ يسعى لفهم هذا الكون ونظامه ومن ثم تقبله ، بدلا ً من الاحتجاج عليه والتذمر منه عبر ارسال رسائل متتالية الى السماء.
وقد عبر اسبينوزا عن ذلك بقوله :” لا يجب ان يتوقع من يُحب الله ، أن يُحبه الله بالمقابل ” .
بمعنى انه – فقط – ذاك الشخص المؤمن النرجسي والمشوه، هو الذي يتخيل ان الله سيهتم بتنحية قوانين الكون جانباً لأجله ، أوتعطيلها كلياً من أجل رغبة من رغباته ، أو ليُحسّن من حياته بطريقة ما .
هنا نلاحظ تأثر اسبينوزا البالغ بفلاسفة المذهب الرواقي الاغريقي ، الذين رأوا أيضاً ، أنّ الحكمة، تكون في تقبل الأشياء والخضوع بسلام للضرورة وفهمها ، بدلاً من الاحتجاج على كيفية سيرها .
لكن كيف نظر اسبينوزا للحياة .. ؟ّ!
للحديث بقية ..

أن الطبيعة – التي ساواها مع الله – مثاليه بشكل مطلق، عازمه، لا نهائيه ولا نهاية لها. هذه الطبيعة (أو الله) الغير محدودة تشمل الجميع . ونحن جميعا جزء منها وليس هناك شئ خارجها. ونحن البشر لدينا منفذ على إثنين من سمات هذا الكيان اللانهائي – الإمتداد والفكر- وكلاهما تعبير عن جوهرها الذي لا حصر له ، وهما ينسجمان مع بعضهما البعض ، لأنهما تعبير عن الواقع نفسه. إلى جانب الامتداد والفكر هناك عدد لا نهائي من سمات أخرى لهذا الكيان الغير منتهي، والتي لا منفذ لنا عليها، ولكنها تظل مع ذلك تعبيرا عن نفس الكيانن، الذي هو – علاوه على ذلك – غير مقيد بالزمن.
لكي نُقَدّر كيف كان هذا التفكير جديدا، فمن الجدير بالذكر أنه في أيام سبينوزا كان الرأي السائد عن الكون في أوروبا لا يزال نفس فكرة القرون الوسطى الموروثة من أرسطو وبطليموس بأن الكون محدود. وكما يشير جوزيف راتنر في «فلسفة سبينوزا» (2014)، فإن رؤية سبينوزا للكون لم تتفوق فقط على فكرة الكون في العصور الوسطى، ولكن أيضًا وجهة النظر المعاصرة السائدة عن الكون كنظام مادي بحت. لذا اسمحوا لي أن أوضح قليلا الميتافيزيقا عند سبينوزا، وأقدّم بعض الأمثلة التي توضح لماذا قد تكون ملهمة لأي شخص هو في حيرة من علاقته بهذا الكون.

