سلطة العقل وحدود الوهم عند الشيخ الاكبر محي الدين بن العربي مفهوم العقل والوهم عند محي الدين بن العربي هل للعقل سلطة مطلقة؟

   يعيش الإنسان مع ذاته صراعات عديدة منها داخلية وأخرى خارجية، تؤثر على باطنه، كي يصبح الصراع فردي وشخصي، مما يطرح صعوبات في تحديد الذات، ومن ثمة الإنسان، إذ كل طرف من أطراف الصراع يحاول أن يأخذ وضع التعريف والتحديد، كتحديد الإنسان بالعقل أو النطق أو الجسد أو بالروح؛ إلا أن هذا الصراع يعمل على تغيير المواقع والأولوية، ويعيد مسألة التحديد إلى عدم التحديد بوجه واحد والارتكاز على معطى دون آخر. ومن بين الأمور التي تؤثر في عملية التحديد وتشوش على إمكانية التعريف مفهوم الوهم، الذي يعطيه ابن عربي أهمية في تصور الوجود والعالم والحقيقة، بل وله  سلطة على العقل والتفكير، مما يهدد الوجود والعالم والحقيقة بدخول الأوهام عليها في تصورنا لها. لذلك يطرح علينا هذا البحث الخروج بمجموعة من الضوابط، تؤطر العقل والتفكير، للوصول والبحث عن الحقيقة، ويجب أن تفضي هذه الآليات إلى نتيجة ممكنة، التي وجب ضبطها وتصنيفها وتمحيصها، حتى لا يزيغ العقل ويحيد عن المطلوب. إذن، ما الوهم في تصور ابن عربي؟ وكيف يشتغل ويؤثر في مصادر المعرفة كالعقل والتفكير؟  وهل يمكن تجاوز الوهم أم أنه من صميم وجودنا وماهيتنا؟ وكيف يمكن توجيه الوهم نحو طريق الحقيقة؟



      1 – تعريف الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

    يعتبر الوهم من المفاهيم المتداولة في كتابات ابن عربي، يعطيه أهمية في تحصيل المعرفة والتأثير في الوصول إليها؛ ولدى الوهم القدرة على التحكم والسيطرة من خلال سلطته التي يفرضها على النتائج المتوصل إليها، وكذا طريقة التفكير التي يتبعها في تحصيل المطلوب. وقد تدخل عدة عوامل في الزيادة من حدة الوهم وقوته أو قد تخفف من سطوته وتحكمه «فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية»

؛ إلا أن الوهم قبل أن يكون له هذه السلطة، هو قوة من قوى الإدراك «غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان»، من هنا جاءت سلطته وقوته وتحكمه، أي أنه لا يمكن الاستغناء عنه أو محاولة تجاوزه لأنه يطال مصادر المعرفة وطرق الوصول إليها، فيؤثر فيها ويتدخل في تشكيل معالمها، كما أنه قد يتحكم في رؤية الإنسان للوجود والعالم ولذاته. مما يعطي انطباعا أوليا بأن الوهم يسري في الإنسان وقدرته على إدراك وتصور كل شيء في الوجود. وبالتالي، قد نقول إن سلطة الوهم آتية من تحكمه في باقي القوى وكيفية انتقال المعرفة فيما بينها خصوصا العقل.

           2- سلطة الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

       يقدم لنا الوهم الأشياء على غير حقيقتها، بحيث يخرج الشيء عما صوره لنا العقل وضبطه الفكر. يطال الوهم الصورة فيحدث فيها تغييرا على حسب استعداد الإنسان. ولا يستطيع العقل مجارات الوهم في توهمه وتعامله مع الأمور والأشياء لأنها «تنفلت من العقل وتثبت في الوهم ويحكم عليها ويؤثر فيها» بحيث ما لا يضبطه العقل وينفلت من حدوده وتحديده يظفر به الوهم ويتحكم فيه، بل يتجاوز حدود التحكم نحو التأثير، وقد يحدث تغييرا في تصورنا للأشياء. وَهْمُ الصورة ليست في تشويه الواقع وتحريفه وإخراجه عن حقيقته وإنما وهم الصورة هنا يطال العقل والكيفية التي يتصور بها الأشياء.

 ما يحاول ابن عربي الوصول إليه هي الحقيقة الخالصة من كل تشويه أو شبهة أو خطأ أو مغالطة. حاول ابن عربي تحديد حدود العقل وتأطير الممارسة العقلية، ولهذا الغرض انصبت معظم كتابات ابن عربي في رسم الحدود للعقل وتحديد دوره في الوجود، حتى لا يحيد عن المقصود.

     ما نتوهم بالوهم لا وجود له في ذاته، أي الوجود العيني، «والمتوهم ما لا وجود له في عينه»، بحيث يعطي الوهم ما لا يعطيه العقل، يصور لنا العدم وجودا، ويمنح المعدوم صورة الوجود. إشكالية الوهم هي في تصويره لنا للموجود على مستوى الوجود، مما يعطي الأمر بخلافه، ويحدث أثرا في النفوس والعقول، من هنا سلطته على الإنسان وليس فقط على العقل، لأن الإنسان هو من يعطي للوهم فرصة بأن يسيطر عليه، من خلال هواجسه ومخاوفه. سلطة الوهم آتية من قدرته على التأثير لأن «أثر الأوهام في النفوس البشرية أظهر وأقوى من أثر العقول»، ما نتوهم وجوده وهو غير موجود قد يحدث أثرا وتغييرا في الذات، سواء في التصور أو على مستوى الآثار النفسية. وبالتالي، من قوة الوهم قدرته على التحكم في العقل، ومن ثمة في المعرفة التي ينتجها، أي أن الإنسان في حد ذاته، بمخاوفه وهواجسه، يعطي لما لا وجود له أن يتحكم فيه.



      3-  أوهام العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      إذا كان العقل حسب ابن عربي قيد «فإن العقل قيد»، يعقل الأمور بحدها وتحديدها ووضع الحدود لها حتى تُعرف بماهيتها وجوهرها، لأن تحرير المعرفة أو العلم من الحدود قد يؤدي إلى التداخل وعدم إمكانية التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الصواب والخطأ، إلا أن الأولى أن يضع العقل حدودا لممارسته،  بأن يمارس على ذاته ما يمارسه على غيره، وأن يضع حدودا لممارسته في تحديد الأشياء، وإلا فإنه قد يسقط في أوهام ميتافيزيقية، وهذا الوهم هو ما يمكن تسميته “بوهم إدراك ما لا يمكن إدراكه” أو “بوهم تصوير ما لا يمكن تصويره”، وذلك بادعاء العقل قدرته على تقييد المطلق، إلا أن المطلق لا يتحدد حسب ابن عربي «فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر، فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما  عندك، ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عز وجل وضبطت ما عندك في علمك أمرا ما، وأعلى أمر ضبطته في علمك به أنه لا ينضبط سبحانه لا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبهه فلا ينضبط مضبوط لتميزه عما ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط»، وهذا ما يحاول العقل فعله، وهو تقييد المطلق بتحديده وتصويره، وهذا محال حسب ابن عربي.

 تتميز الذات بقبولها للتقييد ، لكن ليست “ذات الله” ولولا التقييد لما تميزت الذوات ولما عرفت على حدة، ولطالها النسيان وأخفاها الاشتراك، فتضيع الحدود وتتجاوز القيود، مما يؤدي بالعقل إلى الوقوع في الأوهام والمغالطات، خصوصا تلك التي تطال أحكام العقل «ولولا العين ما ظهر للتقييد حكم في الكون، فلو زالت الحدود لزال التقييد، ولا سبيل إلى زوالها فإن بقاءها عين كمالها بها صنعت المناضلة وبانت المفاضلة». إذن، ما هي حدود العقل؟ وكيف يمكن الالتزام والتقيد بها؟ ومن يضع هذه الحدود؟ هل العقل هو من يضعها أم يضعها غيره؟



     3-1 – حدود العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      تروم محاولة ابن عربي في وضع الحدود من أجل احترام المهام، وعدم التطاول على الغير، وإذا لم يتخل العقل عن أنانيته فإن غيره يثوق إلى تجاوزه وإظهاره بمظهر الجاهل الذي يعول على غيره ولا يعول عليه «فلا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل، فالعقل مستفيد أبدا فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله». ما حاول ابن عربي القيام به هو محاكمة العقل ووضع الحدود له لأن «للعقول حد تقف عنده»، محاكمة العقل هنا في تجاوزه لحدوده، لأنه في ذلك يكون معرضا للخطأ من جهة، ومن جهة أخرى إرادته في السيطرة على غيره لأن «العقول المحجوبة بالهوى وبطلب الرياسة والنفاسة والعلو على أبناء الجنس يمنعهم ذلك من القبول  والانقياد»

  ما يريده ابن عربي من نقده للعقل وموقفه منه، هو منعه من الوقوع في الأوهام أو سقوطه في الأخطاء والمغالطات، لأن ما يعيبه ابن عربي على العقل هو مآل المعرفة التي ينتجها، وكأنه يحاول تقويم العقل حتى لا يقع في هذه الأوهام والأخطاء، وهذا التقويم له ضوابط وقواعد وما على العاقل أو العقل إلا أن يضبطها ويلتزم بها للوصول إلى الصواب من المعرفة

    تأصيل ابن عربي للممارسة العقلية

♧♧♧♧♧♧♧♧ ♧♧♧♧♧♧♧

حتى يكون العقل قادرا على الإدراك الذاتي، يؤدي به إلى الوقوف من العقل موقفا سلبيا، يتجلى في تضييق الحدود عليه، وجعله فقط قابلا يتلقى دون إمكانية الفعل النظري الذي يتميز به «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

 حاول الشيخ الأكبر أن يذهب بالعقل إلى أبعد الحدود الممكنة فيجد دوره يقتصر فقط على القبول، عقل قابل يعني عقل غير قادر على الفعل، ينتظر ما يمكن أن يقدمه الشيء أو يكشف عن خفاياه، لم يضع ابن عربي هنا الحدود للعقل وإنما قام بسجنه، وفي نفس الوقت وسع من أفق رؤيته للوجود والعالم، من خلال قدرته على قبول كل شيء، والأهم من ذلك هو عدم الوقوع في الوهم أو الخطأ الذي يشكل أكبر تهديد للعقل .

   دعوة ابن عربي لوضع الحدود كانت الغاية منه، الحد من فعالية العقل وأن يقتصر دوره على التلقي، أي عقل منفعل ومرتبط بغيره في تحصيله لمطلوبه «فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم»(13). لا يدعو ابن عربي إلى استقلال العقل وإنما إلى تبعته. وبالتالي، على الرغم من بحث ابن عربي عن نجاعة العقل في فعل المعرفة، إلا أنه ضيق من حدود فعله، مما يخدم توجهه وغايته وهي فلسفة التلقي والانتظار «ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا، وثم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عز وجل»(14). بمعنى آخر أن كل ما يتلقاه الصوفي هو من استعداده للقبول والتلقي وليس من استقلاله وإرادته في المعرفة وادعائها لأن «الحق الذي نأخذ العلوم عنه بخلو القلب من الفكر والاستعداد لقبول الواردات هو الذي يعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولا حيرة».إذن، أهم حد يضعه ابن عربي للعقل هو أن يقتصر دوره على القبول والتلقي وأن لا يتعدى ذلك نحو الفعل والنظر «إذ إن علوم النظر أوهام، عند أهل الإلهام القائم عن الإلهام لا تخطيء والحكم به لا يبطئ». لماذا إذن، هذا التضييق على العقل؟

    تضييق ابن عربي على العقل، كان الهدف منه التأسيس لمعرفة لها مصداقية أكبر، ولا يدخل عليها الخطأ والباطل والوهم، إلا أنه «لا بد من سلطان الوهم الذي يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة»، ولأن هذه الأوصاف أي الباطل والخطأ والكذب، يعطيها ابن عربي اسما واحدا هو العدم، وما نحتاج إليه هو عدم العودة إلى العدم والهروب منه، أي الابتعاد عن العدم  والخروج معرفيا إلى الوجود. لذلك فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة صحيحة لا فاسدة، صائبة لا خاطئة، معرفة يمكن نعتها بالوجود؛ ومن ثمة على العقل أن لا ينزلق إلى الأوهام وإنتاج أحكام يطالها الخطأ والغلط، وأن يكون قادرا على إنتاج الجديد ولا يقع في آفة التقليد، الذي يقتل العقل، ويحد من انفتاحه على الوجود.

  موقف ابن عربي من العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

موقف متناقض، يتراوح بين الإيجاب والسلب، يعطي تارة أهمية للعقل وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته، يعطيه أهمية كعارف من حيث هو قابل ومنقاد، وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته ويعتبره جاهلا، تارة مجددا وأخرى مقلدا «فلا شيء أكثر تقليدا من العقل وهو يتخيل أنه صاحب دليل إلهي وإنما هو صاحب دليل فكري، فإن الفكر يمشي به حيث يريد، والعقل كالأعمى بل هو أعمى عن طريق الحق
.

يعد العقل عارفا وجاهلا، وكأنه في ذاته يحتوي على هذا التقابل، والجهل بهذا التقابل إقصاء للعقل وتعسف عليه، أو قد نقول إننا نتطاول على العقل بجهلنا لهذا التقابل، مما يترتب عن ذلك سوء في فهم العقل ودوره. علينا أن نستحضر هذا التقابل حتى لا نقع في المغالطات على مستوى فهمه والحكم عليه.   



   أ – حدود حسية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 يرى الشيخ الأكبر أن بنية العقل هشة، ويعتمد على غيره في بناء الأحكام العقلية، لأن العقل في ذاته مفتقر إليها، أو أنه فارغ إلا من الضروريات أو ما هو فطري مادام «العقل لا علم عنده إلا الضروريات التي فطر عليها»(19). هناك مبادئ، لكنها مبادئ ضرورية وفطرية تحتاج إلى من يحركها نحو تحصيل المعرفة، وهذا التحريك تدخل فيه مجموعة من القوى. لكن في قول آخر يرى أن العقل فارغ من أي محتوى «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

. يركز ابن عربي دائما على القبول والتلقي، هذه هي حدود العقل التي عليه أن لا يتجاوزها، فالعقل فقير بالذات، وافتقاره هذا جعله في حاجة إلى غيره في إصدار أحكامه العقلية «فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بواسطة هذه القوى وفيها من العلل ما فيها»

       تمر المعرفة العقلية حسب ابن عربي عبر سلسلة من النقلات لكي تصل إلى العقل، مرورا من الحس إلى الخيال إلى الفكر، وهذا الأمر يضع مسافة بين الشيء وإدراكه مباشرة من طرف العقل، إلى جانب عيب الوساطة هناك عيوب تنطوي عليها كل قوة، وهي أنها غير قادرة على تجاوز حدود إدراكها، وفيها من العيوب ما فيها، مما يطرح على المعرفة العقلية صعوبات أهمها السقوط في الغلط والخطأ، ومن ثمة إنتاج الأوهام بحيث «ما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت

. يؤدي عيب الوساطة إلى عدم إدراك الشيء مباشرة وفي ذاته.

   نقد ابن عربي للعقل هو نقد للطريقة وادعاءاته النظرية في الممارسة الفعلية لإنتاج معرفة عقلية. من هنا كانت أهمية دعوة ابن عربي لإقامة الحدود حتى لا يسقط العقل في ادعاء ما ليس له، أي ادعاء الاستقلالية والفعالية وهو في ذاته مفتقر ويعتمد على غيره في إصدار الأحكام والتي قد يطالها الوهم.

يحاول ابن عربي أن يتتبع مسار المعرفة، للوقوف على مصادر الوهم والقوى المسؤولة عنه، فيبدأ بالحس أولا في علاقته بالحكم العقلي، وينسب الخطأ للعقل وحده، ويتهمه بالغلط، ولا دخل للحس في ذلك ولا حتى للخيال. لكن الفكر قد يكون له دور كبير في أوهام العقل .

    يعتمد العقل على ما ينقله الحس كشاهد، لأنه ينقل ما يتلقاه دون أن يتدخل في ذلك، كما أن إدراك الحس مباشر وبدون واسطة، لأنه يكون أقرب من الشيء أكثر من غيره. لا يخطئ الحس لأن إدراكه مباشر ولا يتدخل فيما يتلقاه «فما غلط حس قط ولا ما هو إدراكه ضروري، فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك، فأدرك بالبصر التحرك بذاته (….)فبان أن العقل غلط لا الحس، فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم لا للشاهد»

. لذلك لا يخطئ الحس عند ابن عربي، إلا أن الناقل قد يتصرف فيما ينقله، والشاهد قد يتدخل في تغيير معالم الشهادة، إلا أن ابن عربي يؤكد على أن الخطأ ليس من طبيعة الحس وإنما من العقل «فلم يجعل للحس غلطا جملة واحدة. وأن الذي يدركه الحس حق فإنه موصل ما هو حاكم بل شاهد، وإنما العقل هو الحاكم والغلط منسوب إلى الحاكم في الحكم

   يعطي ابن عربي أهمية للحس بعدم وصفه بالغلط أو إمكانية الوقوع في الخطأ ونقل الأوهام، لأن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة أو العلم، أما باقي القوى فإنها تأخذ منه حسب القرب أو البعد منه، «والحس أشرف من العقل لما فيه من الإطلاق فله السراح بالاستحقاق وإنه المحيط بما تعطيه الأوهام وإن أحالته الأحلام، والعقول قاصرة عن نسبة الوجود إلى هذه الأعيان المتخيلة»

   إدراك الحس للأشياء إدراك مباشر وبدون واسطة، لا يقلد غيره وإنما يحاكي الشيء كما هو أو كما يتبدى له، ينقل دون أن يتصرف، يشاهد دون أن يعاند لأنه شاهد، كما أنه لا يدعي ما ليس في قوته وقدرته، لذلك يسلم من الوهم والوقوع في الغلط أو الخطأ، مادامت الأوهام قد تطال الأحكام العقلية، لأنها هي من يدخل عليها الغلط والخطأ «وإنما المذهب الصحيح إنما العين لا تخطيء أبدا لا هي ولا جميع الحواس، فإن إدراك الحواس الأشياء إدراك ذاتي ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات»

لا ندرك الذاتيات إلا ذاتيا، والحس من القوى التي لا تخطيء ذاتيا حتى وإن اعترضتها صعوبات. من هنا أهمية الحس في تشكيل المعرفة وتكوين رؤية صادقة بالعالم والوجود فلا «يعقل بالعقل ولا بالحس إلا الوجود الذي نستند إليه في وجودنا»

. تقدم لنا المعرفة الصادقة رؤية حقة وحقيقية بالوجود، بمساهمة كل من العقل الذي لا يخطئ والحس في تشكيل معالم هذه الرؤية للوجود.

يؤدي الإدراك الذاتي للشيء إلى عدم الوقوع في الغلط، باعتباره إدراكا مباشرا وبدون وساطة؛ من هنا كان شرف الحس على العقل وهو أنه لا ينتج عنه ما ينتج عن العقل «فالحس أشرف من العقل، فإن العقل إليه يسعى»

.

  يأتي الغلط من تعدد الوسائط وكيفية نقلها للمعرفة وللمعطيات، وإدراك الحس إدراك واقعي وواضح ولا يكتنفه الغموض والتعقيد، إدراك بسيط غير مركب، لأن عملية التركيب قد تكون هي الأخرى إحدى العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الغلط والخطأ، ينقل الظاهرة كما هي في بساطتها دون أن يضيف إليها أو يزيد في هذا الإدراك. كما قد يأتي الغلط من حدود كل قوة على حدة. فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها.

 قد يأتي الغلط من الحس حسب ابن عربي، فلماذا يقول بعدم إمكانية وقوع الحس في الغلط؟ إذا كان ابن عربي يؤكد على ضرورة التسليم بعدم وقوع الحس في الغلط  أو أن إدراكاته لا يمكن أن يدخل عليها الغلط، فلماذا يقول بالحدود ومن ثمة محدودية كل قوة بحدودها في عملية الإدراك؟ إذا كانت لكل قوة موانع أغاليط، فما هي هذه الموانع؟ وما هي هذه الأغاليط التي يمكن أن يقع فيها الحس؟ ولماذا هذا التناقض والازدواجية في القول؟

       يأتي الغلط من حدود كل قوة، فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها، بحيث قد تعترض الحواس مجموعة من الموانع، قد تؤدي به إلى الوقوع في مجموعة من المغالطات مادام «الحس له أغاليط كثيرة

، منها العجز عن الإدراك بحصول عاهة على مستوى الحواس، والتي قد تؤدي إلى عدم الإدراك المباشر للشيء، لأن مانعا يحول دون ذلك، ليصبح الإدراك الحسي هو إدراك بواسطة. كما أن هناك مانعا آخر هو المحدودية الذاتية للحواس أي عدم القدرة على التجاوز، وذلك من خلال افتقار كل قوة إلى غيرها وتعويلها عليها في عملية إيصال المعرفة وتناقلها حتى يتم إنتاجها.

 كل قوة لا يمكن أن يكون إدراكها إلا بغيرها أي بواسطة، وهذا ما يؤدي إلى مجموعة من المغالطات أهمها الغلط في الحكم على ما تم نقله وهذا فعل العقل، كما قد يؤدي بنا هذا الإدراك بواسطة إلى الوقوع في التقليد لا التجديد. وهذا ما يرفضه ابن عربي، الابتعاد أكثر فأكثر عن التقليد؛ وهل يمكن اعتبار الوقوع في التقليد والتكرار مغالطة؟

    الحس مشروط بوجود الموضوع الخارجي أو العالم الخارجي، هو إدراك لشيء ما، وبدون وجود الحس لا يمكن نقل معطيات العالم الخارجي إلى قوى أخرى، فالمعرفة مشروطة بوجود الحواس، إلا أن الحس هنا هو في مرتبة المنفعل، والفاعل هو العالم الخارجي، والمنفعل يتلقى الفعل من الفاعل، أي ينقل دون أن يحكم  أو يتصرف فيما ينقله لأنه ليس في قدرته أن يحكم على ما ينقله، من هنا محدودية الحس .لكن، أهم مغالطة يمكن أن تقع فيها كل قوة هي ادعاؤها تجاوز حدودها نحو معرفة ميتافيزيقية، أو أن كل قوة قادرة على أن تصل إلى مستوى تحصيل المطلوب يفوق حدود هذه القوى، خصوصا “معرفة الله”، حسب ابن عربي فإن هذا الادعاء من طرف هذه القوى هو ما يوقعها في أكبر المغالطات وأخطرها، أي الوقوع في ذلك الادعاء الذي يدعي معرفة ما لا يمكن معرفته أو الوصول إليه نظرا لمحدودية وحدود كل قوة. وبالتالي، كل معرفة تدعي تجاوز حدودها الذاتية هي معرفة ميتافيزيقية، وعلى كل قوة أن تلتزم بحدودها وتتقيد بها، وإذا لم تتقيد بهذه الحدود فإنها تؤدي إلى السقوط في الميتافيزيقا.



    ب – حدود فكرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   رغم سيادة العقل وقدرته على السيطرة، إلا أنها سيادة في الظاهر، لكن في تحصيله للمعرفة يرتكز على غيره، أي افتقاره في الباطن، لأن ذلك من طبيعته وماهيته مادام «العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء

، ومن القوى التي يعتمد عليها كثيرا، الفكر، والذي يعتبره ابن عربي شقاء أبدي لازم الإنسان في وجوده، لأن قدر الإنسان هو أن يفكر، وفي تفكيره شقاء في حياته. يرهق الفكر الإنسان، ويقلق وجوده، يجعل حياته هشة، ومؤسسة على أوهام واقعية، لأن الفكر يوصل إلى ذلك في معظم حالاته ووضعياته التأملية «غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحد من خلقه إما لا يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية

إذن، هناك سيادة في الظاهر وأخذ في الباطن. لهذا الغرض يرفض ابن عربي معظم المعارف التي يتم تحصيلها من طريق الفكر ويشكك فيها، مما جعل علاقته مع الفكر متوترة إلى أقصى حد، بل أكثر من ذلك هو أشد الرافضين والمنتقدين له. لماذا هذه العداوة للفكر وهذا الرفض بهذا الشكل؟

    يتوجه ابن عربي بالنقد إلى ما تبنى عليه المعارف، أي أنه لا يتوجه إلى المدلول ولا إلى الدال، وإنما يتوجه إلى الدليل، الذي يبنى عليه المدلول بإدخال الدال في عملية التدليل، والذي يقوم بهذه العملية هو الفكر، لذلك نجد هذا الاهتمام الكبير بالفكر، لأنه الأصل في إيصال العقل إلى تحصيل المدلول. إذن، حتى وإن كان ابن عربي عرفاني في توجهه، إلا أنه منطقي في تعامله مع طرق تحصيل المعرفة، وتعقب مسارها من الأوائل أي تمحيص المعطيات وإدخالها في تركيب الدليل وصولا إلى النتيجة أو المطلوب. ما يهم ابن عربي في هذه العملية هي تلك النقلة من الدال إلى المدلول، والتي ترتبط بالدليل خصوصا.

  تعتمد المعرفة أو العلم أو ما يمكن تسميته بالحكم العقلي أو المدلول، على ما يركبه الفكر من دليل، لهذا يشدد ابن عربي ويركز اهتمامه على الفكر وكذلك العقل. لا يمكن إنكار دورهما، لكن مهمتهما عليها أن تكون على درجة عالية من الدقة والصرامة والتزام الحدود وتقييد الممارسة حتى لا يكون هناك زيغ أو خروج عن المطلوب. ما يرغب فيه ابن عربي من كل هذا، تقويم الأفكار والأحكام وفق ضوابط وقواعد صارمة تؤول بنا إلى معرفة صادقة ناتجة عن فكر صحيح لا فاسد وعن عقل سديد، لأن «علم العقل: وهو علم يحصل لك ضرورة أو عقب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد»

يأخذ الفكر من الحس مجموعة من الانطباعات والإدراكات الحسية، لكي يؤلف بينها، بواسطة تلك الأوليات العقلية أو البديهيات، وهذا الأخذ يؤدي بالفكر إلى السقوط في تعدد الوسائط، لأنه بين طرفين الحس والعقل، يأخذ من الحس كما يأخذ من العقل، إلا أنه لا يقتصر عليهما وإنما يستطيع أن يأخذ حتى من الخيال، وفي هذا المستوى ينتقل من الأخذ عن العقل والحس، إلى تقديم الدليل له، وذلك بتركيبه للصور الخيالية.

