ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med
باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية.
خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس
خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس
يرى ديكارت أن العقل ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون، وهكذا سيعتبر ديكارت أن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ الولادة، وبالتالي هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية، وإذا كان العقل أعدل قسمة بين الناس فإنهم يختلفون فقط في طريقة استخدامه، لذلك فقد وضع ديكارت أربعة قواعد لحسن استخدام العقل، وهي:
§ قاعدة البداهة: وهي تعني أنه لا يجب أن نقبل من الأحكام والأفكار إلا ما يبدو بديهيا، واضحا ومتميزا بحيث لا يرقى إليه الشك أبدا.
§ قاعدة التحليل: يجب علي أن أقسم المسألة إلى أبسط عناصرها وأن أبدأ بمعالجة كل عنصر على حدة حتى يسهل علي حل المسألة ككل.
§ قاعدة التركيب: وهي تعني انه يجب الانطلاق من البسيط إلى المركب بشكل منظم ومرتب يمكنني من حل المسألة بسهولة.
§ قاعدة المراجعة: وهي تعني أنه يجب علي أن أقوم بمراجعات وإحصاءات شاملة للنتائج حتى أتأكد من أنني لم أغفل شيئا.
و يرى ديكارت أن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي، والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.
من المجازفة حصر إسهامات ديكارت المتعددة في الحقل الفلسفي وحده، ذلك أن روحه علمية بالدرجة الأولى. فقد استطاع أن ينتقل من روح سكولائية (تلقينية) وسطوية لاهوتية، إلى فكر عقلاني أسهم في بناء تصورات جديدة، بفضل التحولات العلمية التي عرفتها أوروبا آنذاك، وأساسا الانقلابات (الثورات) العلمية التي أحدثتها فيزياء غاليلي، على التصورات الفيزيائية والفلكية الكوبرنيكية والبطليموسية. شكلت هجرة ديكارت إلى هولندا، موطن الحريات في أوروبا، آنذاك، محطة هامة دفعته إلى الفكاك من سلطة اليسوعيين، وأتاحت له نافذة جديدة لتأمل العالم. فقد جمعته الصدفة بالطبيب الهولندي إسحاق بيكمن الذي يعود له الفضل في بعث ديكارت إلى درس العلوم الطبيعية والرياضيات للبحث عن الصلات بينهما. لقد كانت الحاجة إلى ديكارت في زمانه، حاجة إلى أسس جديدة (ميتافيزيقية وفلسفية) للعلم الحديث. ففي الوقت الذي ظلت فيه الميتافيزيقا الأرسطية سائدة بتحجرها وعقم مناهجها وتشعب استدلالاتها وقياساتها المنطقية، سعت العقلانية الديكارتية نحو البساطة والوضوح، نحو رسم منهج وقواعد جديدة لإرشاد العقل، لأن بإمكان هذا العقل أن ينتج المعرفة، وهو الأمر الذي يرفضه السكولائيون اعتقادا منهم بأن كل شيء معطى، وأن الإنسان مجرد متلق سلبي، لا دور له في عملية الإنتاج تلك. هذا التصور اللاهوتي الغارق في القدرية، لن يدوم كثيرا، لأنه سيتعرض لانتقادات ديكارت من أجل تقويضه. وبذلك، فالديكارتية هي بمثابة «بيان من أجل العقلانية»، «بيان من أجل العقل» دشن مرحلة جديدة محورها العقل والذات الإنسانية. بيان يقوم أولا، على الإقرار بالمساواة والعدل في توزع القدرات. فتقريره أن «العقل أعدل قسمة بين الناس»، هو تقرير بأولى مبادئ الديمقراطية أي المساواة، وأمام هذا المبدأ، لم تعد الحاجة إلى تقرير التراتبية أو ما شابه، لأنه حطم وقوض الأساس الذي تقوم عليه المعرفة التقليدية. الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان يعود هذا التعبير، إلى العقلاني الفرنسي فردناند ألكيي Ferdinand، Alquié، الذي درس النصوص الديكارتية وفحصها بدقة متناهية. يشتهر ديكارت بقوله المتداول جدا «أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود». وهو قول يؤسس لفهم جديد للذات الإنسانية، من خلال سعيه نحو قلب النظام المعرفي القديم، لصالح تصور جديد ينبني على الذاتية كمنطلق نحو العالم. والذاتية عند ديكارت، لا ينبغي أن تفهم كمقابل للموضوعية، بل كأساس ومبدأ كل شيء، بإمكانها الوصول إلى اليقين، بدلا من البحث عنه في شيء آخر. والغاية الكبرى لديكارت وراء هذا المفهوم هي التأسيس لميتافيزيقا جديدة تتمحور حول الإنسان كأسمى كائن ميتافيزيقي. فالحقيقة لا تقع خارج الذات الإنسانية بل في جوفها وفي قلبها، وهذا ما تستدعيه العلوم الحديثة التي تنطلق مع ميكانيك غاليلو غاليلي وفلك كوبرنيك، حيث لم يعد الكون فراغا تحكمه قوانين عمياء، كما لم يعد فضاء لا متناهيا. بل إن العلاقة بين الأجسام علاقة ميكانيكية (العلاقة بين السرعة والقوة). رسم ديكارت تصوره الميتافيزيقي للعالم في كتابين هامين، من ضمن كتبه: كتاب مقال في المنهج، وكتاب التأملات الميتافيزيقية. لذا يصح القول إن فلسفته تنقسم إلى قواعد وتأملات. يتأسس النظام الديكارتي على التمييز بين نظامين: نظام الأشياء ونظام الحججl’ordre des raisons، فنظام العلل والحجج غير نظام الأشياء، ويهدف إلى هدم النظام القديم، ويتضمن صنفين من الأحكام: النظام التحليلي: analytique والنظام التركيبي: synthétique. يقر ديكارت بأنه كلما اتجهنا نحو القضايا التحليلية نكون أقرب إلى اليقين، والعكس صحيح، كلما اتجهنا نحو القضايا التركيبية نكون أقرب إلى الظن والشك والريبة. وعلى هذا الأساس، فالقضايا البسيطة أكثر يقينا من المركبة، وهو حال القضايا الرياضية المتميزة بالوضوح: المربع له أربعة أضلاع. الشك طريق إلى اليقين العقل «هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس». فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة، تختلف من شخص إلى آخر. يقودنا الانطلاق من هذه الفكرة، إلى تأكيد مبدأ المساواة، لأن اعتبار العقل ملكة فطرية، أثار أيضا اهتمام التجريبيين الإنجليز، الذين رأوا في ذلك أكبر زلة للعقلانية. فالعقل في نظر هؤلاء، ليس إلا أداة يستخدمها الإنسان لإنتاج المعرفة، ولكنها أداة لا يمتلكها الناس بالفطرة، قدر ما هي مكتسبة ترتبط وترتهن بالتجربة الإنسانية. أي أن العقل مجرد صفحة بيضاء. وسيخترق هذا السجال الفلسفي بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني كل التاريخ المعرفي للبشرية. دشن ديكارت تفكيرا جديدا، لأن اتباع آراء الآخرين لا يقدم أي جديد بالنسبة له. لقد كان بإمكانه اتباع آراء أفلاطون وأرسطو، إلا أن اقتناعه بأن ذلك الطريق لم يعد مجديا، أفضى به إلى البحث عن طريق جديد. هكذا سار وحيدا في طريق الظلمات، بحثا عن منهج جديد لهدم الآراء القديمة وبناء آراء جديدة. وبهذا سيتوجه بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها منذ طفولته، بل سيطرحها جانبا وسينطلق من الشك. لاحظ ديكارت أن معظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلق به. وأن معارفنا تتكون من آراء تتعارض فيما بينها. وهذا ما يستوجب أولا الشك فيها، ولو مرة واحدة، بهدف السعي وراء بناء معارف جديدة كل الجدة. فالحواس في نظره مخادعة، بحيث لا يستطيع التمييز بين عالم الحلم وعالم اليقظة. وهذا ما يستوجب ثانيا الشك فيها. لكن السؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن للشك أن يبلغ اليقين؟ هل يمكن الشك في البداهات واليقينات الرياضية (في الأعداد والأشكال) أن يؤدي إلى اليقين؟ يمكن للإنسان أن يخطئ بصدد هذه اليقينات الرياضية، مثلما يخطئ بصدد المحسوسات. وهذا ما يستلزم في نظر ديكارت، وجود إله كامل الضمان «يضمن عدم وقوعي في الخطأ، فالله وحده قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود». ما يبرر الشك إذن، في نظر ديكارت، هو أنه لا يملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي، تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله. صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل على طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية. وهي العناصر التي يعرضها لنا في الجزء الثاني من مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وإجمالا، فإن الشك الذي يطبقه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج»، يختلف عن الشك الذي يطبقه في كتاب التأملات، ذلك أن الشك في المقال، هو شك معرفي لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له ويضعها للجمه. في حين أن الشك في التأملات، هو شك جذري hyperbolique لا حدود له، يدفعه إلى أبعاده القصوى، لذا من اللازم الوقوف على كتاب التأملات لبيان مدى وجاهة هذا القول. ب – نحو شك جذري يحكي ديكارت في التأمل الأول، عن معرفته التي تلقاها والتي انبنت على آراء خاطئة، معلنا عزمه وإصراره الدائم على بلوغ اليقين، وعلى وضع ما تلقاه منذ الطفولة موضع شك. وهكذا يبدأ بالحواس (أهم مصدر للخطأ لأنها مخادعة)، ثم يشك في إن كان في اليقظة أو في النوم، ويدفع به إلى أقصاه عندما يشك في القضايا الرياضية. يقول في الفقرة الأولى، هناك كثير من الآراء الخاطئة التي نتلقاها منذ الصغر، وينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة. لكن لا ينبغي أن نعمل على هدم كل رأي على حدة، وإنما ينبغي هدم الأسس التي تقوم عليها، وأهم تلك الأسس: الحواس التي إذا خدعتنا فإن معرفتنا ستكون خاطئة. تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية، يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها. فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين. فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخطأ، وإما أن نصل إلى اليقين. لذلك فالعلوم عنده إما مركبة أو بسيطة. وهناك نظامان كما سبقت الإشارة: نظام الأشياء، ونظام العلل، وهذا الأخير نوعان: نظام تحليلي: تتميز أحكامه بكونها بسيطة، يقينية، بديهية وصادقة، كما هو الحال في الهندسة وفي الحساب. ونظام تركيبي: لأن الأحكام التركيبية غير يقينية وأقل بديهية، كحال الفلك أو الطب. دشن ديكارت الشك بالحواس، وانتقل إلى النوم واليقظة، وانتهى بالحقائق الرياضية. وكان يعتقد دوما أن هناك إلها كلي القدرة والاستقامة، وهو خالق الإنسان على ما هو عليه.