الواحدية (وحدة الوجود) عند سبينوزا

«الأخلاق» لسبينوزا هو كتاب ينقسم إلى خمسة أجزاء: الأول والثاني يتعلق بالميتافيزيقا، ومناقشة الله، والعلاقة بين العقل والجسم على التوالي. في الجزء الأول، يعادل سبينوزا الله مع جوهر لانهائي وفريد من نوعه يرتكز عليه كل الواقع. يرجى ملاحظة أن المقصود بالمصطلح الفلسفي «الجوهر» هنا هو كل متكامل لا يمكن اختباره مباشرة عن طريقنا.
بعض المعاصرين لسبينوزا والقريبين من المعاصرين اجتمعوا على أن هنالك العديد من الجواهر. أشهرهم رينيه ديكارت (1596-1650) الذي جادل بأن هناك نوعين من الجوهر: العقل والمادة، لديهما الصفات المميزة للفكر والامتداد على التوالي. وادّعى كذلك أن كل فرد بطريقة أو بأخرى هو اتحاد التفاعل بين هاتين المادتين. في المقابل، اعتقد سبينوزا أن هناك جوهرًا واحدًا فقط ، لأنه لانهائي ويشمل الجميع. ولأنه ليس فقط لا حصر له ويشمل الجميع ولكن أيضًا إبداعي، فهو أن تتساوى مع الله.
وفي باقي كتاب «الأخلاق»، كشف سبينوزا الآثار المترتبة على هذا الرأي لفهم العلاقة بين العقل والجسم، ومن ثمّ فهمنا للعواطف والمعرفة والأخلاق. واحد من الأهداف التي حددها سبينوزا في الصفحات الأولى من الأخلاق أن يقدم تفسيرًا لوجود الأشياء. على سبيل المثال، قد يتساءل المرء ما إذا كان سبب من وجود الموجودات داخلها أو خارجها.
يبدأ سبينوزا في الإجابة على هذا السؤال بالقول أن تعريفات الكيانات عادة لا تشمل عددًا محددًا من الأفراد الموجودين من هذا النوع. على سبيل المثال، لا يوجد شيء في الطبيعة البشرية أو في تعريف «الإنسان» يحدد أنه يجب أن يكون هناك سبعة مليارات منا. وهذا يشير إلى أن تعريف «الإنسان»، وكذلك جوهرنا ، لا يحدد كم البشر الذي سيكون موجودًا، لذلك وجودنا ككيانات فردية يتم تحديده من قبل كيان أكبر منا.
ثم يعمم سبينوزا هذه الملاحظة ليفترض أنه إذا وُجِدَ عدة أفراد لنوع ما، إذن فسبب وجودها لا يمكن أن يكون في داخلها، وبالتالي فإن جوهرها لا ينطوي على وجودها. وبعبارة أخرى، فعمومًا ضرورة وجود الموجودات ليست جزءًا من كيانها أو تعريفها. هنا يظهر السؤال: ما هو السبب المطلق في كل هذا التنوع والتعقيد الذي نختبره في الطبيعه إذا لم تكن تلك الأشياء نفسها؟
يرد سبينوزا بأن المصدر المطلق لجميع الأشياء الموجودة – والذي يحتوي على جميع الأشيلء الأخرى الموجودة، والتي بدونه لا وجود لها – يجب أن يكون شيئًا ينطوي جوهره على الوجود. ولأن تعريف هذا الكيان ينطوي على وجود ضروري (لأن من جوهره الوجود)، فهو ليس فقط موجودًا بالضرورة، بل أيضًا لا يمكن أن يتضمن أي انتفاء للوجود. وهنا يعِنّ أن هذا الكيان غير مقيد وشامل ولانهائي وأبدي. هذه هي الخصائص المميزة لسبب كل ما هو موجود.
هذا يقود إلى تعريف الجوهر عند سبينوزا بأنه «الموجود في ذاته المفهوم بذاته» (الأخلاق، الجزء 1، تعريف 3). وبعبارة أخرى، الجوهر هو ذلك الجزء أو الجانب من جوانب الطبيعة ذاتي الخلق (سبينوزا، ستيورت هامبشر، 2005). وهو جوهر الطبيعة النشطة – استخداما لمصطلحات سبينوزا – وهو ما يعادل الله. وعلاوة على ذلك، يشمل تعريفه ضرورة الوجود، فلا يمكننا أن ننكر وجود هذا الكيان، ولأنه لانهائي وشامل، لا يمكن أن يكون هناك سوى جوهر واحد.
فرضية وجود جانب ذاتي الخلق ليست بالغريبة على العقل الحديث المطّلع على نظريه الانفجار العظيم، وكما يمكننا القول: نظرية التطور. ومع ذلك، فإن القبول بأن هناك كيانًا واحدًا ذاتي الخلق (والذي بسبب تفرده يمكننا أن ندعوه الإله) هو أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، لأن هذا الكيان مثالي وفريد من نوعه؛ فإن استخدام تعبير «عملية process» لوصفه هو غير مناسب تمامًا. لأن هذا المصطلح يستتبع شيئا يتطور. لذلك « الجوهر» هو المصطلح الأكثر ملاءمه لوصف كيان لا يفتقر لأي شئ، وبالتالي فطبيعته لا تتغير.
العقل البشري يفهم الجوهر عند سبينوزا من خلال خاصيتي الامتداد والفكر. لذا يمكننا أن نقدر الماده إما عن طريق التأمل في الكون المادي الغير محدود، أو أخذا بعين الإعتبار لا نهائيه الأفكار الممكنه بداخله. الحقيقه عند سبينوزا هي كلاهما (نظام الأشياء ونظام الأفكار أو الصور).
البشر على سبيل المثال ، هناك هيئات تتألف من الأجزاء الماديه ولكن هي أيضا الصور التي تشكل عقول البشر . وكما ذكرت ، فإن الجوهر عند سبينوزا يتضمن عدد لاحصر له من السمات الأخرى التي لايمكن معرفتها بالإضافه إلى الإثنينن الذين يمكننا أن نعرف. بطريقه ما، هذه المحددات هي التي تجعل الأشياء حقيقيه، متميزه، فهي الوسيله التي يمكن من خلالها التمييز بين كيان محدد وآخر. وفي مصطلحات سبينوزا فإن كل فرد في الطبيعه هو شكل من مضمون (جوهر) واحد.
بالنسبه لسبينوزا ، الفكر والامتداد هما من الناحيه النظريه والسببيه مستقلان عن بعضهما البعض، ولكن في الوقت نفسه متوافقان مع بعضهما البعض. وهذه العلاقة بين المحددات النظريه والسببيه تعرف ب «التوازي»، وستكون مهمه عندما نأخذ في الإعتبار العلاقه بين العقل والجسم .
يرجى ملاحظة أن العقل ليس هو السبب للكون المادي بالنسبة لسبينوزا، ولا الكون المادي هو السبب في العقل. بدلا من ذلك، يرى سبينوزا أن القوة الكامنة وراء وجود طبيعة مادية ووراء أعمال العقل هو الجوهر الفريد والشامل نفسه، الذي لديه كل الصفات على حد سواء.