 يأخذ الفكر من العقل الأوليات وهي بمثابة مبادئ وقواعد للتفكير، لأنه لا يحتوي على مبادئ قبلية ومنطلقات سابقة بها يعمل ويشتغل، بحيث يعطي للعقل أفكارا في شكل دليل، يأخذ العقل هذا الدليل فيحكم به على المدلول. إذن، «القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما، وبرهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات وهي أمور مركوزة في الجبلة، فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول، وما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط»

  يتموضع الفكر بين وضعيتين مع دورين مختلفين، دور يأخذ فيه من الحس والعقل لكي يجد طريقة في الاشتغال، حتى يعمل على تركيب الدليل للانتقال إلى وضعية من يقدم الدليل العقلي لكي يمارس مهمته وهو الحكم العقلي بناءا على ما ركبه الفكر. لهذا الغرض يذم ابن عربي العقل من جهة الفكر، لأن الدليل من تركيب الفكر وليس العقل. وهذا الأمر سوف يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن «العقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالاتفاق فما تم إلا تقليد»

   وهكذا، يكون الفكر أقرب شيء إلى الإنسان من العقل والخيال والقلب، يعبر عن معاناة الإنسان وقلقه الوجودي والمعرفي، يعبر عن ذلك الجانب السلبي من وجود الإنسان. الفكر لصيق بالإنسان وأكثر تعبيرا عن وجوده الشقي، لأن «أصحاب الأفكار ما برحوا بأفكارهم في الأكوان فلهم أن يحاروا ويعجزوا»

إذن، ما هو مفارق لا يمكن تصوره أو التفكير فيه إلا بعد مروره عبر وسائط أهمها واسطة الحس، ومادام الحس لا يستطيع تجاوز ما هو محسوس، فإن ذلك يؤدي به إلى عدم قدرته على إدراك ما هو مفارق، ومادامت القوى تعتمد على الحس فإنها ترتبط به ولا يمكنها الاستغناء عنه «أما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلى في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحس وأوائل العقل، ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه، فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى»

 لا يستطيع الفكر العلم “بالله” «وهو هنا ما يخطر لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهية حقيقته وهو معرفة ذاته التي ما تعرف، وحجر التفكير فيها لعظيم قدرها، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل

ولكن عليه أن يدافع عنه ويثبت وجوده، ويرد على ما يمكن أن يؤدي إلى الوقوع في الشبهات والتلبيس »ونمنع من الفكر جملة واحدة لأنه يورث التلبيس وعدم الصدق»

. نطالب الفكر بالدفاع عما لا يمكن أن يعلمه أو يتصوره، وما لا يمكن إدراكه. إذن، كيف يمكن أن يدافع الفكر عما لا يدركه؟ ومن يضمن لنا أن دفاع الفكر هذا قد لا يترتب عنه مغالطات وأخطاء؟

للإجابة على هذين السؤالين، يقتضي منا هذا الأمر توضيحا، وهو أن الذات لا تعلم بأي حال من الأحوال، ولا يقتصر هذا الأمر على قوة بعينها وإنما جميع القوى بدون استثناء. وحتى يتحقق “العلم الإلهي” من جهة الفكر، فإن له شروطا من بينها، أن يكون هذا العلم علما برهانيا قائما على فكر صحيح لا فاسد، وهذا البرهان الناتج عن الفكر الصحيح، يقوم بالإثبات والرد، لأن ما ينبغي إثباته بالبرهان هو وجود الحق والدفاع عنه، والرد على من يشكك في ذلك والتبس عليه الأمر بشبهة، سواء كانوا معطلة أو أهل الشرك(…) وهو ما يؤكد عليه ابن عربي بقوله:«وعلم النور على قسمين: علوم كشف، وعلوم برهان بصحيح فكر، فيحصل له من طريق البرهان ما يرد به الشبهة المضلة والقادحة في وجود الحق وتوحيد أسمائه وأفعاله، فالبرهان يرد على المعطلة، ويدل على إثبات وجود الإله وبه يرد على أهل الشرك».

إذا كان الفكر لا يصيب إلا قليلا في مجال “العلم الإلهي”، ورغم أن هامش الصواب على مستوى الفكر أقل من هامش الخطأ، إلا أن ابن عربي يعطي لهذه القلة أهمية، لا يلغيها من إمكانية المعرفة، وتحقيق المطلوب وهو الصواب في العلم الإلهي، بمعنى آخر، حتى وإن كان هامش الصواب أقل، فإن الفكر عليه أن يضبط عمله وينتج معرفة قائمة على البرهان من جهة الفكر الصحيح، إلا أن الفكر في هذه الحالة يقتصر دوره في الدفاع وليس في إنتاج معرفة، أي نطالبه بالرد على الخصوم بالبرهان، لكن بفكر صحيح. إذن، هناك إمكانية “للعلم الإلهي” لكنه علم يقتصر فيه على الرد والإثبات وليس على إنتاج معرفة. لذلك، كل عملية تفكيرية تدعي الإحاطة والتقييد لكيفية من الكيفيات التي يمكن أن يكون عليها “الله”، بمحاولة استيعاب تلك الكيفيات التي هي للأشياء، ولا يمكن أن تعلم هذه الكيفيات لأنه لا مناسبة، والفكر يحاول أن يجد هذه المناسبة.

كل محاولة قياسية توظف الشاهد للاستدلال على ما هو غائب استدلال ناقص، وذلك على اعتبار أن الشاهد يختلف كليا عن الغائب، لذلك يجب إخراج “الله” عن أي محاولة إحاطة تروم تجسيده في مقولات عقلية، وهذا التجسيد تعطيل، وتقييد لما هو مطلق، «ومن هنا يأتي خطأ المفكرين العقلانيين الذين غلطوا في تصوراتهم عن الحق نفسه:” حيث يفكر الإنسان بعقله في الله، يخلق بتفكيره ما يعتقده في نفسه. ومن هنا يفكر في الرب الذي خلقه بفكره

فالمطلق لا يحد ولا يعرف، وأي تعقل “لله” هو منذ البداية تعقل مآله الفشل؛ وذلك لأن “الله” لا يقبل هذا التحديد ولا يمكن وضعه في قوالب فكرية، لذلك «ما أنتجه الفكر من معرفة الله لا يعول عليه

. وبالتالي، نقل كيفيات ما هو معلوم وإسقاطها على ما هو مجهول نقل غير مشروع، ومستحيل في نفس الوقت، في إطار تقييد المطلق، لأن المجهول “الله” يخرج عن أي تصور ولا يعلم له كيفية ولا حيثية إلا ما سمى به نفسه؛ لذلك «يؤكد ابن عربي ـ في رده على الفلاسفة واللاهوتيين – أن الله لا يمكن تصوره ولا يمكن معرفته أبدا، فلا ينطبق عليه أسماء ولا صفات، كما يؤكد أن كل أفكارنا ومفاهيمنا التي نشيدها قياسا على أنفسنا لا تدانيه
، وهذا الأمر سقط فيه “نصر حامد أبو زيد” بقوله:«وحين تعبر اللغة عن المطلق أو المتعالي فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعين والمحسوس. إن الله ـ بعبارة أخرى ـ ليس إلا بشرا نُفيت عنه كل صفات النقص والتحدد، وأكدت فيه كل صفات الكمال والإطلاق، والنفي والإثبات ليسا سوى أدوات لغوية لها طابعها البشري»

وكأن الإنسان بهذا القول هو “الله” لكن بصفات ناقصة ومحدودة. ومن ثمة، «يرى ابن عربي أن أهل النظر جميعهم لا يشيدون أفكارهم عن الله على شيء ليس هو الله على الحقيقة»

وهكذا، يكون ابن عربي قد عدد من زوايا النظر إلى نفس الشيء، حتى يكون موقفه موقفا وسطا، يرفض ولا يرفض الوهم في مستويات معينة من إدراك الأشياء إلى إدراك الحقيقة والوجود، من هنا أهميته كقوة من قوى الإدراك لها دور في تحصيل المعرفة وفهم الإنسان لأمور قد لا تفهم، وقد لا نجد لها تفسيرا. لذلك يؤكد ابن عربي على غرابة المعرفة التي يتم تحصيلها من طريق الوهم. تأتي الأوهام من إدراكنا للتكرار، لكنه تكرار لا يتكرر إلا مرة واحدة. ويعدم التكرار كل إمكانية للتجديد والإبداع، لأنه يحول دون ذلك. فالتكرار لا يعول عليه في إنتاج معرفة صادقة خالية من الأوهام.

         لقد حاول ابن عربي أن يؤسس للمعرفة على مجموعة من الضوابط، يعمل على فحص قوى الإدراك والتحقق من قدرتها على تحصيل المطلوب، حتى يكون لموقفه ما يبرره، وهذه الضوابط كالتالي:1ـ وضع الحدود لكل قوة حتى لا تتجاوزها، وفي تجاوزها سقوط في إنتاج معرفة تتخللها الأوهام والمغالطات والأخطاء. فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة لا كاذبة. ووضع الحدود والقيود، يؤدي إلى إنتاج المطلوب بكيفية صادقة. 2-الإدراك المباشر وبدون وسائط؛ 3ـ إنتاج معرفة تقوم على التجديد وليس على التقليد؛4ـ تحصيل معرفة صادقة وصحيحة مع عدم السقوط في الأخطاء وتجنب الوقوع في المغالطات. فكل قوة تتحقق فيها هذه الضوابط تكون مؤهلة للمعرفة، أما إذا سقطت فيما يتناقض مع هذه الضوابط، كالسقوط في عيب الوساطة، أو إعادة المعرفة بناء على تكرارها، أو إنتاج الأخطاء والمغالطات، وتجاوز الحدود، فإن هذه القوى إما يتم رفضها من طرف ابن عربي وإما يضطر إلى تقسيمها والعمل على تأطيرها بوضع حدود أخرى؛ وبناء على ذلك، قسم ابن عربي العقل إلى قسمين: عقل يدرك بواسطة، وهو ما يرفضه انطلاقا مما يترتب عنه من نتائج، وعقل ذاتي، ينتظر ويقبل دون أن يفعل أو يتعقل؛ وقسم الفكر إلى:فكر فاسد يتم رفضه، وفكر صحيح، يقبل به لكنه يؤطره ويضع له حدودا. لكن، سوف يختلف الأمر مع الخيال والقلب، ولا يقوم بمثل ما قام به مع العقل والفكر، وكأنه يميل في موقفه رغم هذه الضوابط، أو إن موقف ابن عربي من القوى فيه شيء من الانحياز إلى جانب الخيال والقلب.

المصادر والمراجع

ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص167.

ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ج1

، ج1، ص196.

إيان، أموند، التصوف والتفكيك درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، ص47.

ابن عربي، محيي الدين، رسالة لا يعول عليه، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص294.

أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1998، ص363.

ابن عربي، محيي الدين، كتاب الجلال وهو كلمة الله، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص59.

ابن عربي، محيي الدين، التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1998، ص145.
.

التعليم بين الأمس واليوم..

مدرستي الحلوة

ونحن نرى هذا الدخول المدرسي الذي لا طعم ولا لون له بسبب الجائحة لا يسعنا سوى أن نتأسف لحال هذا الجيل الذي وجد نفسه بين مطرقة الفيروس وسندان التخبط الحكومي. وأن نخشى على أنفسنا وعلى المستقبل من مصير الجيل الذي سيأتي بعد هذا، والذي سيجد أن المدرسة العمومية بصيغتها التقليدية أصبحت حفرية من الحفريات الجديرة بالمتاحف.
مع كل ما يحدث كثيرون سيشدهم الحنين إلى مدارسهم القديمة وهم يرون أبناءهم حائرين بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد. سيتذكرون فرحة العودة إلى القسم، وحماسهم الطفولي للتعرف على المعلم الجديد الذي ترسله لهم الوزارة لكي يعلمهم الحساب والإنشاء والمحفوظات والدين.
كثيرون يتذكرون أن الدراسة في تلك السنوات البعيدة لم تكن تحتاج إلى كتب ومقررات ودفاتر كثيرة ولا ألواح آيباد ولا واتساب، بل فقط إلى كناش من فئة خمسين ورقة وتلاوة «اقرأ» وريشة ومنشفة.
أما المداد فكان المعلم هو الذي يتكفل بتوزيعه على محابرنا التي توجد في مقدمة طاولاتنا الخشبية.
كثيرون سيتذكرون تلاوة «بوكماخ» و«عنزة السيد سوغان» و«باليماكو» وهو يتسلق النخلة. كثيرون سيتذكرون نصوصا موشومة في الذاكرة كـ«الثرثار ومحب الاختصار» و«البدوية والمصباح» و«زوزو يصطاد السمك» و«الشمعة والفانوس» و«سلمى في المخيم».
في تلك السنوات البعيدة كانت للمعلمين وسيلة إيضاح أساسية يستعينون بها على شرح دروسهم، وهي العصا. كانوا يضعونها فوق المكتب، وكان معلمنا من شدة حبه لها يسميها «مسعودة»، ويقول ساخرا لكل من يتعثر في شكل قطعة في السبورة أو ينسيه الشيطان آية قرآنية، وهو يلوح بالعصا، «مسعودة تحيد البرودة».
وفعلا فقد كانت «مسعودة» تزيل البرودة عن أرجلنا الصغيرة المتجمدة من البرد، فتصبح حمراء وساخنة، حتى أنه من فرط الضرب كان بيننا من يعجز عن إدخال قدميه في حذائه بسبب انتفاخهما، فيحمل حذاءه في يده ويغادر إلى بيته متكئا على أكتاف زملائه، كمعطوب حرب عائد من الجبهة عوض القسم.
وكم تغيرت الأزمنة اليوم كثيرا، فيكفي اليوم أن يعود الطفل منكسر الخاطر من المدرسة حتى تثور ثائرة والديه ويقصدان المدرسة لكي يصبا غضبهما على المعلم والمدير. أما في زمن مضى فقد كان الطفل يعود إلى البيت من المدرسة وهو لا يستطيع حتى المشي على قدميه من شدة الفلقة، وعندما يقترب من باب البيت يستقيم في مشيته وكأن لا شيء حدث، لأنه يعرف أن والديه إذا تناهى إلى علمهما أنه تعرض للسلخ في القسم، فإنهما سيكرمانه بسلخة إضافية، جزاء له على تكاسله. فالمعلم دائما على صواب.
الواقع أن الزمن الذهبي للتعليم في المغرب انتهى منذ سنوات. كنا نردد النشيد الوطني أمام الراية في الساحة كل صباح قبل أن ندخل أقسامنا الباردة، وفي المساء نردد نشيد «مدرستي الحلوة» قبل أن نغادر القسم ونتراكل في الساحة قليلا مثل بغال صغيرة أطلق سراحها بعد يوم عمل شاق، ثم نذهب إلى بيوتنا لمتابعة «سكوبيدو».
حتى الأقسام كانت لديها مسحة خاصة، غير تلك المسحة الكئيبة التي توجد عليها أقسام اليوم، والآن تحضرني كل التفاصيل التي كانت تزين القسم، صورة الجزار الذي يعلق أمام دكانه خرفانا مذبوحة ويتبسم بشارب أسود كث. صورة الصياد الذي يصوب بندقية صيده نحو سرب من البط بينما كلبه يستعد للجري وراء البطة التي ستصيبها الطلقة وتسقط في البحيرة الجامدة في الصورة إلى الأبد. صورة النجار وهو يقطع الألواح الخشبية. الكؤوس التي نضع داخلها حبات الحمص والعدس والفاصولياء ونتركها في شرفة القسم لكي ندرسها في مادة الأشياء. الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بها المعلم معنا إلى المعلمة التي كانت في الدور العلوي، والتي عرفنا في ما بعد أنها كانت رسائل غرام وأننا كنا سعاة بريد اشتغلنا في قصة حب طيلة السنة بالمجان.
عندما كان يقترب فصل الشتاء يأتي ممرضون من المستشفى وينشبون في أذرعنا تلك الحقن التي تتبرع بها علينا منظمة الصحة العالمية حتى لا ننقرض، والتي ما زال جيل بأسره يحمل آثارها إلى الآن، حتى أصبحت هذه الجلبة بطاقة هويتنا الحقيقية التي تفضحنا عندما يلقى على أحد مهاجرينا السريين القبض في بلدان الجيران.
وعندما كانت تشارف السنة على الانتهاء يأتي ممرضون آخرون يفرغون أنابيب «البوماضا» في عيوننا التي يوشك العمش على إغلاقها، فنخرج إلى الساحة ونقول للفوج الذي سيدخل بعدنا شامتين، «دخلو تبزق عليكم الدجاجة».
ومن الأشياء التي لم يعد لها وجود الآن في نظامنا التعليمي، ذلك التوقيت الذي كان يجبرنا على الدخول إلى القسم في الساعة السابعة صباحا والخروج في الساعة العاشرة. وطبعا كان أغلبنا يأتي من دون إفطار، والمحظوظون يكون عندهم ريالان لكي يشتروا بها «شفنجة» ساخنة في الطريق إلى القسم.
وأذكر أنني مع كثيرين كنت ضمن هذا الفوج الذي يدخل باكرا، ولكي أستيقظ في الموعد كنت أضع مذياعا تحت وسادتي وأتركه مشغلا طيلة الليل. وعندما يبدأ المرحوم المكي الناصري تفسيره لسور من القرآن الكريم، أعرف أن الفجر سيعلن عن نفسه بعد قليل. فأسبح مع المكي الناصري في تفسيره العجيب للقرآن وأتخيل قوم نوح الذين عذبهم الله وأتصور الجنة وما فيها من فواكه ووديان، والنار وما فيها من أفاعي وأشجار كأنها رؤوس الشياطين، ولا أعود إلى الأرض إلا عندما تبدأ نشرة الأخبار، التي حفظتها لكثرة ما سمعتها كل صباح.
آنذاك فقط يكون علي أن أغادر البيت باتجاه المدرسة بعدما ألبس السلهام الذي اشتراه لي جدي وحذاء «الجيمس» الذي كلفني شهرا من استعطاف أمي، والسروال الذي وصلني بعدما انتظرت دوري طويلا حتى يصبح صغيرا على من هو أكبر مني.
ومع كل ذلك كان التلاميذ يصلون إلى القسم، جائعين ومبللين، بمجرد ما ينقطع أحدهم عن السعال حتى يبدأ الآخر. مئات الآلاف درسوا هكذا، بأدوات قليلة جدا وبثياب رثة وتغذية شبه سيئة واستطاعوا الصمود بفضل حقن ورغيف المنظمات الإنسانية. وفي الأخير ثبت أن هذه الأجيال استطاعت أن تنجب أطرا وأدمغة تنتشر الآن في جميع جهات الكرة الأرضية.
بينما الآن أصبح التلاميذ مع كل هذه الكتب والمقررات المليئة بالأغلاط التي يحملونها فوق ظهورهم لا يعرفون ماذا يحفظون وماذا يتركون. ولذلك نزل مستوى التعليم إلى الحضيض وطلع مستوى مداخيل ناشري الكتب المدرسية وأرباح أصحاب مدارس التعليم الخصوصي إلى السماء، فمصائب قوم عند قوم فوائد.

رشيد نيني

القلق الوجودي عند الفيلسوف سورين كيركجارد(1813-1855)م

سورین كيركجارد (1813- 1855 م)

الفيلسوف العملاق، ولد الفيلسوف الدانماركي الذي تنسب إليه مدرسة الفلسفة الوجودية المؤمنة في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، وكان الطفل السابع في أسرة بورجوازية ميسورة الحال.

اشتهر عنه أنه محاور بارع، خفيف الظل له قريحة متوقدة وفي جوانية نفسه كان يعاني اكتئابًا عميقًا، ويحس بحزن خانق.

بدأ بالكتابة الفلسفية تحت أسماء مستعارة ذات طابع رمزي كعادة العصر، وكانت معظم كتاباته تمردا على النزعة الهيجلية السائدة في زمانه، وفي هذه الكتابات العديدة طوّر الكثير من الأفكار التي ارتبطت فيما بعد بالفلسفة الوجودية، من منظور مؤمن، وهذا لتفريقها عن الوجودية الملحدة عند سارتر على سبيل المثال.

تمحورت كتاباته على دراسة الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، مثل: الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية، واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بجوابها، إذ يكتب: “إن مهمته في هذه الدنيا أن يثير الإشكالات في كل مكان، لا أن يجد لها حلًّا”.


  • حصول القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

للقلق كمفهوم فلسفي، مكانة مهمة لدى كيركيغارد، هايدغر، سارتر وبوفوار. مثّل هذا المفهوم محركاً للمعالجة الوجودية للإنسان والكون وعلاقتهما. في كتابه «مفهوم القلق»، جعل كيركيغارد من إحساس ذاتي مِثل القلق موضوعاً لمفهوم فلسفي. بهذا الكتاب، يرى كثيرون أنه أسّس لنظريات هايدغر وسارتر عن الموضوع، وحتى لفرويد.
لدى كيركيغارد، أن الروح هي التوليف بين النهائي واللانهائي، وهذا التوليف/ التركيب يتم فقط عبر القلق. القلق هو دوار الحرية الذي يولد لأنّ الروح تريد التوليف بين النهائي واللانهائي، بين محدودية الإنسان ولامحدودية الممكن. الروح هي «قوة ملتبسة»، فيما القلق هو الرابط بين الإنسان وبين هذه القوة. يشرح كيركيغارد أن القلق هو «واقع الروح» الذي يظهر دائماً كـ«عدم غامض»، لكنه يختفي مذ نحاول الإمساك به، هو «لا شيء» لكنه قادر على إقلاقنا. القلق هو دوار أنطولوجي (مرتبط بالكينونة) في وجه المطلق الذي تولّده الحرية.

رى مونييه أن الفلاسفة المثاليين «هربوا» إلى الأنظمة التي لم تخدم سوى هدف واحد: العثور على السلام. نظام ديكارت، نظام هيغل، وغيرهما ليست سوى «سدود متعجّلة» في وجه المستقبل ومخاطره. هذه الأنظمة المقفلة لا تريد سوى إلغاء القلق «الذي ينفجر من الأعماق المربكة للكائن».
في المقابل، جاءت الفلسفة الوجودية لتجعل الكائن يقظاً دائماً. تأتي كـ«حملة عقابية»، بتعبير مونييه، ضد هروب «السيستام» الذي يميل إلى نزع ثقل المسؤوليات عن الفرد، لرميها على الأجهزة، الأيديولوجيات، أو الأساطير. الوجوديون يعيدون وضع ثقل «القدر» على كتفي الإنسان وحده، حتى لا «نغفو في عالم من الأوغاد»، كما يقول سارتر.

انطلاق مفهوم القلق عند كيركجارد

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

.ينطوي القلق عند كيركيغارد على معنى مزدوج: نفسي وأنطولوجي. أولاً، على الصعيد النفسي، وانطلاقاً من تحليل النصّ نفسه، يرتبط القلق بالإحساس بالذنب. هنا تظهر التوجهات المسيحية لكيركيغارد، كما ينظر لهذا البعد لديه، بارتباطه بالجنسانية التي مثّلت حجر زاوية التحليل النفسي مع فرويد. ثانياً، على الصعيد الأنطولوجي، إن القلق مرتبط بالخلط بين الذعر والدهشة التي يثيرها العدم والموت لدى الإنسان. أما نتيجة الربط بين هذين البعدين (النفسي والأنطولوجي، الذنب والدهشة) فهي الحرية.
أما كيف يتمّ تجاوز هذا القلق بالنسبة إلى الفيلسوف الدانمركي، فإن الإجابة جاءت على مرحلتين. أولاً عبر الاختيار. بالنسبة إلى كيركيغارد إن الاختيار هو «اللحظة المحظية للوجود». يقول مونييه إن الاختيار «طارد فكر كيركيغارد مثلما طارد همّ الكلية فكر هيغل». برغم كل آلام الإنسان ومآسيه، هو يمتلك أن يختار، الأمر الذي يمكنّه من تجاوز القلق. لكنّ هذا «الحلّ» لم يصمد طويلاً لديه، إذ إنه اقتصر على المرحلة الأخلاقية من مراحل الوجود الثلاث في فكره (إلى جانب المرحلتين الجمالية والدينية). ومثلما آمن إبراهيم بمشيئة الإله حين كاد أن يضحّي بابنه، يرى كيركيغارد أن «قفزة الإيمان» هذه هي الحلّ الأخير للإنسان.
كذلك، أشار مونييه في معرض حديثه عن مفهوم القلق لدى كيركيغارد إلى أن الأخير أجاب على الذين عارضوا التشديد على القلق لديه، مشبّهين إياه بالتعبير عن فكرة «الاضطراب» في الفكر البورجوازي. فأوضح أن لا علاقة للأمرين بعضهما ببعض إلا عندما تتقلص فلسفة القلق إلى «شعار سوسيولوجي».

تكمن جدة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (1813 ـ 1855)، في كونه عمل بشكل أو بشكل آخر على عدم حصر الفكر الفلسفي في دائرة المثالية المطلقة التي أوصلت العقل إلى تحقيق المطلق مع هيجل، حيث لا وجود لفكرة كونية يثبتها ويؤسس لها العقل، وإنما على فتح الفلسفة أمام أفق قديم جديد ألا وهو الجانب الوجودي المتمثل في ربط الانسان بمفهوم القلق،

والذي يصيبه فور تفكيره في الحياة والعالم والمآل.. إذ تبقى أسئلة قائمة بذاتها لم ولن يتمكن العقل بأدواته الصارمة من فهمها، فما بالك بتفسيرها. في هذا الصدد يرى الرجل أن الهروب من القلق يتحقق عبر ثلاثة أطوار،

الأول جمالي
والثاني أخلاقي
والثالث ديني.
. والحال أن كيركجارد خصص في كتابه الذي يحمل مفهوم القلق اسما له، خصص حيزا كبيرا يشرح من خلاله كيفية تشكل القلق ومظاهره وعلاقته بالإنسان.. حيث كانت الحاجة ملحة في هذا الصدد لاقتباس جزء صغير عنونه ب:

مفهوم القلق، على الأقل كي نكسب معرفة أولية حول مفهوم يشكل عشب وجودنا دون أن نعيره اهتماما يذكر، إما استسهالا به أو جهلا له..

في اساسيات القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن البراءة جهل، أو قل إن في البراءة لازال الانسان لم يحدَّد بوصفه عقلا، في المقابل نقول أن الروح توجِد الانسان في وحدة آنية ومتزامنة مع كينونته الطبيعية.
وكنتيجة لذلك فالعقل لازال محط حلم من طرف الانسان،
ـ بخصوص سؤال البراءة ـ
أن يملك الانسان تلك الفطنة القادرة على التمييز بين الخير والشر، وأن يدين كل التخيلات الجديرة بالإطراء للايمان
من ثمة نجدنا في هذه الحالة أمام ثنائية الهدوء والراحة، لكن وفي نفس الوقت يوجد شيء آخر لازال مع ذلك لم يصل إلى درجة القلق أو الصراع، بما أنه لا يوجد ما يستحق أن نصارع من أجله. في مقابل ذلك قد نتساءل قائلين:

وماذا بعد ذلك؟
لاشيء. والواقع أن أثر هذا اللاشيء هو الذي يتولد عنه بعدئذ مفهوم القلق.

وهنا نقول أن السر العميق للبراءة سيكون في نفس الوقت هو الوجه الآخر للقلق.
. إنه لحالم ذاك الذي يعتقد أن العقل يسقط على حقيقته الخاصة والتي هي لاشيء في نهاية المطاف، وإن كان هذا اللاشيء يرى نفسه أنه ليس من البراءة بشيء.
إن القلق يشكل من هذا المنطلق عزيمة للعقل الحالم،
والحق أن لهذا العنوان مكانا متميزا في علم النفس، فالليلة السابقة تطرح هذا الاختلاف بين نفسي، وبين هذا الآخر الذي يسكنني، بينما يقوم النوم بتعطيله وإيقافه، في حين أن الحلم يقترحه كموجة معدومة.. ومن هذا المنطلق فحقيقة العقل تتبدى دوما كوجه يختبر إمكانه، لكنها تختفي فور رغبتنا في الإمساك بها، وذلك بوصفها لا شيئا ليس يريد إلا أن يقلقنا، إنه لامتياز بما أنه ليست لها القدرة إلا على أن تظهر لنفسها..