مقدمة: يعد مفهوم العنف الرمزي من أكثر اكتشافات بورديو الفكرية تألقا وأهمية، وقد شكل مفتاحا سوسيولوجيا لأكثر القضايا الفكرية أهمية وخطورة في العصر الحديث. ويمتلك هذا المفهوم سحره الفكري الخاص في قدرته على استكشاف أعمق مجاهل الحياة الفكرية تعقيدا، واستقصاء أبرز متاهاتها السياسية والاجتماعية تشابكا وغموضا. وقد وُّظف هذا المفهوم جيدا في إنارة الدهاليز المظلمة لقضايا اجتماعية كبرى مثل: الهوية، والطبقة، وإعادة الإنتاج، والصراع الطبقي، وسلطة الدولة. ويعود للمفكر الفرنسي بيير بورديو الفضل في بناء هذا لمفهوم وإكسابه المشروعية الفلسفية، إذ بذل جهودا مُضنية من أجل التّعريف بأبعاده وحدوده، وعمل على استكشاف دينامياته السوسيولوجية وملابساته الفكرية، كما استكشف الآثار والوظائف الأيديولوجية التي يؤديها العنف الرمزي الذي يتصف بذكائه ودهائه وقدرته على التخفي، ونصب الكمائن لضحاياه في مختلف المستويات الأيديولوجية، كما بيّن قدرة هذا النوع من العنف على المراوغة والمداهنة إلى درجة يستطيع فيها أن يتخفى على ممارسيه وضحاياه في آن واحد. تناول بورديو العلاقة الملتبسة بين العنف الرمزي واستلاب الهوية، ودرس أبعاد وحدود هذه العلاقة بمختلف تجلياتها مستكشفا مختلف الآثار التي يتركها هذا العنف في التكوينات الإنسانية للهويات الفردية والاجتماعية. وعمل في سياق ذلك على تقصي الآلام النفسية التي يولدها هذا العنف عند الجماعات المهمشة، مثل: الجروح النرجسية للهوية، وتبخيس الذات، والنكوص الثقافي وغير ذلك من الأعراض السيكولوجية الثقافية. في مفهوم العنف الرمزي غالبا ما يجري الخلط بين العنف الرمزي والعنف السيكولوجي، فهناك عدد كبير من الباحثين الذين يحيلون العنف الرمزي إلى العنف السيكولوجي، وهذا يتعارض مع الحقيقة السوسيولوجية للعنف الرمزي الذي يختلف كليا وجوهريا عن العنف النفسي كما عن أي شكل آخر من أشكال العنف. فالعنف الرمزي مقارنة بأي شكل آخر من أشكال العنف يكون غامضا مستترا خفيا ناعما، ولكن نتائجه قد تكون كارثية فيما يتعلق بتوجهات الحياة الاجتماعية بمساراتها الفكرية والأيديولوجية. ويضاف إلى ذلك أنه عنف إشكالي وظيفي، يحمل في ذاته طابعا أيديولوجيا، وهو يثير كثيرا من الجدل بين الباحثين والمفكرين. وقد دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي، في أغلب كتاباته السوسيولوجية والتربوية، كما في أعماله الأدبية، ووظفه في استكشافه لأبعاد الهيمنة الذكورية، والسيطرة الأيديولوجية، ومعاودة الإنتاج، وفي دراسته ” للهابيتوس” أو التطبيع الطبقي والعائلي وغير ذلك من القضايا الفكرية والاجتماعية التي تناولها في مجمل نظرياته وأعماله العلمية ([1]). يعرف بورديو العنف الرمزي ” بأنه عنف ناعم خفي هاديء، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد”، ويقول عنه في سياق آخر: “إنه عنف هادئ لا مرئي لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه”. ويتمثل في اشتراك الضحية وجلادها في التصورات والمسلمات نفسها عن العالم. ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيرا ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه ([2]). والعنف الرمزي ينبثق عن سلطة رمزية، ويعبر في جوهر الأمر عن توجهاتها، وهذه السلطة تقوم على أسلوب التورية والتخفي، فهي سلطة لامرئية تنطلق من مبدأ تواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها. لهذا يكون تأثير السلطة الرمزية أعمق و أخطر من أي سلطة أخرى لأنها في جوهرها تستهدف البنية النفسية و الذهنية لضحاياها، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية تخطط لفرض أهدافها المرسومة وإنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة لإخضاع من تستهدفهم، وذلك لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له، و تمارس هذه السلطة الرمزية فعاليتها بطريقة منظمة و بنائية متكاملة تحت غطاء التخفي والاختفاء، أي وراء أقنعة المألوف العادي وأنظمة التقاليد والمقولات والخطابات المنغرسة في عقول الناس والثاوية في ضمائرهم. ويمكن القول في هذا السياق أن العنف الرمزي هو نوع من العنف الثقافي الذي يؤدي وظائف اجتماعية كبرى، ويمكن تلمسه في وضعية الهيمنة التي يمارسها أصحاب النفوذ على أتباعهم بصورة مقنّعة وخادعة، إذ يقومون بفرض مرجعياتهم الأخلاقية والفكرية على الآخرين من أتباعهم، ويولدون لديهم إحساسا عميقا بالدونية والعطالة والشعور بالنقص ويخضعونهم لنسق من المعايير والرموز التي تؤكد دونيتهم ووضعياتهم الثانوية عبر عمليات ومشاعر النقص والضعف والافتقار إلى الجدارة والموهبة والشرف والكرامة وضعف تقدير الذات. فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على الشعور بالدونية ، وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية، وازدراء الأنا ، كما تمثل في جوهرها عملية تمويه وتورية واختفاء ومواربة في تحقيق أهدافها وغاياتها السلطوية. والعنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أم لا، يولّد آلاما كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية وتستلبها. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من المعارف والمقولات والمفاهيم والتصورات التي تحدد هوية جماعة ما مقارنة مع الجماعات الأخرى. وبالتالي فإن هذه التصورات الرمزية حول الذات التي يستبطنها الفرد رمزيا تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وهذه التصورات كما أشرنا تكون نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية. جروح الهوية: تتعرض وحدة الهوية للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement) الذي يضع الفرد تحت تأثير نوبة من الشعور بالقلق والتوتر. فالفرد، رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده، ليس واحدا على مرّ الزمن، ومن ثم فإن أفعاله في وقت محدد ليست تعبيرا مؤكدا للشعور بالهوية وتأكيد الذات، وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها الفرد في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار. فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية عبر أسئلة تتعلق بالهوية، مثل: من أكون؟ أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي؟ ما ولاءاتي الأساسية؟ في هذا النسق من الأسئلة يرتسم الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا بمعنى تأخذ الرموز دورها في تشكيل هوية الفرد والجماعة. وهذه التحديدات الرمزية الخاصة بالهوية تنطوي على رؤية شمولية يمكنها أن تتجلى وفقا لتنوع الحالات والمواقف التي يواجهها الفرد في مسار حياته الإنسانية. لنأخذ مثالا على تأثير الحقل الرمزي في تكوين الهوية: يمارس اسم الفرد فعالية رمزية مؤثرة، لأن الاسم غالبا ما يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعوريا في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي. وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزيا في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه عبر تجاربه الحية في الحياة وعبر علامات راسخة ونقاط علام أساسية توجه مسار حياته نفسيا ورمزيا، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محورا أساسيا للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم. فالفرد، عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا، يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية لتشكل مصدرا للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهريا بالعقائد الدينية والفلسفية؛ كأن يكون المرء مسلما أو مسيحيا أو عقلانيا أو ملحدا. فالإنسان كائن اجتماعي ينزع أن يكتشف نفسه بطريقة مميزة غالبا ما تكون رمزية، ووفقا لذلك فإن الفرد يحمل في ذاته هوية الجماعة التي ينتمي إليها عبر تدفق هائل من الرموز والإشارات والمعاني التي توجد في البيئة الثقافية للجماعة التي ينتمي إليها. لا يولد العنف الرمزي ضد الجماعات الهامشية بالضرورة من السلوك المتعمد والمقصود. وإذا كانت هناك أفعال ومقولات، تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته، فهذه الأفعال والأعمال تكون من نمط آخر مختلف تماما. فالآلام التي تتعرض لها الهوية لا تقف عند حدود احتقار الذات، إذ يمكن أن تتجاوز ذلك إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وترسم أبعادها. العنف الرمزي بالتبخيس: كل تأكيد للذات في الحياة – كما يعتقد جورج ميد George Mead – يتضمن أحكاما قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر، فإن الهوية تتشكل جوهريا عبر العلاقة بالآخر، وهذا بالضرورة يقتضي تصنيفا اجتماعيا للناس في طبقات ومراتب وفقا لمعايير الأعلى والأدنى. فبعض الجماعات تنزع إلى إظهار معايير ومؤشرات تفوُّقها، وهذا يشكل موقفا مكروها ومرفوضا من قبل الجماعات الأخرى. فالأيديولوجيات الطبقية التي تتعلق بالطبقات الارستقراطية العليا أو النخبة أو البرجوازية أو الطبقة المتوسطة التي تحمل رسالة حضارية تصنف جميعها في هذه الفئة الاستعلائية. فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم ومدمر، ويمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية لتوازن المجتمعات الديمقراطية القائمة على مبدأ المواطنة. ففي المجتمعات الأوروبية يوجد اليوم رفض صريح للخطاب العرقي والسلوك التعصبي والتمييز الذي يستهدف الجماعات وينال من قيمتها وشخصيتها وأركان هويتها المتعلقة بالأصل والعرق والدين والجنس. فالتبخيس والتهميش يتم عبر الإهانات والتحقير والتصغير والتشهير والتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية. لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة، وذلك تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات: بلدان العالم الثالث، البلدان النامية، بلدان الجنوب، البلدان المتخلفة، تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها، التي أطلقت على الشعوب المغلوبة، تمثل أحكاما قيمية غامضة تبخيسية بذاتها، وترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها. في البلدان الغربية تتشبع السياسات الاجتماعية التي اتخذت لمساعدة الفئات المهمشة والضعيفة، مثل: العاطلين عن العمل، والمعوقين، والمهجرين، والفقراء، بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة، في ظل غياب مريب للخدمات الاجتماعية، تشكل شاهدا على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية ؛ حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية عمدا، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر، يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية، وفقدان القيمة الإنسانية، وعدم الأهلية. فالنزعات: القومية، والعلمانية، والاشتراكية الثورية، والليبرالية، تمثل تيارات وقوى سياسية، عملت على نشر أيديولوجيات شمولية، ترتكز في جوهرها إلى ثقافة تعصبية مهينة، ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية، إذ يجد الخطاب التبخيسي في تلك الثقافة السياسية الجديدة مصادره، ويأخذ مداه، ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم. لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا، في القرن العشرين، إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات العرقية والجماعات الهامشية والأقليات في تلك البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعا لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقا لهذا المقياس يتم الحكم على دونية المهاجرين، الذين تدفقوا إلى أوروبا، في النصف الثاني من القرن العشرين؛ وبحكم الظروف السائدة آنذاك، وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء، وشكلوا موضوعا للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين، وهذا بدوره أثر كثيرا على تدمير مكونات الهوية الثقافية لديهم. تدمير المرجعيات الثقافية: تأخذ الثقافة وضعية رمزية وهي في حقيقة الأمر تشكيل رمزي. ومن هذا المنطلق يعرفها سلزنك ” بأنها، أي: الثقافة، كل شيء يتم إنتاجه عن طريق الخبرة الرمزية المشتركة وله القدرة على مساندتها “([3]). نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن ينتمي إلى ذاته، ويشعر بتماسك هويته، ويأخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه، وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات، تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية، التي تمكّن الفرد من أن يرسم نسقاً من الفعاليات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه وجودا وذاتا وهوية، في عملية تفاعله مع مختلف مثيرات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا وجودية وحيوية لعلاقاته بالوسط والآخر، حيث يفرض المرء، بالاستناد إلى شروط وجوده، مخططا واضح المعالم للحياة والوجود يحدد من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه؛ وتكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود، من مثل: ما الأشياء التي تخصني؟ وما التي تخصك أنت؟ من خصومي؟ من أعدائي؟ كيف أفرض نوعا من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة التي يفضل أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة التي يجب الاهتمام بها؟ ما الأمور التي يمكن أن تثمن عاليا؟ وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة وغيرها تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز الثقافي. وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل، أو ضرر، أو تدمير، يصيب هذه المرجعيات، سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها، وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة، التي تشكل نوعا من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية، وأي أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية، يمكنها أن تشكل خطرا على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية. ويمكن القول هنا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا هو الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي عملت على هدم المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب والمسببات فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية وأدى هذا كله في النهاية إلى التباس الهوية واضطرابها. فالجماعات المهمشة، ولاسيما الأقليات، تعلن رفضها لكل ضروب القهر الرمزي والأخلاقي حفاظاً على هويتها، وهي تعمل في الوقت نفسه على مهاجمة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها وتصمهم بالخيانة والعار. وهذه الحالة الدفاعية لا تلغي مع ذلك قلق هذه الجماعات وخوفها، وقد تدفع هذه الوضعية بهذه الجماعات إلى الانغلاق العقائدي لتعزيز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظا على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفا لهذا النمط من العنف الرمزي يتمثل في عملية تدمير الرموز، ولاسيما الرموز الدينية تعبيرا عن رفض كل ما يتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية. ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعا من التبشير الكلاسيكي الموسوم بالعنف، الذي يفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى، مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية. وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تكون على درجة عالية من القوة والتأثير، حيث يؤدي هذا العنف إلى ثقافة المتاريس، أو إلى التمترس الثقافي، كما يؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي إلى الفوضى الأخلاقية وفقا لمفهوم “الأنومي” عند دوركهايم، إذ تكمن خطورته في دفع الجماعات المهمشة إلى استبطان مشاعر الدونية، واستصغار الأنا، وازدراء الذات، وتبخيس الهوية، كما يؤدي أحيانا إلى توليد مشاعر النقمة واللجوء إلى العنف عبر التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد. ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمينة ([4]). الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي: يشترك الضحايا والجلادين في التصورات الاستلابية نفسها عن العالم ويؤمنون معا بكل المقولات والمفاهيم والتصورات التي تضع الإنسان في أقفاص المذلة والمهانة والاستلاب. ونحن عندما نتأمل في الأفكار الاستلابية ضد الفئات المهمشة نجدها خرقاء عمياء جوفاء في جوهرها ومضمونها حيث لا تؤيدها الحجج العقلية ولا يرأبها المنطق الذكي. فالعنف الرمزي اشد أنواع العنف الاستلابي الموجه ضد الإنسان خطورة وفتكا وهو نوع من العنف الثقافي الذي تشكل عبر مئات السنين من تاريخ الإنسانية. وفي مجتمعاتنا العربية يشكل الإنسان موضوعا للعنف الرمزي في الممارسات الثقافية والتربوية السائدة في حياتنا الاجتماعية، ويتميز هذا العنف بقدرته الهائلة على التخفي وراء الرموز والدلالات والمعاني كما يتميز بقدرته على التغلغل العفوي في الوعي على صورة عدوانية مضمرة ضد المرأة والطفل والفئات الهامشية. ويتجلى العنف الرمزي ضد الفئات الاجتماعية المهمشة في نسق من متدفق الإشارات والدلالات والرموز السلبية التي تستلب الإنسان وتحاصره دون أن تأخذ هذه المعاني والرموز صورة واضحة صريحة بشحنتها العدوانية التي تضع الإنسان المهمش في قفص الاتهام الرمزي. ولو أخذنا الاستلاب الرمزي الموجه ضد المرأة على سبيل المثال لا الحصر لوجدنا نسقا رمزيا بفيض لا حدود له من الصفات والسمات السلبية التي تأخذ المرأة إلى مرابض التوحش والجريمة والغواية تحت عنوان الطبيعة الشريرة للمرأة. فالمرأة وفقا لهذا النسق تتصف بالخبث والكذب والسحر والفتنة والعار والغطرسة والخفة وضعف العقل والخيلاء والغواية والشيطنة حيث هي باختصار مصدر كل شر وفساد وبلية وشكوى تحلّ بالإنسان بالمجتمع. يتميز العنف الرمزي في ثقافتنا بقدرته على التخفي والانسياب في العقل دون أن يشعر ضحاياه بهذه القوة التي تخضعهم أو تستلبهم. فهو أشبه بالتيارات البحرية التي تأخذك إلى أعماق البحار وأنت ما زلت تعتقد أنك في المكان الذي كنت فيه لم تغادره. فالعنف الرمزي قوة تتغلغل فينا وتبرمجنا بصورة لاواعية فتجعلنا وكأننا نخضع لأنفسنا وليس لقوة خارجية اخترقت جدار وعينا واستقرت في عقولنا الباطنية. باختصار إننا نستبطن رموز هذا العنف بطريقة تبدوا لنا وكأنها قيما كبرى يجب أن نتبناها وندافع عنها، وخير مثال على ذلك دفاع العبد عن سيده ، والضحية عن مفترسها، والمرأة عن رجلها الذي يمتهن كرامتها، لأن العنف بطاقته الرمزية تغلغل في أعماقنا واستقر في عقلنا الباطن، فأخذ يبرمجنا من الداخل من العمق، مع أنه في الجوهر نابع من مصادر خارجية. باختصار إنه أشبه بالأفيون الذي يسيطر على ضحاياه ويدمرهم من الداخل دون يشعروا به، وصاحب العنف الرمزي أي من يروج له ويصنعه أشبه بمروج المخدرات الذي ما أن يدفع ضحاياه لتذوقه حتى يصبح قوة داخلية تسيطر عليهم وتدمرهم إلى حين. والمرأة من أكثر الفئات الاجتماعية تأثرا بالعنف الرمزي الذي تتشبع برموزه وسمومه في مراحل طفولتها ونشأتها وشبابها حتى تصبح أكثر الفئات الاجتماعية إحساسا بالدونية واقتناعا بها فهي أكثر من يؤمن بطبيعتها الشريرة المزعومة وأكثر إيمانا بأنها دون الرجل وأكثر اندفاعا في مهاجمة حقوقها ومهاجمة الرجل الذي يدعو إلى تحريرها. وهذه التصورات ليست حكرا على عالم الرجال بل تحتل مكانها في عقل المرأة ووعيها وهذا يمثل قمة الاغتراب وغابة الاستلاب الإنساني. فالمرأة بذاتها تدرك هذه التصورات وتتمثلها في كثير من الأوقات حتى أنها تجد مبررا لخطاياها وعيوبها تحت عنوان ضعف المرأة وغوايتها وقابليتها للإغواء. فالمرأة تخضع لنوع من الاستلاب الرمزي الذي يفرغها من مضمونها الإنساني ويحرمها من امتيازاتها الأخلاقية والاجتماعية، وما يجري على المرأة في تعرضها للاستلاب الرمزي يجري على الفئات الهامشية الدنيا في المجتمع، مثل الأطفال، والجماعات العرقية، والطبقات الاجتماعية الدنيا مقارنة بالطبقات العليا والوسطى. خلاصة: يقول المفكر الفرنسي بول ريكو Paul Ricœur إن ” العنف الرمزي يتجه في مساره، بوضوح أو بغموض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى السيطرة على الآخر والهيمنة على مقدرات وجوده ([5]). فكل عنف وفقا لتصور ريكو هو اعتداء على إنسانية الآخر، وبالتالي فإن أي عنف يشكل عملية ضرر وأذى موجه ضد الآخر، وهذا يتضمن رفض الاعتراف بوجود الآخر وإنسانيته أيضا. فالرغبة في إقصاء الخصم وإبعاده إلى دائرة الصمت، ومن ثم العمل على إلغائه تتحول إلى إرادة طاغية تتجاوز حدود الرغبة في المصالحة معه وبناء التوازن. وهنا تتعدد أشكال العنف وصيغه التي تبدأ بالإهانة والاحتقار والإذلال لتصل عبر التعذيب إلى الموت والإفناء. ووفقا لهذه الوضعية يمكن القول إن النيل من كرامة الإنسان والطعن في أهليته الإنسانية يشكل طعنا في وجوده وكينونته، ونيلا من حريته وكرامته. ولذا فإن فرض الصمت على الآخر هو صيغة من صيغ العنف، كما أن حرمان الإنسان من حرية الكلام، يعني حرمانه من حق الحياة نفسها. فالظلم الذي يحيق بالإنسان ضمن شروط اغترابية، تتمثل في الإقصاء والقهر، يشكل وضعية عنف مجسد ومجسم. فالعنف هنا لا يمثل كيانا ذاتيا قائما بذاته، بل يوجد في وسط اجتماعي محدد، حيث يتخذ هيئته وصورته بين الناس والبشر وخارجهم أيضا، ومع ذلك فإن الإنسان يبقى في النهاية المسؤول عن حضور العنف وممارساته المختلفة. والعنف الرمزي كما يرى سيمون وايل Simone Weil هو الفعل الذي يقوم به شخص ما لإخضاع الآخر وإفنائه، ولذا فإن ممارسة العنف حتى الحد الأقصى، تجعل من الإنسان مجرد شيء بالمعنى الدقيق للكلمة، ومثل هذا العنف القاتل يأخذ صيغا متنوعة فيما يتعلق بإجراءاته وأدواته ونتائجه. وإذ يقال اليوم إن العنف هو إساءة استخدام القوة والإفراط في توظيفها، فإنه لا غبار في القول: إن العنف يفوق ذلك ويتجاوزه؛ فالعنف بذاته أمر فظيع لأنه حالة اغتصاب لجسد الآخر وعقله ونفسه وكينونته الإنسانية. فكل عنف هو تعسف وفظاظة وتدمير وقهر، لأنه ينال من الإنسان ويستهدف كيانه الإنساني ويخترقه بالألم والمعاناة، كما يجرح ويدمي ويقتل الشخص الذي يقع ضحية له. ومن المفارقة بمكان أن الإنسان الذي يقع ضحية العنف يصبح هو نفسه قادرا على ممارسة العنف ضد الآخرين. والإنسان عندما يفكر في نفسه ويتأمل في ذاته غالبا ما يكتشف صورة العنف في أعماقه. والعنف لا يقتل الخصم فحسب بل يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير إنسانية الذي يمارسه في جوهر الأمر. أن يضرب المرء، أو أن يُضرب، أن يَعتدي أو يُعتدى عليه، فهذا يعني ارتكاب الخطيئة والخروج عن الصراط المستقيم. وفي أي حال من الأحوال فإن ممارسة العنف أو الخضوع له عملية تحول الإنسان إلى حالة التشيؤ وتدفعه إلى دائرة الاغتراب. وينزع العنف الرمزي إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التي غالبا ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف. فالعنف الرمزي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي، وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة ثقافيا وإيديولوجيا على الآخر وتطبيعه. والعنف الرمزي وفقا لذلك هو القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، كما أنه القدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر عملية التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها، وبناء تصورات أيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية بعينها، فالعنف الرمزي تعبير عن حضور رأس مال رمزي يتجلى في صورة عناصر ثقافية (قيم، تصورات، أفكار، معتقدات، مقولات، إشارات، ورموز…الخ)، وبالتالي فإن رأس المال الثقافي ينزع إلى امتلاك السلطة الثقافية – أي المشروعية في الحضور والممارسة- وهذا يعني أن ممارسة العنف الرمزي مرهونة بوجود رأسمال رمزي، وبالتالي فإن هذا الرأسمال يُتوّج بسلطة رمزية تعبر عن مشروعيته، والمشروعية تعني هنا قبول هذه السلطة على أنها مشروعة وحقيقية من قبل هؤلاء الذين تمارس عليهم ([6]).
جامعة الكويت …………………… [1] – Pierre Bourdieu, Jean-Claude Passeron, Les héritiers. Les étudiants et la culture (1964), Paris, Minuit, 1985 ; La reproduction. Éléments pour une théorie du système d’enseignement (1970), Paris , Minuit, 1973 ; P. Bourdieu, La distinction. Critique sociale du jugement (1979), Paris, Minuit, 1996 ; La domination masculine, Paris , Le Seuil, 1998. [2] – P. Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Minuit, 1980, p. 219. [3] – سعد جلال، علم النفس الاجتماعي، الاتجاهات التطبيقية المعاصرة، الإسكندرية، 1984. ص 29. [4] – Ph. Braud, « Violence symbolique, violence physique. Éléments de problématisation », dans Jean Hannoyer (dir.), Guerres civiles. Économies de la violence, dimensions de la civilité, Paris , Karthala-Cermoc, 1999, p. 33-45. [5] – Paul Ricœur, Histoire et vérité, Paris, Le Seuil, 1955, p. 227. [6]- Pierre Bourdieu Réponses. Pour une anthropologie réflexive, Seuil, Paris , 1992 , p.123.
مركز الشرق العربي المصدر : شبكة النبأ المعلوماتية- 8/5/2012م
مقدمة : لم تكن ألانثروبولوجيا مُنذ نزعتها ألاولى في القرن الثامن عشر قد أحدثت دوياً عالياً في الاوساط العلمية، نتيجة عدم توفر الإمكانيات والمستلزمات الكافية لاستقلاليتها. أو لربما قدرها المحتوم الذي جعلها تشابهُ علم الإجتماع إلى الحد الذي لا يستطيع الباحث التمييز بينهما كعلمين منفصلين عن بعضهما.مما أدى إلى عدم ألاهتمام بها كسائر العلوم الاخرى.على الرغم من أن القرن الثامن عشر، يعتبر نقطة الإنطلاقة التي سارت بها الانثروبولوجيا. إلا أنه لم يمثلها تمثيلاً حقيقيا. كثيراً ما يتردد ” وخاصة ونحن في القرن الواحد والعشرون” الحديث عن ألانثروبولوجيا وبحوثها التي بدأت تزخر بها مكتباتنا اليوم. إلا أنها لم ترَ النور بين طلابنا ومثقفينا، او لعل البعض منا لم يعرف ما هي الانثروبولوجيا ؟ أو بالاحرى لم يسمع بها سابقا. وهذا بالطبع ناتجٌ عن شحة الكتب التي تعّرف الانثروبوجيا من جهة، وتجاهلنا لهذا العلم- وإفتقار جامعاتنا له من الجهة أخرى. شهدَ القرن العشرين ظهوراً رائعاً للانثروبولوجيا آثار إنتباه المثقفين والباحثين والمهتمين بالعلوم الإجتماعية. وهذا الظهور تمثل بمؤلفات العديد من عباقرة الانثروبولوجيا ومنهم : البروفيسور آدم كوبر، وتالكوت بارسونز، وبرجس ولوك، وأميل دروكايم، والعلامّة راد كلف براون، ومالينوفسكي. لقد كانَ لظهور هؤلاء العباقرة في القرن العشرين أثراً بالغاً في ألاوساط العلمية، حيث إستطاعوا أن يحدثوا تغييراً جذرياً أو نقلة مرحلية أفاقت ألانثروبولوجيا من رقدتها، وأخرجتها من ظلامها الدامس. أما من عباقرتنا العرب فتمثلت نهضة ألانثروبولوجيا بأسماء عباقرة كثيرين ومنهم: د. قيس النوري، ود. شاكر مصطفى سليم، ود. علي الوردي. وآخرين. وبذكري للدكتور علي الوردي سيعترض هنا مُعترض أو سائل ويقول : إن الدكتور علي الوردي عالمُ أجتماع ؟ فما إرتباطهُ بالإنثروبولوجيا ؟. في حقيقة ألامر إننا نوافق هذا الاعتراض، لكننا نود أن نشيرَ إلى أن مؤلفاتَ الوردي كانت ذات صبغة أو طابع أنثروبولوجي أكثر مما هو سوسيولوجي.فالإنصاف يحتم علينا أن نعتبر الدكتور علي الوردي باحثٌ أجتماعي وانثروبولوجي بوقتٍ واحد، وهذا يظهر بوضوح لدى المتتبع لمؤلفات الوردي. تفتقر ألانثرولوجيا في الوطن العربي إلى الشهرة فقط، بعدما توفرت جميع المستلزمات التي تؤهلها كعلم مستقل في جامعاتنا.واليوم نشهد هذا الافتقار بجلاء بعد ملاحضاتنا الدقيقة لما يجري في الاوساط العلمية. هذا ولم يكن للانثروبولوجيا نصيبٌ وافٍ في جامعاتنا. حيث نجدها في بعض جامعات المملكة العربية السعودية ومصر والاردن وتونس والعراق. وهذا بحد ذاته يثبت تأخر العرب عن أقرانهم الغرب، في مجال نشوء وتطور ألانثروبولوجيا. تأريخ الانثروبولوجيا في العراق : مما تجدر الإشارة إليه إن عهدَ الانثروبولوجيا في العراق لم يبدأ الا قبل سنواتٍ عدة. وهذا ناتجٌ عن إنعزال العراق وتخلفهِ عن الركب الذي سارت بهِ أغلب الدول العربية، على الرغم من إنها متأخرة كثيراً ، هذا إذا ما قورنت بالدول الغربية. بدأت جامعة بغداد بأدخال ألانثروبولوجيا لها.حيث ينشطر قسم علم الإجتماع في جامعة بغداد – إبتداءاً من المرحلة الثالثة الى ثلاث فروع هي : علم الإجتماع- والخدمة الإجتماعيّة – ومن ثم أضيف لها فرع ألانثروبولوجيا. وقد إبتدأ هذا عام 1988. وفي عام (2003- 2004) أي بعد سقوط النظام السابق، تم إفتتاح قسم ألانثروبولوجيا التطبيقية في الجامعة المستنصرية في بغداد كقسم مُستقل وهو القسم الوحيد في العراق الذي يحمل هذا الاسم. إننا نأمل أن يتم إعلاء شأن الانثروبولوجيا والإهتمام بها كسائر العلوم الإنسانية الاخرى.وهذا لا يتم الا بفتح المجال الواسع لها في جامعاتنا وتشجيع الدراسات الميدانية التي تجري وفقاً لمتطلبات هذا العلم.