الجوهر والعلم

إذن فالإله هو كيان موجود بالضرورة، أو هو بالتعريف جانب من الطبيعة خُلِق ذاتيًا، وهو السبب لكل شيء موجود. والسؤال التالي: لماذا فكرة الإله/الله/الطبيعة – حسب تعريف سبينوزا – ذات أهمية بالنسبة لنا اليوم؟ والجواب هو أن هذه الفكرة تقدم رؤية للعالم تتفق مع العلوم المعاصرة التي لا تزال تفتقر إلى الميتافيزيقا التي يمكن أن تسع اكتشافاتها المحيرة.
المثال الأول من الإكتشافات المحيره هي ميكانيكا الكم . أصبح شيئا مبتذلا أن لا أحد يفهم السلوك الغريب للجسيمات الأوليه الموضحه في ميكانيكا الكم . على سبيل المثال ، كيف يمكن لإلكترون مخفي أن يكون في عدد لا حصر له من الأماكن في نفس الوقت ؟ أو كيف يمكن لجسيم من جسيمات الضوء – فوتون – «معاينة» كل الفضاء ومن ثم «يختار» المسار الأسرع بين نقطتين في الفضاء، كما يقول تفسير ريتشارد فانيمان في ميكانيكا الكم؟ أحد الموضوعات المشتركة في ميكانيكا الكم هو تحديدا هذا السلوك «غير المقيد» للجسيمات. وهذا يتفق مع الفكره القائله بأن هناك جانبا لا محدود أو لاحصر له في الطبيعه الكامنه وراء الواقع الذي نختبره، وهذا بالظبط هو وجهة نظر سبينوزا تجاه الجوهر.
موضوع آخر في ميكانيكا الكم هو أن الجواب المعطى من تجربة ما غالبا ما يعتمد على السؤال الذي تطرحه تلك التجربة. على سبيل المثال، يمكن رؤيه جسيمات الموجه الإبتدائيه تتصرف كموجات أو جسيمات إعتمادا على كيفيه إعداد التجربه. وعلاوه على ذلك، يبدو أنه لابد من الملاحظه لإعطاء وجود الكم شكل حاسم. وتلك الميزيتين لميكانيكا الكم تشيران إلى أن هناك علاقه وثيقه جدا بين الذكاء والطبيعه الماديه في الكون، تماما كما يفترض سبينوزا. ولروايتها بطريقته: العقل وأحداث الكم الماديه التي تلاحظ بالعقل لا ينفصلان لأنهم جانبين لنفس الجوهر الفريد من نوعه والذي لا حدود له.
المبدأ الأنثروبي في علم الكونيات يشير إلى ملاحظة ملفتة للنظر، هي أن الكون الذي نعيش فيه يبدو وكما لو كان على وجه التحديد مصمّم للسماح بوجود حياة. وهناك عدد من الحقائق عن الكون، مثل قدرة بعض القوى (على سبيل المثال، القوة النووية داخل نواة الذرة)، وكتل وشحنات بعض الجسيمات دون الذرية ذات القيم الدقيقة المطلوبة لتطوّر مراقبين أذكياء مثلنا. كما لخّصه الفيزيائي جون ويلر في عام 1986، يبدو أن: «هناك عامل واهب للحياة يكمن في وسط آلية وتصميم العالم» (انظر: Wheeler’s foreword inThe Anthropic Cosmological Principle by J.D. Barrow and F.J. Tipler, 1986). وهذا الوصف يمكن أن ينطبق بجدارة على تصور سبينوزا عن الطبيعة الراعية Natura naturans.
بإختصار، العلم الحديث يوفر الأساس لواحدية سبينوزا بالإشارة إلى أن هناك جانبًا غير محدود وإبداعيًا في الطبيعة، وأيضا أن العقل والجسد متلازمان ولا ينفصلان.