وتأسيسا عليه، فإنه لم يسبق لي على ما اعتقد أن رأيت مفهوم القلق قد تمت معالجته من طرف علم النفس بشكل مهم، من ثمة سأعمل على ملاحظة اختلافه التام مع مفهوم الخوف إضافة إلى مفاهيم أخرى مشابهة له..

لهذا فالقلق هو حقيقة الحرية، لأنه هو عين الإمكان، ولهذا السبب فإننا لا يمكن أن نجده لدى الحيوان، على اعتبار أن الطبيعة بشكل أدق تفتقد للعزيمة العقلية.
والحال أنه عندما نأخذ بعين الاعتبار الصفات الديالكتيكية للقلق، فإننا لا نجد أنفسنا سوى أمام غموض نفسي..

القلق سيعدو بذلك نفورا تودديا، ونفس الأمر بالنسبة للتودد الذي سيصبح نفوريا، لذا فإني لا أعتقد أننا سنعثر على صفة نفسية أكثر غنى وحمولة من هذا المفهوم وما يرافقه من هذه الصفات. اللغة هنا تزخر بشتى أنواع التأكيدات، لكننا لا نقول مثلا: القلق الهادئ أو الخوف الهادئ، وأيضا: القلق الغريب أو القلق العنيف…

إن القلق الموضوع من طرف البراءة ليس في بداية الأمر خطأ، كما أنه ليس ثقلا يريد أن يجثم عليك، زيادة على أنه ليس ألما سبق له وأن حكم وهو في حالة غبطة بريئة، استغرقوا في مفهوم الطفولة، حينها ستلاحظون القلق مرسوما فيها بطريقة دقيقة كأنه بحث عن مغامرة ما، عن جريمة بشعة، وعن غموض معين. وإن كان لا يوجد لدى بعض الأطفال فإن هذا لا يعتبر دالا على شيء يستحق منا كبير اهتمام، لأنه لا يوجد كذلك لدى الحيوان،

على الأقل إذا كانت هناك روح فهذا يعني أنه سيكون القلق أيضا.
إن هذا القلق يرتبط بالضرورة بالطفل الذي لا يريد أن يتجاوز نفسه، وإن كان يزعجه طبعا هذا الأمر، بل إن القلق الذي يسكنه، يسحره في نفس الآن بناء على خوفه الهادئ..

عند جميع الشعوب التي تحافظ على الطفولة كما لو كانت حلم يقظة تبعثه الروح، يتمكن القلق من أن يجد لنفسه موطئ قدم كبير، بل إن عمقه قياس لعمق الشعوب. من ثمة سيكون من الغباء في أبشع صوره أن نرى شعبا يعيش في دائرة الفوضى وهو يسير على هذا الإيقاع. إن القلق في هذه الحالة ، سيتحول إلى مرحلة لاحقة للحزن والكآبة، حيث الحرية وبعد أن تتمكن من قطع الأشكال غير المطلقة لتاريخها، يتوجب عليها أن تستعيد نفسها إلى درجة بلوغ أقصى أعماقها.

وفي نفس السياق، فلا شك أن العلاقة التي تربط بين القلق وموضوعه، هي علاقة لا تزخر إلا بما هو مبهم (تتحدث اللغة أيضا بكرامة قائلة

: إننا نشعر بالقلق إزاء لاشيء) زيادة على أن المرور على مفهوم القلق في هذا الإطار، لن يتخذ بالخصوص سوى صبغة دياليكتيكية محضة، وهو ما يبين أن هذا الشرح هو ما يجب أن نسير على منواله: فعلى المستوى السيكولوجي فإن القفزة النوعية تبقى دوما معفاة من أية ازدواجية، بيد أن الانسان الذي يرجعه قلقه مذنبا، هو بالضرورة بريء (لأن الذنب ليس ذنبه، بقدر ما أن القلق باعتباره قوة خارجة عن إرادته هي التي تستولي عليه، هي قوة لا يحبها لكنها تخيفه طبعا.)
وفي معرض آخر، سيكون مذنبا بشكل كبير من يغرق في القلق، بعدما كان بشكل قطعي يحب من يخاف منه.
لذا فهل يمكن اعتبار القلق أسوأ غموض عرفه العالم؟

والحال أن هذا هو سبب اعتبار هذا التفسير لوحده من يحمل طابعا سيكولوجيا، وبينما نعتبره تفسيرا سديدا، فإني في نفس الآن أؤكد متباهيا بكونه التفسير الذي تمكن من تحقيق قفزة نوعية. إنه يتمثل أن الدفاع الذي يمنحنا إمكانيات المحاولة، أو الفاتن الذي هو من يخوننا، يتمثله بكونه سيعدو دوما تأويلا من خلاله لا يكفي النفاق قيمة سوى أنه مجرد ملاحظة سطحية لا غير:

إنه يُزيّف بذلك سؤال الأخلاق بأن يكتفي فقط بإنتاج تعريف كمي حول نفسه، وعن طريق السيكولوجيا يبحث على إطراء الانسان على حساب الأخلاق، بحيث سيكون من باب الأدب أن كل أولئك الذين لديهم تربية أخلاقية، سينخفض شأنهم كإغراء جديد أكثر مكرا مما سبق.

يعتبر ظهور القلق بمثابة مركز لكل مشكل. إن الانسان تركيب للروح والجسد، لكن هذا التركيب غير معقول ولا يمكن تصديقه، فإذا كان هذان العنصران لا يجتمعان في ثلث آخر، فإن هذا الثلث هو العقل، إذا تكلمنا بطريقة بريئة، نقول ان الانسان ليس فقط ذلك الحيوان البسيط على غرار الباقي،

هذا فلو كان حقا على هذه الشاكلة في أية لحظة من لحظات من لحظات حياته، فإنه ما كان ليتحول قط إلى إنسان.

فالعقل إذن حاضر ولكن في الحالة الفورية للحلم، وقياسا لحضوره هذا، فإنه سيعدو بطريقة أو بأخرى قوة عدوة، لأنه يبعثر أوراق هذه العلاقة الرابطة بين الروح والجسد، والتي تبقى حية دون أن تعيش، بما أنها تربط العيش بالعقل لوحده. وفي معرض آخر يمكن القول أن العقل قوة صديقة متلهفة طبعا لتأسيس العلاقة سابقة الذكر،

فما هي يا ترى العلاقة التي تربط بين الانسان وهذه القوة المبهمة؟

هل تكمن في العقل مع نفسه ثم شروطه المكونة له؟

إن هذه العلاقة هي المؤسسة للقلق، أو قل إنها القلق عينه، مادام عندما يتخلص من نفسه يمنعه العقل عن القيام بذلك،

بيد أن هذا الاستيلاء الذي يمارسه العقل يحصل طالما أن طبيعة هذه الأخير التي توجد خارج نفسه غارقة في الحياة النباتية. من ثمة فالإنسان ليس يُعرّف من هذا المنطلق بوصفه عقلا، مادام لا يستطيع الانفلات من القلق لأنه يحبه، وبما أنه ينفلت منه ـ

القلق ـ فهذا دليل على أنه يحبه. وفي هذه اللحظة تبلغ البراءة أوجها، إنها لجاهلة لكن ليس بحيوانية البهائم، فهي الجهل الذي يحدد العقل، وهذا هو عين القلق على وجه التحديد، لأن جهلها هذا يتمحور على العدم، ليس يهمنا هنا التعرف على وجه الخير من الشر في هذا الأمر. لهذا فحقيقة المعرفة بمجملها تبرز في القلق باعتباره العدم الهائل للجهل

.
وفي نفس الآن أيضا، فالإنسان مفهوم يدخل ضمن باب البراءة، لكن تكفي كلمة واحدة كي يتركز الجهل بالفعل، وإن كانت كلمة غير مفهومة بشكل طبيعي إزاءه ،

بيد أن القلق عندما حصل على فريسته الأولى، تمكن من أن يكتسب صبغة غامضة بدل التي كانت متعلقة بمفهوم العدم.
عندما نُسَلّمُ أن الدفاع يوقظ الرغبة، فإننا نكون أمام مطلب المعرفة بدل السقوط في الجهل، حيث توجب في هذه الحالة أن يكون آدم على معرفة سديدة بمفهوم الحرية، بدل أن يخدم رغبته،

وهذا هو التفسير الذي يمكن أن يأتي بعديا. إن الدفاع أقلق آدم لأنه أيقظ فيه إمكانية الحرية. إن ما يقدم للبراءة كعدم للقلق تداخل الآن مع نفسه، مما يجعله غير متمكن من الانفلات من قبضة العدم.. لهذا فعندما لا نستطيع القيام بشيء، معناه أننا لا نملك فكرة حوله، وإلا فإنه سيفترض ما سيأتي لاحقا، ألا وهو الوقوف عند الفرق بين الخير والشر.. وعليه فإنه ليس لآدم سوى إمكانية السلطة كشكل متفوق للجهل، كتعبير عال للقلق، لأنه انطلاقا من هذه النقطة الأكثر سموا نقول إن القلق موجود وغير موجود أيضا. والذي يتجلى لدى آدم في حبه للرغبة والهروب منها في نفس الوقت.

المراجع

معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي.

كيركجارد، تصوف المعرفة، وليام هبين.

عمل حب مع المحبة، سورین کیركجورد، ترجمة وتقديم فؤاد كامل.

سورين كيركجارد / خوف ورعدة، ترجمة فؤاد كامل.

كيركجارد، فريتيوف برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد

فلسفة الجمال ومفهومه في فلسفة شوبنهاور(1788-1860)

آرثر شوبنهور (1788 – 1860) فيلسوف ألماني،
معروف بفلسفته التشاؤمية يرى في الحياة شر مطلق فهو يبجل العدم، وقد كتب كتاب (العالم إرادة وتمثل) الذي سطر فيه فلسفته فلذلك تراه يربط بين العلاقة بين الإرادة والعقل فيرى أن العقل أداة بيد الإرادة وتابع لها. في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) للفيلسوف الأمريكي (ويليم كيلي رايت)، قام الأخير بسرد فصل يشرح فيه أفكار (شوبنهور) حول علم الجمال أو الاستطيقيا، مستندًا في شرحه على كتاب (شوبنهور) المذكور مسبقًا. يقول (ويليم كيلي رايت) مبتدئًا كلامه:

إن الأفكار، كما رأينا، أزلية، وتقف بين الإرادة من حيث إنها شيء في ذاته والأشياء الفردية المتغيرة التي تتمثل فيها الأفكار. وتظل المعرفة، عادة، خاضعة للإرادة ؛ فنحن لا نعرف إلا لكي ننفذ رغباتنا التي تنبثق من الإرادة. ومثل هذا الخضوع ثابت في حالة الحيوانات. ومع ذلك يستطيع الإنسان في خبرات استاطيقية مختصرة أن يلغي الخضوع للإرادة، ويركز تأمله مباشرة في الأفكار، بغض النظر عن إشباع الرغبات. وعندما يفعل ذلك، يخفي التمييز بالنسبة له بين الذات والموضوع، لأن هذا التمييز لا يوجد إلا في أفراد يتميز بعضهم عن بعض عن طريق مبدأ العلّة الكافية، ولا يتمسك بالأفكار التي تسبق هذا التمييز. ففي العالم فقط من حيث إنه تمثل، أي عالم الموضوعات المدركة، تكون الذات متميزة عن الموضوعات التي تدركها. ومن يصبح مستغرقًا في إدراك الطبيعة التي يفقدها كل إحساس بالفردية، ينتبه إلى معرفة أنه هو والطبيعة أصلًا شيئًا واحدًا.

ثم يقول عن معنى الفن وقيمة الفنان عند (شوبنهور):

إن أحداث العالم، بالنسبة لأي شخص يفهم تلك الحقيقة، ليس لها أهمية إلا من حيث إنها الحروف التي نقرأ بها الأفكار. وهذا النوع من المعرفة، الذي يهتم بالأفكار، التي تكون المضامين الثابتة لكل الأشياء المتغيرة، هو الفن. فهو ينتج من جديد الأفكار الأزلية في وسيط مادي، مثل النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى. والإنسان الذي ينتج الأفكار أو يدركها في عمل من أعمال الفن يكون عبقريًا ؛ لأن أعمال الفن الفعلية هي في الغالب الأعم نسخ غير كاملة من الأفكار، وهي تفتن عبقريًا ذا خيال لكي يقوم بتمييز الفكرة فيها. ويظهر العبقري غالبًا، للناس العاديين القاصرين في التخيل، ولا يدركون موضوعات عادية بينما يرى العبقري فكرة، إنسانًا مجنونًا، وذلك ما يبينه (أفلاطون) في أسطورة الكهف وفي أماكن أخرى، وأشار إليه شعراء كثيرون. وفي حين أن معظمنا ليسوا عباقرة، إلا أن كل إنسان لديه القدرة على المتعة الأستاطيقية يمتلك مقدرة قليلة لإدراك الأفكار التي تكون أساسًا لموضوعات الطبيعة والفن التي ينتجها من جديد.

ثم يتحدث بتفصيل عن عدد من أشكال الفنون، اخترنا لكم بعضًا منها، فنون العمارة مثلًا:

ويوضح فن العمارة، من حيث إنه فن جميل، بعضًا من الأفكار التي تؤلف الدرجات الدنيا من تموضع الإرادة في الثقا والتماسك، والصلابة، والصلادة – الصفات الكلية للحجر، وتجليات الإرادة الأكثر بساطة وإبهامًا. والموضوع الوحيد لجماليات العمارة هو الصراع بين الثقل والصلابة، الذي يكشف عنه الفن بتمييز تام بالنسبة إلى الضوء. واستطاع الفنان المعماري أن ينتج هذه الآثار بحُرّية أكثر في المناخ المعتدل في الهند، ومصر، واليونان، وروما. أما في أوروبا الشمالية فقد قيّد المناخ القاسي حريته، ولابد من تزيين عربات الذخيرة الحربية، والأسطح المحددة، وأبراج العمارة القوطية بزخرفات مستعارة من فن النحت.

يتطرق بعد ذلك إلى فن آخر، وهو الشِعر عند (شوبنهور). يقول:

الشعر هو أعلى الفنون التي تكشف عن الأفكار، الذي يصور الناس في سلسلة مترابطة من مجهوداتهم وأفعالهم. إن الشاعر يصور الخصائص التي لها مغزى ودلالة في أفعال لها مغزى، ويكون أكثر نجاحًا في الكشف الحقيقي عن الأفكار من المؤرخ، الذي يكون مجبرًا على اختيار أشخاص وظروف كما تأتي في علاقاتها المتشابكة والمؤقتة من علل ومعلولات. ولذلك لابد أن ننسب حقيقة داخلية حقيقية بالفعل إلى الشعر أكثر من التاريخ. ويدرك الشاعر في الشعر الغنائي، والأغاني، حالته الداخلية الخاصة ويصفها. […] ويتوارى الشاعر بصورة كبيرة أو قليلة وراء تمثلاته في أنواع أخرى من الشعر، إلى حد ما في القصيدة الروائية، وبصورة كلية في الدراما الشعرية، التي تكون الصورة الأكثر موضوعية، وكمالًا وصعوبة في الشعر. إن الشاعر هو مرآة البشرية، ويجلب إلى وعيها ما تشعر به، وما تفعله.

وبطبيعة (شوبنهور) المتشائمة، فقد تطرق بشكل أكبر إلى التراجيديا، وهي الأعمال الفنية الدرامية المائلة إلى التصوير المأساوي. فيقول عنها:

التراجيديا هي ذروة الفن الشعري، بسبب عظمة تأثيرها، وصعوبة إنجازها. فهي تصور الجانب المرعب من الحياة، تصور الألم الذي يتعذر التعبير عنه، وشكوى البشر، وانتصار الشر، وسقوط البريء العادل. إنها صراع الإرادة مع نفسها، والمعنى الحقيقي للتراجيديا هو أن البطل يُكفِّر، لا عن خطيئته الفردية الخاصة، وإنما عن جريمة الوجود الفردي، وتحطم الإرادة إلى أشخاص منفصلين.

وفي النهاية يذكر الموسيقى كأحد أنواع الفنون:

أما الموسيقى فهي تقف وحدها، مختلفة عن كل الفنون الأخرى. لأن الفنون الأخرى تكشف عن الأفكار، في حين أن الموسيقى تنفذ وراء الأفكار وتكشف عن الإرادة من حيث هي شيء في ذاته. وتصور النغمات المنخفضة، في انسجام الألحان، الدرجات الدنيا لتموضع الإرادة، أي الطبيعة غير العضوية، وضخامة كوكب الأرض، في حين أن النغمات العالية تصور عالم النباتات والحيوانات. وتسير فواصل السلم الموسيقي في موازاة مع درجات التموضع في الطبيعة، أي الأنواع المختلفة.

وأخيرًا يختتم كلماته بالحديث عن المتعة، وعلاقتها بالجمال:

وتمكننا المتعة التي نستقبلها من الجمال بأسره، والعزاء الذي يقدمه لنا الفنان من أن نستغرق لحظة فيما كتب وننسى أنفسنا من حيث أننا أفراد، وننسى كل همومنا الشخصية. وندرك أننا واحد مع الطبيعة بأسرها من حيث إنها تعبير عن الإرادة، وندرك أن كل حياة، وليست حياتنا الخاصة، معاناة تذهب سدى. ويقدم لنا نسيان أنفسنا بهذه الطريقة راحة مؤقتة من الآلام المضنية لرغبات فردية تعي ذاتها.

الفن بالنسبه لشوبنهاور تحرر من الواقع ليعيش حياه متساميه وهذه هي اول قضيه يقول بها شوبنهاور ( الهروب من الواقع)
الفكر الذى يضعها هنا شوبنهاور ان الواقع هو الفن ولكنه لايضعه كما هو بل يقوم بتهذيبه وتعزيزه والتركيز على العواطف والافكار، فهو يوجد واقع متساميا يوازي الواقع الحقيقي، ام ينفي شوبنهاور الواقع من الفن بل قد ارتفع به إلى مستوى أعلى.

يرى شوبنهاور أن سمو الفن يحرر الإنسان من عبوديته، في الفن نجد حريتنا لأن الانسان له مخاوف كثيره مثل الموت…. الخ
وهي تؤثر كفنان وكمتلقى من ناحيه، والأخلاق والتهذيب مثل البخل….
اي ان الفنان يحاول ان يعكس مشاكله بالفن.

*التأمل الجمالي بالنسبه لشوبنهاور حاله واحده لاتنفصل عن التأمل وعن الادراك، لأن الادراك هي عمليه التجربه او العمل الفنى ومن ثم ندخل التأمل الى العمل الفنى والجمالي.

الإدراك في الفن يؤدى الى التأمل والتأمل يؤدى الى حاله من السمو والتعالى عن الواقع.

تعتمد الاشياء الجميله ولكن بشكل متفاوت، الاشياء الجميله قياسا الى ادراكها بالادراك والنوع وبالإراده (الإنسان بلا إراده لاشي)

الجمال عند شوبنهاور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الجمال عنده مشروط بالإراده والنوع والفكر وليس مطلق.
الجمال نسبه صفه للعالم عندما نتأمل العالم لذاته وليس لأي سبب اخر.
اي التأمل في ذاته ليس لأي شئ اخر.
اي لانربطه بأسباب اخرى ولكن هذا لايعنى ان نجرد الجمال او التأمل بالإراده والنوع والفكره لأن الغير عاقل او عديم الإراده لايمكنه ان يدرك حتى وجود الله.
مثل: الله جميل لذاته
وليس جميل للعالم

يرى ان الانسان يحاول ان يكمل النقص الموجود في الطبيعه
يربط شوبنهاور بين الأخلاق والفن، مثل ان هناك فرق بين الطيب والشرير، فالشرير في وجهه نظر شوبنهاور هو الشخص الذي يقبع السجين في مقبره مملكه الاوهام اي ان الانسان يبتعد عن الحقيقه “الحق” اي يخلو من التسامى.

والفن من وجهه نظر شوبنهاور منطلق الى القداسه لكن الشعور بالشفقه والرحمه لايتسم بها الا الطيب.
الذي يدرك ماوراء الظواهر فهو متأمل يشفق على الناس الذين يعانون ويسببون المعاناه.

فالطيب فنان في الأساس، هنا شوبنهاور متأثر بإحاديه الكون وتناسخ الأرواح وبالأساطير الهنديه.

التحول من الشر الى الخير عند شوبنهاور مشروط بالتخلى عن الفرديه، الطيب يتسامى على الواقع الظاهري فيدرك ان المحبه والتعاطف فتقل معاناته عندما يتوحد مع العالم ولكي يتوحد مع العالم يخلص نفسه من كل الاشياء السلبيه كالرغبات والهموم الدنيويه ويصبح اقرب الى القديس والإراده هي الأداه لذلك اداه إلقاء رغبات الحياه والجسد.
كانت لشوبنهاور نظره سلبيه وهي انه شرع الإنتحار.
تجاوز الواقع وبنفس الوقت الاحتفاظ بالواقع فهذين الحالتين المتناقضتين لاتحدث الا بالفن.
التامل الخالص في الفن هو ارتفاع سمو فوق كل مانرغب فيه او نخاف منه.

جمال الفن عند شوبنهاور جمال عارض اي جزئى لأن المتأمل للفن لاينتصر كليا على طبيعته.
يجمع شوبنهاور مابين العبقري والمجنون، الشئ المشترك بينهما هو النسيان المؤقت للواقع بينما عند المجنون نسيان مطلق وعند المبدع مؤقت.
ويضع شوبنهاور الموسيقى في قائمه الفن لانها تخلص كامل الشعور لانها خياليه من كل مضمون ملموس او محسوس بعيده عن الواقع.
فأفكاره في الفن والفلسفه تشاؤميه لانه عاش مجموعه من الأزمات الشخصيه ولكنه وجد في عصر رومنسي.
كان شوبنهاور على خلاف مع جيله الذي في عصره وأهمل النظريات الفلسفيه من البعد الأجتماعي وركز على الأخلاق.

سر الجمال لدى أرثر شوبنهاور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الفن والفلسفة توأمان لدى شوبنهاور في وظيفتهما الإدراكية لماهية الوجود، إذا كان التفلسف يمارس الوعي بالحياة عن طريق التصورات فإن الفنّ يمارس الوعي بالحياة عن طريق المُثل، وإذا كانت إرادة الحياة ذات طبيعة باطنية عمياء لأنها تندفع بلا سبب وتتحرك دون هدف فإن الفن هو السبيل الوحيد للتحرر من عبثيتها، عالم الحياة هو محل اشتغال الإرادة التي تتجسّد في الصراع الشامل في الطبيعة وتتسبب بانتشار العذابات والآلام، لكن عالم المثل التي يُعيد الفنان اكتشافها عن طريق التأمل فخالٍ من الألم لخلوه من الإرادة، يقول شوبنهاور: “في التأمل الفني يصير الشيء الجزئي صورة نوعه دفعة واحدة، ويستحيل الفرد المتأمل إلى ذات عارفة خالصة”.

في العلم يتم الانطلاق من الكلي من أجل استتباع الجزئي لكن في الفن تكون البداية من الجزئي لمحاولة احتواء الكلي، العلم يتطلب البرهان ويصل لهدفه بالتجربة بينما الفن لا يتطلب سوى الموهبة وعادة ما يصل لمبتغاه بالبصيرة، نسيان الأنا هو شرط المتعة الجمالية إذْ لا تتحقق إلا بالتسامي الذي لا يخدش الإحساس بالجلال مع إجالة النظر في غضبة الطبيعة، ولا يكتمل إلا بالاتصال بين الذات والموضوع ليصبح التأمل في الحقيقة عملا لاإراديا، الجمال يتحقق في أتم صورة وأبهى حلة في النوع الإنساني لأنه يمثل أعلى مراتب تحقق الإرادة في هذا العالم، إعادة اكتشاف المثال الذي تتجسد أشكاله في الطبيعة عن طريق التأمل العميق هو ما يتيح للفنان التعبير عنه بصورة تفوق نظيرها الموجود في الطبيعة.

إذا كان الجمال لدى كانط ينصرف إلى ما تروق لنا صورته وليس إلى ما تروق لنا مادته فإن الشعور بالجمال لدى شوبنهاور “يأتي بواسطة عيان خالص تُدرك فيه الصور المتحققة في الموضوعات المحسوسة”، لذا كان الفن المعماري لدى شوبنهاور هو أدنى درجات الجمال لأنه لا يتجاوز مجرد الانسجام الهندسي، ثم يليه فن النحت والتصوير حيث يميل الأول لتوكيد إرادة الحياة وتحققها في الزمان والمكان بينما يميل الثاني لإنكارها لأنه ينحو لاستخلاص طابع إنساني عام من خلال الفرد باعتبار أن كل إنسان يساهم في مثال الإنسانية.

ثم يليه فن الشعر بوصفه إدراكا للذات من داخلها واستثارةً للخيال بواسطة الكلمات على حد تعبير شوبنهاور، الشعر يستوعب المُثل بكل درجاتها، لذا كانت القصيدة رمزا لتفوق الإنسان الروحي وأهم مظاهر التعبير الجمالي، الشاعر “مرآة الإنسانية” لقدرته على النفاذ إلى سر الوجود وملامسة الجوهر ومغالبة الخواء الداخلي، ثم يليه فن الموسيقى التي يراها شوبنهاور من أوضح تعبيرات الشيء في ذاته الذي لم يعد محجوبا بأشكال أخرى للتكييف المعرفي، وبخلاف حال الفنون الأخرى تبدو الموسيقى من أشد التعبيرات الفنية عن الوجود في وحدته المطلقة، للموسيقى كينونة مستقلة عن العالم وهذا يُكسبها أهمية ميتافيزيقية، خصوصا أن الطابع المتجدد للألحان يشبه الطابع المتجدد للطبيعة من خلال تنوع الأفراد، رؤية شوبنهاور للموسيقى تجسدت في الموسيقار ريتشارد فاغنر الذي وجد فيه نيتشه “فلسفة شوبنهاور وهي حية تسعى على قدمين”.