ما هي الانثروبولوجيا ؟ ألانثروبولوجيا هي علمُ الإنسان. وقد نحُتت الكلمة من كلمتين يونانيتين هما: ((anthropos ومعناها ” الانسان” ، و (logos) ومعناها ” علم”. وعليهِ فأن المعنى اللفظي لإصطلاح ألانثروبولوجيا (anthropology) هو علمُ الإنسان. وتعُرّف ألانثروبولوجيا تعريفاتٌ عدة أشهرها : 1- علمُ الإنسان 2- علمُ الإنسان وأعماله وسلوكه. 3- علمُ الجماعات البشرية وسلوكها وإنتاجها. 4- علمُ الإنسان من حيث هو كائنٌ طبيعي وإجتماعي وحضاري. 5- علمُ الحضارات والمجتمعات البشرية. هذهِ التعريفات هي ل ” الانثروبولوجيا العامّة”، ويمكنُ من خلال التعريف الرابع أن نعرفَ ” ألانثروبولوجيا الإجتماعية ” : بأنها علم الإنسان من حيث هو كائنٌ إجتماعي. (1)
أقسام ألانثروبولوجيا العامّة : تقسم ألانثروبولوجيا إلى أربعة أقسام رئيسة من وجهةِ نظر ألانثروبولوجييّن في بريطانيا، وهذهِ ألاقسام هي : 1- ألانثروبولوجيا الطبيعية: physical anthropology يرتبط هذا القسم بالعلوم الطبيعية وخاصة علم التشريح وعلم وظائف ألاعضاء ” physiology ” ، وعلم الحياة “”Biology. وينتمي هذا القسم إلى طائفة العلوم الطبيعية، وأهم تخصصاتهُ علم العظام “Osteology” ، وعلم البناء الإنساني Human Morphology””، ومقاييس جسم الإنسان anthropometry” “، ودراسة مقاييس ألاجسام الحية “Biometrics” ، وعلم الجراحة الإنساني “Humanserology”. ويُدرّس هذا القسم في كلياتِ الطب والعلوم ومعظم المتخصصينَ فيهِ من ألاطباء وعُلماءَ الحياة، ولكنهُ يدرّس أيضاً في كلياتِ العلوم الإجتماعية في أقسام ألانثروبولوجيا.(2) وتتناول ألانثروبولوجيا الطبيعية دراسة ظهور الإنسان على ألارض كسلالةٍ مُتميزة، وأكتسابه صفات خاصة كالسير منتصا، والقدرة على إستعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيا. وإنتشاره على ألارض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسمّية المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات ألارض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال ألانوف. وتدرس الوراثة، وإنتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.(3) 2- ألانثروبولوجيا ألإجتماعيّة: وتتركز الدراساتُ فيها على المُجتمعات البدائية. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول النامية والمُتقدمِة. فتدرس البناء ألإجتماعي والعلاقات ألإجتماعية والنظم ألإجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف ألإجتماعية، والنظم الإقتصادية، كالإنتاج ، والتوزيع، والإستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. كما تدرس النسق الإيكولوجي.(4) يهتم فرع ألانثروبولوجيا الإجتماعيّة بتحليل البناء ألإجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء ألإجتماعي، وهكذا يتركز إهتمام هذا الفرع بالقطاع ألإجتماعي للحضارة، ويتمّيز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء ألإجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم ألإجتماعية ” النظرية الوظيفية” للعلامة “راد كليف براون”، وأساسها إن النظمَ ألإجتماعية في مجتمع ما،هي نسيجٌ متشابك العناصر – يُؤثر كل عنصر في العناصر ألاخُرى، وتعمل تلكَ العناصر على خلق وحدة إجتماعية تسمح للمجتمع بالإستمرار والبقاء، ولا تهتم ألانثروبولوجيا ألاجتماعية المُعاصرة بتأريخ النظم ألإجتماعية، لإن تأريخ النظام الإجتماعي لا يفسر طبيعتهُ وإنما تفسر تلكَ الطبيعة عن طريق تحديد وظيفة النظام ألإجتماعي الواحد في البناء ألإجتماعي للمجتمع.(5) 3- ألانثروبولوجيا الحضارية ( أو الثقافية) : وتدرس مُخترعات الشعوب البدائية، وأدواتها، وأجهزتها، وأسلحتها، وطرُز المساكن، وأنواع ألالبسة، ووسائل الزينة، والفنون، وألآداب، والقصص، والخرافات، أي كافة إنتاج الشعب البدائي المادي والروحي. كما تركز على ألإتصال الحضاري بين الشعب ومن يتصل بهِ من الشعوب. وما يقتبسهُ منهم، والتطور الحضاري، والتغير ألإجتماعي. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول المتقدمة والنامية.(6) 4- ألانثروبولوجيا التطبيقية : وحينَ إتصل ألاوربيونَ عن طريق التجارة والتبشير وألإستعمار بالشعوب البدائية، نشأت الحاجة إلى فهم الشعوب البدائية بقدر ما تقتضيهِ مصلحة ألاوربيين في حكم الشعوب وإستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة. فنشأ فرعٌ جديدٌ من ألانثروبولوجيا يدرس مشاكل ألإتصال بتلكَ الشعوب البدائية ومعضلات أدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها. ويُدعى هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية “. (7) وقد تطورَ هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية ” كثيراً ، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام ألانثروبولوجيا وفروعها، إذ إنهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ ألاقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو ألاداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع ألانثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع. وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها : التربية والتعليم، والتحضّر والسُكان، والتنمية الإجتماعية والإقتصادية، خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، والمجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، والإعلام، وألإتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، والتأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور ” التراث الشعبي”، والمتاحف ألاثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة،والعسكرية والحرب النفسية، والسياسة ومُشكلات ألادارة والحكم،والجريمة والسجون….الخ. ومن تطور هذا القسم ( ألانثروبولوجيا التطبيقية) وإزدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للانثروبولوجيا الحضارية والإجتماعية حيث أختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد اعلاه •علاقة الانثروبولوجيا ببعض العلوم الإجتماعية (9): للانثروبولوجيا علاقة وثيقة ببعض العلوم الإجتماعية من أهمها: 1-ألاثنولوجيا : وهي علم تأريخ الحضارات والعلاقات الحضارية بين الشعوب، وتصنيف الحضارات وتوزيعها وإنتشارها في العالم. 2-ألاثنوغرافيا : وهي الدراسة الوصفية للمجتمعات وحضاراتها. 3-الآركيولوجيا : ( علم الآثار) وهي الدراسة ألاثنولوجّية وألاثنوغرافية لحضارات شعوبٍ بائدة من ألآثار التي يجدها العلماء في الحفريات. 4-علم الإجتماع: وهو دراسة الظواهر التي تنبثق عن العلاقات بين المجموعات البشرية، ودراسة العلاقة بين الإنسان وبيئته البشرية. ويركز علم الإجتماع الحديث في دراساتهِ على الظواهر الإجتماعية ألاكثر تقدماً، أي على مشكلاتِ المُجتمعات المعقدة والمتطورة. •نشأة ألانثروبولوجيا وتطورها منذ القرن الثامن عشر حتى الوقت الحاضر(10) : يُمكننا أن نعتبرَ ألانثروبولوجيا علماً حديثاً يقرب عمرهُ من قرن وربع القرن تقريباً، كما نستطيع. بعين الوقت، أن نعتبرها من أقدم علوم البشر. فالجامعات لم تبدأ بتدريس ألانثروبولوجيا إلا حديثاً جداً. فلقد عيّن أول أستاذٍ لها في جامعة أوكسفورد، وهو ” السر أدورد تايلور” عام 1884، وفي جامعة كمبرج، وهو ألاستاذ ” هادن” في عام 1900، وفي جامعة لفربول، وهو ” السر جيمس فريزر” في عام 1907. وعيّن أول أسُتاذٍ لها في جامعة لندن في عام 1908، وفي الجامعات ألامريكية في عام 1886. ولأن الانثروبولوجيا تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المُجتمعات البشرية، فأننا نستطيع أن نعتبرها، من جهة أخرى، من أقدم العلوم . إذ هي بدأت مع أقدم تأمّلات الإنسان حول تلكَ الموضوعات. فلقد قالوا مثلاً إن المؤرّخ الإغريقي ( هيرودوتس) ” أبو الانثروبولوجيا” كما هو أبو التاريخ، لأنهُ وصفَ لنا بأسهاب، التكوين الجسمي لأقوام قديمة ك ( السيثيين) وقدماءَ المصريين وغيرهم من الشعوب القديمة، وصور أخلاقهم وعاداتهم. كما كتب المؤرخ الروماني ( تاكيتس) دراستهُ المشهورة عن القبائل الجرمانية. حتى البابليون قبل ” هيرودوتس” بزمن طويل، جمعوا في متاحفَ خاصة بعض ما تركهُ السومريون من أدواتٍ ومخلفات. إننا نستطيع أن نعتبرَ القرن الثامن عشر نقطة بدءٍ مناسبة للانثروبولوجيا. نشهد بعدها ظهور العناصر المكونة لهذا العلم. فآراء مونتسكيو في كتابهِ الشهير ( روح القوانين) عن المجتمع وأسسه وطبيعته. وكتابات ( سان سيمون) وإدعاؤه وجود علم للمجتمع، وآراء (يفيد هيوم) و( آدم سمث) ونظرتهما الى المجتمعات بأعتبارها تتكون من أنساق طبيعية، وإعتقادهما بالتطور غير المحدود، وبوجود قوانين لذلكَ التطور، كل تلكَ التأمّلات والآراء حوت لا بلا شك البذرات الصالحة والمكونات الاساسية التي نمت في القرن التاسع عشر، فكونت المدراس الانثروبولوجيّة الكبيرة. وبعدَ مُنتصف القرن التاسع عشر بدأت الكتب القديمة في ألانثروبولوجيا بالظهور في أوروبا وأمريكا. وكانَ أبرز تلكَ الكتب كتاب ( السر هنرى مين) ” القانون القديم ” عام 1861وكتابه عن ( المجتمعات القروية في الشرق والغرب) (1861)، وكتاب (باخوفن) عن (حق ألام) عام 1861 وكتاب ( فوستل دو كولانج) عن ( المدينة القديمة) 1864 وكتاب ( ماكلينان) عن ” الزواج البدائي” عام 1865 وكتاب (السر أدورد تايلور) المُُسمى ” أبحاث في التأريخ القديم للجنس البشري” عام 1865 وكتابه الآخر عن ” الحضارة البدائية” عام 1871، ومن ثم (لوس موركن ) عن ” أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية) عام 1870. كما ظهرت “بعين الوقت” مدرستان كبيرتان من مدراس هذا العلم، هما ” مدرسة القانون المقارن” و ” المدرسة التطورية” . فأفاد رجال المدرسة ألاولى ألانثروبولوجيا كثيراً حين إنصرفوا إلى دراسة القانون المقارن. حيث إهتموا بصورة خاصة بالقانون القديم وقوانيين الشعوب البدائية. كما تأثرَ رجال المدرسة الثانية ” التطورية” بنظريات (لامارك) و( دارون) في التطور الحياتي.فأقاموا نظرياتهم في التطور الإجتماعي على عين الاسس. وفي مطلع القرن العشرين برزت في ألانثروبولوجيا أسماء ضخمة مثل ” السر جيمس فريزر”، و”أميل دوركايم”، و” راد كلف براون”، و” مالينوفسكي “، و” البوث سمث”، و” رفرز”. كما ظهرت مدارس إنثروبولوجية هامّة مثل ( مدرسة الإنتشار الحضاري) و ( المدرسة الوظيفية). وكلاهما هاجمتا ودحضتا ” المدرسة التطورية “، هذا إلى جانب ” المدرسة البيئية” ، وهي مدرسة قديمة مستمرة الوجود. إننا نستطيع أن نعتبرَ نقطة البدء الحقيقية للانثروبولوجيا هي القرن العشرين، التي تمثلت بظهور أسماء ضخمة من عباقرة الانثروبولوجيا، أضافة الى مؤلفاتهم في ذلك الشأن. ناهيكَ عن المدارس الانثروبولوجية المهمة التي ساعدت في نمو وتطوير هذا العلم. ثمة قضية معينة أود أن أنقلها للقارئ الكريم، وهي إن علم الإجتماع والانثروبولوجيا علمين متقاربين متشابهين، بحيث لا يمكن للباحث الفصل أو التمييز بين هذين العلمين.لدرجة تقاربهما، لذلكَ فأن من الانسب لي وللقارئ تعيين نقاط الإختلاف بين هذين العلمين لمعرفة أتجاه كلاً من هذين العلمين في الدراسات الإجتماعية. •علاقة علم الإجتماع بالانثروبولوجيا ( علم الإنسان) : علمُ الإجتماع هو علمٌ قريبٌ جداً من ألانثروبولوجيا لأنهُ يدرس العلاقات الإجتماعية بين المجموعات البشرية، ولكنهُ يختلفُ عن ألانثروبولوجيا من ثلاث نواح : الناحية ألاولى: إن علمَ الإجتماع يركز في دراساتهِ على موضوعاتٍ مختارة مثل السحر أو الدين أو البطالة أو الزواج أو ما يشبه ذلك، ولا يدرس مجتمعات كاملة دراسة شاملة كما تدرسها الانثروبولوجيا. والناحية الثانية: إنهُ لا يقصر دراساته على المجتمعات البدائية بل يتخذ من كل المجتمعات البدائية والغير بدائية ميداناً لدراساته.مع ميل قوي للتركيز على دراسة معضلات المجتمعات المتطورة والمعقدة. بينما كانت ألانثروبولوجيا تركز على دراسة المجتمعات البدائية قبل الحرب العالمية الثانية. أما بعدَ هذه الحرب ” العالمية الثانية” فأن الانثروبولوجيا أخذت تدرسُ المجتمعات المتطورة والمعقدة أيضا، مع ميل قوي للتركيز على دراسة المجتمعات البدائية والنامية. أما الناحية الثالثة فهي إختلاف العلمين بمنهج البحث المُتبع في دراسة كل منهما، وهذا أهم إختلاف بينهما. ✅ منقول