العلاقة بين العقل والجسد

بعد ذلك دعونا ننتقل إلى واحدة من أهم النتائج المنطقية لواحدية سبينوزا؛ ألا وهي العلاقة بين العقل والجسد.
في الفقرة الأولى من الجزء 2 من «الأخلاق»، التعامل مع العقل، يوضّح سبينوزا أن استنتاجاته حول العقل تنبع من وجهة نظره إلى الله: «أنتقل الآن إلى شرح تلك الأشياء التي تنبع بالضرورة من جوهر الله، أو الكيان الأبدي اللانهائي». كما رأينا، فالله أو الجوهر هو الجانب ذاتي الخلق من الطبيعة، لأنه موجود بالضرورة، ولا يمكن أن يكون محددًا بأي شيء، وهو لذلك لا حصر له.
بالنسبة لسبينوزا، الجسم البشري لديه سمة الامتداد، والعقل البشري لديه سمة الفكر، أو التمثيل. وعلاوة على ذلك، فإن العقل والجسد هما تجليات متوازية للواقع الأساسي، أو يمكن أن نقول أن العقل والجسد هما نفس الشيء (الجوهر) ضمن سمات مختلفة. وفي اللغه التي ورثها سبينوزا من ديكارت: الفكرة هي تعبير عن الشيء الذي هي جزء منه، وهذا يقود سبينوزا إلى استنتاجه الشهير أن «العقل البشري يساوي فكرة الجسم البشري».
التوازي عند سبينوزا يعني أيضًا أن كل تغيير في جسم الإنسان يجب أن يرافقه تغيير في العقل البشري: «أيًا مما يحدث في موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري [الجسد – إض] فإنه يستقَبل من قبل العقل البشري … ذلك أنه، إذا كان موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري هو الجسد، فلا شيء يمكن أن يحدث في تلك الهيئة ولا يدركه العقل» (الجزء 2، المقترح 12).
هذا المعتقد عن العلاقة بين العقل والجسم ذو صلة بالعلوم المعرفية المعاصرة، حيث أن هنالك اعترافًا متزايدًا بأن هنالك ارتباطًا وثيقًا بين الإدراك والتجسيد. يمكننا القول أن فرضية سبينوزا، مصاغة بطريقة علم الأعصاب الحديث، تعني ضمنًا أن التمثيل الكلي [للواقع] الذي منه يتكون العقل البشري الفردي يعادل النشاط الكلي للنظام العصبي للفرد، وكل منهما يعمل بالتوازي مع الآخر. إذن، فالميتافيزيقا عند سبينوزا تبيّن كيف أن العقل والجهاز العصبي مرتبطين. وهذا النهج في معالحة مشكلة العقل والجسد جذّاب أيضا لأنه يدل على أن العقل ليس دخيلا على الطبيعة، ولكن هو جزء واحد من كل متكامل.
بالنسبه لسبينوزا ، فإن الطبيعة المزدوجة للأشياء (أي التوازي) تنطبق على كل شيء في الطبيعة، وبالتالي، فإن كل شيء في الطبيعة لديه عقل من نوع ما. البشر لا يحتلون مكانًا خاصًا غيبيًا إلا بقدر ما أن الجسم البشري هو الشيء الأكثر تعقيدًا فى الطبيعة، وبالتالي فالعقل البشري هو العقل الأكثر تطورًا في الطبيعه كلها، أو كما يقول سبينوزا: «يكون لدى البعض قدرة أكبر من الآخرين على فعل العديد من الأشياء في نفس الوقت بقدر ما يكون عقولهم أكثر قدرة على فهم الأشياء في نفس الوقت» (الجزء 2، افتراض 13). وبعباره أخرى، فإن تطور العقل البشري يتوافق مع الطابع المعقد لجسم الإنسان.