لقد وضع شوبنهاور قيمة الجمال في أعلى مرتبة ممكنة لأنه كان يتغيا بواسطتها الوصول إلى ما يشبه “الفناء التام” التي تحققه إرادة الفنان، يقول شوبنهاور:” لو استطاع الإنسان، مدفوعاً بقوة العقل أن يطلق الطريق المألوف في رؤية الأشياء… لو توقف عن اعتبار ما في الأشياء من متى وأين ولماذا، وتطلّع إليها ببساطة كما هي فقط، لو حال بين فكره المجرد وفكر التصورات… فترك وعيه في تأمل هادئ للموضوع المتمثل أمامه، منظراً كان أو شجرة أو جبلاً أو بناية … الخ . فلو كان له ذلك لتخلص الموضوع من كل رابط يشدّه إلى غيره، ولتخلصت الذات من كل رابط يشدها إلى الإرادة، وما سندركه حين ذلك لن يكون هذا الشيء الجزئي أو ذلك، وانما هي فكرة الصورة السرمدية، والتمثل المباشر للإرادة في درجة ما، وفي إدراك كهذا يتخلص الإنسان من كل فردية، فيغدو ذاتاً من المعرفة الخالصة وأعلى من الإرادة والألم والزمن

أفضل مائة كتاب في علم الاجتماع


نشر (آي سي أي) الإتحاد الدولي لعلم الإجتماع، وهو اتحاد معروف بحرفيته الأكاديمية. وقد كانت على رأس القائمة الكتب المنشورة باللغة الإنكليزية وفيها ثمانية عشر كتابا راقيا، وتليها بالدرجة الثانية الألمانية، ثم تليها بالدرجة الثالثة بالفرنسية، وذلك بمعدل ثمانية عشر كتابا لكل لغة.
أما الكتب اليابانية والروسية والسويدية فهي في ذيل القائمة حيث تم نشر كتابين لكل من هذه اللغات الثلاث.
كما كان هناك تنوع بالنسبة للغات الأخرى كالإسبانية والبرتغالية والهولندية والإيطالية كما يلاحظ في القائمة المنشورة التي ننشرها أدناه.
1 – Economy and Society by Max Weber.
الاقتصاد والمجتمع؛ ماكس فيبر. (الاقتصاد والمجتمع)
2- The Sociological Imagination by C. Wright Mills.
الخيال العلمي الاجتماعي؛ تشارلز رايت ميلز
3- Social Theory and Social Structure by Robert Merton.
النظرية الاجتماعية والبناء الاجتماعي؛ روبرت ميرتون.
4- The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism by Max Weber.
الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية؛ ماكس فيبر
5- The Social Construction of Reality by Luckmann & Berger.
البناء الاجتماعي للواقع؛ بيركغر ولوكمان.
6- Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste by Pierre Bourdieu.
النقد الاجتماعي لحُكم الذوق؛ بيير بورديو.
7- The Civilizing Process by Norbert Elias.
عملية التمدّن؛ نوربرت إلياس.
8- The Theory of Communicative Action
نظرية الفعل التواصلي؛ يورغن هابرماس
9- The Structure of Social Action by Talcott Parsons.
بناء الفعل الاجتماعي؛ تالكوت بارسونز.
10- The Presentation of Self in Everyday Life by Erving Goffman.
تقديم الذات في الحياة اليومية؛ إرفين جوفمان.
11- Mind, Self and Society by George Mead.
العقل، النفس والمجتمع؛ جورج ميد.
12- The Social System by Talcott Parsons.
النظام الاجتماعي؛ تالكوت بارسونز.
13- The Elementary Forms of Religious Life by Emile Durkheim.
الأشكال الأساسية للحياة الدينية؛ إميل دوركايم.
14- The Constitution of Society by Anthony Giddens.
دستور المجتمع؛ أنتوني جيدنز.
15- The Modern World-System by Immanuel Wallerstein.
نظام العالم المعاصر؛ عمانوئيل والرستين.
16- Discipline and Punish : the Birth of the Prison by Michel Foucault.
المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن؛ ميشيل فوكو.
17- The Structure of Scientific Revolutions by Thomas Kuhn.
بناء الثورات العلمية؛ طوماس كوهن.
18- Sociology by Georg Simmel.
علم الاجتماع؛ جورج زيمل.
19- Risk Society by Ulrich Beck.
المجتمع الخطر؛ أولريش بيك. (تتوفر ترجمة)
20- Labour and Monopoly Capital by Harry Braverman.
العمل واحتكار رأس المال؛ هاري بريفمان.
21- Dialectic of Enlightenment by Adorno & Horkheimer.
جدلية التنوير؛ أدورنو وهوركهايمر.
22- Prison Notebooks by Antonio Gramsci.
دفاتر السجن؛ أنتونيو غرامشي.
23- Foundations of Social Theory by James Coleman.
أسس النظرية الاجتماعية؛ جيمس كولمان.
24- Knowledge and Human Interests by Jürgen Habermas.
المعرفة والمصلحة؛ يورغن هابرماس.
25- The Social Origins of Dictatorship and Democracy by Barrington Moore.
الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية؛ بارينغتن مور.
26- The Great Transformation by Karl Polanyi.
التحوّل العظيم؛ كارل بولاني.
27- The American Occupational Structure by Blau & Duncan.
الهيكل الوظيفي الأمريكي؛ بلاو ودونكان.
28- The Coming Crisis of Western Sociology by Alvin Gouldner.
الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي؛ ألفين غولدنر.
29- Social Systems by Niklas Luhmann.
الأنساق الاجتماعية؛ نيكلاس لومان.
30- Ideology and Utopia by Karl Mannheim.
الأيديولوجيا والطوباوية؛ كارل مانهايم.
31- Outsiders: Studies in the Sociology of Deviance by Howard Backer.
الخارجون: دراسات في علم اجتماع الانحراف؛ هوارد بيكر.
32- Capital. A Critique of Political Economy by Karl Marx.
رأس المال. نقد الاقتصاد السياسي؛ كارل ماركس.
33- The logic of Collective Action by Mancur Olson.
منطق الفعل الجمعي؛ مانكور أولسن.
34- The Division of Labor in Society by Emile Durkheim.
تقسيم العمل في المجتمع؛ إميل دوركايم
35- The Rules of Sociological Method by Emile Durkheim.
قوانين المنهج الاجتماعي؛ إميل دوركايم.
36- Studies in Ethnomethodology by Harold Garfinkel.
دراسات في الإثنوميثودولوجي؛ هارولد غارنفنكل.
37- Asylums by Erving Goffman.
المصحات؛ إيرفن جوفمان.
38- Political Man by Seymour Martin Lipset.
الرجل السياسي؛ سينامور ليبست.
39- The Power Elite by Charles Wright Mills.
الصفوة الحاكمة؛ تشالز رايت ميلز.
40- The Logic of Practice by Pierre Bourdieu.
منطق الممارسة؛ بيير بورديو.
41- Dependency and Development in Latin America by Cardoso & Faletto.
التبعية والتنمية في أمريكا اللاتينية؛ كاردوسو وفاليتو.
42- Class and Class Conflict in an Industrial Society by Ralf Dahrendorf.
الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي؛ رالف دارندورف.
43- The Consequences of Modernity by Anthony Giddens.
آثار الحداثة؛ أنتوني جيدنز.
44- Stigma by Erving Goffman.
الوصمة؛ إيرفن جوفمان.
45- Men and Women of the Corporation by Rosabeth Moss Kanter.
رجال ونساء الشركة؛ روزابث موس كانتر.
46- The Phenomenology of the Social World by Alfred Schütz.
ظواهر العالم الاجتماعي؛ ألفرد شوتز.
47- Invitation to Sociology by Peter Berger.
دعوة إلى علم الاجتماع؛ بيتر بيرغر.
48- Reproduction in Education, Society and Culture by Bourdieu & Passeron.
إعادة إنتاج التعليم والمجتمع والثقافة؛ بيير بوردو. (تتوفر ترجمة عربية)
49- The Active Society by Amitai Etzioni.
المجتمع النشط؛ أميتاي إتزيوني.
50- The Discovery of Grounded Theory by Glaser & Sreauss.
اكتشاف التجذير النظري؛ جليسر وشتراوس.
51- The Structural Transformation of the Public Sphere by Jürgen Habermas.
التحولات الهيكلية في المجال العام؛ يورغن هابرماس.
52- Social and Cultural Dynamics by Pitrim Sorokin.
الديناميكا الاجتماعية والثقافية؛ بتريم سوروكن.
53- The Self-Production of the Society by Alain Toutaine.
الانتاج الذاتي للمجتمع؛ ألين تورين.
54- Sociology of Religion by Max Weber.
علم الاجتماع الديني؛ ماكس فيبر. (تتوفر ترجمة عربية)
55- The Methodology of the Social Sciences by Max Weber.
مناهج العلوم الاجتماعية؛ ماكس فيبر.
56- The Origins of Totalitarianism by Hannah Arendt.
أسس الديكتاتورية؛ حنة آرندت. (تتوفر ترجمة عربية)
57- The Logic of Social Action by Raymond Boudon.
منطق الفعل الاجتماعي؛ ريموند بودن.
58- Civilization and Capitalism by Fernand Braudel.
الحضارة والرأسمالية؛ فرناند برودل. (تتوفر ترجمة عربية)
59- The Suicide by Emile Durkheim.
الانتحار؛ إميل دوركايم. (تتوفر ترجمة عربية)
60- The Interpretation of Cultures by Clifford Geertz.
تأويل الثقافات؛ كليفورد جيرتز. (تتوفر ترجمة عربية)
61- Sociology by Anthony Giddens.
علم الاجتماع؛ أنتوني جيدنز. (تتوفر ترجمة عربية)
62- The professional Soldier by Janowitz Morris.
الجندي المهني؛ جانويتز موريس.
63- The Language of Social Research by Lazarsfeld & Rosenberg.
لغة البحث الاجتماعي؛ لازرفيلد وروزنبيرغ.
64- History and Class Consciousness by Georg Lukács.
التاريخ والوعي الطبقي؛ جورج لوكاش. (تتوفر ترجمة عربية)
65- Patriarchy and Accumulation on World Scale.
النظام الأبوي (الذكورية) والتراكم على مقياس العالم؛ ماريا ميز.
66- The Sociological Tradition by Robert Nisbet.
التقليد الاجتماعي؛ روبرت نسبت.
67- The Making of English Labour Class by Eric Thompson.
نشأة طبقة العمال الإنجليزية؛ إريك طومسون.
68- The Lonely Crowd by David Reisman.
الحشد الوحيد؛ ديفد ريسمان.
69- Collected Papers by Alfred Schütz.
مجموعة أعمال؛ ألفرد سكوتز.
70- The Philosophy of Money by Georg Simmel.
فلسفة المال؛ جورج زيمل.
71- Street Corner Society by William Whyte.
مجتمع ركن الشارع؛ ويليام وايت.
72- Theoretical Logic in Sociology by Jeffrey Alexander.
المنطق النظري في علم الاجتماع؛ جفري ألكسندر.
73- Reading Capital by Louis Althusser.
قراءة رأس المال؛ لويس ألتوسير. (تتوفر ترجمة عربية)
74- Imagined Communities by Benedict Anderson.
المجتمعات المُتخيَّلة؛ بيندكت أندريسون. (تتوفر ترجمة عربية)
75- The Human Condition by Hannah Arendt.
حال الإنسان؛ حنة آرندت.
76- Postmodern Ethics by Zaygmunt Baumann.
أخلاقيات مابعد الحداثة؛ زيجمونت باومان.
77- The Second Sex by Simone de Beauvoir.
الجنس الثاني؛ سيمون دو بوفوار. (تتوفر ترجمة عربية)
78- Patterns of Culture by Ruth Benedict.
أنماط الثقافة؛ روث بيندكت.
79- Symbolic Interactionism. Perspective and Method by Herbert Blumer.
التفاعلية الرمزية: المنظور والمنهج؛ هيربرت بلومر.
80- The Unintended Consequences of Social Action by Raymond Boudon.
نتائج الأفعال الاجتماعية الغير مقصودة؛ ريموند بودون.
81- Outline of a Theory Practice by Pierre Bourdieu.
الخطوط العريضة للممارسة النظرية؛ بيير بوردو.
82- The Urban Question by Manuel Castells.
السؤال الحضري؛ مانويل كاستيلز.
83- The Bureaucratic Phenomenon by Michel Crozier.
ظاهرة البيروقراطية؛ مايكل كروزير.
84- Actors and Systems by Crozier & Friedberg.
الممثلون والنظم؛ كروزير وفريدبيردغ.
85- The Wretched of the Earth by Frantz Fanon.
المعذبون في الأرض؛ فرانز فانون. (تتوفر ترجمة عربية)
86- Human Problems of Industrial Mechanization by Georges Friedmann.
المشاكل البشرية لميكنة الصناعة (الصناعة الميكانيكية)؛ لجرجس فريدمان.
87- The Urban Villagers by Herbert Gans.
القرويون المعاصرون؛ هربرت جانز.
88- From Max Weber: Essays in Sociology by Gerth & Mills.
من ماكس فيبر: مقالات في علم الاجتماع؛ غيرث وميلز.
89- New Rules of the Sociological Method by Anthony Giddens.
قوانين جديدة للمنهج الاجتماعي؛ أنتوني جيدنز. (تتوفر ترجمة عربية)
90- Modernity and Self-Identity by Anthony Giddens.
الحداثة والهوية الذاتية؛ آنثوني جيدنز.
91- Frame Analysis by Erving Goffman.
تحليل الإطار؛ إرفنج جوفمان.
92- The Sociological Eye by Everett Hughes.
العين الاجتماعية؛ إفريت هوغز.
93- The Sources of Social Power by Michael Mann.
مصادر السلطة الاجتماعية؛ ميخائيل مان.
94- Economic and Philosophic Manuscripts of 1844 by Karl Marx.
مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية؛ كارل ماركس. (تتوفر ترجمة عربية)
95- The Gift by Marcel Mauss,
الهدية؛ مارسيل موس.
96- The Logic of Scientific Discovery by Karl Popper.
منطق الاكتشاف العلمي؛ كارل بوبر. (تتوفر ترجمة عربية)
97- Political Power and Social Class by Nicos Poulantzas.
السلطة السياسية والطبقة الاجتماعية؛ نيكوس بولانتاس. (تتوفر ترجمة عربية)
98- Social and Cultural Mobility by Pitrim Sorokin.
الحراك الثقافي والاجتماعي؛ بيتريم سوروكن.
99- The Polish Peasant in Europe and America by Thomas & Znaniecki.
الفلاحون البولنديون في أوربا وأمريكا؛ طوماس وزنانيكي.
100- Philosophical Investigations by Ludwig Wittgenstein.
تحقيقات فلسفية؛ لودفيك ويتغينستين. (تتوفر ترجمة عربية)

  • منقول .
    تحياتي لكم .
    د. حسام الدين فياض

الفيلسوف كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة

ماذا تعرف عن الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرز” ؟ –

كارل ياسبرز (يَسْپَرْز) Karl Jaspers عالم نفس وفيلسوف ألماني، والممثل الأكبر للوجودية[ر] الألمانية بعد مارتين هايدغر [ر]، وإن كان قد رفض هذه التسمية. ولد في أولدنبورغ لعائلة ثرية محافظة متأثرة بالثقافة السياسية التحررية لألمانيا الشمالية، صبغت أفكاره بطابع ديمقراطي تحرري وبنفحة دينية متشددة. تُوفي فِّي بال (سويسرا). حظي برعاية خاصة من ذويه بسبب مرضه منذ الطفولة بالرئتين ثم بنقص التروية. وهذا أثّر بصورة مباشرة في توجهه الفكري نحو العلوم الإنسانية، فاهتم منذ الصغر بالفلسفة، وكان يرهب اتخاذها حرفة في الحياة، فتوجه إلى دراسة علم النفس وطب الأمراض العقلية ، وحاز الدكتوراه من جامعة هايدلبرغ عام 1908، وعيّن أستاذاً لعلم النفس سنة 1916، ثم أستاذاً للفلسفة سنة 1921 في الجامعة نفسها إلى أن أقصته الحكومة النازية عن التدريس في الجامعة بدعوى أن زوجته يهودية، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد انتهاء الحرب سنة 1945.

لم يكن ياسبرز يهتم بالسياسة ولا الأحوال الاجتماعية، بل كان يركز كل تفكيره في البحث العلمي في ميدان العلوم النفسية والأمراض العقلية. وتفادت أعماله النقاشات السياسية، وركزت على الجوانب الفلسفية إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى 1914، فأدرك أهمية المشكلات السياسية والتاريخية والاجتماعية في حياة الإنسان. وأحس بمرارة ذلك ولاسيما بعد أن اشتد الخلاف بينه وبين هايدغر الذي أعلن صراحة دعمه للنازية ـ ثم جاء إيقافه عن التدريس في الجامعة بسبب زوجته ـ وارتباطه بسياسيين وفلاسفة تحرريين أمثال ماكس ڤيبر، فكتب مؤلفه السياسي «الشرط الروحي للعصر» ت(1931)، الذي نشره في السنوات الأخيرة لجمهورية ڤايمار[، ينتقد فيه الديمقراطية البرلمانية، ويعزز انتماءه الفكري لماكس ڤيبر بغرض حفظ النظام السياسي في ألمانيا. ويعلن ـ خلافاً لهايدغرـ معارضته للاشتراكية الوطنية

.كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

•••
في كتاب «الموقف الروحي للعصر» — الذي ألَّفه ياسبرز عام ١٩٣٠م — يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلًا يردِّد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمُّق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله — في رأيه — عصرُ الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيمُ الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدَّد شكل حياته في المستقبل.

وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذرَ في إغفاله كلَّ ما عدا الغرب في الفترة التي ألَّف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحدَه هو المحور الذي تدور حوله كلُّ أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عامًّا بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل — أعني في الصين — وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، رُوح جديدة سَرَت في شعوبٍ ذات حضارات عريقة، وهي رُوح لا يعود من الصعب معها — لكل مفكر فاحص — أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوجَ ازدهارها.

وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدِّد — في مقدمة كتابه هذا — المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيَّأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهْم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقًا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولَّد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمةَ تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.

وحين يحدِّد ياسبرز السمات التي تميِّز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدُّم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمةٌ تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمُّع العفوي العابر المفتقَر إلى التنظيم، الذي يَسهُل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفرادُه ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملَّقها الحكام ويتقرَّب إليها قادة الرأي العام.
ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها — في عصرنا الحاضر — تُنظَّم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتمُّ كلُّ شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباءً، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تَعُد الآلةُ أسلوبًا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضًا أسلوبًا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.
لقد أصبح العمل اليومي رتيبًا متكررًا مملًّا لا هدف له، «أصبح الإنسان محرومًا من العالَم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرَّد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة — مهما اتسع معناها — لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.

إن العصر الحاضر يَرُدُّ الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسانُ لذة الاستمتاع بالتجارِب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تُتاح للإنسان في عالمٍ كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقُبٍ أشبهَ ما يكون بلقطاتٍ متقطعة في شريط سينمائي يُعرض في سرعة لاهثة.

فهل نجد للفرد مكانًا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلًا لأن يُسْتَغْنَى عنه، ويمكن أن يَحُلَّ أي فرد آخرَ محله، ما دامت ماهيته لم تَعُد شخصيته الفريدة المميزة، أو كِيانه الحق الذي لا يُسْتَبْدَل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتَحُل الكفاءة والفعالية — أيْ حُسْن أداء الوظيفة — محلَّ العبقرية.
ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنانَ للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناسَ أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلقٌ ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقًا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهُوَّة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه.
•••
لست أود أن أستطرد طويلًا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز — في أول الثلاثينيات — للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالمٍ لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها — على أية حال — صورةٌ مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرًّا مستطيرًا يهدِّد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آنٍ واحد.
هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهلٍ غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثَّل في التقدُّم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدْرِ الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدُّم التكنولوجي قد وُجِدَ ليبقى، وليس ثمَّة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقًّا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحةِ صخرةٍ نعلم مقدمًا أنها لن تتحطم.
على أن هذا لا يعني أنَّ نقْدَ العصر محرَّمٌ على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدًا لعصره بمعنًى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصبَّ على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدالَ في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيلٌ بأن يوصلنا إلى نتيجةٍ ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.

فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثيرٌ إيجابيٌّ على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالًا تامًّا، ولنضربْ لذلك مثلًا واحدًا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يُدْخِلَ في بيته روائعَ الأعمال الفنية، كالنُّسَخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أُتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصةٌ الاستمتاع بتجارِبَ روحيةٍ عميقة لم تكن متاحة من قبلُ إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مَثَلٌ واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تُحْدِثَه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصوَّر تضادًّا زائفًا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلَّم به — في هذا المجال على الأقل — دون نقد أو تحليل.

على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثَّله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنًا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهدِ ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقْدٍ يوجَّه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي — في جميع عهوده، أو في عهدٍ واحد منه على الأقل — كان يتصف بكلِّ ما يفتقر إليه الحاضر من قدرةٍ على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عنايةٍ بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدِّد فترةً معيَّنةً في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجةٍ تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيًا قاطعًا.
وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبقَ إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذاتُ طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية — بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل — فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصِّص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غيرَ سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك — بلا شك — نظرةٌ رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتمًا إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قُورن بأي عصر سابق.
في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كلَّ ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم — في رأي ياسبرز — لا بُدَّ أن يكون قاصرًا محدودًا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسانُ المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمَد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.

وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبيِّن حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجةٍ دائمةٍ إلى إيمانٍ يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانبَ أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حدٍّ يَحُسُّ معه المرء بأنه يتحول تدريجيًّا إلى شخصٍ معادٍ للعلم، وبأنه يسعى عامدًا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسِّع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا — وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبلُ — بانطباعٍ عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيًّا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملًا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسعُ من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز — في نقده للعقل العلمي — يعطي المرء إحساسًا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.

ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفاتٍ من النوع الذي يعاديه، يوجِّه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهمٍ للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحةً في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيِّب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» — وهو كتيِّب ينتمي إلى فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية — يوجِّه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلًّا منهما مفتقرًا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزًا على إيمانٍ متنكِّر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفةٍ محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.

فكلُّ علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقًا، وتعبير «العلم الشامل» تناقضٌ في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدَها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوينٍ مركَّب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوعٌ من المنهجية المنظَّمة التي تعلِّمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدَّد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدمًا ونوجِّه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلمَ أداةً للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.
على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوُزَ حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائمًا من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلةً لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل — في رأي ياسبرز — أشكالًا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعًا شاعريًّا عند نيتشه أو علميًّا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكِّر أشبهَ بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارًا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدًا كبيرًا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.
ولكن هل يحق لياسبرز — في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم — أن يوجِّه إلى خصومه نقدًا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدمًا إيمانًا بالعلم يتجاوز بكثير نطاقَ الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طَوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءًا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرًا من مظاهر ضَعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصومًا ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذٍ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني — على أية حال — هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز.
•••
مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدُّم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم — في أغلب الأحيان — مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداةً لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجزٌ في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزًا، فلو حكمنا على ياسبرز بناءً على فلسفته النظرية وحدَها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.
على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحوٍ لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهاتٌ تندرج قطعًا ضمن الفئة التي يُطْلَق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.
ولسنا نود أن نتحدَّث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عُولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابًا آخرَ يلقي على آرائه السياسية ضوءًا ساطعًا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يُعَدُّ من أواخر ما كتب.

كان ياسبرز قد أدلى بحديثٍ تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ »، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرًا إلى ما تضمنه من آراءٍ غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة Die Zeit الألمانية عام ١٩٦٠م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات — بالإضافة إلى الحديث الأصلي — هي التي تؤلِّف مادة هذا الكتاب.

ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسِّم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدِّم إلى الجماهير الغفيرة وعودًا لا تحقِّقها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.
والموضوع المباشر الذي يتصدَّى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلَّى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك — على أية حال — حدودٌ حديثة نسبيًّا، لا ترجع إلى أكثرَ من سبعين عامًا (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركِّزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.
إن ياسبرز ينظر إلى ألمانيا الشرقية لا على أنها دولة، بل على أنها «إقليمٌ اعتدَت على استقلاله سلطةٌ أجنبية»، ثم يتساءل: «كيف يمكن إنقاذ إخواننا في الشرق من العبودية؟ أليس هناك طريق سوى إعادة التوحيد؟» إن هذا الطريق يؤدي إلى ظهور النزعات الوطنية المتطرفة التي عانت منها ألمانيا في أيام هتلر؛ ولذلك يَرُدُّ ياسبرز بقوله: «إن الوحدة التي تهمنا اليوم هي الوحدة الكونفدرالية لأوروبا، ووحدة أوروبا مع أمريكا» (ص٢٥ من الترجمة الفرنسية).
وفي رأي ياسبرز أن الوضع الحالي في ألمانيا، وإن كان قد ترتَّب على الحرب، فإنه لا يمكن أن يتغيَّر بالحرب؛ لأن القنبلة الذرية ستقضي عندئذٍ على الجميع (ومعنى ذلك أنه لو لم تكن هناك قنبلة ذرية، لكان من الجائز أن يدعو ياسبرز إلى تغيُّر هذا الوضع بالحرب!) إن وضع التقسيم هذا هو الجزاء الذي استحقه الألمان نتيجة لتعاونهم مع هتلر، وعلى الألمان أن يتحملوا مسئوليتهم من ذلك، ولا يحاولوا إعادة دولة بسمارك، وإلا تسببوا في فناء البشرية، كما كانوا منذ عام ١٩٣٣م سببًا في تعاستها.
وفي هذا الصَّدد ينبغي أن نعود إلى الرأي الذي عرضه ياسبرز في كتابٍ آخرَ ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هو «الذنب الألماني». في هذا الكتاب يفرِّق ياسبرز بين مفهومين رئيسيين متعلقين بفكرة الذنب؛ فهناك الخطأ الأخلاقي والجريمة من جهة، والمسئولية السياسية من جهةٍ أخرى، أما الخطأ الأخلاقي فلا يمكن أن يُنْسَبَ إلا إلى عدد قليل من الألمان، والجريمة بالذات لم يقترفها إلا عدد قليل جدًّا منهم! وأما المسئولية السياسية فشيء يختلف عن ذلك كلَّ الاختلاف، «فمَنْ كان يعيش في بلد، ولم يهاجر بحيث لا يعود متضامنًا مع الدولة، ومَنْ لم يتصدَّ لمنع الجريمة في هذا البلد مسئولٌ سياسيًّا، ويجب أن يتحمل تبعات مسئوليته مع المذنبين الآخرين.» وإذن فعلى الألمان أن يتحملوا انقسامهم بوصفه نتيجةً ضرورية لمسئوليتهم السياسية عن العهد النازي.
فإعادة التوحيد إذن مطلبٌ ثانوي نسبي، أما الحرية فهي المطلب المطلق، وإذا لم يكن ثمَّة مفر من الاختيار بين الأمرين، فإن للحرية الأولوية دون أدنى شك، ومع ذلك فإن الألمان في رأي ياسبرز يحتاجون إلى مران طويل على الحرية؛ لأنهم اعتادوا الاستبداد وأيدوه طويلًا، وقد أورد ياسبرز في كتابه نصَّ محادثةٍ عجيبة دارت بينه وبين أحد المسئولين الأمريكيين، سأله فيها هذا الأخير عن رأيه في إدخال نظام برلماني في ألمانيا بعد الحرب مباشرة، فكان من رأي ياسبرز أن الحرية ينبغي أن تُمْنَحَ بالتدريج لشعبٍ لا يقدِّرها ولم يعتدْها بعدُ، وأن الحرية المفاجئة قد تؤدي إلى هدم بذور الحرية الأولى في نفس هذا الشعب، بينما كان رد الأمريكي (الذي وجدها فرصةً لا تُعَوَّض) هو أن الأمريكيين لا يستطيعون الانتظار طويلًا في منح الحرية؛ لأن هذا «ضد مبادئهم» (ص١٠٣–١٠٥).
ويلخِّص ياسبرز موقفه في هذا الصدد فيقول: «لو تعاونَّا دون قيد أو شرط مع الغرب بأكمله — تحت السيطرة الفعلية لأمريكا — لأمكننا أن نضمن الحرية السياسية الداخلية، وأن نضمن كذلك أمنًا نسبيًّا، هو الوحيد المتاح لنا في الموقف العالمي الراهن؛ فالحد من سيادتنا هو شرط بقائنا، وهو وحدَه الذي يحمينا من روسيا، وكذلك من القوى التي تفجَّرت داخلنا أيام حكم هتلر» (ص١١١). ومن هنا كان ياسبرز يعارض الأصوات التي دعت — من بين صفوف اليمين ذاته — إلى وقوف أوروبا ضد أمريكا، أو استقلالها عنها مثل ديجول، ويتخذ من أديناور في تهالكه على أمريكا مثلًا أعلى له.
والحق أن الضجة التي أثارتها آراء ياسبرز هذه إنما تدل على أنه برغم خضوعه الذليل للغرب ولأمريكا بالذات، التي يؤكد أنها هي مصدر نعمة ألمانيا الغربية («أننا في ألمانيا الغربية أحرارٌ بفضل كرم المنتصرين لا بفضلنا نحن»)؛ برغم هذا كله، لم يستطِع أن يحظى باحترام مواطنيه أنفسهم، حتى لقد علَّق مراسل إحدى الصحف على آرائه بقوله: «لقد أطلق كارل ياسبرز في مقابلته التليفزيونية قوى المعارضة الساخطة من الأحزاب والمنظمات السياسية والجرائد اليومية في الجمهورية الاتحادية، والواقع أن خروشوف نفسه لم ينجح أبدًا في أن يثير ضده مظاهرة إجماعية كهذه!»
تلك المقارنة بينه وبين خروشوف — الخصم الأكبر لألمانيا الغربية في ذلك الحين — ليست مجرد مبالغة كلامية، بل هي تحمل دلالة ضمنية عميقة، هي الفرق بين الاحترام الذي يلقاه الخصم العنيد المتمسك بموقفه، والازدراء الذي يقابل به النصير حين يكون متهالكًا متداعيًا، «ملكيًّا أكثر من الملك». ألم يصل حقد ياسبرز إلى حد التفكير في أمورٍ لا تجلب عليه سوى السخرية والازدراء؟ لقد أعرب مثلًا عن خوفه من أن تؤدي قلة الأيدي العاملة في ألمانيا الشرقية (التي يسميها دائمًا بالمنطقة المحتلة أو ما شابه ذلك من الأسماء) إلى قيام الروس بجلب عدة ملايين من الصينيين للعمل فيها، فيكون في ذلك أيضًا حلٌّ لمشكلة زيادة السكان في الصين (ص١٢٩).
•••
إن مشكلة ياسبرز الكبرى في هذا الصدد هي أنه — برغم كل قدراته الفكرية التحليلية — لم يحاول لحظة واحدة أن يتوقَّف ليسائل نفسه عن معنى «الحرية» السائدة في العالم الغربي، ولم يبذل أي جهد لتحليل هذا المفهوم، وهو الذي كتب من الصفحات ألوفًا مؤلفة في تحليلِ مفاهيمَ أقلَّ أهميةً بكثير من هذا المفهوم الحيوي. حقًّا إنه حلَّل معنى الحرية في مواضعَ أخرى، ولا سيما في كتابه الأكبر «الفلسفة»، ولكن ما كان يعنيه عندئذٍ كان الحرية الوجودية، التي هي جزءٌ من كِيان الإنسان، لا الحرية السياسية أو الاجتماعية التي يكتسبها بعض الناس ويفقدها البعض الآخر، والتي يحتاج بلوغها إلى جهد وكفاح.
ولم يحاول ياسبرز أن يتجاوز نطاق الحرية الشكلية الظاهرية في العالم الغربي لينفذ إلى العوامل الخفية المعقَّدة التي تتحكم في تشكيل الرأي العام الغربي دون وعي منه، بحيث يبدو هذا الرأي العام معبرًا عن نفسه وهو في حقيقة الأمر يردد آراء القوى الخفية التي تتحكم في الصحافة والإذاعة ووسائط التعبير المختلفة، عن طريق الإعلان والسيطرة المالية والإدارية.
لم يحاول ياسبرز أن يقارن بين حرية الغرب المزعومة داخل بلاده، وبين استعباده للشعوب المستعمرَة، واستنزافه لموارد الشعوب شبه المستعمرة، ولم يرتفع له صوتٌ يندِّد بهذا النوع من العبودية والاسترقاق، بل إن بكاءه كله لم ينصب إلا على «مواطنيه في الشرق»!
لم يحاول ياسبرز أن يفكِّر بعمق في معنى تلك الحرية التي تكون حصيلتها النهائية هي شن الحروب وإحاقة الكوارث بالشعوب. وإنصافًا له أقول إنه تنبَّه في أحد مواضع كتابه إلى الفارق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية، وكان ذلك في صدد الحديث عن تلك الأغلبية التي اقترعت في ألمانيا لصالح هتلر، فقال: «عندما تقوم أغلبية بهدم الحرية ذاتها، وتجعل شخصًا خارجًا عن القانون يفعل ما يحلو له، لا تعود تلك الأغلبية ديمقراطية.» وهذا رأي صحيح كلُّ الصحة، ولو طبقناه على تلك الأغلبية التي اقترعت لصالح جونسون؛ لأصبح الكلام متسقًا كلَّ الاتِّساق، ولانطبق بدقةٍ على موقف الناخب الأمريكي الذي يظن نفسه «حرًّا» إزاء سفاح فيتنام، ومنكر الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكن ياسبرز — للأسف البالغ — لم يقُم بهذا التطبيق.
وعلى أية حال فقد عاش ياسبرز ليشهد أعنفَ مراحل حرب فيتنام وأكثرها وحشية، ولم يرتفع له صوتٌ باستنكارها، وكذلك عاش ياسبرز ليشهد أبشع فصول المأساة الفلسطينية، ولكن هذه — على أية حال — قصة أخرى؛ فقد كانت زوجته يهودية، وكان لها عليه — فيما يبدو — سلطان غير قليل.
•••
إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من قراء هذه المقال سوف يحتجون بصمت لأني حاسبت ياسبرز فيه على آرائه السياسية في الوقت الذي كانت رسالته فيه — طوال الجزء الأكبر من حياته الفكرية — فلسفيةً قبل كل شيء، على أن ياسبرز ذاته كفيلٌ بالرد على هذا الاحتجاج؛ إذ هو يدافع بقوةٍ عن تدخل الفلسفة في السياسة، مؤكدًا أن الفيلسوف قد لا ينجح في أمور السياسة اليومية التفصيلية، ولكنه قادر على أن يلقي ضوءًا ساطعًا على السياسة البعيدة المدى، والاتجاهات العامة لشئون الحكم، وهو يرفض بشدة الرأي الذي يتهم الفلسفة بأنها خيالية واهمة، تشيد قصورًا في الهواء، ويدافع عن حق الفيلسوف في أن يتدخل في الأمور السياسية، بل يؤكد أن من واجب الفلسفة أن تواجه الواقع وتتغلغل في صميم الحياة (ص١٨، ١٩).
ولقد أكد ياسبرز — في مستهل الحديث التليفزيوني الذي أشرت إليه من قبلُ — أن الفلاسفة كانوا على الدوام يُبْدُون آراءهم في السياسة، وأن هذا يَصدُق على أعظم الفلاسفة في التاريخ، مثل «كانْت» وهيجل ونيتشه (ومن قبلهم أفلاطون بالطبع)، ولنستمعْ إليه وهو يقول: «لقد بَدَتْ لي الفلسفة منذ شبابي شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن مجرد قراءة كتب بديعة أو البقاء بمعزل عن العالم؛ فهي — على عكس ذلك — بدت لي شيئًا يرشدني ويبعث فيَّ القوة عن طريق فهْم الواقع الحاضر لعالمي ولذاتي … ففي الوقت الحالي — وبالنسبة لي على الأقل — يبدو لي من الواضح أن الأرستقراطية (الفكرية) أصبحت اليوم عتيقة بالية، وأن الإنسان الذي يفكر ويريد أن يفعل شيئًا ينبغي له أن يسير في الطرقات إن جاز هذا التعبير، وأن الفلسفة يجب أن تُثبِت — من الآن فصاعدًا — أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس» (ص١٩٥-٦).
ذلك هو رأي ياسبرز في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، فهل يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة التي توصَّل إليها فلسفة «تسير في الطرقات» هي أن الغرب — بزعامة أمريكا — هو وحدَه حامي حمى الحرية في العالم المعاصر؟ هل هذه هي الصيغة التي يمكن حقًّا أن «تنتشر بين الناس»؟ ذلك — على أية حال — هو المدى الذي بلغه تفكير ياسبرز السياسي.

كن أستاذا رساليا لا أجيرا..!

▪︎- لا تهتم كثيرا بما يجري خارج قسمك من مذكرات و قوانين و ترقيات و شعارات الإحباط و الافكار السوداء.

▪︎- ثق في الله ثم جدد وسائلك و طرق عملك و عامل تلاميذك على أنهم ضحايا أبرياء مهما بدر منهم من تجاوزات..

▪︎- لا تكن لينا فتُعصَر و لا صلبا فتُكسَر..

▪︎- اِقرأ من حين لآخر مستجدات تخصصك بالانجليزية و إن عجزت فبالفرنسية و شاهد افلاما في الموضوع و طبق المتاح منه بمبادرات شخصية.

▪︎- مارس الرياضة و التزم بالتغذية الصحية و النوم الكافي حتى تؤدي مهمتك في أحسن الظروف..

▪︎- اجعل لك أوقاتا في الأسبوع تتجول في العالم الافتراضي لمتابعة “التعليم في الدول المتقدمة” كفنلاندا و اليابان و كوريا الجنوبية و غيرها..

▪︎- لا تعول على الإدارة و اللجان و المواثيق في تحسين عملك..

▪︎- اعتبر قسمك سفينة أنت رُبّانُها من واجبك أن توصل ركابَها إلى بَر الأمان مهما كانت أحوال الجو سيئة..

▪︎- إذا التزمتَ بكل ما سبق ستجد مدحا كثيرا من الآباء و التلاميذ و ربما من الإدارة كذلك فلا تعبأ به و واصل مسيرتك بثقة و تفاؤل و ثبات، اما الذم و السخرية و البغض و الحسد فستجده من بعض زملائك أولا ثم ثلة من كل الأصناف فلا تكثرت و لا تلتفت لأنه سيصاحبك طيلة حياتك المهنية..

▪︎- مهما اشتدت الإهانات من الوزارات الوصية و من المجتمع فلا تلِن و لا تستكن و استحضر أنك “كِدت ان تكون رسولا” و إن “لم يقفوا و يُوفوك التبجيلا” و “إن تواطؤوا ليرَوك ذليلا.”

▪︎- أشرف عمل خَص به الله رسلَه هو “التربية و التعليم”..”إنما بُعثتُ معلما.” حديث نبوي..استحضر هذا التشريف دائما و أبدا.

▪︎- أعِد قراءة أول وصية التي ستجد حلاوتها و لذتها في آخر المشوار و ستكتشف المعنى الحقيقي لقول الله تعالى:”هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان.”

المطلق ومفهومه عند الفيلسوف هيغل

المثالية المطلقة هي أفكار هيغل و فريدريش شيلينغ ، وهما فلاسفة ألمان من رواد الفلسفة المثالية من القرن 19، وجوزايا رويس، وهو فيلسوف أمريكي، وآخرون لكن في الأساس هي من بنات أفكار هيغل”.
أطلق هيغل في نهاية المطاف مفهوم أنه يمكن فهم الوجود ككل شمولي مطلق. أكد هيغل أن الوجود العاقل (العقل أو الوعي) ليكون قادرا على معرفة الوجود (العالم) في كل شيء، يجب أن يكون هناك هوية للفكر و للوجود. وإلا فإن هذا العاقل لن يستطيع الوصول إلى الكائن و لا إلى اليقين في معرفة العالم. ولملاحظة الفروقات بين الفكر والوجود، وثرائهما وتنوعهما لا يمكن التعبير عن وحدتهما بأنهما الهوية المتجردة مثل القول إن “أ=أ”. المثالية المطلقة هي محاولة لإثبات هذه الوحدة باستخدام مبادئ واساليب تأملية فلسفية جديدة الذي يتطلب مفاهيم وقواعد منطق جديدة.
وفقا لهيغل فإن أرضية الوجود المطلق هو كونه أساسا ديناميكي العملية التاريخية الضرورة التي تتكشف من تلقاء نفسه في شكل من أشكال معقدة على نحو متزايد من الوعي التي تؤدي في نهاية المطاف إلى كل هذا التنوع في العالم و في المفاهيم التي تفسر منطقيا هذا العالم. كانت المثالية المطلقة المبدأ السائد في القرن التاسع عشر في كل من إنجلترا و ألمانيا، في حين كان له تأثيرا أقل في الولايات المتحدة. ينبغي التفريق بين مباديء الشخص المثالي المطلق وبين الذاتية المثالية التي تادت بها جماعة بيركلي وبين المثالية التجاوزية لكانط، أو بين المثالية المتعالية لفيشت ا لشيلينغ في أعماله المبكرة.

الفلسفة الهيغلية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الفلسفة الهيجلية هي رفض لكل علو، وهي محاولة إنشاء فلسفة محكمة في حدود وجود متضمن في ذاته لا تنفصل عنه، ليس هناك عالم آخر، وليس هناك شيء في ذاته، وليس هناك علو..ومن هنا “فليس الإنسان هو الذي يقول الوجود قولاً سديداً، كثيراً، أو قليلاً، إنما الوجود هو الذي يعبر عن ذاته في الإنسان قولاً )

  • هربرت ماركوز –

يرتكب العديد من شراح فلسفة هيغل و نقادها خطأ جسيما حين يستخدمون مصطلح (المطلق) الهيجلي كمفهوم مرادف في المعنى والدلالة للمفهوم الله في فلسفته .
و لعلنا نجد في عنوان بحثنا هذا تفسيرا موجزا للتفريق بين المفهومين من حيث ان مصطلح ( المطلق) في فلسفة هيجل يمثل على نحو قاطع محاولة منطقية وفلسفية عميقة لانقاذ مفهوم الله من التصور الديني اليهودي – المسيحي له باستبدال هذا المفهوم بتصور خاص وجديد هو ( المطلق ).
حيث كان هيجل (لا يتوانى في كل موضع من مؤلفاته عن إقامة التفرقة الواضحة بين روحه المطلق و إله مذهب الالوهية الديني … و مما يدعو للسخرية حقا أن معظم اتباعه نسوا هذا التمييز الاساسي بين الله والمطلق الهيجلي … فليس الله أكثر من نسخة دينية غير متكافئة مع المطلق ) كما يقول كولينز في كتابه الله في الفلسفة الغربية – ص 282- 329.
ومن أجل أن نوضح معنى مفهوم المطلق في فلسفة هيجل، لابد لنا من الاطلاع عن كثب على التفاصيل التالية .

تاريخ المصطلح:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

في معجم مصطلحات هيجل، نقرأ: إن الكلمة الألمانية الدالة على المطلق تكون صفة وظرفا في آن معا، وتستخدم تقريبا بالطريقة نفسها التي تستخدم بها كلمة “مطلق ” الانجليزية- وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تعني: طليق، منفصل، كامل.
وهو بذلك يعني : لايعتمد على، وليس مشروطا بـ، ولا هو بالنسبة إلى، أو مقيدا بأي شيء آخر، فهو ما يشمل ذاته، الكامل والمكتمل.
أما عن تاريخ هذا المصطلح وأول استخدام له، فيخبرنا المعجم نفسه، أن نيقولا دي كوزا، وهو لاهوتي ألماني عاش بين (1401- 1464) هو أول من استخدم هذا المصطلح كـ(إسم) في كتابه (الجهل الحكيم) عام 1440، للاشارة به إلى “الله” بوصفه الموجود غير المشروط بشيء، ولا المحدود بشيء ولايمكن مقارنته بشيء آخر.
ثم استخدم الفلاسفة الألمان بعد كانط بانتظام مصطلح المطلق للاشارة إلى الحقيقة النهائية غير المشروطة وقد يكون لهذه الحقيقة السمات التي ترتبط عادة بالله.

خصائص المطلق الهيجلي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أما عن خصائص المصطلح لدى هيجل وخصوصية استخدامه، فان لها ما يميزها على نحو فريد من كل ما تم لنا بيانه في ذلك العرض، وعلى النحو الاتي :
أولاً: المطلق بوصفه تجليا (التفصيل الأول)

يقول آنوود مفصلا على نحو دقيق خصائص (مطلق) هيجل:
إن نظرية المطلق تفترض ثلاثة أنواع من الكائنات:
1- المطلق.

2- عالم الظاهر “الصخور، والأشجار، والحيوانات.. الخ”.
3- المعرفة البشرية برقم “1” و “2” والعلاقة بينهما.(

إن معاينة وتحليلا دقيقا لمكونات نظرية المطلق الهيجلي، تسفر عما يأتي:

أ- إن النظرية- عند حدّها هذا- تفترض وجود كائنات ثلاثة، هي المطلق أولا، ثم المجموع الكامل المؤلـّف للطبيعة: الصخور بدلالتها على الجماد من الأشياء، والأشجار بدلالتها على الكائنات النباتية، والحيوانات بدلالتها على الكائنات الحية التي يقع الإنسان بضمنها.
ب- لا تشير النظرية – عند هذا الحد – إلى أي نوع من العلاقة بين المطلق والطبيعة، بمفردهما، إنما تشير إلى العلاقة بينهما حسب، من خلال طرف ثالث هو المعرفة البشرية بهما، أي المعرفة البشرية بعلاقة المطلق بالطبيعة “بمكوناتها الثلاث آنفة الذكر”.
ومعنى هذا أن المعرفة البشرية، وهي العنصر الذي يكشف عن هذه العلاقة، يدخل في صميم تركيب بنية المطلق، من حيث انه هو الذي يضفي هذه العلاقة على المطلق والطبيعة، فـ ” الوجود يعقل نفسه ويقول نفسه، وهذا يعني انه هو نفسه يملك نفسه ويقول نفسه في الإنسان الذي هو ترجمانه”.

وأن “اللسان البشري هو لوغوس التجربة المعاشة، بل يمكن القول انه لوغوس الوجود وتجليه تجلياً كلياً”.

ولما كانت “المعرفة البشرية” خاصة بالإنسان وحده، من جهة، وكان الإنسان، من جهة أخرى، مُدرجاً بحسب فرضية النظرية ضمن الرقم “2” أي ضمن الطبيعة، ومستقلا ضمن الرقم “3”, فان مهمته ودوره سيتمثل هنا بعملية الربط بين المطلق والطبيعة من خلال المعرفة البشرية المرتبطة بهما على نحو جوهري.
بعبارة أخرى توضّح القصد كله من هذه الفقرة، إن هيجل يبتدئ نظريته في المطلق، بالربط بين المعرفة (الإنسانية)، والوجود، وجود المطلق، ووجود الطبيعة، بل انه يوقفُ أهمية العلاقة بين الإطراف الثلاثة كلها على هذه المعرفة نفسها.
ومن الضروري جدا، أن نشير هنا، وعلى أن تبقى هذه الإشارة نفسها حاضرة على الدوام في أذهاننا خلال مسيرتنا لفهم مطلق هيجل ,أن “الكلي أو المطلق، هو فكر، ونوع الوجود الذي يمكن أن ينسب له، هو الوجود المنطقي”.

فهو إذن وجود فكري محض، في رتبة العلة أو المقدمة المنطقية التي ستصدر عنها نتائجها، الطبيعة والروح الإنساني بوصفهما فكرا أيضا.
ثم نشير من بعد “إن الفلسفة المثالية حين تقول إن الحقيقة النهائية عبارة عن فكر، فإنها لا تعني بذلك الفكر بمعناه المألوف أي الفكر الذاتي أو العمليات النفسية كما يحدث في ذهن فرد من الأفراد… ولكننا نقصد العقل أو الروح الموضوعي الحقيقي.. والروح التي نتحدث عنها, هي نسق من الفكر الكلي الذي تتألف منه الحقيقة، فهي ليست روحا جزئيا، كروحي أو روحك، وإنما هي العقل الأول الذي صدر عنه الكون كله”.

ومعنى هذا أولا “إن العالم الذي سنتحدث عنه يعتمد على الفكر وهو نتيجة للفكر، بل هو فكر وهو فكر موضوعي لا ذاتي”.

لكن “وعلى الرغم من أن العقل الموضوعي هو الذي نبحث عنه، فان هذا العقل الموضوعي مع ذلك، متحد مع عقلنا الذاتي، فليس ثمة إلاّ عقل واحد، فينا وفي العالم”.

ومعناه من بعد, أن المطلق الذي نبحث فيه “هو روح كلي، روح مجرد، انه العقل المؤثر في العالم، وهذا القول هو جوهر النظرية اللاهوتية عن التدبير الإلهي أو حكم الله للعالم، لكن هذا العقل يؤثر في العالم، لا خارجه، انه العلة في الأشياء، أو هو علة الأشياء، ولكنه ليس علة مفارقة خارجية عن الأشياء، توجد منفصلة عنها، كما يوجد العقل البشري منفصلا عن الأشياء التي يدركها”.

نحن إذن نتحرك في وسط فكري ونبحث في علاقة بين إطراف ثلاثة، يؤلف الفكر ماهيتها جميعا، فالمطلق فكر، والطبيعة فكر موضوعي، ونحن فكر ذاتي غير منفصل عنهما ومهمته هي تعيين العلاقة بين هذه الإطراف الفكرية الثلاثة.
ولئن بدا هنا، أن ثمة توحيدا بين الفكر والوجود، فمثل هذه المسألة هي إحدى الحقائق التي سعى هيجل إلى إثباتها بكل وسائله الفلسفية، والمنطقية العاملة

، ولذا فإننا سنتعامل مع هذه الحقيقة هنا – حقيقة وحدة الفكر والوجود- بوصفها بالنسبة لنا، مسلّمة، قناعةً منا بتلك الوسائل والحجج والبراهين التي ساقها هيجل لإثبات هذه المسألة، ولأن إثبات هذه المسألة عبر تفصيلاتها الأساسية ليست هي مهمة بحثنا الأولى هاهنا.
سنقول إن ربط المعرفة البشرية بالمطلق، بوصفها معرفة المطلق بنفسه، من خلال العقل الإنساني ذاته، يعدّ إحدى الدعامات الأساسية في مذهب هيجل كله، من حيث انه يرى، – كما سنبين ذلك – إن المعرفة الحقيقية للإنسان بالمطلق، أولا، وبأشياء الطبيعة من بعد، لا يمكن أن تصدر من الإنسان نفسه، أي انطلاقا منه حسب، لان هذه المعرفة بالمطلق، هي جزء من تجلي المطلق نفسه.

  • المطلق بوصفه تجليا ( التفصيل الثاني)

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“المطلق وحده “1”، لا يمكن أن يكون هو المطلق، ما لم يتجلَ في صورة “2” و”3″.
إن تجلي المطلق هو وحده الذي يجعل منه مطلقا، أو أن “1” هو وحده التطور إذا ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل: فرخ الضفدع لابدّ أن يصبح ضفدعا بالفعل وذلك يستوجب منا تصنيفها على انه فرخ الضفدع”.

وكذلك المطلق “1” يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه، وهكذا فان “1” وحدها، مادامت تعتمد على “2” و “3” ليست هي المطلق.. لان المطلق هو بالأحرى “1”، “2”، “3” معاً”.

تشير النقطة هذه إلى خصيصة جوهرية لمطلق هيجل، من حيث أنها تنظر إليه، بوصفه تجلياً، إلى كل من الطبيعة والمعرفة الإنسانية. إنها تضع في الحقيقة شرطا صارما لاكتسابه حقيقة كونه مطلقا، وهذا الشرط هو على وجه التحديد، قدرته على التجلي إلى كل من الطبيعة، والمعرفة البشرية، فما لم يتجل المطلق إلى هاتين اللحظتين منه، فلا يمكن أن يُعدّ مطلقاً.

أما عن نوع هذا التجلي , فان العبارة تحدده بدقة متناهية إذ تقول: يتجلى في “صورة” “2” و “3” أي في صورة الطبيعة والمعرفة، ووجه الأهمية والدقة في العبارة هو:

إن صورة المطلق هذا نفسها، هي التي تتحول إلى صورتي الطبيعة والمعرفة، الأمر الذي يعني بعبارة أخرى: ان الطبيعة والمعرفة، هما صورتا المطلق في لحظة متقدمة من حركته، أو أن المطلق، هو كل من الطبيعة والمعرفة البشرية، في لحظات متطورة من تجليه “فإذا وضع المطلق عموما نفسه في صورة الوجود الخارجي وجب أن يضع نفسه, أي يمثل، في ثنائية الصورة لان الظهور والانقسام ليسا إلا شيئا واحدا”.

بعبارة توضح القصد كله، إن هذا المطلق، ليس ساكنا أو متعالياً، معزولا عن الطبيعة والإنسان، انه متحرك باتجاههما, ولما كانا معاً في حقيقتيهما ليسا سوى صورتين له، فان المطلق هنا لا يتحرك باتجاه شيء مغاير له في الطبيعة الجوهرية، أو يتحرك باتجاه شيء خارجي بالنسبة له، إنما يتحرك في الحقيقة باتجاه نفسه، أو بعبارة هيجلية “إن الحقيقة الواقعية هي عبارة عن عقل مطلق يفضّ نفسه في العالم”.

أي في كل من الطبيعة والمعرفة البشرية، اللذين هما من نفس طبيعته، من حيث كونهما تجلياً له، وهكذا، إذا نظرنا إلى المطلق، بوصفه الأصل والكل، من جهة، ونظرنا إلى الطبيعة والإنسان، بكل ما فيهما من كثرة وتنوع- بوصفهما تجلياً له، أمكن القول كنتيجة وخلاصة لذلك، أن “الكل واحد” وليست العبارة هذه “الكل واحد” مقحمة في سياق بحثنا، من اجل غايات توافقية، إذ “إن كل شيء يجري وكأن المقولة الوحيدة الفريدة، مقولة المطلق- والمطلق يعني هنا وحدة الكل- تتنوع وتنمو هي نفسها حتى تستنفذ غناها، أنها دوما المقولة نفسها- والفكر المطلق في الوجود نفسه، الذي ينمو ويتحدد حتى اللحظة التي يستطيع فيها أن يسوّغ نقطة انطلاقه”.

وما يريده هيجل هنا هو أن “يبين أن الواقع ليس تجليَ مطلقٍ يكون متميزا عنه، بل أن التجلي لا يُظهر إلا نفسه، انه ما يظهره إلى نفسه ولنفسه”.

وهكذا يمكن لنا أن نفهم، من خلال النصين أن هذه المقولة – في أعلى تجريد لمقولات هيجل كلها – هي مقولة “الكل واحد” من حيث كونها المحرك الداخلي الذي يتحكم في صيرورة المطلق كلها.
يقول هيجل بهذا الصدد “إن اهتمام العقل البشري الوحيد، هو في أن يرفع التناقض..”.

وعملية تحقيق هذا الهدف تسمى لدى هيجل “الفلسفة النظرية”، “أي النظر إلى الكل في واحد”.