الحسين بن منصور بن محمى الملقب بالحلاج يعتبر من أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم، وهناك من وافقوه وفسروا مفاهيمه. وهو من أهل البيضاء وهناك خلاف حولها هل هي البلدة التي ببلاد فارس، أم البلدة التي في جنوب العراق وهو ما رجحته الدراسات الأكاديمية، نشأ في مدينة واسط التي تبعد ب180 كيلومترا جنوب بغداد في العراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره يقول الدكتور علي ثويني في الأصل العراقي للحلاج: وبالرغم من اقتران اسم الحلاج ببغداد فإنه لم يولد فيها وإنما ولد في أطراف واسط القريبة من جنوبها عام 858م في منطقة (البيضاء) التي يقال لها (الطور) وربما يكون ذلك الموضع يقع في تخوم (أهوار) العراق التي تدعى (البيضاء) حتى يومنا هذا، ويؤكد مسقط رأسه هذا المؤرخ (الاصطخري) الذي عاصره وذكر ذلك ابن الجوزي في (المنتظم) حيث ذكر(الحسين بن منصور المعروف بالحلاج من أهل البيضاء)، وهكذا فإنه عراقي المولد والمنشأ بالرغم من ادعاء البعض بفارسيته والتي لا يؤيدها منهج البحث التاريخي .ثم انتقل إلى البصرة قبل وروده بغداد وهو في الثامنة عشر من عمره . لم ترض فلسفته التي عبّر عنها بالممارسة الفقيه محمد بن داود قاضي بغداد، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام ، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالبًا محاكمته أمام الناس والفقهاء فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد بن العباس، تنفيذًا لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري بعد أن طال محاكمته سبع سنين واستتابه الخليفة فلم يرجع عن قوله. نشأ الحسين الحلاج في واسط ثم دخل بغداد وتردّد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة، وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس، من الجوع والتعرض للشمس والبرد. وكان الحلاج يظهر للغوغاء متلونًا لا يثبت على حال، إذ يرونه تارة بزي الفقراء والزهاد وتارة بزي الأغنياء والوزراء وتارة بزي الأجناد والعمال، وقد طاف البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر داعيًا على طريقته، فكان لهُ أتباع في الهند وفي خراسان[ وفي بغداد وفي البصرة، وقد اتهمه مؤرخو أهل السنة بأنه كان مخدومًا من الجن والشياطين ولهُ حيل مشهورة في خداع الناس ذكرها ابن الجوزي وغيره، وكانوا يرون أن الحلاج يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم، وهو مع كل قوم على مذهبهم، إن كانوا أهل سنة أو شيعة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساقًا.
لم يسر المنصور بن حسين الحلاج، الفيلسوف والمتصوف المسلم الشهير، على نهج نظرائه من أعلام الصوفية، فقد كانوا هم يبيتون أمرهم على كتم مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم، وكانوا يؤثرون العزلة على الناس، تاركين أمر تدبير الخلق لله، أما هو فقد تملكته نشوة التعبير، فجهر بأفكاره وإحساساته في الأسواق ولعامة الناس، فقد تملكته نزعةٌ إصلاحية، حملته أخيرًا على أن يطرح خرقة الصوفية، وأن يكثر من التنقل في البلاد، يلقى الناس، ويسمع منهم.
كان الحلاج ممن يرى التصوف جهادًا متواصلاً للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدنيا وتهذيبها بالجوع والسهر، وتحمل عذابات مجاهدة أهل الجور، وبث روح الثورة ضد الظلم والطغيان، فألقي القبض عليه وكانت نفسه قد تاقت للشهادة، ةدامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها في السجن يعظ السجناء، ويحرر بعض كتاباته، وسنة 922، أُخرج الحلاج من محبسه وجلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه إلى بارئها. وفي اليوم التالي قطع رأسه وأحرق جثمانه، ونثر رماده في نهر دجلة، وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه.
فكره
التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط. لقد طور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. عن إبراهيم بن عمران النيلي أنه قال:
« سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئًا إلاّ رأيت الله فيه.»
حقائق سريعة عن الحلاج
قاد الحلاج منهجًا جديدًا في التصوف يرى أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وطور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. نشأ الحلاج في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن وولايات، منها الهند، وقضى فترات في مكَّة، معتزلاً في الحرم المكي، حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه في الليل أو في النهار، في الحر والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء، وكان له مريدون يتبعونه، يحفظون عنه. اصطدم بأحد المشايخ المتمسكين بالنقل والنص، هو الجنيد البغدادي، الذي لم يكن راضيًا عن فكر الحلَّاج، وفلسفته، فكان أن قال له ذات جدال: “أي خشبةٍ ستفسدها”، كناية عن خشب الصليب، لكن الجنيد مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلَّاج. عرض الحلَّاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه، فتم إعدامه بطريقةٍ دموية، حيث أراد وزير الخليفة، أن يجعل منه عبرةً، لكل الصوفيين. لاحق الوزير حامد أتباع الحلاج وأصدقاءه، فمن لم يعد عن مذهب الحلاج دُقَّ عنقه، وقد ذكرت هذه التفاصيل في الكامل لابن أثير، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، والتنبيه والإشراف للمسعودي، والمنتظم لابن الجوزي. للحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي والتصوف، كما للغته مميزاتٌ خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين، كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير، كما عبر في شعره عن فلسفته الوجودية أنَّ الله في كل مكان. تعتبر قصائد الحلَّاج، من القصائد التي تُطرب سامعها، حاله حال أغلب شعراء الصوفية، ما حدى بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي إلى استخدام كلماته، كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة في قصيدة (يا نسيم الريح)، والموسيقار المصري عمر خيرت في قصيدة (والله ما طلعت شمس ولا غربت)، كما ألهم الحلَّاج الكثيرين بشعره وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلَّاج، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون (Louis Massignon) مؤلف كتاب آلام الحلَّاج، فضلاً عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية والأدبية.
صلب الحلاج
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لم يعرف تاريخ التصوّف الإسلامي شخصيّة مثيرة للجدل مثل شخصيّة الحسين بن منصور الحلاّج. كَفّره البعض فيما قدّسه آخرون ونسبوا إليه الخوارق. نلقي الضوء على شخصيّة فذّة، اختلف حولها أهل الفقه والدين، لكنّها مهمّة بالنسبة إلينا، نظرًا للتشابه القائم بين موت الحلاّج على الصليب وموت المسيح.
وُلد الحسين بن منصور العام 857 م في بلاد فارس، فيما العصر العبّاسي يشهد صراعًا محمومًا بين المذاهب والتيارات الدينيّة والسياسيّة. عاش في خلوات الصوفيّة، ثمّ طاف البلدان داعيًا إلى الزهد، ليعود ويستقرّ في بغداد.
لُقّب بالحلاّج لكشفه أسرار القلوب (حلاّج الأسرار) ومنهم من قال بسبب مهنة أبيه في حَلج القطن. كتب الكثير، وفي شتّى المواضيع، لكنّه لم يبقَ سوى القليل من كتاباته، تمكّن المستشرق الكبير لويس ماسينيون من جمعها، بعد أن كرّس أكثر من خمسين عامًا يبحث في سيرة حياة هذا المتصوّف المميّز، ومقارنًا بينها وبين حياة المسيح يسوع، بخاصّة في موته على الصليب، ومستنتجًا أنّ حياة الحلاّج وأقواله قريبة من المفهوم المسيحي للألم والفداء والحياة والحبّ الإلهي، لذلك قال عنه إنّه «مسيحيّ بالشوق».
حذا آخرون حذو ماسينيون، فسمّاه جان شوفالييه «مسيح الإسلام» 1، وأطلق روجيه أرنالديز على دعوته تسمية «دين الصليب»2 ، وبات من الصعب على كلّ من تأمّل في سيرة حياته ومماته ألا يلاحظ أوجه الشبه بينه وبين المسيح.
لم يتّخذ الحلاّج التقيّة منهجًا له في حياته الروحيّة والسياسيّة، بل تكلّم بكلّ جرأة، وعانى ما لم يعانه أحد من المتصوفة، فاتّهم واضطهد وسُجن، وعُرض مصلوبًا مرّة أولى لمدّة ثلاثة أيّام، ثمّ بقي ثماني سنوات محبوسًا في بغداد، يقودوه من سجن إلى آخر، إلى أن انتهت حياته في 26 آذار العام 922، بعد أن تمّ جلده، وقُطّعت أعضاؤه، ثمّ صُلب وقُطع رأسه وحُرق جسمه كلّه .
لم يهب الحلاّج الموت، وظلّ متماسكًا وقويًا، وبدا كأنّه ينتظره، لا حبًّا بالموت، وإنّما ترسيخًا لدعوته الصوفيّة، ومبدئه القائم على التضحية والمحبّة3. إنّ أساس المحبّة عند الحلاّج هو التضحية، لذلك وجب على الذي يحبّ الآخر أن يضحي من أجله. وكان قد «تنبأ» بموته صلبًا لَمّا قال: «وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطّعت يداي ورجلاي ما رجعتُ عن دعواي»4.
لم يأت الحلاّج ليدين، إنّما ليقدّم نفسه ضحيّة عن الآخرين ومن أجل خلاصهم، كما قال: «تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي»5.
فعلى الصليب أهدى الحلاّج «مهجته ودمه»، وعلى الصليب أيضًا طلب المغفرة لقاتليه، لمّا قال: «قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك، وتقرّبًا إليك، فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لَما فعلوا ما فعلوا»6. وكلام الحلاّج هذا على الصليب يذكّر بما قاله المسيح يسوع على الصليب: «يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون»
كان الحلاّج على قناعة ذاتيّة في أنّ صلبه وعذابه هما من مشيئة ربّه، وقد خاطبه قائلاً: «فاعفُ عن الخلق ولا تعفُ عنّي، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد». ودعاؤه هذا يماثل في جوهره ما قاله المسيح لأبيه السماويّ: «يا أبت، إن أمكن الأمر، فلتبتعد عنّي هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء»
حين جيء بالحلاّج ليصلب، ورأى الخشب والمسامير «ضحك كثيرًا حتّى دمعت عيناه»، ثمّ التفت إلى القوم طالبًا سجادة ليفرشوها له، فصلّى ركعتين وتلا آيات من القرآن. ومع أنّه قال: «ففي دين الصليب يكون موتي، ولا البطحا أريد ولا المدينة»، لكنّ الباحثون في سيرته، بمن فيهم ماسينيون، تبنّوا التأويل الإسلامي لهذا البيت الذي يقول بأنّ مراد الحلاّج هو بأنّه يموت على دين نفسه، فإنّه هو الصليب، وكأنّه قال أنا أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنّه يموت مصلوبًا.