الخلاصة

وفقًا لتحليل عصري لنظريات سبينوزا التي حاولت توضيحها ها هنا، فإن جانب الطبيعة ذاتي الخلق الذي لاحصر له يكمن في (1) السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم، (2) وجود هذا العالم الذي يدعم الذكاء، (3) ظهور أشكال الحياة من خلال التطور.
وعلاوة على ذلك، كل هذه الظواهر التي تنبثق من جوهر واحد هي مترابطة: لا يوجد فهم بدون تجسيد، ولا يوجد تعقيد متزايد للتجسيد بدون تطور، ولا يوجد تطور بدون وجود ذلك الكون الفريد الذي يسمح للحياة بالظهور. وأخيرا، كما تعلمنا ميكانيكا الكم والمبدأ الأنثروبي، لا وجود لكون مادي مشهود من دون ذكاء يحيا داخله. فوجود الكون والذكاء في داخله هو في نهايه المطاف تعبير عن جوهر واحد.
لا يمكن اختزال سمات الفكر والامتداد أحدهما إلى آخر، لكنّ كليهما يشير إلى نفس الجوهر الذي لا حدود له، نفس القدرة غير المحدودة التي أعرب عنها الطابع المعقد لجسم الإنسان، تعبر عنها أيضا قوى العقل البشري. نفس السلطة التي تقف وراء السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم التي أعرب عنها الاتساع الهائل للكون، تكمن وراء التطور المستمر للمعرفة البشرية. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء آخر مبشر أكثر من هذا. وهذا ما يجعل سبينوزا ذا صلة كبيرة بالفكر المعاصر.

الريسوني: التطبيع حرام شرعا والداعمون له “موظفون”

قال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أحمد الريسوني إن العلماء الداعمين للتطبيع مع الاحتلال ، يقومون بذلك من منطلق “وظيفتهم”، وليس من باب واجبهم الشرعي.

وفي تصريحات له على صحيفة الشروق الجزائرية، قال إن العلماء الداعمين للتطبيع ينفذون أهواء وإرادة ولي الأمر، وولي النعمة، وصاحب الصولة.

وأدان الريسوني الدور الإماراتي في المنطقة، وقال إن التطبيع يخرج الأخيرة من الوضعية الخانقة التي تعيشها داخل محيطها.

وعن موقف الشريعة من التطبيع، قال الريسوني إنه حرام، ومرفوض تماما، شرعيا وإنسانيا، وأخلاقيا.

وفي 13 أغسطس- غشت2020، أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ترامب توصل أبوظبي وتل أبيب، إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بينهما.

في وقت سابق، دعا الريسوني، الشعوب العربية والإسلامية إلى مقاومة التطبيع مع الاحتلال، ومجابهته بسلاح الرفض، مشيرا إلى أن التطبيع “ركون للظالمين”.

وأضاف الريسوني، في كلمة مصورة، وجهها للأمة أن “الكيان الصهيوني، الذي زُرع غصبا وظلما وقهرا في ديار المسلمين، يعتبر أن من أكبر مشاكله التي لم يجد لها حلا، ويحلم أن يحلها ويتجاوزها، هي تطبيعه مع الدول العربية والإسلامية”.

وأضاف في حساب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على تويتر: “التطبيع بمعنى أن يجد الترحيب والتكريم والتعاون والتحالف، وأن تُفتح له الأبواب الاقتصادية والإعلامية والثقافية والسياحية، وأن يعيش في راحة (..) في وسط من اغتصب أرضهم ووطنهم وشردهم وشرد إخوانهم”.

بيبليوغرافيا من يكون محسن اعريوة؟

–من يكون محسن اعريوة ؟
مُحسن اعريوة من مواليد قلعة السراغنة، حاصل على الاجازة من جامعة القرويين بفاس، وعلى شهادة الماستر من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال. أشتغل حاليا أستاذاً بسلك الثانوي بمديرية الفقيه بن صالح.