في حقيقة الأمر أن هذه الفقرة تقول شيئا آخر مفاده: إن تجلي المطلق هو وحده الذي يجعل منه مطلقا, أو انه هو وحده التطور, إذا ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل. ووجه الأهمية في هذه العبارة، وثقل معناها مستمد من مفردة “وحدهُ” التي تعيّن المضمون كله. من حيث أنها ترهن فاعلية التجلي وتنسبها إليه وحدهُ كخصيصة جوهرية، لن يكون (مطلقا) بعطله عنها، وهذه المزية تخص طبيعته وحدها، دون شمول الإطراف الأخرى بها، بمعنى انه “وحده” هو الحقيقي، وان ما يتجلى ويصدر عنه وما يتحول هو إلى صورته “الطبيعة والإنسان” لا حقيقة لهما مستقلة عنه، ولايمكن النظر إليهما بوصفها عناصر مستقلة حقيقية قائمة بنفسها، أو تستمد حقيقتها على نحو كامل من نفسها.

فـ”الطبيعة ليست كاملة، وليست مستقلة، إنها لا توجد في، ومن اجل نفسها، أنها على العكس من ذلك، تتمثل حقيقتها في أن تصبح مجرد شيئا”

ذلك لأن “الله هو الجوهر المطلق، هو الحقيقة الواقعية الوحيدة وكل ما سواه، مما هو حقيقي، ليس حقيقيا في ذاته انه لا يمتلك وجوداً حقيقياً لنفسه، إن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الله، وبذلك فهو الجوهر المطلق.”

والله ” وحده هو الانسجام التام بين الفكرة الشاملة والواقع، أما جميع الأشياء المتناهية فهي تحمل جانبا باطلا غير حقيقي فهي لها فكرة شاملة ووجود فعلي، غير أن وجودها لا يفي بمتطلبات الفكرة الشاملة، وهي لهذا السبب لابد ان تفنى”.

“الحق هوالكل”.

إذن،
و”الكلي هو الوجود الماهوي والحقيقي والموضوعي للأشياء”.

و”الله ليس مدينا بوجوده لشيء آخر، ومن ثم فهو حقيقي، لكن العالم مدين بوجوده لله، الذي منحه هذا الوجود، ومن ثم فهذا العالم عبارة عن ظاهر”.

وهذه الفكرة نفسها نجدها لدى الهنود إذ أنهم “لا يعتقدون ان الله خلق العالم كله دفعة واحدة، ثم تركه لنفسه، بل يرون ان العالم ليس خلقا لله وإنما هو تجل له ومعنى ذلك ان العالم في كل لحظة من لحظات وجوده يعتمد اعتمادا تاما على الله، وبدونه لابد ان ينهار ولذلك فان من الطبيعي ان ينظر العقل الهندي إلى العالم على انه عبارة عن ظاهر أو مايا أي وهم”.

لذا “فان تجلي المطلق” هو حقيقته الخاصة به وحده، حتى وان “ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل” لان التجلي لا يصدر عنها، ولا تسهم في فعله، كـ”تجل” بأي مقدار، ان فعل التجلي هو فاعلية المطلق، على نحو مطلق، وهو خصيصته الجوهرية التي بامتلاكه لها يصبح مطلقا تماما، مثلما “ان فرخ الضفدع لابد ان يصبح ضفدعاً بالفعل، لكي يستوجب تصنيفها على انه فرخ الضفدع”.

بعبارة “أرسطية – هيجلية” ان الطبيعة والمعرفة البشرية، عنصران موجودان “بالقوة” حسب أرسطو و”ضمنا” حسب هيجل- في رحم المطلق، وان تحققهما “بالفعل”، حسب أرسطو و”علنا” حسب هيجل- واعتمادا على فاعلية المطلق وحده بوصفها تجلياً، هو الذي يكسبهما لحظة التحقق الفعلي لهما هذه.
من المهم الإشارة هنا، إلى ان هذا التجلي الذي هو خصيصة أصيلة للمطلق، هو حركة باتجاهين متداخلين، أحداهما، انطولوجية الطابع، والأخرى ابستمولوجية، الأولى هي تجلي الأشياء كلها- والإنسان بضمنها، كموجودات، تجليا انطولوجيا. والثانية تجلي المعرفة ابتداء من اللوغوس باتجاه الإنسان، ومثل هذا التجلي هو الأكثر أهمية ومنزلة في مذهب هيجل، ولذا فانه يضع حقيقة أخرى لمطلقه غاية في الأهمية- لأن عملية الكشف عن علاقة التجلي كلها بأطرافها جميعا رهينة به وحده- حقيقة يمكن تسميتها على نحو كلي، التجلي المعرفي للمطلق،أو المعرفة البشرية بوصفها تجليا للمطلق وعنصرا جوهريا من عناصره، مهمته، الكشف عن لحظات تجلي المطلق كلها، وصولا إلى تحققه الكلي الكامل في الواقع الإنساني.
المطلق إذن، هو الأصل وهو العلة وهو الكلي وما يؤلف وحده حقيقة الأشياء التي يتجلى إليها، انه ماهيتها الحقيقية وهو الفكر الداخلي الذي يتحكم بصيرورتها وموقعها من عملية الوجود كله.

  • المطلق بوصفه تجلّيا (التفصيل الثالث)

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

بالرجوع إلى آنوود، وبغية إدراك المعنى الكامل لخصائص مطلق هيجل نقرأ في الفقرة نفسها، :”كذلك المطلق “1” يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه، وهكذا فأن “1” وحدها، مادامت تعتمد على “2” و “3” ليست هي المطلق، لأن المطلق هو بالأحرى “1” و “2” و “3” معا “.
إذا كان القسم الأعظم من مضمون فقرة التجلي يولي اهتمامه وعنايته بعنصر المطلق مؤكداً على أهميته الخاصة في العلاقة مع العناصر الأخرى في النظام ذاته، فإننا نشهد في عبارة “وكذلك المطلق يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه ” تحولاً معرفيا يُظهر هذه المرة أهمية العناصر الأخرى (الإنسان والطبيعة) في مقدار تحقيق المطلق لذاته، ولعلنا نجد التعبير الأمثل لهذه الأهمية متمثلا بقول هيجل ” إن الله من دون العالم ليس الله”.

وفي حقيقة الأمر ان مضمون هذه الأهمية جوهري هو الآخر، بل انه يدخل في صميم علاقة التصور الهيجلي للمطلق، وقد افرد هيجل في مؤلفاته كافة حيزاً خاصاً بهذا القدر أو ذاك لتأكيد مضمون هذه الحقيقة التي تأخذ عنده أشكالا معرفية ووجودية شتى، سواء في تفسيراته الدينية اللاهوتية لمفهوم المطلق، أو التفسير الفلسفي له على حد سواء.
فـ “هذا المطلق لا يوجد في ما وراء الموجود، ولكن بمقدار ماهو أصل له يجعل هذا الموجود ينبثق منه، وبقدر ماهو هوية أصلية يعطي أولاً لكل وجود، الوحدة التي تضم الأضداد والمطلق من حيث انه وحده يكون حاضرا في كل تغاير الموجود”.

والعقل “لا يكون كل الواقع في ذاته، إلا لأنه يصير هذا الواقع، أو بالأحرى يبرهن على انه كذلك”.

ذلك لان “الفلسفة الهيجلية هي رفض لكل علو، وهي محاولة إنشاء فلسفة محكمة في حدود وجود متضمن في ذاته لا تنفصل عنه، ليس هناك عالم آخر، وليس هناك شيء في ذاته، وليس هناك علو”.

ومن هنا “فليس الإنسان هو الذي يقول الوجود قولاً سديداً، كثيراً، أو قليلاً، إنما الوجود هو الذي يعبر عن ذاته في الإنسان قولاً”.

لذا فان “كمال هذا الكل البسيط كمالا فعليا، إنما يقوم في تلك الأشكال المختلفة والصور المنوعة التي أصبحت لحظات له”.

  • المطلق بوصفه تجليا ابستيمولوجيا (التفصيل الرابع)

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

يقول آنوود، “المطلق بالمعنى رقم “1” ليس هو المطلق أو غير المشروط ابستمولوجياً “معرفياً” فمعرفتنا به ليست مباشرة، وغير مشروطة، على نحو ما تقول به نظرة الحدس العقلي عند شلنج، وإنما هي تتضمن عملية طويلة من البحث من جانب الفرد والبشرية ككل في آن واحد، ولا يمكن للمطلق ان يظل ساكنا وبسيطا، بل لابد ان يعكس تطور معرفتنا به “3” مادامت هذه المعرفة هي “بموجب المعنى 3 فيما سبق” لا تتمايز عن المطلق – وإنما هي اعلي شكل له.

من المهم ان نقول هنا – إنصافا لهيجل- ان مجموعة الخصائص الفريدة هذه التي ينسبها إلى مطلقه، ليست وليدة انبثاق فكري مفاجئ أو تأمل عقلي معزول أدى إليها، إذ أنها في حقيقتها نتائج لصراع نقدي عميق لم يتورع هيجل في خضمّه عن توجيه اقسي عبارات التقريع والنقد لخصومه من الفلاسفة السابقين عليه، ديكارت وياكوبي وشلنج وسواهم.

فأفكار هيجل ورفضه القاطع لان تكون وسيلة التعرف على “الله” حدسية مباشرة- وهذا هو مضمون القسم الأول من فقرة أنوود – هو في حقيقته جهد نقدي مضنٍ وصراع فكري خاضه مع خصومه في هذه المسألة من أجل ان يتم النظر إلى المطلق – وهذا هو مضمون القسم الثاني من فقرة أنوود- بوصفه “عملية طويلة من البحث من جانب الفرد والبشرية في آن واحد” من حيث ان هذه المعرفة- وهذه هي النقطة الأكثر أهمية- ليست على وجه الدقة “معرفتنا” نحن إنما هي في حقيقتها العميقة، انعكاس لتطور المطلق نفسه، يتم النظر خلاله إلى هذه المعرفة، بوصفها “اعلي شكل له”.

يقول هيجل بهذا الصدد “ان الفلسفة تنظر إلى العقل بوصفه ذلك الجزء من الروح الإنساني الذي يكشف الله فيه عن نفسه، والمعرفة في صيغتها المباشرة لا تذهب ابعد من القول بأننا نعرف ان الله موجود، ولكنها لا تعرف ماهو، ما محتواه، ان المعنى الكامل لفكرة الله مجهول، ولسنا نعني بالمعرفة الفلسفية، ان الموضوع موجود حسب- إنما نعرف أيضا ماهو عليه.. ان الله لا يمثل أمامنا بوصفه موضوعا للمعرفة إنما علاقة مع الله، علاقتنا به هي الموضوع”.

ومن هنا “فإن مسار التاريخ لا يمثل بكل بساطة- عملية أو صيرورة يأتي بواسطتها الإنسان إلى وعي الله والعالم، إنما هي أيضا صيرورة يأتي عن طريقها الله إلى الوعي لإدراك نفسه”.

ولأننا نعقد أهمية بالغة في فهم احد جوانب فلسفة هيجل انطلاقا من هذه العلاقة، أجد من المفيد هنا ان نوجز الأفكار الأساسية التي يفنّد هيجل من خلالها إمكان القول بمعرفة حدسية أو مباشرة لله، وهو الرأي الذي ذهب إليه كل من ديكارت وياكوبي، حيث حدد الأخير المعرفة بأنها تعني “معرفة المتناهي وحده، فهي عملية ينتقل فيها الفكر من شرط إلى شرط في سلسلة طويلة, كل حلقة من حلقاتها شرط ومشروط في آن معا، والوصول إلى الفكرة الشاملة لشيء ما، وتفسير هذا الشيء، يعني طبقا لهذه الوجهة، ان نبين انه مشتق من شيء آخر، وبالتالي فان ما تقدمت به هذه المعرفة، أياً كان نوعه، فهو متميز جزئي متناه يعتمد على شيء آخر، أما اللامتناهي أو الحق، اعني الله، فهو يقع خارج نطاق الارتباطات الميكانيكية الآلية التي قيل ان المعرفة تنحصر بها”.

ومن هنا فقد أيّد ياكوبي بقوة، النظرية التي تقول ان الحقيقة توجد أمام الروح وحدها، كما أعلن انه بالعقل وحده يحيا الإنسان، وهذا العقل هو معرفة الله، لكن مادامت المعرفة المشتقة “أو المتوسطة” محصورة في نطاق الوقائع المتناهية فحسب، فان العقل هو معرفة غير مشتقة أو غير متوسطة: انه الإيمان.

وتعتمد هذه المعرفة المباشرة، على ان تعرّف: اللامتناهي والأزلي والله الذي نعتقد انه موجود بالفعل، أو قل أنها تؤكد انه يوجد في وعينا ارتباط مباشر لا ينفصم يربط بين هذه الفكرة، وبين اليقين بوجوده بالفعل.

أما ديكارت فقد كان المبدأ الذي أعلنه)أنا أفكر إذن أنا موجود( يمثل “حقيقة مباشرة أو واضحة بذاتها”.

فقد كانت فلسفته “تتقدم من هذه المسلمات غير المبرهنة التي تفترض انه لا يمكن البرهنة عليها”.

وهكذا يفنّد هيجل المزاعم الفلسفية لكل من ياكوبي وديكارت، عبر ملاحظات نقدية متعددة, أهمها “ان المعرفة المباشرة بالله لا تسير أبعد من القول بأن الله موجود، أما ان تقول لنا ماهو؟ فذلك فعل له أفعال الإدراك يتطلب توسطاً”.

وتبدو خطورة الركون إلى المعرفة المباشرة وسيلة للتعرف إلى الله متمثلة لدى هيجل بقوله “ان المعرفة المباشرة، تجعل الكلي مجرد تجريد خارجي للجزئيات وتجعل من الله وجوداً بغير صفة معينة، لكن الله لا يمكن ان يسمى روحا إلا إذا عُرف على انه البداية والنهاية والوسيلة في آن معاً في عملية التوسط، وبغير هذا التوحيد للعناصر فانه لن يكون عينياً، ولا حياً، ولا روحاً، ومن هنا فان معرفة الله على انه روح تتضمن بالضرورة توسطاً”.

فضلا عن ذلك وهذه هي الحجة الأكثر عمقا وإقناعا ان صورة المباشرة “تضفي على الجزئي طابع الاستقلال أو الوجود القائم بذاته – غير ان هذه الصفات أنفسها تناقض ماهية الجزئي الذي من خاصيته نفسها انه يشير إلى شيء آخر خارجه، فهذه الصفات بهذا الشكل تضفي على المتناهي طابع المطلق.

إننا حين ندرك ان المضمون – أو الجزئي لا يقوم بذاته – بل هو مشتق من شيء آخر عندئذ فقط يتضح لنا تناهيه وعدم حقيقته في ضوئها الصحيح، ومثل هذا الإدراك، الذي يتبين فيه ان المضمون يحمل معه أساس طبيعته المفتقرة إلى شيء آخر، هو معرفة تتضمن توسطا، والمضمون الوحيد الذي يقال عنه انه حقيقة، هو مضمون لا يتوسطه شيء آخر، ولا تحده أشياء أخرى، أو بعبارة أخرى انه المضمون الذي يتوسط نفسه حيث يلتقي التوسط والمباشرة على صعيد واحد”.

وهكذا يخلص هيجل إلى القول: “انه ليس صحيحاً ان هناك معرفة مباشرة- اعني معرفة بدون توسط، أما بواسطة شيء آخر، أو بواسطة الشيء نفسه”.

ولذا فان علينا ان نرفض التعارض والمقابلة بين المباشرة المستقلة في مضامين ووقائع الوعي، وبين التوسط المستقل أيضا والذي يفترض عدم اتفاقه مع المباشرة، فعدم الاتفاق هذا هو افتراض محض وزعم تعسفي، إذ ان جميع المزاعم والمسلمات الأولى ينبغي ان نخلفها وراءنا عند مدخل الفلسفة سواء أكانت مستمدة من العقل أم من الخيال، ذلك لان الفلسفة هي العلم الذي يجب ان تخضع فيه أمثال هذه القضايا للتدقيق كما يخضع معناها وأضدادها للتثبت”.( 44)
الخصيصة الثانية للمطلق الهيجلي – كما تفصلها الفقرة الثانية – ترتبط على نحو مباشر بالخصيصة التي سبق لآنوود أن ذكرها, وبجمع الفقرتين معاً، نحصل على ما يأتي:

لا يمكن لمعرفتنا بالمطلق ان تكون حدسية مباشرة لان هذا النوع من المعرفة يبقي المطلق ساكنا وبسيطا، لذا فلا بد للمطلق ان يعكس تطور معرفتنا به، مادامت هذه المعرفة، لا تتمايز منه، أولا، ومادامت هي ممثلة لأعلى شكل له.

المعرفة المباشرة تجعل من المطلق “شيئا يكمن خلف الظواهر” وتجعل منه ساكنا غير متطور، وغير قادر على التجلي لا في مستويات عليا من الطبيعة ولا في تقدم المعرفة البشرية عبر التاريخ.

ولأن المطلق بالنسبة لهيجل، أو كما يريده هو لغايةٍ بالغة الندرة والخصوصية، متحرك، ومتجل، ولان معرفتنا به هي جزء من صيرورته وتجليه، الصيرورة العقلية التي تتجلى في عقول الفلاسفة جميعا وصولا إلى فلسفة هيجل، بوصفها آخر وأكمل فلسفة تصل إليها صيرورة المطلق.

لكل ذلك، يرفض هيجل المعرفة المباشرة بالمطلق، كما يرفض سكونه، وعطله عن التجلي، لان النظر إليه بهذه المواصفات الخاصة، يحرم هيجل ويحول دون تحقيقه لغاية مذهبه كلها، وهي، ان فلسفته هو بالتحديد، هي اللحظة النهائية التي يبلغ فيها المطلق كمال تحققه الفعلي الواقعي وعيانيته وامتلاءه.

ثانياً : المطلق بوصفه تمزقاً أصيلا

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

يعيّن هيجل خلال عدد من مؤلفاته “المطلق” أو “الروح” بوصفه تمزقا جوهرياً، ولكي نفهم هذه الخصيصة يتعين علينا النظر في النصوص المعرّفة الآتية:

أ‌- “لا تكون قوة الروح عظيمة إلا بمقدار التعبير عنها، كما يعتمد أو يتوقف عمقها على جرأتها في الانتشار خارج نفسها وضياع نفسها في هذا الانتشار”.

ب‌- ان “حياة الروح ليست هي تلك الحياة التي تفزع أمام الموت وتصون نفسها من الدمار، وإنما هي بالأحرى الحياة التي تتحمل الموت وتدعم نفسها من خلاله، ولا تظفر الروح بحقيقتها إلا عندما تجد نفسها في تمزق تام- ان الروح لا تكون هذه القوة إلا من خلال مواجهتها للسلبي وتوقفها عنده.”

ج‌- “ليس المطلق وجوداً معطى مرة واحدة والى الأبد وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا، فيصير آخر غير ذاته، لكنه يظل ذاته في هذه الآخرية، لأنه التوسط بين حالته المباشرة وتحولاته الذاتية لكنه يصير ماهو عليه”.

د- ان “الطابع التركيبي في ذاته للمقولة الخالصة قد عرّفه هيجل، إذن بوصفه مساواة للذات في الآخرية… وابتداء من هذا التعريف نستطيع ان نقول ما هي النقطة القصوى في الفلسفة الهيجلية التي لم نستطع ان نرقى إلى ما بعدها، فالوجود نفسه طابعه الأساسي انه ممزق مقسم مهشم في ذاته، انه لا “يكون” إلا في كونه كمساواة للذات في التحول والتغير، انه يحمل سلبه معه، انه ليس إلا سلباً وذلك وفقا لماهية في أعمق مراتبها ولكن هذا التمزق الجوهري للوجود، وهذا الانقسام الجوهري، هما أساس الوجود بوصفه قابلية للحركة فهذا الانقسام وحده هو الذي يؤسس تكرار الموجود باعتباره أنماط متنوعة للوجود، وتلك الأنماط ليست سوى أنماط مختلفة لمساواة الذات في الآخرية، أنماط لإضفاء العينية على الاختلاف المطلق، لعملية تمثل الانقسام الماهوية وتسويته وتحقيقه، وهي لذلك على وجه الدقة أنماط لقابلية الحركة”.

هـ- “الحياة الروحية لا تتسم بأنها مجرى متصل محض من النزوع، وإنما هي تنقسم على نفسها لكي تحقق نفسها، غير ان وضع الحياة المنقسمة هذا لابد، بدوره ان يُطمس فتشق الروح بنشاطها الخاص طريقاً جديداً لكي تتوافق مرة أخرى، ومن ثم يكون الاتفاق النهائي اتفاقاً روحياً: اعني ان مبدأ العودة إنما يكون في الفكر، وفي الفكر وحده، فاليد التي أحدثت الجرح هي نفسها التي تداويه”.

على الرغم من وضوح هذه النصوص بنفسها، يمكن إيجاز أفكارها الأساسية على النحو التالي: ان الوجود أو الروح، أو المطلق، في لحظة أولى له، هو وجود بسيط مباشر، مساو لنفسه، غير ان لحظة الوجود هذه، ليست هي حقيقية، ولن يمكن لنا ابداً، ان نستخرج منه أية لحظة أخرى يتعدّى لها، ومن هنا توجب استخراج لحظة أخرى من هذه المباشرة نفسها، وسيتم لهيجل شرح هذه اللحظة بالتفصيل في كتابه علم المنطق، في أول مثلث جدلي له أي مثلث، “الوجود، والعدم والصيرورة” حيث يكون مفهوم الوجود الخالص غير المتعين ابداً، مساوياً تماماً لمعنى العدم، وهكذا يستخرج هيجل من الوحدة المباشرة للوجود نقيضها الذي هو العدم ومعنى هذا ان الوجود يتحول إلى العدم هنا، والعدم يتحول إلى الوجود، أيضا، ومن هنا تنبثق اللحظة الثالثة، التي هي الصيرورة بوصفها مركب كل من الوجود والعدم

.
وليست هذه التفاصيل بذات أهمية كبرى بالنسبة لموضوعنا الآن، لأن المهم هو القول، ان لحظة الوجود البسيط المباشر، تضم في جوفها جميع لحظات التجلي القادمة للوجود نفسه، اللحظات التي ستظهر عبر عملية جدلية تحقق نفسها تدريجياً فيصير آخر غير ذاته، لكنه يظل ذاته في هذه الآخرية.

ومن هنا ينبغي النظر لا إلى الطابع المباشر للوجود حسب، إنما ينبغي النظر إلى الطابع التركيبي الكامن في هذه المباشرة نفسها. أي ينبغي النظر إلى هذه المباشرة، بوصفها انقساما داخليا كامنا في جوهرها، من حيث ان هذا التمزق الجوهري للوجود وهذا الانقسام الجوهري، هما أساس الوجود بوصفه قابلية للحركة، فهذا الانقسام هو وحده الذي يؤسس تكثر الموجود بوصفه أنماطا متنوعة للوجود, وقدرته على إظهار نفسه نفسها في لحظات أخر، لحظات عينية متحققة بالفعل، ومن هنا، فهذا التخارج أو التجلي هو حركة، انه صيرورة.

ولأن هذه الصيرورة هي حركة مستمرة لنقل الوجود خارج ذاته، فان هذا يعني، انه تمزق مستمر للمطلق في لحظاته النسبية، تخارج للامتناهي في لحظاته المتناهية.

ومن المهم ان نذكر هنا ان هذه العملية برمتها، وفي لحظاتها جميعا هي عملية روحية، عقلية تحدث في الفكر وحده، ولذا فان صيغة تمثّل هيجل لها قد تمت في أساليب منطقية على الرغم من إتحاد هذا المنطق الهيجلي بالوجود وتعبيره عن لحظاته، من حيث انه منطق وجودي وليس منطقاً صوريا.

ولذلك يقول هيجل في آخر نص من المجموعة التي تم لنا انتخابها لهذه الغاية ان وضع الحياة المنقسم هذا لابد بدوره ان يطمس فتشق الروح بنشاطها الخاص طريقاً جديداً، لكي تتوافق مرة أخرى ومن ثم يكون الاتفاق النهائي روحيا، اعني ان مبدأ العودة إنما يكون في الفكر، وفي الفكر وحده، “فاليد التي أحدثت الجرح هي نفسها التي تداويه.”

بمعنى ان عملية النظر إلى مباشرة الوجود بوصفها انقساما إنما كانت في حقيقتها عملية فكرية في جوهرها، ولذا فان مبدأ العودة من حالة الانقسام التي ولّدها الفكر ينبغي ان يكون المبدأ نفسه، أي الفكر أيضا.

ان صياغة موجزة للأفكار الأساسية مما تقدم كله، يمكن التعبير عنها على وفق الصيغة الآتية:
ثمة وجود محض مطلق، يحمل في جوفه، جميع لحظات تجليه القادمة، الأمر الذي يعني ان الوجود منقسم في ذاته جوهريا، غير ان لحظات الوجود التي سيشقها بفاعلية الذاتية، ليست في حقيقتها سوى الوجود نفسه في هذه المرحلة أو تلك من تجليه، وهكذا، يتم النظر إلى النسق كله بوصفه، :لحظة أولى هي لحظة الهوية، تظهر اختلافها من داخلها، ثم تعود إلى الاتحاد باختلافها روحياً في وحدة نهائية تعبّر عن لحظاتها الثلاث كلها، لكن لا بوصفها وحدة فارغة بسيطة تشبه تلك التي كأنها الوجود في المرة الأولى، بل بوصفها وحدة ممتلئة، عيانية، تشمل اللحظات الثلاثة لحظة المباشرة الأولى، ولحظة تجلي أو انقسام هذه المباشرة في الطبيعة والإنسان، ولحظة استرجاع الوجود لوجوده بعد تجليه وانقسامه وتعدّيه إلى آخره.

ان ما يهم هنا ولتبقى هذه المعلومة حاضرة على الدوام في أذهاننا، هو أننا أمام (نموذج) للتصور الهيجلي لبناء مذهبه، مفاده:

وحدة بسيطة تضم في جوفها جميع لحظاتها المختلفة بالقوة، وان هذه الوحدة نفسها ستتجلى بفاعليتها الخاصة، إلى لحظات أخر، هي نفس تلك الوحدة بالفعل،لكن في لحظات متقدمة لها، وصولا إلى تحقيق غايتها النهائية، أي لحظتها الأخيرة، في مذهب هيجل.

أما وجه الأهمية في هذه المعلومة فإنما يتمثل في استخدام هيجل، هذا (الأنموذج) ذاته، لا في بناء مذهبه على غراره، على نحو مطلق حسب، بل في بناء تصوره للتاريخ وللفلسفة، ولفلسفة التاريخ والمنطق أيضا.

ثالثاً : المطلق بوصفه ذاتاً

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثمة خصيصة أخرى ينسبها هيجل إلى مطلقه، نستطيع ان نتبيّن أهميتها من خلال وصف هيبوليت لها، إذ يقول” وإذا أمكن الحديث أيضا عن الذاتية، فسيكون عن ذاتية هي الوجود ذاته، الأمر الذي عناه هيجل عندما قال ان فلسفته كلها تتلخص في هذه الجملة:

المطلق ذات وليس جوهر”.

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ويمكن لنا ان نتبين هذه الأهمية نفسها من خلال السياق الذي وردت فيه هذه العبارة بحسب النص الهيجلي , من حيث انه لم يقل في حقيقة الأمر، “ان المطلق ذات وليس جوهر” إنما قال شيئاً آخر، نصه: “في رأيي، وهو رأي لا يمكن تسويغه إلا بعرض المذهب ذاته، ان كل شيء يعتمد على إدراك “الحق” لا بوصفه جوهراً، بل أيضا بوصفه ذاتا”.