قيل له وهو مصلوب: قل لا إله إلاّ الله. فقال: إنّ بيتًا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج.
هكذا أحبّ الحلاّج ربّه حبًّا صرفًا منزهًا عن أيّة غاية، لا طمعًا في الجنّة ولا خوفًا من الجحيم، ومثله مثل رابعة العدَويّة13 حين قالت: «ربّي، إذا كنتُ أعبدك خوفًا من النار فاحرقني بالجحيم، وإذا كنت أعبدك طمعًا في الجنّة فاحرمنيها، أمّا إذا كنتُ أعبدك من أجلك فحسب، فلا تحرمني يا إلهي وجهك الكريم»14. ولا عجب أن يتبنّى التقليد المسيحي هذا الدعاء، ليستعمله في فعل الندامة بصيغته المختصرة، الذي يقوله التائب بعد استقباله الحلّة من الكاهن المعرّف.
عاش الحلاّج حياة كلّها عذاب وقهر، ولكنّه عاشها بملء إرادته ورضاه، وتوّجها بالموت صلبًا وتقطيعًا وحرقًا، فقال عنه جلال الدين الرومي15: «لقد بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنسر في طرفة عين».
وأهمّ ما في الحلاّج، بالنسبة إلينا، هو ما اكتشفه المستشرق ماسينيون عن وجود بعض ملامح المسيح يسوع، ليس فقط في موته على الصليب، بل في أقواله في التضحية والفداء والمحبّة التي لو لم نعرف صاحبها لكنّا قلنا بأنّها تعود حتمًا إلى أحد الآباء القدّيسين. هذا ما تظهره أيضًا هذه الصلاة التي قالها الحلاّج في سجنه، ليلة إعدامه، ونقلها خادمه الأمين، الذي كان معه في السجن ذاته، والتي تعيد إلى أذهاننا ما قاله المسيح يسوع في صلاته الكهنوتيّة:
نحن شواهدك نلوذ بسنى عزّتك لتبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، وأنتَ الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ، تتجلّى لِما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثمّ أَوعزتَ إلى شاهدك الآني في ذاتكَ الهوى اليسير، كيف أنت إذا مثلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي، ودعوتَ إلى ذاتي بذاتي، وأبديتَ حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدًا في معارجي إلى عروش أزليّاتي، عند القول من برّياتي، إنّي احتُضرتُ وقُتلتُ وصُلبتُ وأُحرقتُ واحتملتُ سافياتي الذاريات ولججت بي الجاريات، وإنّ ذرّة مِن يَنجوج مكان هاكول متجلّياتي، لأعظم من الراسيات أحوال الحلاج قبل موته بأيام وماذا قال فى صلاته الأخيرة
تسميته بالحلاح
هو أبو المغيث الحسين بن منصور.. وكان أبوه يعمل في حلج القطن ونسجه – كان من عظماء الصوفية- وعبر عن مدرسته في التصوف ورؤاه فيها شعراً.. وقد جنى عليه ذلك الابداع بما حمله من الالتباسات وربما الصرخات المدوية حتى ذهبت بروحه شهيداً لعقيدته في الإتحاد التام مع الإرادة الإلهية
مما قال عند موته
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
( يا بني ان بعض الناس يشهدون علي بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولايه ,والذين يشهدون علي بالكفر احب الي و الي الله من الذين يقرون لي بالولايه ,لان الذين يشهدون لي بالولايه من حسن ظنهم بي ,والذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم , و من تعصب لدينه احب الي الله ممن احسن الظن بأحد .) فلسفه الحلاج التي عبر عنها في حياته عن طريق الممارسه لم ترض الفقيه محمد بن داوود قاضي بغداد , فقد رأها متعارضه مع تعاليم الاسلام , ورأي ان العشق الالهي هرطقه لان الحب في نظره يقتصر علي العلاقه بين الجنسين و غايته ابقاء الجنس البشري .
موته :
فلما اصبح الصباح ,اخرج الحلاج ليقتل في الجانب الغربي من بغداد و قد تجاوز سنه الخامسه والستين, ابيض الشعر واللحيه, فتقدم و صلي الركعتين ,فقرأ في الاولي فاتحه الكتاب ثم بعدها ( و لنبلونكم بشيءمن الخوف والجوع …)ثم قرأ في الثانيه فاتحه الكتاب ثم بعدها ( كل نفس ذائقه الموت …) ثم تم جلده حوالي الف سوط ,فلما لم يمت قطعت يده ثم رجله ثم رجله الاخري ثم يده ثم ضربت عنقه واحرقت جثته فلما صار رمادا القي في دجله ….كل ذلك دون ان يتأوه , و نصبت رأسه بجوارها يداه ورجلاه للناس علي سور السجن
محاكمته
روى إسماعيل بن علي الخطبي في ” تاريخه ” قال : وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج يقال له : الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت بهِ، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة وسحر وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وانتهى خبره إلى السلطان – يعني الخليفة العباسي المقتدر بالله – فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيًا أيامًا متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة وينادى عليه بما ذكر عنه ثم ينزل به ثم يحبس. فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس حتى سجن في النهاية بدار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيلهِ حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها فاستجابوا لهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية وسعي بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتبا تدل على تصديق ما ذكر عنهُ، وأقر بعضهم بلسانهِ بذلك وانتشر خبره وتكلم الناس في قتلهِ، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إلى حامد بن العباس وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه فجرى في ذلك خطوب طوال؛ ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر له عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه، ويذكر مصطفى جواد أنه بعد حرق جثته تم دفن ما تبقى منها في القبر المعروف في بغداد.
منتقدوه اكتفى بعضهم بتكفيره بالاعتماد على ما قيل على لسانهِ من أقوال أو أشعار، بينما سعى بعضهم إلى تبرئته بالزعم بأن ما قيل على لسانه لا أساس له من الصحة وأنه كلام مدسوس عليه. أما أتباعه فإنهم يقدسون أقواله ويؤكدون نسبتها إليه، ولكنهم يقولون إن لها معاني باطنة غير المعاني الظاهرة، وأن هذه المعاني لا يفهمها سواهم. بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلًا ثوريًا شبيهًا بأساطير الغربيّين. وعند الشيعة: ذكره الطوسي في كتاب الغيبة في المذمومين الذين ادعوا النيابة البابية. وقال ابن تيمية: (مَنِ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنَ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أنا الله. وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ…وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنَ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ، وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ)اهـ وقال أيضًا: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَأيِخِ ; وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ; لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ).اهـ وقال عنه عبد القادر الجيلاني حين سُئل عن الحلاج قال: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده. وقال عنهُ أبو الحسن الشاذلي: أكره من العلماء تكفير الحلاج، ومن فهم مقاصده فهم مقصدي. قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري وصححوا له حاله ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف : الحسين بن منصور عالم رباني . قال ابن كثير: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من الأئمة إجماعهم على قتله وأنه كان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وكذلك قول أكثر الصوفية منهم. ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه، وقد كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم يسلك به في عبادته، فدخل عليه الداخل بسبب ذلك، كما قال بعض السلف : من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وعن سفيان بن عيينة أنه قال : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. ولهذا دخل على الحلاج باب الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والإلحاد . قال الخطيب : وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكويه الشيرازي، سمعت أبا زرعة الطبري يقول : الناس فيه – يعني حسين بن منصور – بين قبول ورد، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي، يقول : سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت : أيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله، فقال : يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به قال أبو زرعة الطبري : وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر
لم يكد يجفّ حبر هذه الأشعار، حتى كان صاحبها يكتب بدمه واحدة من أشد الملاحم في تاريخ الإسلام، ليكون علامة على زمن ضاق بالتفكير النقدي والمعارضة السياسية. وبسبب هذه الأشعار وغيرها من الشطحات الصوفية التي تجلت في “وحدة الوجود” توضأ الحسين بن منصور “الحلاّج” بدمه، بعدما ضرب ألف سوط فما تأوه، ثم جرى قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثم قُتل وأُحرق بالنار، فلما صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل بعدها إلى خراسان، وكان ذلك ذات ثلاثاء في 26 مارس (آذار) من عام 922 ميلادية.
وينتسب الحلاج، المولود في “البيضاء” ببلاد فارس، على ما ترجح بعض الروايات التاريخية، إلى طائفة من المتصوفة الذين لم يكتفوا بتحويل الزهد إلى مجرد عبادات وانعزال عن الناس، بل أحال الطاقة القصوى في التصوف إلى مجاهدة للنفس، وجهاد ضد العسف والطغيان. ويقال إن علاقته بجماعات الزنج والقرامطة أججت هذه المشاعر في قلبه. كما يقال إن صلته وتأثره بالمتصوفة الهنود جعلته ينخرط في الرغبة الحميمة لبلوغ الدرجات العليا من العرفان التي تمكّن صاحبها، كما كان يقال، من إتيان المكرمات و”الخوارق”. ويُروى عن إبراهيم بن عمران النيلي:”سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد، وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه”.
اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب
وقد جرّ ذلك كله على الحلاج مصاعب كثيرة؛ لأنه كان يوصف بالتغريد خارج سرب السلطتين الدينية والسياسية. وقد نعته الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال بالمفكر المبدع، الذي “حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح”. وقد كانت قناعة إقبال، كما تروي المستشرقة الألمانية المتخصصة بالتصوف آنا ماري شميل، ثابتة في أن “عالم القرآن” ينفتح لكل إنسان وفي كل عصر بصورة جديدة، وأن الإسلام ليس ديناً متحجراً بعيداً عن الواقع؛ بل إن المفكرين والصوفيين الكبار قد تغلغلوا الى طبقات بعيدة الأعماق من الفهم، بحيث يصبحون بذلك أمثلة عليا يقتدي بها الإنسان العصري أيضاً. وفي نظره كان الحلاج، الذي فهم أعماق الوحي الإلهي بصورة أفضل مما فعل كبار الفقهاء ورجال الدين الذين يعجزون عن التحليق الى الذرى الفكرية، لأن كلاً منهم يجثم “كقارون على المعاجم العربية”، أي أنه لا يستطيع التحليق بسبب عبء معارفه اللغوية الفقهية، بل يُضغط ميتاً تحت الغبار، كما غرق قارون تحت عبء كنوزه. وفي محاولة لبعض الدارسين من أجل ردّ الاعتبار للحلاج، أنجزت دراسات وأعمال أدبية أكدت أنه قد أُسيء فهم هذا المتصوف، إذ فُسرت كلمته: “أنا الحق”، أي “أنا الحقيقة المطلقة”، أي “الله”، على أنها تعبير عن تعالٍ متعاظمٍ للذات، ما أثار الشكوك في إيمانه بحلول الذات الإلهية في النفس البشرية. وفضلاً عن ذلك، اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً، بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب، ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره، ودليلاً على إلحاده، رغم أنه ألّف في عمله “كتاب الطواسين” أجمل أنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن كبار المتصوفين في جميع العصور قد أبدوا إعجابهم الشديد بحبه المطلق لله عز وجل.
وفي أدب العصر الوسيط نرى ملامح إعادة الاعتبار للحلاج الذي جرى تقديمه بصفته “ثائراً في وجه ضيق الأفق الفكري لدى المتحجرين من رجال الدين، لأنه شهد خبرة الاتصال بالله، تلك التجربة الروحية الحية عندما تخلى عن وظيفته التعليمية في المدرسة النظامية ببغداد، لأنه وجد أن زملاءه كانوا منغمسين في نزاعات وخلافات لا طائل من ورائها حول مسائل فقهية سطحية، دون أن يتحلّوا بذرّة من الإيمان الحي، أو يمتلكوا بارقة من الاتصال الحي بالذات الإلهية”. وفي الأدب الأُردي والتركي الحديث يُصوّر الحلاج أحياناً كثائر ضد المجتمع القائم، كما أنه يظهر كذلك في الشعر العربي المعاصر كممثل للأبعاد العميقة للإسلام، كمكافح من أجل العدالة والفهم. وقد سعى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته “مأساة الحلاج” الى إظهار الطابع الاجتماعي لرسالة الحلاج، وأعطى تفسيراً دقيقاً لضرورة موته: “إذ كان موته أمراً محتوماً، لكي يعود أتباعه فيجدوا كلماته في أثلام الحقول، حيث تكمن خفية عن العيون، لكي تحمل على الرياح، التي تهب فوق الأمواج، فما الذي كان سيحدث لرسالته المنادية بحرية الفكر، لو لم يمت مشنوقاً؟”.
المسرحية، التي تتكون من فصلين، تعاين العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة، كما تحدق في محنة العقل في مواجهة التفسير الحرفي الأيديولوجي المتعسف لروح الإسلام. ففلسفة الحلاج، التي عبّر عنها بالممارسة، لم ترض قاضي بغداد الفقيه محمد بن داود، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام، حسب رؤيته لها، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري.