– أيهما أقرب إليك، فعل القراءة ام الكتابة؟
القراءةُ والكتابة صنوان، فالذي لا يقرأ لا ولن يكتب، لكون القراءة تعطينا الأداة الأولى للفهم والنقد وتمحيص الآراء والأقوال، وتزوِّدنا كذلك بالألفاظ والمصطلحات اللغوية الفصيحة التي تساعدنا على الكتابة، ولهذا من الأفضل الاعتماد على القراءة ابتداءً، لأن نشر ثقافة الكتابة قبل القراءة هو تخسيرٌ للكاغد!
فالذي لم يقرأ للقدامى والمحدثين ولم يستفد من منهجهم في الكتابة وذوقهم في نسج القول وطريقتهم في سرد الأحداث لن يكتب لنا أي شيء.. لكون الإبداع سلسلة من التجارب المتراكمة والممتدة!
لهذا كلّه كتبتُ ذات مرّة:
قرأتُ لأكونَ
وأكون… وأعيش
قرأتُ لأحيا، لأكتب، وأقول!
وبعد فعل القراءة تأتي الكتابةُ تبعاً وبدون تمحّل أو تكلّف. وليأتي بعد ذلك سؤال لمَ تكتُب؟ بدل لمن تكتُب؟!
ولا أعلمُ -صراحةً- هل عانى شعراؤنا وأدباؤنا وكتّابنا -عليهم رحمةُ الله جميعاً- مثل ما نعانيه اليوم، وهل بلغت السخافة والسذاجة بقرائهم مبلغَ الحضيض وسألوهم: لمن تكتبون؟
إني لا أرى داعياً لإثارة هذا السؤال، وطرحه للنقاش، لأنّ العاقلَ يعرفُ أن رسالة الأديب، رسالة الشاعر، رسالة الكاتب… ليستْ حِكراً على جماعةٍ ما أو طائفةٍ ما أو زمنٍ ما… ولا تعني عرقاً دون آخر، فلا يرى حاجةً في تصنيفها، إذ السؤال الوجيه الذي من الواجب أن يطرح: لمَ تكتب؟ وليس لمن؟
هل تكتبُ من أجل الكتابة فقط، كي يُقال فلانٌ كـاتبٌ، شـاعرٌ، قـاصٌّ، روائيٌّ، مُفكِّرٌ…؟
انصرف.. فقد قيلَ.
أم تكتب لأنّك تجد راحتك في الرّسم بالقلم ؟؟ للتّرفيه!
أم لديك رسالةٌ هادفةٌ تريدُ أن تقرأها الأمة كي تحدثَ تغييرا في التّفكير وفي التّعامل…؟ إن كـانَ جوابكَ نعم، فمـاذا أنتجتَ لنا! أما أنا فما كتبتُ ليُقال: كـاتبٌ. ولكن لمّا رخُصَ شأنُ الكُـتّاب، وشأوُ الكتابة في وطني
أصبحتْ في قاموسي ضرباً من أضرب الضرورة، وفرضَ عينٍ على كلّ قـارئ وذي بصيرة.
لماذا تكتُب؟
أكتُبُ؛ كي لا تموتَ أصـابعي من شدّة البرد.
نكتبُ؛ كي لا يشيخَ الحُلمُ بداخلنا و تذبل الأعمار.
نكتُبُ ليتّسع الحزنُ ويسيل القلم.
نحنُ نختـارُ الكتـابةَ فقط عندما نريد الإبحار بمخيلتنا للانعتاق، فنستقلّ الأوراق مركباً، ونجدفُ بأقلامنا نحو العوالم الخفية لسبر أغوارها واكتشاف دررها… فمن حسنات أقلامنا أنها صوتٌ لكلّ الناس الذين عجزوا عن البوح، وعن مصاحبة الأقلام ومضاجعة الكتب… إنّنا لا نكتبُ لنا أو لوقتنا الحاضر، بل نكتبُ لأجيال تعقبنا.. فنحن مؤرّخو المشاعر وإثنولوجيو الأحاسيس..

– ماذا حقق المبدع فيك؟
كل مبدع يريد من خلال إبداعه أن يقدّم للإنسانية شيئاً جميلاً يخفّف عنها نكابتها المتوالية. والمبدع بداخلي أنِفَ الرّكاكة والرّتابة، وتمرّد على المألوف في الدراسات اللغوية والشعرية والفكرية.. أن تُبدع فتلك هي الطريقة الوحيدة لإثبات الذات وبسط التجربة ليستفيد منها الناس… المبدع الذي بداخلي ثار على كل شيء لأجل شيء واحد ووحيد؛ أن أكون أنا كما أنا!