وفي بحثنا عما يمكن ان يعنيه، هيجل بقوله، ان المطلق ذات أيضا وليس جوهرا، نعثر على مجموعة النصوص هذه التي توضح لنا معنى حقيقة المطلق هذه, المضافة لكونه جوهرا.
أ‌- “لا بوصفه جوهرا كما هي الحال عند سيبنوز ولا بوصفه ذاتاً كما هي الحال عند فشتة”.

ب‌- إن “الجوهر الحي، هو الوجود، الذي هو في الحقيقة ذات، أو ان شئنا التعبير بصيغة أخرى، هو الوجود الذي لا يتحقق بالفعل إلا من حيث هو حركة تضع نفسها أو هو توسط آخر الذات مع نفسه، فالجوهر من حيث هو ذات، فهو سلب بسيط خال، ولهذا السبب نفسه فهو تشعب البسيط إلى شعبتين: انه المزدوج الذي يضع ضده، ثم يعود من جديد إلى سلب هذا التنوع المحايد ونقيضه، أي البساطة المباشرة- هذا التماثل أو التشابه التام الذي يستعيد نفسه أو هذا الانعكاس على الذات في الآخرية- هو “الحق”، لا الوحدة المباشرة بما هي كذلك، فالحق هو عمليه صيرورة الذاتية، الدائرة التي تفترض مقدماً ان مفاهيمها هي هدفها وغايتها، والتي لا تتحقق فعلياً، مادامت نهايتها هي أيضا بدايتها، إلا من خلال انجاز مهمتها”.

ومعنى هذا النص بشرح هيبوليت الذي ينقله لنا مترجم الكتاب، “ليس المطلق وجودا معطى مرة واحدة والى الأبد، وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا”.

ج- “أما القول بأن الحق لا يتحقق فعلا إلا من خلال النسق أو المذهب، أو ان الجوهر هو بطبيعته ذات، فهو ما يعبّر عنه تمثل المطلق بوصفه روحاً… فالروحي هو وحده المتحقق فعلاً، فهو الماهية، وهو ذلك الذي يربط نفسه بنفسه ويكون متعينا، انه ما يكون وجودا من أجل الآخر، ووجوداً من اجل ذاته في هذا التعيين، أو ما يبقى في ذاته إثناء تخارجه الذاتي، أو هو بعبارة أخرى ما يكون في ذاته ولذاته في آن معاً”

.
د- “ان الروح باختصار- ليست مباشرة، أشياء الطبيعة، هي المباشرة وستبقى هكذا في شرط الوجود المباشر، أما وجود الروح، فليس له هذه المباشرة، إنما يوجد فقط، كإنتاج لنفسه، كصانع لنفسه من اجل نفسه عن طريق السلب بوصفه ذاتاً، وإلا فانه سيصبح جوهراً فقط”.

هـ- “ان الروح ليست من ناحية أخرى، جوهراً حسب، إنما هي أيضا تحدد ذاتي، بوصفها ذات”.

و”ان الله هو الوجود المطلق، الواحد المكتفي بذاته، وفي الجوهر، لا نجد تمايزاً، ولا عنصر اختلاف”.

و- “ان لوغوس الوجود هذا، هو الوجود ذاته، بوصفه عقل ذاته، وهذا العلم المطلق، هذا المنطق الانطولوجي، يكتمل بتسويغ للفينولوجيا، فهو يبين في الواقع، ان المطلق ذات، وبالتالي يعقل ذاته، وان هذه الدلالة في اسمي صورها, هي ظاهرها الشعور البشري ذاته”.

ز- ان” المذهب وهذا ما يجب تكراره- يظل كلمة ميتة “وحبراً على ورق” إذا لم يشر إلى نمط تكوينه وإذا لم يعيّن مجال تطبيقه النظري، والكلمة الميتة لا يمكن لها ان تكون الكلمة الحقة، “الحقيقة هي الكل” الكل وقد بدت مفاصله، أي اللحظات المختلفة التي بها ينشئ ذاته كلاً. بهذا المعنى يكون المطلق “أو الحقيقة” “ذاتاً” فلا يوجد الذات “حيث المعرفة” في جهة والجوهر في جهة أخرى، ان الحق أو المطلق هو موضوع نموه الذاتي، والذات في نهاية المطاف تلتقي مع نفسها وقد جعلتها الصيرورة ماهي عليه”.

وإذا كان “المطلق ذاتاً فان هذا يعني انه الوحدة المشخصة بين المباشر والوساطة وبين الحدس والقول”.

ان “الله هو الروح، وليست الروح شيئا يمتلك وجودا مفردا إنما هي روح فقط، عندما تغدو موضوعية بالنسبة إلى نفسها وعندما تنظر نفسها في الآخر، بوصفه نفسها، ان الحقيقة الأعلى للروح هي الوعي الذاتي، الوعي الذي يتضمن الموضوعية في نفسه، ان الله كفكرة، هو ذاتي بالنسبة لما هو موضوعي، وانه موضوعي بالنسبة لما هو ذاتي”

ان السؤال الذي ينبغي طرحه هنا، هو: ما الذي تعنيه هذه الإضافة، اعني إضافة حقيقة “الذات” إلى المطلق ليصبح بهذه الإضافة كما عبّرت عنه جملة هيجل: ان المطلق ليس جوهرا، بل هو ذات أيضا؟ أو بفهم أكثر دقة لهذه الإضافة انه “ذات وليس جوهرا” بحسب عبارة هيبوليت من حيث انه يعتقد، ان صفة الذات ستتضمن معنى الجوهر، وتنسخه إلى معنى جديد له:
ومن اجل ان نفهم ذلك على نحو قريب، يتعين علينا الآن ان نحصي في نص واحد معنى ان يكون المطلق ذاتاً وليس جوهراً “حسب”.

في حقيقة الأمر، ان هذا التعيين الجديد للمطلق بوصفه ذاتاً، يعني اختزالاً وتمثلاً لجميع خصائص المطلق الهيجلي تلك التي سبق لنا التعرّف عليها، وهذا هو بالتحديد وجه الأهمية ومعناها أيضا، في قول هيجل، ان كل شيء يتوقـّف على إدراك ان الحق ذات.
من حيث ان هذه الخصيصة, وسننظر إليها الآن بوصفها النواة التي تصدر عنها وتلتقي عندها جميع الخصائص الأخرى لمطلق هيجل – هي:
أولاً: وهذا إيجاز لمضمون النقطة ب, تعني صفة الحياة والحركة التي تضع نفسها، وهي توسط آخر الذات مع نفسه، وهي سلب بسيط خال، وهي المزدوج الذي يضع هذه الذات، ثم يعود إلى سلب هذا التنوع، وهي عملية صيرورة المطلق الذاتية- وهي الدائرة التي تفترض مقدماً غايتها ونهايتها.

باختصار ان هذه الإضافة – النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً- توفّر لهيجل ان ينظر إلى المطلق, أولا ,بوصفه مباشرا بسيطا يضع ضده من خلال حركته الذاتية ثم يعود بفاعليته الخاصة ليمتص هذا الضد في وحدة أعلى، أي ان هذا الخصيصة توفر لهيجل ان يتحرك في وسط جدلي قادر على تحقيق غايته النهائية انطلاقا من النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً حية تحقق مشروع نفسها من حيث كونه قدرة ذاتية على التجلي إلى الآخر، إلى ضده، الذي هو في الوقت نفسه، آخره الخاص.
أو هو لحظة متطورة للذات نفسها عندما ترى نفسها في لحظة موضوعية وهذا هو المعنى الذي يؤكده هيبوليت بقوله الذي مرّ بنا:

“ليس المطلق وجوداً معطى مرة واحدة والى الأبد، وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا”.
ثانيا: ان النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً، يعني انه روح ,من حيث ان الروحي قادر بصفة الحياة التي يمتلكها على ان يحقق ذاته، في الآخر، آخره، فهو وجود من اجل الآخر، -الطبيعة والإنسان- ووجود من اجل ذاته أيضا، أو بعبارة جامعة هو “ما يكون في ذاته ولذاته في آن معاً، وهذا إيجاز للفقرة “ج” و “د”.
ثالثا: ان النظر إلى المطلق بوصفه جوهرا فقط، لا يمكـّن هيجل من النظر إليه، بوصفه متمايزاً يحتوي في ذاته، على عنصر ضمني يختلف عن ذاته، وهذا يعني انه غير قادر على النمو، والتجلي، من حيث ان لحظة التمايز والاختلاف والتوسط، هي مبدأ الحركة والتحول، في مطلق هيجل، اللحظة التي سيبقى من دونها، عاطلاً ساكناً لا حياة فيه ولا حركة داخلية تنطلق من فاعليته لتحقيق ذاته.
رابعا: ان حقيقة المطلق هذه بوصفه ذاتاً، تمنحه صفة العقل، عقل ذاته وعقل الآخر الذي يصدر عنه فضلا عن تعيينها لغايته، من حيث كونه ذاتاً عاقلة تمضي في صيرورة واعية لإدراك نفسها.
ذات هي الأصل، من حيث كونها مكتفية بنفسها ولا تستمد حقيقتها من شيء آخر، وهذا هو إيجاز مضمون النقطتين “د” و “هـ”.
خامسا: ان المذهب الذي تتمثل حقيقته القصوى وغايته النهائية في قول هيجل “الحقيقة هي الكل” لا يمكن بناؤه ولا يمكن النظر إلى حقيقته بوصفها الكل، إلا من خلال النظر إلى المطلق بوصفه هذه الذات التي تؤلّف مضمون حياة الكل بأجمعه.

إذ أنها ليست ذاتا ميتة، أو مذهبا صوْريا، إنما هو ذات متحققة، يشهد على صيرورتها واكتمالها الروح الإنساني نفسه، وقد تحققت فيه وبلغت لحظته في نهاية مطافها، وهذا الجزء الأخير من صيرورة المطلق، وهو المعرفة البشرية بحقيقة صيرورته, لا ينفصل عن صيرورة الذات نفسها، انه لحظة تتويجه وبلوغه لنهايته في مذهب فلسفي، هو مذهب هيجل نفسه، وهذا هو إيجاز لمضمون النقطة الأخيرة.

حقيقة الذات إذن، بنسبتها إلى المطلق تعني، وكما مر بنا: إنه أصل وروح وحياة، وقدرة على التجلي، وانه مباشر بسيط ومنقسم، وانه حركة جدلية ,وصيرورة لها غايتها، وهو نمو ذاتي، وانه يعقل نفسه، ويعقل الآخر، الطبيعة والإنسان – ثم يتوج غايته النهائية ببلوغه إلى لحظة الوعي البشري بمسيرته هذه كلها، وهي نوع معرفة، إذ تؤكد عدم الانفصال بين الوجود والمعرفة ,لا من حيث ان هذه المعرفة هي توثيق لصيرورة الوجود وهو يتجلى انطولوجيا ومعرفيا في آن واحد حسب، ولا من حيث ان الإنسان هو جزء من الصيرورة الانطولوجية للمطلق أيضا، بل من حيث ان الإنسان هو الشاهد والناطق باسم هذه الصيرورة كلها، صيرورة المطلق، الذي يبلغ الآن لحظة تحققه الكاملة في الإنسان نفسه.

حتى إذا أردنا إيجازا آخر لمعنى ان يكون المطلق ذاتا، وجدناه على نحو جلي في دراسة للدكتور زكريا ابراهيم، يفرّق فيها بين فهم هيجل للمطلق بوصفه ذاتا وفهم شلنج له بوصفه جوهرا حسب، يقول زكريا ابراهيم “لقد بقي شلنج اسبينوزي النزعة لأنه لم يستطع ان يتصور المطلق “الحقيقة الكلية باعتبارها ذاتا، اعني باعتبارها تطورا روحيا، وانعكاسا للروح على نفسها” والواقع ان مفهوم المطلق عند هيجل ينطوي منذ البداية على إحالة إلى الآخر، فهو يستلزم عملية الخروج من الذات من اجل إدراك الذات خلال انعكاسها على الطبيعة، على اعتبار ان معرفة الآخر، هي في الوقت نفسه معرفة للذات”.

وعن طبيعة الفرق بين مفهومي الذات والجوهر بوصفهما صنفين للمطلق، يقول د.ابراهيم: “وحين يأخذ هيجل على شلنج انه لم يفطن إلى ان المطلق روح أو ذات، فهو يعني بذلك ان شلنج لم يفهم المطلق على حقيقته باعتباره قدرة على التمييز والتوحيد، وبهذا المعنى يمكننا ان نقول ان عجز شلنج عن فهم المطلق باعتباره ذاتا هو الذي حدا به إلى تصور الحقيقة الكلية بصورة الجوهر الخاوي الذي لا ينطوي على أي فوارق ولا يحتوي على أي تنوع، ومن هنا فقد بقي المطلق عند شلنج حقيقة كلية مجردة، بدلا من ان يكون بمثابة الروح الحية الباطنة في الأشياء”.

أما عن موقع “الطبيعة” من حيث علاقتها بالمطلق، في حال كونه ذاتا أو جوهرا، فيحدده زكريا ابراهيم على النحو الآتي “ان الطبيعة في نظر شلنج كانت بمثابة حقيقة مستقلة تملك مركزها في نفسها، وكأن للطبيعة بنيتها الخاصة التي تجعل منها حقيقة باطنية مستقلة عن الحقيقة الباطنية للروح، في حين نجد ان الطبيعة عند هيجل قد فقدت هذا الاستقلال فأصبحت بمثابة خارج لا داخل له، أو بالأحرى نجد أن الروح عند هيجل هي بمثابة الداخل الذي يستحيل إلى خارج في صميم الطبيعة.. بل أصبحت حياة الكون بأسره مرهونة بحياة الروح”.

يضيف الدكتور ابراهيم ان المطلق على نحو ما يتصوره هيجل “حقيقة دينامية تتولد وتتحقق وتصدع وتتألم ومن ثم فهي تستحيل إلى شيء مباين لنفسها مع بقائها في الوقت نفسه هي بعينها في صميم ذلك التباين نفسه، ومعنى هذا ان هيجل يدخل فهمه للمطلق معاني السلب والتناقض والصراع فيجعل من المطلق، صيرورة حية يتمثل وجودها في علاقة الوساطة القائمة بين ماهي عليه الآن وما ستصير إليه، وتبعا لذلك فان وجود المطلق ليس مجرد هوية مع الذات، بل هو علاقة بالآخر وتباين مع الذات واغتراب في الطبيعة وارتداد إلى الذات في خاتمة المطاف”.

وهكذا يخلص الدكتور زكريا ابراهيم إلى القول: “ان نقد هيجل لنظرية شلنج في المطلق، قد أدى به إلى القول بثلاث نظريات مهمة: أولها ان المطلق لا مجرد جوهر، وثانيها ان المطلق ينطوي على سلب أو تناقض وثالثها ان الحقيقة الكلية هي في صميمها صيرورة، والصلة وثيقة بين هذه النظريات الثلاث لأنها جميعا تؤكد حقيقة واحدة إلا وهي ان المطلق ليس بمثابة كلي مجرد، بل هو كلي متجسد، يحقق ذاته، ويخرج من ذاته، ويتحامل على ذاته ويحقق ضربا من الهوية بين ماهو عليه وما هو صائر إليه…
وحسبنا القول ان فيلسوفنا قد أفسح مجالا واسعا – في تصوره للمطلق- لمعاني الألم والتناقض والصراع، والشر والسلب، فلم يعد المطلق حقيقة غير متحددة لا مكترثة عديمة المبالاة، بل أصبح ذاتا متجسدة، أو روحا حية، يدخل السلب في صميم حياتها، ويعمل التناقض عمله في صميم تطورها”.

المصادر

ينظر أنوود، ميخائيل: معجم مصطلحات هيجل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص 59.

هيبوليت: ماركس وهيجل ,مصدر سابق، ص 212.

وولتر ستيس: فلسفة هيجل، ص50.

ينظر على سبيل المثال ,هيجل : الموسوعة ج2, ص 28-29.
أنوود: معجم مصطلحات هيجل، ص 60.
ماركوز: نظرية الوجود ص 61.
هيجل: الظاهريات، ص 29 تعليق المترجم.

هيجل: الموسوعة: ج1، ص106.

39 مفتاح للسعادة


1- خصص من وقتك 10 إلى 30 دقيقه للمشــي . . و أنت مبتسم.
2- اجلس صامتا لــمدة 10 دقائـــق يـــوميا
3- خصص لنومك 7 ساعات يوميًا
4- عش حياتك بــثلاث أشياء : (( الطاقة + التفاؤل + العاطفة ))
5- العب ألعاب مسلية يوميًا
6- اقرأ كتب أكثر من التي قرأتها من قبل
7- خصص وقتًا للغذاء الروحي : (( صـــلاة ,, تسبيــح ,, تلاوة ))
8- اقض بعض الوقت مع أشخاص أعمارهم تجاوزت الـ 70 سبعين عام, وآخرين أعمارهم أقل من 6 أعوام
9- احلم أكثر خــلال يقظتك
10- أكــــثِر من تناول الأغذية الطبيعية, واقتصد من الأغذية المعلبة
11- اشرب كميات كبيرة من الماء
12- حاول أن تجعل 3 أشخاص يبتسمون يوميا
13- لا تضيع وقتك الثمين في الثرثرة
14- انسى المواضيع, ولا تذكر شريكة حياتك بأخطاء قد مضت لأنها سوف تسيء للحظات الحالية
15- لا تجعل الأفكار السلبية تسيـــطر عليك.. وفر طاقتك للأمور الإيجابية
16- اعلم بأن الحياة مدرســـة .. وأنت طالب فيــها .. والمشاكل عبارة عن مسائل رياضية يمكن حــلـــها
17- كل إفطارك كــالـملـك .. وغداءك كـالأميـــــر.. وعشـــاءك كـالفقيــــــر
18- ابتسم واضحك أكــــثــــر
19- الحياة قصيرة جــــدا .. فـــلا تقضـــها في كـــــره الآخرين
20- لا تأخذ جـمـيـع الأمور بجــديــة ..
{ كــن سـلـسـا و عـقـلانـيـا }
21- ليــس من الضروري الفوز بجميع المناقشات والمجادلات
22- انسى الماضي بسلبياته, حتى لا يفسد مـــســـتــقــبــلك
23- لا تقارن حيــاتك بغـــيرك ولا شريكة حياتك بالأخريـــــات
24- الوحيـــــد المســـؤول عن سعـــادتك (( هو أنــــــت !! ))
25- سامح الجميع بدون استثناء
26- ما يعتقده الآخرون عنـــك لا عــــلاقة لك بـــه
27- أحــســن الــظــن بالله
28- مهما كانت الأحوال .. (( جيــدة أو سـيـئـة )) ثق بأنها ستتغـــــير
29- عملك لن يعتني بك في وقت مرضك بل أصدقاؤك.. لذلك اعتـــن بــهــم
30- تخلص من جميع الأشياء التي ليس لها متعة أو منفعة أو جمـــال
31- الحســد هو مضيعة للوقت
(( أنت تملك جميــــع احتياجاتك ))
32- الأفـــضــــل قادم لا محالــــة بإذن الله.
33- مهما كان شعورك .. فلا تضعف بل استيقظ وانطلق
34- حاول أن تعمل الشيء الــصحيح دائما
35- اتصل بوالديك وعائلتك دائـــما
36- كن متفائــــلا .. وســـعـــيدا
37- أعط كل يوم .. شيئا مميزا وجيـــدًا للآخرين
38- احــــــفـــــظ حــــــدودك
39- عندمـــا تستيــــقظ في الصبــــاح .. وأنت على قــيد الحياة فاحمد الله على ذلك

د / أبراهيم الفقي رحمة الله

الفكر السياسي عند الفيلسوف فولتير، 1778-1694 «(Voltaire )

واسمه الحقيقي »فرانسوا له « مكانة خاصة في حياة فرنسا الفكرية في القرن الثامن عشر. ّ وقد خلد تاريخ الثقافة اسمه كاتباً كبيراً وفيلسوفاً للحضارة والتاريخ
)1 )فقال عنه الشاعر الفرنسي الكبير » فيكتور هيغو«
)-1802 1885« : )إذا ذكرنا اسم فولتير فكأننا
حددنا مواصفات القرن الثامن عشر كله، ووعينا بكلمة واحدة السمات التاريخية واألدينية المزدوجة لذلك العصر الذي كان، مهما قيل فيه، عصر انتقال للمجتمع كما للشعر«.)
ولد في عهد لويس الرابع عشر في اسرة فرنسية تنتمي الى الطبقة البرجوازية وتعمل في التجارة وبيع األقمشة تلقى علومه في معهد يشرف عليه اآلباء اليسوعيون وقد أهله ذكاؤه وعلمه ومكانة أسرته الكتساب شهرة واسعة وسط اجملتمع األرستقراطي وجعله ذلك يعتمد في آرائه وتفكيره على أساس من أرستقراطية الفكر. نُفي الى اجنلترا عام 1726 اثر خالف بينه وبني أحد النبالء حيث بقي فيها قرابة ثالث سنوات اُستقبل خاللها بحفاو البلاط المللكي وفي األوساط األدبية والتجارية .)

وكانت حياة فولتير كلها تناقضات، فهو يزدري بني الانسان، لكنه شديد الاهتمام بأفراد هذا الجنس، وهو يهزأ برجال الكنيسة ، لكنه يهدي أحد كتبه إلى البابا، وهو يسخر بالملكية لكنه يقبل معاشاً من ملك بروسيا »فريدريك األكبر« )1712 – 1786 ، )وهو يمقت التعصب،

لكنه تعصب في عدائه لليهود، وهو يتهكم على باطل
الثروة،وعدم غنائها، لكنه يجمع ثروة طائلة بأساليب
ليست شريفة دائماً.)

وكانت حكومة جنيف منعت فولتير« من تمثيل مسرحياته ومن إنشاء مسرح فيها، وأيد المفكر الكبير »جان جاك روسو » )-1712 1778 )موقف الحكومة السويسرية، فتسبب هذا في قطع الصداقة بني هذين المفكرين الكبيرين، وحدث ذلك في عام )1758. ) اُعتبر »فولتير« فيلسوفاً سياسياً، فلم يكتب كتابة والنظرية علمية ولم يعالج نظريات فلسفية ميكن دراستها كوحدة، أي أننا ال نستطيع أن نكون من أفكاره أو نزعاته السياسية وحدة منهجية أو مذهب متسق، ولكننا نعثر في ثنايا بحوثه على عبارات ونصوص تشهد مبيوله سياسية ونزعاته اإلصالحية. كما أن »فولتير« لم يكن فيلسوفاً أصيالً في ما عاجله من بحوث، بل كان تلميذاً كثير من األساتذة السابقني عليه، بيد أنه كان تلميذاً مستقالً أقوى من أساتذته من بعض الوجوه. فصحيح أن
»فولتير« لم يبدع آراء فلسفية جديدة،ولكنه أسهم
بقسط كبير في إشاعة التنوير الفلسفي باجملتمع
الفرنسي . كما كان له فضل كبير هو« وجان جاك
روسو« في االنتقال السياسي واالقتصادي الكبير
من حكم النظام االرستقراطي اإلقطاعي إلى حكم
الطبقة املتوسطة . حتى أن »لويس السادس عشر«
)1774 ــ 1793 )قال في سجنه بعد أن رأى نتيجة
أعمال »فولتير« »وروسو«: » لقد دمر هذان الرجالن
فرنسا «، ويعني بذلك تدميره وتدمير النظام امللكي في فرنسا.)5)
ويتفق مؤرخو الفكر على موضعة القطيعة
اإلبستمولوجية الكبرى في منتصف القرن الثامن
عشر: أي في الوقت الذي ظهرت فيه مؤلفاته األساسية باللضافة إلى مؤلفات روسو وديدرو وجماعة الملوسوني. عندئذ حصل االنقالب احلقيقي وانتقلت البشرية األوروبية من عقلية القرون الوسطى الكهنوتية اإلقطاعية، إلى عقلية العصور احلديثة العلمانية الدميقراطية. فقد ّر حلزب الفالسفة أو حلزب التنوير. وكان كان الرأس املدب يعتقد أن التنوير سوف يصعد رويداً رويداً حتى يشمل كل الظواهر، وكل القضايا، وكل العقول. عندئذ تخرج البشرية من املرحلة الطائفية الهمجية، لكي تدخل المرلحلة احلضارية العقالنية. وعندئذ يتم القضاء على التعصب الديني الذي يشبه األخطبوط األفعواني والذي كان يشكل عدوه األول. ومعلوم ان هذا التعصب كان سبب اجملازر واحلروب االهلية املدمرة التي جرت بني
املذاهب املسيحية آنذاك. ليس غريباً، واحلالة هذه، أن يكون نيتشه – املعروف بصعوبة مزاجه- قد أهداه كتابه المعروف »فيما وراء اخلير والشر« قائالً: إلى فولتير، أحد ِّري الروح البشرية.)

نظرت «فولتير« أن الطبيعة اإلنسانية واحدة في كل زمان يُقر مع ذلك أن الناس يختلفون في وفي كل مكان، ولكنه يمقدرتهم الذاتية وفي رغباتهم، وكفاياتهم الشخصية، ومن هنا ضرورة قيام نظام الطبقات االجتماعية، فهو ليس ضد هذا النظام وإمنا يراه من مستلزمات الحياة في الجمتمع الانساني، وهو الي يتصور قيام مجتمع تنعدم فيه الطبقا و تسود فيه طبقة واحدة كما يزعم لشيوعيون. ففي كل مجتمع البد من قيام األغنياء من جهة والفقراء من جهة أخرى، ولكن قيام هذه الطبقات ليس معناه ظلم األغنياء للفقراء وأن يفرضوا عليهم الذل والحرمان والعوز وإنما يجب أن يكون هناك عدالة اجتماعية وإنصاف جمعي فيما بينهم فلا تطغى طبقة على أخرى. ومن هذا يتضح أن »فولتير« يقول بحق الملكية الفردية ، لان وجود أفراد كثرين لا يميتلكون شيئاً يسهل توزيع العمال وتقسيمها فيما بينهم، وبغير هذا سيصعب إيجاد من يؤدي بعض الاعمال الضرورية. ومع أن »فولتير« يؤيد حق المُلكية الفردية الا أنه لا يقر أن يكون هذا الحق انحرافاً ووسيلة مرذولة للطغيان من جهة الاغنياء والحرمان من جهة الفقراء، ولهذا ينادي بإصالح هذا الحق ومراقبته دائماً حتى لا يخرج عن حدوده المشروعة المعقولة ويكون سبباً
للمشاحنات الاجتماعية وعدم الاستقرار الاجتماعي.
فحق المُلكية ضرورة اجتماعية تتعلق بشرف الانسان عند فولتير.)إن »فولتير« لا يتخطى حدود المجتمع البرجوازي عندما يتكلم عن المساواة فهو يقول : »من المستحيل في عالمنا التعيس الا ينقسم البشر الذين يعيشون في مجتمع إلى طبقتني، طبقة أغنياء وطبقة فقراء يخدمون«. وهذا الانقسام ينجم، في منظور »فولتير« عن طبيعة الامور، فهو يقول : »لو كانت هذه األارض كما كان ينبغي أن تكون، لو كان الانسان يجد في كل مكان فيها قوتاً مؤمناً وسهل المنال… فمن المستحال طبعاً على أي إنسان أن يستعبد آخر«.
لكن »فولتير« الذي ينكر إمكانية حتقيق المساواة
في األملك والثروات، يدين بشدة مع ذلك اللاامساواة
الاجتماعية في ظل النظام اإلقطاعي، وامتيازات النبلاء .