ويبارك ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” ما حاق بالحلاج من مصير، لا بل إنه يرى أن “من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلهاً، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج”. ورغم المصير المؤلم الذي آل إليه، فإن الحلاج يمثل التضحية الكبرى التي قدَّمها الصوفية، في طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفي الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلي (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لا تقل وُعورة وخطورة عما شطح به الحلاج، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة. وكان يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلَّصني جنوني!
المصادر والمراجع
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف: ابن خلكان، ج2، ص140، دار صادر.
^ دكتور علي ثويني – في الأصل العراقي للحلاج – بغداد – 2000
^ مصطفى جواد ، أصول التاريخ والأدب ، ج22 ، ص 32
^ البداية والنهاية 14/ 829 : 831
الطوسى، اللمع في التصوف، تحقيق: د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقى سرور، دار الكتب الحديثة، مكتبة المثنى، 1960، ص 468.
د. عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، وكالة المطبوعات، الكويت، الطعبة الثانية، 1976م، ص 26.
ابن باكويه، أخبار الحلاج، نشرة ماسينيون وكراوس، باريس، 1936، ص 43.
1- أستاذ الأكاديمية يجمع بين أستاذين تحت مسمى “أستاذ الثانوي”، ويشتغل في مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، عكس الأستاذ النظامي الذي يستفيد من إطارين: أستاذ التعليم الثانوي الإعدادي أو أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي 2- أستاذ الأكاديمية الذي يشتغل في الثانوي التأهيلي لا يستفيد من الترقية خارج السلم، عكس أستاذ الثانوي التأهيلي النظامي 3- أستاذ الأكاديمية لا يشارك في الحركة الانتقالية الوطنية ولا يمكنه الانتقال خارج الجهة عكس الأستاذ النظامي 4- أستاذ الأكاديمية تمثله لجنة الأطر في الأكاديمية أما الأستاذ النظامي فتمثله اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء، بمعنى وجود تفرقة في التمثيل 5- في التوقيف الاحترازي عن العمل بسبب ارتكاب هفوة مهنية خطيرة هناك اختلاف بين مضمون المادة 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بخصوص تطبيق المسطرة التأديبية وآجالها وبين المادة 100 التي تقابلها في النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديمية 6- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من الحق في الإلحاق عكس الأستاذ النظامي 7- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من نفس حالات الحق في الاستيداع عكس الأستاذ النظامي (تم التراجع عن الحق في الاستيداع لأسباب شخصية وعن الحق في الاستيداع من أجل القيام بأبحاث ودراسات لخدمة الصالح العام في النظام الأساسي لأطر الأكاديمية عكس ما نصت عليه المادة 58 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية) 8- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من الحق في الوضع رهن الإشارة، عكس الأستاذ النظامي.. 9- خضوع أستاذ الأكاديمية للنظام الجماعي لمنع رواتب التقاعد (صندوق تقاعد بخيل)، في حين يخضع زميله الأستاذ النظامي للصندوق المغربي للتقاعد (صندوق تقاعد سخي) 10- خضوع أستاذ الأكاديمية للسلطة الرئاسية لمدير الأكاديمية (سلطة ضعيفة قليلة الضمانات)، أما الأستاذ النظامي فيخضع للسلطة الرئاسية لوزير التربية الوطنية (سلطة قوية ذات ضمانات كثيرة) 11- النظام الأساسي لأطر الأكاديمية مؤطر بقرار لمدير الأكاديمية (ضعيف من ناحية تراتبية النصوص التشريعية)، أما النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية فهو مؤطر بمرسوم لرئيس الحكومة (قوي من ناحية تراتبية النصوص التشريعية).. هذه بعض مظاهر خرق مبدأ المساواة بين أستاذين ينتميان لنفس الوزارة ويقومان بنفس المهام..
د. محمد الجناتي أستاذ مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة
من الأستاذ: كيمية العياشي إلى تلميذه :ناكر الجميل،يونس ذافقير سأقرئك السلام ،رغم أنك أسأت معي الكلام،فالسلام عليكم ورحمة منه تعالى وبركاته. بني،بلغني أنك قلت قولا إدًّا،فأصبحت تستحق مني الردَّ،وجعلتني أردد قول الشاعر،أبو الطيب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته…..وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا إذ تجردت من لباس الحياء ورميتني بالغباء،ونسيت أني كنت يوما لك موجها ودليلا ومصباحا وقنديلا،فلما اشتد عودك ،جعلتني بظلمك وغيك حقيرا وذليلا. بُنَيَّ،لن أكون قاسيا في الرد على بذيء كلامك،لأنك مهما أخطأت فستظل عندي طفلا صغيرا،أسعى دائما أن أراك بين الناس كبيرا،وسأبقى ناصحا أمينا لك ولزملائك من ناكري الجميل. بُنَيَّ،هل تتذكر يوم كنت لا تقوى على نطق الكلمات،وكنت أظل ،سعيا وراء تقويم لسانك،الأيام والساعات.لقد كان عملا شاقا ،لايقوى عليه الآباء والأمهات،وجعلتك مع مرور الزمن تتقن فن التعبير والكلام،وسارت لك منزلة ومكانة بين الأنام….؟!! بُنَيَّ،لقد ساءني ماجاء على لسانك،وهو دليل،للأسف الشديد،على سوء أخلاقك،لأن من عظيم الأخلاق والقيم عدم نكران جميل أهل الفضل علينا والنعم. بني،وأنا أرفع صوتي في القسم حتى بُح،وأجتهد في نصحك وتعليمك وأُلِح،لكي تكون بين الناس صاحب رسالة ،لا دليل شر وسفالة. بُنَيَّ،كان أملي أن أصنع منك صحافيا جريئا يفضح الفساد ،وينقذ من طيشهم وغدرهم وخيانتهم البلاد والعباد،لكن ،للأسف مرة أخرى،اخترت ،من أجل زخارف الحياة وتفاهتها،أن تحارب اليد التي أمدتك بالقوة،والإنسان الذي شملك بحنان الأمومة والأبوة،وأمدك بعلوم المفكرين العظام،وسهر الليالي والناس نيام،كي تكون عزيزا كريما ،مهندسا أو طبيبا أو صحافيا…..عظيما،فكيف نسيت كل هذا الجميل ،واخترت أن تحارب من كان لك الموجه والدليل…؟!! كيف طاوعتك نفسك أن تنخرط في صف صناع التفاهة،وأنت تكون إلى جانب كل ذي مرض وعاهة ؟!! أنت تعلم بني ، أن بالعلم تبنى الأوطان ،وأن الأستاذ هو القائد والربان،به يصبح الناس في سعادة وأمان،ومن تنكر لصنيعه،وأمعن في إذلاله وتركيعه،كان مصيره الخسران ،والتخلف والانحطاط والزيغان. بُنَيَّ،سأعتبر ما صدر منك خطأ عابرا ،وسأظل على عبثك وشطحاتك الفكرية صابرا،وأنصحك بالآتي حتى لا تظل تائها حائرا: هناك مستبدين أذاقونا من الذل ألوانا،وجعلوا من المغاربة شعبا مهانا،فاشحذ قلمك لتقلم أظافرهم ،وتكشف أخطاءهم،وتقوم ،بمعية شرفاء بلدك،سلوكهم. كما أدعوك ،بحكم مهنتك،أن تقوم بتحقيقات صحافية،وتنظم حوارات فكرية،حول من سرقوا الثروة،ومن أفشلوا التغيير والثورة(ضد الفساد والاستبداد)،حول من راكموا المليارات ،وبنوا القصور والفيلات،وملكوا أساطيل السفن في البحار والمحيطات،واستباحوا خيرات الوطن،وجعلوا الشعب يعيش الفقر والجهل والتهميش والمحن. بُنَي،في جعبتي ما أنصحك به الكثير الكثير،وأن أضع بين يديك ألف تقرير وتقرير،فلا يغرنك الطمع،ولا تطئن لمن ألبسوك النياشين و أغرقوك في المتع،فالتاريخ لا يسجل إلا من دخلوا من أجل الحق الزنازين،وملأوا بأصواتهم الساحات والميادين ،ومن نصحوا وعلموا وناضلوا وجاهدوا نصرة للمظلوم وطاعة لبر العالمين. هداني الله وإياك إلى ما فيه خيرنا وخير أهلينا،وهير وطننا وأمتنا والإنسانية جمعاء ولاحول ولا قوة إلا بالله الله غالب الوردزاغ : 26/8/2020 الأستاذ : كيمية العياشي المرجو النشر على أوسع نطاق . ملاحظة: أنا أنا ادعو السيد يونس ذافقير إلى مناظرة حول واقع التعليم بالمغرب ،ووضع الأستاذ خاصة ،على أن تكون على شاشة إحدى القنوات الوطنية.
الاستقراء أو الاستدلال الاستقرائي أو أحيانا المنطق الاستقرائي (تصميم أسفل أعلى) هو أحد أشكال الاستدلال وبتعبير منطقي هو الاستدلال الذي ينتقل من الجزئي إلى الكلي. أي أنه الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها، وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه أرسطو وحده وسمّاه “القياس المقسّم أو الحكم على الكلي بما يوجد في بعض أجزائه، وهو الاستقراء القائم على التعميم. ينقسم إلى قسمين استقراء تام واستقراء ناقص. وتبحث مباحث هذا الشكل من الاستدلال في علم المنطق.
مثال بسيط
هذه قطعة معدن (أ) تتمدد بالحرارة.
هذه قطعة معدن (ب) تتمدد بالحرارة.
هذه قطعة معدن (ج) تتمدد بالحرارة.
وهلم جرا إذن المعدن يتمدد بالحرارة. وهذا ما يعرف بالاستقراء الناقص أي عدم تتبع كل الأفراد (ككل أفراد المعدن في المثال المتقدم) أما الاستقراء التام هو عند تتبع كل الأفراد وقد أشكل على كون الاستقراء التام في كونه استقراء أصلا لأن المقدمة فيه تساوي النتيجة.
مشاكل الاستقراء
هناك عدة من الإشكاليات المنطقية-الفلسفية التي وجهت للاستدلال الاستقرائي من قبل بعض المانطقة والفلاسفة والعلماء. وقد تعامل مع هذه الإشكاليات عدد منهم. ومن أبرز من تكلم عن الاستقراء ومشاكله ديفيد هيوم، كارل بوبر، في كتابه الإسس المنطقية للاستقراء وغيرهم. ومن الإشكاليات الموجهة للاستقراء:
ما هو سبب تعميم الحكم على باقي الإفراد إن لم أفحص إلا بعضها ؟
ما هو سبب تعميم الحكم على المستقبل مع اننا فحصنا الأفراد في الزمن الحالي أو ما قبل ؟
وغيرها من الإشكاليات
محمد باقر الصدر مؤلف الاسس المنطقية للاستقراء
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
محمد باقر الصدر (1 مارس 1935 الموافق 25 ذو القعدة 1353هـ – 9 أبريل 1980 م الموافق 23 جمادي الأول 1400هـ) هو مرجع ديني شيعي ومفكر وفيلسوف إسلامي عراقي، يعد أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ومنظري أفكاره. مؤلف لمجموعة كتب تعد الأبرز في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي. أُعدمه النظام السابق في عام 1980 أثناء حكم الرئيس الأسبق صدام حسين بتهمة العمالة والتخابر مع إيران.
ولادته ♧♧♧♧♧♧♧♧♧
ولد بمدينة الكاظمية في 1 مارس 1935 الموافق ليوم 25 ذو القعدة عام 1353 هـ. لرجل الدين الشيعي حيدر الصدر. وكانت والدته هي كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين أخت المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين. وينتمي إلى عائلة الصدر العلمية الشيعية التي برز منها عدة شخصيات دينية منهم شقيقته بنت الهدى وابن عمه محمد صادق الصدر والسيد موسى الصدر وإسماعيل الصدر. كما انه والد زوجة مقتدى الصدر.
الاستقراءفي كتاب الاسس المنطقية للاستقراء
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
الاستقراء كمنهج معرفي يعتمد على الجمع بين ثلاثة مسائل:
اطراد الطبيعة (أي التفاعالات الطبيعية المتماثلة لها نتائج متماثلة) مثلاً: لو وضعت نار على قطعة خشب ستحترق ولو كررنا هذا الفعل غدًا ستكون النتيجة نفسها.
السببية العامة (أي القاعدة العامة: لكل حادث مُحدِث)
السببية الخاصة (أي السببية بين الأمرين المدروسين تحديدًا => سببية أ إلى ب)
رد أرسطو #1 و #2 إلى أنّهما قضيتان عقليتان موجودتان قُبُلاً ولا يُمكن إثباتهما.