– حدثنا عن مؤلفاتك :

لدي ديوان شعري فيه قصائد شعرية متنوعة: الشعر العمودي، شعر التفعلة، الهايكو.
قصائد تتحدث عن الحب والوطن والأم.. لهذا سميته “ثورة وطن”
ولدي كتاب “حديث الأوراق” هو عبارة عن مقالات نشرتها مسبقا في جريدة المنعطف التي كان لي فيها عمود أسبوعي وأخرى لم أنشرها.. جُلُّها يتحدّث عن الثقافة والأدب والفكر.
شاركتُ كذلك في كتاب جماعي “مداخل منهاج التربية الإسلامية بين الدراسة العلمية والمقاربة البيداغوجية”.
والآن أشتغل على تهذيب وتنقيح رسالتي في سلك الماستر حول “الهرمنيوطيقا وتطبيقاتها الفكر التأويلي الإسلامي”.

– لماذا تشكلت كلماتك على شكل قصائد؟ بمعنى، لماذا الشعر؟
الشِّعْرُ؛ فيضُ وجدان وتألّق خيال!
إنَّ صنعةَ الشِّعْرِ تختلفُ عن جميعِ الحِرَفِ والصَّنـائع، لا من حيثُ الشّكل فقط، بل لكونها صنعةُ قلبٍ وبنانٍ وفكرٍ ولسانٍ! وما جمعتْ حِرفةٌ قطُّ مثلَ هذه الشّمـائلِ العظيمةِ والمناقبِ القيّمة… ومـا أتقَنَ حِرَفيٌّ عظيمٌ صنعتَهُ مثلما أتْقَنَ الشَّـاعرُ الفحلُ، ذو القول الجزل، والرّأي الفصل فنَّهُ في إقـامةِ المعنى ونظمِ اللّفظِ وسبكِ المبنى.
هكذا هيَ نفسُ الشُّعراء والأدباء، انظروا إلى جميع ألوان الحياة ونوائبها (وجعُ الموت، حروبُ الوطن، فقدُ الأحبّة، نكسةُ الأمة، ألمُ الإنسان…) وانظروا إلى أعينهم، حتما ستجدونها مكتحلةً بجميع هذه الألوان! نفسٌ كالطود لا تُطاوعها الظواهرُ الطبيعية فكأنّها فصلٌ واحدٌ لا يتزحزح. لقد أخذوا من أنفسهم وقلوبهم وفكرهم وحياتهم… وخاضوا بهم غمارَ الوغى، وغاصوا في بحر الحياة كي يسبروا أغوارها ويلتقطونَ من دُرَرِها ولآلإها لأجلِ روحِ الإنسان، لأجل الإنسـانية.
فالقصيدةُ ابتداءً؛ هيَ مقصلةُ الشّاعر والمنفى الذي يجرّب فيه طقوس الانتحـار.

– تحدثت في مقال لك بعنوان “تفكيك خطاب النهايات في الفكر الغربي” عن نهاية التاريخ، نهاية الفن، موت الإله، موت الإنسان الخ، هل نشهد كذلك نهاية للمثقف بعد فشله في قيام علاقة نقدية مع ذاته و فكره، و عجزه عن قود المجتمع نحو مجتمع اكثر تقدما؟ و أين يتجلى دور مثقف اليوم في نظرك؟
الحديث عن المثقف اليوم يقتضي الحديث عن السلط، لكون هذه الثنائية الجدلية كانت ولازالت وستبقى مطروحة، لكوننا نتأرجح بين مفهومين:
– سلطة المثقف؛ وهي التي يكون فيها المثّقفُ فاعلاً في مجتمعه، أي؛ بتعبير المناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي “مثقفاً عضويا”، وهذا هو المثقف الحرّ الذي يمارس النقد ويعارض استحمار الشعوب ويناهض الاستبداد والاضطهاد والاستعباد.. ويذود بفكره وقلمه عن آلام المجتمعات المقهورة.. وهو نفسه المفهوم الذي اقترحه ابن خلدون رحمه الله، لكون الثقافة عنده صنعة فكرية تمتلكها فئة تتميز عن عامة الناس.
فالمثقف الحقيقي هو كل من لديه موهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة، أو تمثيل وجهة نظر، أو موقف والإفصاح عنه إلى المجتمع!
– أما “مثقف السلطة” فهذا هو دأب الكثيرين الآن في الأوطان العربية، الذين باعوا ضمائرهم قبل أقلامهم للسلطة وقد وصفتهم ذات مرة في مقال لي “المثقف العربي بين التجديد والتقليد” على جريدة المنعطف -نسيت العدد- “جُلُّ مثقفّي عصرنا صراصيرٌ وبلابيصٌ تدوس عليهم قدم السائس، وما بقي يتقاضون رواتب شهريةً من الدولة كي يلتزموا بالصمت”!
وستبقى هذه الجدلية قائمة.