لمعالجة هذه المسألة يقوم السيد محمد باقر الصدر بتصنيف أنواع اليقين إلى ثلاثة: 1) موضوعي 2) نفسي\ذاتي 3) عقلي رياضي
وأيضــًا يقسّم العملية الاستقرائية إلى مرحلتين:
1) مرحلة استنباطية: (مرحلة الاستدلال عن طريق الاحتماليات -والذي لا يفيد اليقين لكن يقرّبنا منه-. بمعنى: المرحلة التي من خلالها يتم افتراض وجود نوع من العلاقة) 2) مرحلة التوالد الذاتي (الانتقال من الاحتمال إلى اليقين. ويحاول المؤلف هنا إثبات وجود ضرورة عقلية للسببية الخاصة في حال تجاوزنا المرحلة الاستنباطية)
ومن خلال هذه المفاهيم يحاول إثبات ضرورة أن (ب) هي سبب (أ). هذا مختصر الكتاب. لكن زبدته هو مرحلة التوالد الذاتي في تصوّري. زبدة مرحلة التوالد الذاتي تتمحور حول فكرة أن أكثر من سياق\دليل “يفشل في نفي” هذه السببية الخاصة. ويسمّي السياقات المختلفة (معرفة إجمالية 1 ، 2، إلخ). ومن ثمّ يقول: إنْ تتطابقَ أكثر من مجال (معرفي إجمالي) على عدم نفي سببية (أ) ل(ب) فإن (أ) و(ب) فعلاً مرتبطين بعلاقة سببية. وتكون هذه الدعوى يقينًا موضوعيًا. إلا أني أرى أن ما تم تقديمه في هذا الفصل بالإمكان إيراد العديد من الإشكالات عليه. فبالتالي لا تزال المشكلة قائمة
إن الفيلسوف طرح في ” الأسس ” نظريتين أساسيتين، تناولت الأولى تفسير الاحتمال وصياغة نظرية جديدة للاحتمال …،
وقد انصبت جهودنا في هذه الدراسة على بيان هذه النظرية وتبسيط عرضها .
أما النظرية الثانية فهي اتجاه جديد في تفسير اليقين الاستقرائي، والمعرفة البشرية بعامة. حيث يمنح الدليل الاستقرائي في مراحل متقدمة يقينا، لكنه غير ضروري، ومن ثم فهو غير منطقي، وفي الوقت ذاته ليس يقينا فوضويا قائما على أساس النزعة السيكولوجية المحضة، بل هو يقين يرتكز على مبررات موضوعية، وله شروطه المنطقية . آمل بإذنه تعــــالى أن أتوفر على فرصة لعرض هذا الاتجاه وتحليله – في دراسة قادمة – . ولا بد أن أؤكد هنا على أن دراستنا لنظرية الاحتمال وتفسير الدليل الاستقرائي على أساس هذه النظرية انصبت على عرض العمود الفقري والأسس النظرية التي طرحها الأستاذ. أي أن هناك تفصيلات أخرى آثرنا عدم ذكرها في هذه الدراسة، لأن إغفالها لا يؤثر على البناء الأساسي للنظرية، مضافا إلى تيسير البحث أمام القارئ المتعلم، إذ أن الدخول في التفريعات والتفاصيل يراكم مادة البحث، فيعسر هضمها واستيعابها، ويشوش على المتابع الصورة، التي نريد عرضها واضحة جلية).
الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار . في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف .
ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ … ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس . أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم .
وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي . أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها الصدر في درسه الفلسفي .
وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة ا محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة . نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك :
الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة . وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ .
لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل . مال المذهب ا
لتجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا . استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء . لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين . ورد محمد باقر الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه محمد باقر الصدر :
لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي:
أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها .
أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال . من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي . في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل . وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها .
نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي .
وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار .
والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال .
والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره محمد باقر الصدر ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته .
يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو . وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق . أمّا محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية .
القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين . إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة
تعريف بالمذهب الذاتي للصدر
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
ورد التعريف بالمذهب الذاتي لدى مفكرنا الصدر في مطلع القسم الثالث من كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء)، وذلك تحت عنوان (التعريف بالمذهب الذاتي) ، وهو مذهب جديد يقف في قبال المذهبين الفلسفيين التقليديين:العقلي والتجريبي. ففي نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) يُبحث عادة في مصدرها الاساسي، وفي كيفية نموها وتوالدها. فهما شيئان مختلفان. وللمذهب الذاتي موقف محدد لكل منهما، الا ان ما يمتاز به هو موقفه من المسألة الثانية المتعلقة بنمو المعرفة وتوالدها. اما موقفه من المصدر الاساسي للمعرفة فهو انه يتفق مع المذهب العقلي قبال المذهب التجريبي في الاعتقاد بوجود قضايا عقلية اولية سابقة على الحس والتجربة، كما يتمثل بالمنطق الارسطي. اي انه ينحاز الى المنطق العقلي الذي يسلّم بوجود معارف عقلية اولية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة، وهي اساس المعارف قاطبة، وبدونها لا يمكن للمعرفة ان تقام لها قائمة. ففي مثل هذه المعارف الاساسية يلتقي المذهب الذاتي مع المذهب العقلي، ومنه المنطق الارسطي، وان اختلف معه في التفصيل. أما المحور الثاني فهو ما تميز به المذهب الذاتي، وهو العائد الى تفسير نمو المعرفة وتوالدها، اذ كيف يمكن ان تنشأ معارف جديدة طبقاً للمعارف الاساسية الاولية؟ ففي هذه الناحية يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي اختلافاً كبيراً. فالاخير لا يعتقد الا بطريقة واحدة للتوالد المعرفي، وهي ما يسميها المفكر الصدر (التوالد الموضوعي) لقضايا المعرفة، وتنشأ باللزوم عبر القياس المنطقي. ولا يعارض المذهب الذاتي هذا الاسلوب واللزوم للمعرفة، لكنه يضيف اليه لزوماً اخر تتولد من خلاله اغلب معارفنا، ويطلق عليه (التوالد الذاتي). ويختلف الاخير عن اللزوم الموضوعي في كونه لا ينشأ عن ارتباط القضايا، بل ينشأ عن ذات المعرفة او مضمونها. وفي النتيجة يرى المذهب الذاتي ان الطريقة الصحيحة للتوالد المعرفي لا تتجاوز هذين التوالدين، وكل منهما يتضمن شكل اللزوم او التلازم المعرفي، لذا ساطلق عليهما كلاً من اللزوم الموضوعي واللزوم الذاتي. وسوف نقوم بتحليل كل نوع من هذين التوالدين او اللزومين على التوالي، وبعدها نعالج قضايا علوم الطبيعة لنرى اين يمكن تصنيفها، فهل تخضع للزوم الموضوعي ام الذاتي ام غيرهما؟ فلدينا – اذاً – ثلاثة محاور سنعالجها على التوالي: الاول يخص اللزوم الموضوعي، والثاني يخص اللزوم الذاتي، ثم سنتطرق الى طبيعة التوالد في القضايا العلمية.. فلنبدأ بمحور اللزوم الموضوعي كما يلي:
1- محور اللزوم الموضوعي
لقد عرّف المفكر الصدر التوالد الموضوعي بأنه معرفة ناشئة عن تلازم للقضايا قائم على القياس المنطقي الارسطي. بمعنى ان المعرفة تتولد منطقياً بالقياس، فهو يشمل كل القضايا الثانوية المستنتجة، فلو استثنينا المعارف العقلية الاولية التي لا يمكن ردها الى ما قبلها من معارف، فان غيرها ستشكل قضايا ثانوية مترتبة عليها، فهي مستنتجة منها، مباشرة وغير مباشرة، عبر سلسلة من القياسات المنطقية. ولا يختلف المفكر الصدر في هذا المحور مع المنطق الارسطي، والذي ضمنه عدداً من الامثلة كما يتضح مما قاله بهذا الصدد: ‹‹إن في كل معرفة جانباً ذاتياً وجانباً موضوعياً. فنحن حين نعرف: أن الشمس طالعة، أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر أيضاً، نميز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضية التي أدركناها، ولها – بحكم تصديقنا بها – واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة. والتوالد الموضوعي يعني: أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا بـ “أن خالداً إنسان، وأن كل إنسان فان” تتوالد منها معرفة بـ “أن خالداً فان”. وهذا التوالد موضوعي، لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأن النتيجة في القياس دائماً ملازمة للمقومات التي يتكون منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي، والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها على البعض
الآخر بصورة قياسية››
وربما يحتاج هذا النص الى شيء من الايضاح عبر النقاط الثلاث التالية: أولاً: لقد جاء في النص جملة من الامثلة المتعلقة بالقضايا المنطقية، وهي بلا شك تتضمن التوالد المنطقي من قبيل (ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر)، لكن المفكر الصدر استخدم اصطلاح (التوالد الموضوعي)، وقد يتبادر الى الذهن ان هذا الاصطلاح جاء ليشمل القضايا التي لها علاقة بالواقع الموضوعي، ومن ذلك مثاله حول (الشمس طالعة) اذ وصفه بانه يمتلك جانباً موضوعياً وذاتياً للمعرفة بحيث لا يختلف عن المثال المنطقي السابق. فقد يوحي هذا الوصف بانه لا يختلف عنه في تضمنه للتوالد الموضوعي او المنطقي. وفي هذه الحالة قد يتبادر الى الذهن كيف يمكن لهذا المثال ان يتضمن لزوماً كالبقية المذكورة؟ وهي مثال: ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر، كذلك القياس المنطقي المتعلق بفناء خالد. فمثال (الشمس طالعة) ليس فيه لزوم منطقي، اذ يعود الى صنف القضايا الاخبارية الواقعية التي لا تتضمن هذه الصرامة من اللزوم حتى وان كانت صادقة. فالشمس وان كانت طالعة لكن طلوعها ليس امراً ضرورياً، وهي من هذه الناحية ليست لزومية. بمعنى ان القضية الخارجية للشمس يمكن ان تكون طالعة او غائبة خلافاً للزوم المنطقي، وعندما نتأكد من كونها طالعة بالفعل فان معرفتنا سوف تتضمن هذا (الامكان) رغم التأكد من ان الشمس طالعة بالحس، لكن يمكن ان نفترض باننا نتوهم كونها طالعة مثلاً. وقد يُناقش ان كان لهذا المثال لزوم من نوع اخر كاللزوم الواقعي المتعلق بالقضايا السببية، لا سيما ان مفكرنا ذهب الى هذا النوع من اللزوم السببي في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وعليه بنى مذهبه في النتائج الاستقرائية. ثانياً: سوف لا نتوقف عند المثال المذكور، فوجهة نظر استاذنا الكبير واضحة فيما كشف عنه فيما بعد، فابتداءاً انه يسلم بوجود معارف ثانوية مستنتجة من ‹‹معارف اولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم››. وهذه المعارف الثانوية هي ذاتها نتاج التوالد الموضوعي، ودلل عليها بمثال مستمد من القضايا المنطقية، وهي نظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من جملة من البديهيات بطريقة التوالد الموضوعي. لكنه ذكر فيما بعد بان ‹‹كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين، إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين››
. مما يعني ان القضايا الواقعية التي يستند اليها الدليل الاستقرائي تتضمن التوالد الموضوعي عند المرحلة الاحتمالية. ثالثاً: يمكن ان نستنتج – طبقاً لما سبق – ان القضايا الموضوعية الثانوية لدى مفكرنا الصدر هي على صنفين: احداهما القضايا المنطقية المعروفة دون ان يكون لها علاقة بالاستنتاجات الاستقرائية، كقضايا الهندسة الاقليدية والرياضية. أما الثانية فلها علاقة بالدليل الاستقرائي، اذ تتوالد عبر بديهيات الاحتمال ومصادراته، مما يجعل القضية الاستقرائية المحتملة تتصف بالمنطقية، اي ان الدرجة الاحتمالية المعطاة لها هي درجة مبنية على القياس المنطقي وفقاً لحسابات الاحتمال. وهذا ما يمكن ان نأوّل فيه المثال الملتبس الذي ذكره مفكرنا ضمن التوالد الموضوعي، اي مثال (الشمس طالعة). فلولا ذلك لكنّا اعتقدنا بانه يصنف اللزوم في التوالد الموضوعي الى نوعين: احدهما منطقي قائم على مبدأ عدم التناقض، والاخر اخباري واقعي قائم على مبدأ السببية اللزومية، وهما يندرجان وفق ما سماه التوالد الموضوعي من دون تمييز. فكلاهما قائم على اللزوم، فالقضية المنطقية يبررها مبدأ عدم التناقض، في حين ان القضية الواقعية او الاستقرائية يبررها مبدأ السببية اللزومية لا عدم التناقض، وفقاً لما ذهب اليه في (الاسس المنطقية للاستقراء).. فلولا تحليلنا السابق لكنا نرى بان هذه الرؤية هي ما تناسب مذهب مفكرنا في هذا الكتاب. لكن ما طرحه فيما بعد ينفي مثل هذا الاحتمال والتوجيه. اذ قصد بالتوالد الموضوعي نفس التوالد واللزوم المنطقي دون ادنى اختلاف، وان ذكره لمثال (الشمس طالعة) هو ما يثير التوهم واللبس المشار اليه.. فمسألة اللزوم الموضوعي الخاصة بالقضايا الواقعية مرتبطة بحسابات نظرية الاحتمال وفقاً لبديهياتها. فدرجات احتمال القضية الواقعية هي ما تتضمن اللزوم وليس القضية الواقعية ذاتها. لذلك اشار الى ان مذهبه لا يختلف عن المنطق العقلي الارسطي في كون التوالد في مثل هذه القضايا محكوماً بالقياس المنطقي، وان اختلفا من حيث مصاديق القضايا الكبرى التي تتحكم في القياس.