– ما دعواك المتقدمة للشباب اليوم في علاقتهم بالثقافة و حاجتهم اليها؟
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى الوعي والثقافة، و لا يمكن زرع هذه الثقافة وهذا الوعي إلا عن طريق القراءة والبحث والتنقيب، لهذا أنصح نفسي ابتداءً وجميع إخوتي وأخواتي بفعل القراءة وأضفت “فِعل” للقراءة، لكي تكون قراءتُنا ناجعة وناجحة ومثمرة، لأننا نفتقد كثيرا للقارئ كناقد وباحث وأيضاً كمترجم للقراءة في فِعله وسلوكه داخل المجتمع!
فلدينا الكثير من القراء لكن هؤلاء القرّاء لا يترجمون ما استفادوا في تجربتهم وسلوكهم وتعاملهم…

– كلمة اخيرة؟
أوجه شكري العميق لكِ ولجميع أعضاء مجلة “أصوات أدبية” على هذا العمل النبيل، الذي يعيد للأدب رونقه ومكانته في تهذيب النفوس وترقيتها في مدارج الجمال، كما أشد على أياديكم، راجياً أن تستمر هذه المجلة في العطاء التميّز.

الكاتب محسن اعريوة: أكتُبُ كي لا تموتَ أصـابعي من شدّة البرد

البروتوكول الصحي والتقويم التشخيصي…

أتمنى للجميع موسما دراسيا ناجحا آمنا من كل الآفات.

أود تنبيه زملائي وزميلاتي في المهنة الذين يتهافتون على إنجاز التقويم التشخيصي الكتابي الذي تشير إليه المذكرة الوزارية التي تتعارض بشكل تام مع إجراءات الوقاية الصحية والتباعد الجسدي.
فتوزيع المدرس لأوراق غير معقمة على التلاميذ ثم جمعها بعد الإنجاز يشكل خطرا على الجميع (أساتذة وتلاميذ).
كما أن تصحيح المدرس لهذه الأوراق بدون لباس واق مثلما حرصت الوزارة أثناء تصحيح الباكالوريا سابقا عندما كانت الحالة الوبائية مستقرة يعد أمرا خطيرا أيضا!!!
أما أخذ الأوراق إلى المنازل وتصحيحها في نظري فهو عمل متهور يعرض حياة الأساتذة وعائلاتهم لخطر الإصابة بالفيروس اللعين.
من يقول بخلاف هذا القول فهو يتعارض جملة وتفصيلا مع البروتوكول الصحي الذي تؤكد عليه الحكومة في كل الوزارات من خلال الاشتغال عن بعد في تقديم الوثائق الإدارية الفردية فكيف بنا ونحن مقبلون على ملامسة مئات الصفحات من تلاميذ قادمين من أوساط اجتماعية هشة لا تعرف لوسائل التعقيم سبيلا.. كما أن العديد من مؤسسات التعليم العمومي تعاني من النقص الحاد في مواد التعقيم والتنظيف..
فلنحذر جميعا من أن نكون السبب في نشر المرض بالوسط المدرسي، وإذا كان لابد من إنجاز هذا التقويم فلنعتمد فيه على صيغ أخرى غير كتابية (شفهية)… أو على الأقل ننجزه ثم نضعه في ركن خاص بالقسم لمدة لا تقل عن أربعة أيام دون تصحيحه، مع الحرص على تعقيم اليدين جيدا بعد إنجازه وجمع الأوراق…
حفظ الله الجميع من كل سوء.. آمين 🤲