آراؤه في نشأة الدولة :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اختلف »فولتير« مع القائلني بنظرية العقد اإلجتماعي
كأساس لنشوء الدولة، ويرى أن الدولة بشكلها البدائي
لم تقم إال نتيجة إلحتاد األسر بعضها.)8 )فهو مييل
إلى اإلعتقاد بأن اجلمهورية، املنبثقة عن احتاد األسر، هي
الشكل البدائي للدولة، فتلك هي في نظرة مسيرة
التطور الطبيعي.
وهو يقول : »أنه ليس من قبيل املصادفة أن كل
األوروبني الذين قصدوا أمريكا لم يجدوا فيها، حيثما
اجتهوا تقريباً، سوى اجلمهوريات«. وكذلك األمر في
أفريقيا، وفي العالم القد

٨ما كان »فولتير« يتبنى إذن نظرية العقد االجتماعي
كنظرية لظهور الدولة، فقد ولدت الدولة، تاريخياً، من
اإلكراه، ال من التعاقد. لكن خالفاً للحق التاريخي، فإن احلق
الفعلي احلقيقي، الميكن أن يقوم اإل على أساس االرتضاء
احلر.
احلكم األفضل عند فولتير:
كان يرى أن مكان السلطة في أيدي من هو مؤهل لقيادة
اجملتمع نحو السعادة،وهذه األيدي ما هي إال أيدي امللك،ألنه
هو الوحيد الذي ميلك القوة ليصل بالدولة إلى الهدف
املطلوب .
لقد كانت ثقته تتجه أكثر فأكثر نحو نظام قوي، معتبراً
أن عهود امللك »هنري الرابع« و »لويس اخلامس عشر«
الذين حكموا بأنفسهم كانت من أسعد سنوات امللكية،
وكان يتأفف من الدور الذي كانت حتاول أن تؤديه البرملانات
في فرنسا، ويصفها بأنها »نوع من احملاكم«.
وقد حاول أن يعطي انطباعاً حسناً عن النظام امللكي
املستنير، شأنه شأن مفكري الطبقة البرجوازية في
عصره، معتبراً أنه النظام الوحيد القادر على انتشال فرنسا
من حالة الفاسد، والتردي عبر اإلصالحات التي بإمكانه
القيام بها، فالنظام امللكي املستنير له فضائله التاريخية
الناجمة عن صراعه مع فوضى النظام اإلقطاعي، أما
النظام الدميوقراطي فلم ير فيه سوى أنه مجرد سلطة
عددية.فهولم يخف إعجابه بالنظام امللكي التمثيلي
واحملدود في إجنلترا والذي يضمن احلريات السياسية واملدنية
التي كانت غير مضمونة في فرنسا ، بل لقد عمل على
الترويج لها وكافح لتحقيقها.)9)
فقد قام فولتير أثناء نفيه إلى بريطانيا, بدراسة
الدستور البريطانى, الذى يكفل احلرية والتسامح لكل
الطبقات. ودرس بعمق مسرح شكسبير وفلسفة
»لوك« ونظريات »نيوتن« العلمية. وتأثر تأثرا كبيرا
بكتاب »الفهم اإلنسانى« »جلون لوك«, ومعقولية
»فرانسيس بيكون«, وأفكار اإلصالح »لتيندال«.
لقد حلق فولتيرفى عالم آخر من القيم الرفيعة الراقية.
وهنا أصبح الشاعر, مؤرخا وفيلسوفا. بعد أن إتسع أفقه.
ومعه, إتسع أفق القارة األوروبية كلها. وقال عنه »جورج
برانديس«: »أعطته إجنلترا نقطة إرتكاز أرشميدس خارج
فرنسا, ومنها استطاع أن يرفع فرنسا ومعها القارة
كلها«
وكان أهم شيء هو إحساسه باحلرية فى بلد حر دميوقراطى.
احلرية اإلجنليزية أصبحت بالنسبة له مثال أعلى. هنا,

ال أحد ميكن أن يفقد حريته بأي سلطة من السلطات.
وال أحد ميكن أن يعاقب بدون محاكمة. هنا حرية كاملة
للكتابة واخلطابة والصحافة. وتسامح دينى كامل بني
األديان اخملتلفة. لقد رأى اآلن الفرق بني نظامني. بدا واضحا
فى كتابه »رسائل عن إجنلترا« التى تعتبر نقطة انطالق,
وبداية الثورة الفرنسية.
فقد كتب, عن احلرية الدينية عند اإلجنليز, أن الرجل
اإلجنليزى, يذهب إلى اجلنة عن طريق الدرب الذى يختاره
هو مبحض حريته. وبالنسبة للحرية السياسية, يقول
أن إجنلترا هى البلد الوحيد على سطح الكرة األرضية
الذى حتجم سلطة امللوك فيه. فاحلاكم تترك له كل
السلطة لفعل اخلير, وفى نفس الوقت تكبل يديه عن
فعل الشر)10.)
هذه هي األفكار العامة التي مهد بها »فولتير« لقيام
الثورة الفرنسية عام )1798 ،)فقد نفذ بقوة إلى قلوب
معاصريه بفضل حمالته البليغة ضد النظم القائمة،
مطالباً باإلصالح وداعياً بفضل حمالته البليغة ضد النظم
القائمة، مطالباً باإلصالح وداعياً إلى الهدم والتدمير، ولم
يحاول أن يضع خطة إنشائية إيجابية، فكان يدعو إلى
التفويض من األساس ألنه كان ميقت احلاضر، بيد أنه لم
يفكر فيما ينبغي له أن يكون عليه املستقبل. وبالرغم
من الدور الهام الذي لعبه »فولتير« في التمهيد للثورة
الفرنسية فقد كان »روسو« هو فيلسوفها األول بال
شك )2 . )وكان كتابه »العقد االجتماعي«، هو إجنيلها
ودستورها.

ملامح من الفكر السياسي عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولا يُعتبر «فولتير» فيلسوفاً سياسياً، فلم يكتب كتابة نظرية علمية ولم يعالج نظريات فلسفية يمكن دراستها كوحدة، أي أننا لا نستطيع أن نكون من أفكاره أو نزعاته السياسية وحدة منهجية أو مذهب متسق، ولكننا نعثر في ثنايا بحوثه على عبارات ونصوص تشهد بميوله السياسية ونزعاته الإصلاحية، كما أن «فولتير» لم يكن فيلسوفاً أصيلاً فيما عالجه من بحوث، بل كان تلميذاً لكثير من الأساتذة السابقين عليه، بيد أنه كان تلميذاً مستقلاً أقوى من أساتذته من بعض الوجوه.

فصحيح أن فولتير لم يبدع آراء فلسفية جديدة، ولكنه أسهم بقسط كبير في إشاعة التنوير الفلسفي بالمجتمع الفرنسي.

كما كان له فضل كبير هو وجان جاك روسو في الانتقال السياسي والاقتصادي الكبير من حكم النظام الارستقراطي الإقطاعي إلى حكم الطبقة المتوسطة.

حتى أن لويس السادس عشر (1774- 1793 م) قال في سجنه بعد أن رأى نتيجة أعمال فولتير وروسو: لقد دمر هذان الرجلان فرنسا، ويعني بذلك تدميره وتدمير النظام الملكي في فرنسا.

ويتفق مؤرخو الفكر على موضعة القطيعة الإبستمولوجية الكبرى في منتصف القرن الثامن عشر: أي في الوقت الذي ظهرت فيه مؤلفاته الأساسية بالإضافة إلى مؤلفات روسو وديدرو وجماعة الموسوعيين، عندئذ حصل الانقلاب الحقيقي وانتقلت البشرية الأوروبية من عقلية القرون الوسطى الكهنوتية الإقطاعية، إلى عقلية العصور الحديثة العلمانية الديمقراطية.

فقد كان الرأس المدبّر لحزب الفلاسفة أو لحزب التنوير، وكان يعتقد أن التنوير سوف يصعد رويداً رويداً حتى يشمل كل الظواهر، وكل القضايا، وكل العقول، عندئذ تخرج البشرية من المرحلة الطائفية الهمجية، لكي تدخل في المرحلة الحضارية العقلانية.

وعندئذ يتم القضاء على التعصب الديني الذي يشبه الأخطبوط الأفعواني والذي كان يشكل عدوه الأول، ومعلوم أن هذا التعصب كان سبب المجازر والحروب الأهلية المدمرة التي جرت بين المذاهب المسيحية آنذاك؛ ليس غريباً، والحالة هذه، أن يكون نيتشه -المعروف بصعوبة مزاجه- قد أهداه كتابه المعروف «فيما وراء الخير والشر» قائلًا: إلى فولتير، أحد كبار محرِّري الروح البشرية.

نظرته إلى الملُكية والمساواة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يُقر فولتير أن الطبيعة الإنسانية واحدة في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يُقر مع ذلك أن الناس يختلفون في مقدرتهم الذاتية وفي رغباتهم، وكفاياتهم الشخصية، ومن هنا ضرورة قيام نظام الطبقات الاجتماعية، فهو ليس ضد هذا النظام وإنما يراه من مستلزمات الحياة في المجتمع الإنساني، وهو لا يتصور قيام مجتمع تنعدم فيه الطبقات أو تسود فيه طبقة واحدة كما يزعم الشيوعيون.

ففي كل مجتمع لابد من قيام الأغنياء من جهة والفقراء من جهة أخرى، ولكن قيام هذه الطبقات ليس معناه ظلم الأغنياء للفقراء وأن يفرضوا عليهم الذل والحرمان والعوز وإنما يجب أن يكون هناك عدالة اجتماعية وإنصاف جمعي فيما بينهم فلا تطغى طبقة على أخرى.

ومن هذا يتضح أن «فولتير» يقول بحق الملكية الفردية، لأن وجود أفراد كثيرين لا يمتلكون شيئاً يسهل توزيع الأعمال وتقسيمها فيما بينهم، وبغير هذا سيصعب إيجاد من يؤدي بعض الأعمال الضرورية.

ومع أن «فولتير» يؤيد حق ا لملكية الفردية إلا أنه لا يقر أن يكون هذا الحق انحرافاً ووسيلة مرذولة للطغيان من جهة الأغنياء والحرمان من جهة الفقراء، ولهذا ينادي بإصلاح هذا الحق ومراقبته دائماً حتى لا يخرج عن حدوده المشروعة المعقولة ويكون سبباً للمشاحنات الاجتماعية وعدم الاستقرار الاجتماعي.

فحق الملكية ضرورة اجتماعية تتعلق بشرف الإنسان عند فولتير.

إن «فولتير» لا يتخطى حدود المجتمع البرجوازي عندما يتكلم عن المساواة فهو يقول: «من المستحيل في عالمنا التعيس ألا ينقسم البشر الذين يعيشون في مجتمع إلى طبقتين، طبقة أغنياء وطبقة فقراء يخدمون».

وهذا الانقسام ينجم، في منظور «فولتير» عن طبيعة الأمور، فهو يقول: «لو كانت هذه الأرض كما كان ينبغي أن تكون، لو كان الإنسان يجد في كل مكان فيها قوتاً مؤمناً وسهل المنال… لاستحال طبعاً على أي إنسان أن يستعبد آخر».

لكن «فولتير» الذي ينكر إمكانية تحقيق المساواة في الأملاك والثروات، يدين بشدة مع ذلك اللامساواة الاجتماعية في ظل النظام الإقطاعي، وامتيازات النبلاء.

آراؤه في نشأة الدولة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اختلف «فولتير» مع القائلين بنظرية العقد الاجتماعي كأساس لنشوء الدولة، ويرى أن الدولة بشكلها البدائي لم تقم إلا نتيجة لاتحاد الأسر بعضها.[١٢]

فهو يميل إلى الاعتقاد بأن الجمهورية، المنبثقة عن اتحاد الأسر، هي الشكل البدائي للدولة، فتلك هي في نظرة مسيرة التطور الطبيعي.

وهو يقول: «أنه ليس من قبيل المصادفة أن كل الأوروبين الذين قصدوا أمريكا لم يجدوا فيها، حيثما اتجهوا تقريباً، سوى الجمهوريات»، وكذلك الأمر في أفريقيا، وفي العالم القديم.

ما كان «فولتير» يتبنى إذن نظرية العقد الاجتماعي كنظرية لظهور الدولة، فقد ولدت الدولة، تاريخياً، من الإكراه، لا من التعاقد. لكن خلافاً للحق التاريخي، فإن الحق الفعلي الحقيقي، لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الارتضاء الحر.

الحكم الأفضل عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كان يرى أن مكان السلطة في أيدي من هو مؤهل لقيادة المجتمع نحو السعادة، وهذه الأيدي ما هي إلا أيدي الملك، لأنه هو الوحيد الذي يملك القوة ليصل بالدولة إلى الهدف المطلوب.

لقد كانت ثقته تتجه أكثر فأكثر نحو نظام قوي، معتبراً أن عهود الملك «هنري الرابع» و«لويس الخامس عشر» الذين حكموا بأنفسهم كانت من أسعد سنوات الملكية، وكان يتأفف من الدور الذي كانت تحاول أن تؤديه البرلمانات في فرنسا، ويصفها بأنها «نوع من المحاكم».

وقد حاول أن يعطي انطباعاً حسناً عن النظام الملكي المستنير، شأنه شأن مفكري الطبقة البرجوازية في عصره، معتبراً أنه النظام الوحيد القادر على انتشال فرنسا من حالة الفساد، والتردي عبر الإصلاحات التي بإمكانه القيام بها، فالنظام الملكي المستنير له فضائله التاريخية الناجمة عن صراعه مع فوضى النظام الإقطاعي، أما النظام الديموقراطي فلم ير فيه سوى أنه مجرد سلطة عددية.

فهو لم يخف إعجابه بالنظام الملكي التمثيلي والمحدود في إنجلترا والذي يضمن الحريات السياسية والمدنية التي كانت غير مضمونة في فرنسا، بل لقد عمل على الترويج لها وكافح لتحقيقها.

فقد قام فولتير أثناء نفيه إلى بريطانيا بدراسة الدستور البريطاني الذي يكفل الحرية والتسامح لكل الطبقات.

ودرس بعمق مسرح شكسبير وفلسفة لوك ونظريات «نيوتن» العلمية، وتأثر تأثرًا كبيرًا بكتاب الفهم الإنساني لجون لوك، ومعقولية «فرانسيس بيكون»، وأفكار الإصلاح «لتيندال».

لقد رأى الآن الفرق بين نظامين، بدا واضحًا فى كتابه «رسائل عن إنجلترا» التى تعتبر نقطة انطلاق، وبداية الثورة الفرنسية، فقد كتب عن الحرية الدينية عند الإنجليز، أن الرجل الإنجليزي يذهب إلى الجنة عن طريق الدرب الذى يختاره هو بمحض حريته، وبالنسبة للحرية السياسية، يقول أن إنجلترا هي البلد الوحيد على سطح الكرة الأرضية الذى تحجم سلطة الملوك فيه، فالحاكم تترك له كل السلطة لفعل الخير، وفي نفس الوقت تكبل يديه عن فعل الشر.[١٥]

هذه هي الأفكار العامة التي مهد بها «فولتير» لقيام الثورة الفرنسية عام (1798 م)، فقد نفذ بقوة إلى قلوب معاصريه بفضل حملاته البليغة ضد النظم القائمة، مطالباً بالإصلاح وداعياً بفضل حملاته البليغة ضد النظم القائمة، مطالباً بالإصلاح وداعياً إلى الهدم والتدمير، ولم يحاول أن يضع خطة إنشائية إيجابية، فكان يدعو إلى التفويض من الأساس لأنه كان يمقت الحاضر، بيد أنه لم يفكر فيما ينبغي له أن يكون عليه المستقبل.

وبالرغم من الدور الهام الذي لعبه «فولتير» في التمهيد للثورة الفرنسية فقد كان «روسو» هو فيلسوفها الأول بلا شك وكان كتابه «العقد الاجتماعي»، هو إنجيلها ودستورها.

ظروف عصر فولتير واثرها

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

عاش فولتير في عصر الأنوار أو التنوير -كما يحلو للبعض تسميته- هذا العصر الذي شكل تيارًا شاملًا حرك كامل أوربَّا، وهو عصر الإيمان بالعلم والطبيعة والتقدم ومعاداة الكنيسة وسلطة الملكية وضد الجهل والفقر والخرافة.

فبحلول هذا العصر عرفت أوربا مرحلة تاريخية جديدة تميزت بالعقلانية ورفض القديم باعتباره أوهاما ضالة، هذه المرحلة تحتكم إلى العقل بدل الدين، هذا العقل الذي اعتبر إلها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، هذا العقل لم يعد يقبل شيئا دون نقد.

وعلى كل حال تميز هذا العصر بالعديد من الخصائص أهمها:

بروز النزعة العقلانية بشكل واضح فالعقل أصبح منتج العلم والمعرفة وبواسطته يقرر الإنسان مصيره، ويحقق رفاهيته وتقدمه، إضافة إلى بروز النزعة الإنسانية وكذا التطور العلمي المواكب لهما بسبب الثورة الصناعية في ق (75) وما ارتبط بها من انتشار التعليم.

الانتقال من التفكير الخاضع للخوارق والغيبيات إلى التفكير العقلي العلمي فبعد أن كان الفكر في العصور الوسطى يرتكز على اليقين اللاهوتي المطلق الذي لا يناقش ولا يمس أصبح يرتكز على أساس آخر هو العقل الفلسفي ولا شيء غيره.

بروز اتجاه التقدم الذي يقوم على فكرة أن العقل البشري قادر على التطور والتغير والتقدم نحو الأحسن والأفضل.

مواصلة الثورة على ما بقي من الرواسب الباقية من فترة سيطرة الكنيسة حيث تحرر الأوربيون من فكرة النزعة الأخروية التي سادت في العصور الوسطى.

إن هذه أبرز السمات التي طبعت عصر التنوير والتي لخصها فيلسوف عصر التنوير كانط بقوله قرننا هو بشكل خاص قرن النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شي وحده الدين محتجًّا بقداسته والتشريع القانوني متذرعًا بجلالته يريدان أن ينفذا منه ولكنهما يثيران عندئذ الظنون والشكوك الحقة حولهما ولا يمكنهما أن يحوذا على تقديرنا الصادق لأن العقل لا يقدم هذا التقدير إلا للأشياء التي تقبل بأن يطبق عليها التفحص الحر النقدي.

فالعقل لا يفتأ يزداد انتشارًا، وقد عبر فولتير عن هذا المعنى في كتابه رسالة في التسامح بقوله: وتغلغلا في فرنسا يوما بعد يوم في حوانيت التجار كما في قصور النبلاء، المطلوب إذن رعاية ثمرات هذا العقل ولا سيما أنه بات يستحيل الحؤول دون تفتحها.

إن كل هذه التطورات التي تميز بها القرن (17) كان لا بد أن تؤثر على شخص فولتير من منطلق أن الفكر الفلسفي ابن زمانه بتعبير هيجل، فقد حاول فولتير تأسيس التاريخ على العقل وتحريره من الخرافات والأساطير استنادًا إلى النزعة العقلانية التي طبعت عصر التنوير، إذ حاول فولتير تنظيف التاريخ من الشوائب وإعادة تأسيسه بشكل جديد، وتعميقه فلسفيًّا لكي يتماشى مع روح عصر التنوير، عصر النقد الذي يجب أن يخضع له كل شي، وعصر الانتصار العظيم للعلم والعقل، فقد فهم فولتير أن العقل ينبغي أن يكون سيد الموقف في دراسة التاريخ حيث يقول في ليس الذنب ذنبي بأن كان هذا القرن مستنير وإذا كان رسالة إلى صديقه الشخصي دارجنتال العقل قد تغلغل حتى إلى الكهوف والمغارات.

إذن نستنتج من كل هذا أن النزعة العقلانية التي اتسم بها عصر التنوير قد أثرت تأثيرًا بليغًا في تصور فولتير للتاريخ حيث أكد فولتير بأن موضوع التاريخ يجب أن يكون تتبع سير العقل والفكر البشري عبر التاريخ.

نقد التاريخ لفولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد عمل فولتير على انتقاد تاريخ سابقيه لأن ما وصل إليه من تاريخ، مكتوب في ظروف سيطرت فيها الكنيسة والملكية، ولذا فقد جاء هذا التاريخ مليئا بالخرافة والأسطورة والتعصب إذ يقول عنه أنه ثمرة العقلية الخرافية الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية.

فما سبق من تاريخ البشرية هو لا يعدو أن يكون شعوذة وظلامًا، ومن ثمة لا تستحق العصور الماضية أن يفرد لها صفحات عند المؤرخ ولا هي جديرة حتى بكلمة تاريخ.

وقد هاجم فولتير تاريخ العصور الوسطى ووصف تلك العصور بالجهل والغيبية وترويج الأضاليل والقصص الخيالية، فجميع الأساطير المنقولة لنا هي بدع ابتدعها الكهنة الذين كافحوا من أجل جعل الناس يؤمنون بخزعبلات هدفها المحافظة على احترام الناس.

كما انتقد فولتير سابقيه عندما جعلوا التاريخ السياسي والعسكري هو لب التاريخ، فهذا التاريخ هو صورة عن الجرائم والكوارث والحروب ليس إلا، كما هاجم مؤرخي عصره لاستنادهم إلى قصص العهد القديم واتخاذها أساسًا للتاريخ، ليس لمبالغة هذه القصص في الاهتمام بالعبرانيين واحتقار شعوب الشرق الأخرى فحسب، بل لأن هذه القصص موضع شك من الناحية التاريخية.

وينتهي إلى القول بأن التاريخ في عصره لا شيء سوى مجموعة من الأباطيل والخدع التي نكذب ونلعب بها عن الأموات ونحاول الماضي ليتناسب مع رغباتنا في الحاضر والمستقبل، ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط (3)، مكتبة المعارف، بيروت، (7155)، ص (2184).

لقد فهم فولتير بأن العقل ينبغي أن يكون سيد الموقف وليس التكرار والنقل فلا شيء ينبغي أن يفلت من تفحصه النقدي ولا شيء ينبغي أن يقبل قبل أن يوزن بميزان العقل وهذا الكلام ينطبق على أقوال الأوليين، والتعاليم الدينية مثلما ينطبق على المواضيع الدنيوية.

التسامح عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

صحیح أن فولتیر قد انطلق في دعوته إلى التسامح، وحربه ضد التعصب من الدفاع عن قضیة كالاس، وهي الأسرة الفرنسیة التي تعرضت للظلم من طرف الحكومة والتي كان ضحیتها، أب حكم علیه بالإعدام على الدولاب، وأخ یجز في السجن، وأم وشقیقتان یتعرضن للنفي، والسبب هو انتحار ابنهم واتهامهم بقتله، لم یكن السبب في هذا هو حرص الحكومة الفرنسیة على أمن العائلة، أكید، ولم یكن ابن هذه العائلة أول من ینتحر في فرنسا أو یقتل، ولكن السبب هو العداء الذي كان بین الكاثولیك والبروتستانت؛ فكالاس كان ینتمي للدیانة الكاثولیكیة، وكانص ابنه مولعًا بالبروتستانت، فعندما انتحر ولأسباب معینة جعلت الحكومة هذا ذریعة لتشعل نار اضطهاد جدیدة بین المذهبین. لم یكن هدف فولتیر هو تبرئة العائلة فقط، بل كان یسعى إلى نشر رسالة عالمیة، بتحقیق تسامح عالمي بین البشر.

یري فولتیر أنه لم یقم بالجهد الكبیر، أو البلاغة المتكلفة في إثبات ضرورة التسامح بین المسیحیین، لكن جعل هذا التسامح عامًّا وعالمیًّا بین البشر جمیعًا، هنا تكمن الصعوبة؛ فكان یدعوا إلى التسامح الشقیقي؟ وكذلك المسلم أننا قد نرد علیه: أیكون التركي: باعتبار البشر جمیعًا إخوة لنا؛ فیقول الصیني؟ والیهودي ؟ والسیامي؟ أجل بلا ریب: أفلسنا جمیعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد!

ففولتیر لا یضع حدود للتسامح ویعتبره قیمة إنسانیة، یجب أن تسود العالم، على اختلاف أشخاصه ولغاته وأماكنه ودیاناته وعاداته …؛ فیجب أن یكون التسامح تسامح مطلق، ویجب أن یعم سلام هذه الكرة الأرضیة الصغیرة كلي ودائم للكون، والسبب في هذا كما یقول في بحثه في التسامح التي لیست إلا نقطة تدور في المكان، مثلها مثل كرات أخرى ونحن تائهون في هذا المكان الهائل، إن الإنسان و قامته طولها خمس أقدام، هو قطعا شيء هین في الخلیقة، وواحد من هذه الكائنات التي لا یمكن إبصارها، یقول لبعض جیرانه في الجزیرة العربیة أو في بلاد الكفار، أصغ إلي إلى كل هذه العوالم؛ قد بصرني: یوجد تسعمائة ملیون من النمل الصغیر مثلنا على سطح الأرض، لكن قریة نمل هي وحدها الأثیرة عند الله، أما سائرها فإن الله یكرهها منذ الأزل، وقریتي وحدها هي التي ستكون سعیدة، بینما سائر القرى ستكون تعیسة إلى الأبد وهذه الدعوة هي شيء من الجنون و غیر المعقول، لأنه من غیر الممكن أن یخلقنا متساوين ثم یفرق بیننا السلام الدائم حسب فولتیر لن یتحقق مالم یتسامح الناس مع بعضهم البعض، ویتعلم كل واحد منهم كیف یتسامح مع من یخالفه في الأمور الدینیة السیاسیة و الفكریة، فالقضاء على السلطة الكنسیة التي تعیش في أرضها جذور التعصب هو الخطوة الأولى لبناء مجتمع سلیم متسامح.

ختم فولتیر رسالته في التسامح بمقالة عنوانها (صلاة إلى الله)، وهي دعوة ورجاء وجهه إلى الله لكي یعم السلام في الأرض، متخطیًا فوارق اللغات والأماكن والأجناس، یقول فیها: إذن لم أعد إلى البشر أتوجه بل إلیك یأرب جمیع الكائنات والعوالم والأزمان:

فهو أن تلطف وتنظر بعین الرحمة والشفقة إلى الأخطاء والضلالات المترتبة على طبیعتنا، ولا تسمح بأن تكون هذه الأخطاء والضلالات سبب هلاكنا، أنت لم تمنحنا قلبًا كي نبغض بعضنا بعضًا،

لا تسمح بأن تغدو هذه الفوارق الطفیفة التي هي من السمات الممیزة لتلك الذرات المسماة بشرًا، علامات حقد اضطهاد.

حبذا لو تذكر البشر قاطبة، أنهم إخوة، ويالیتهم یمقتون الاستبداد الذي یثقل باهظ وطأته على النفوس تماما كما یمقتون اللصوصیة التي تحرم بالقوة العاملین وأصحاب الحرف المسالمین من ثمرة عملهم.

فلو تأملنا في تاریخ الأدیان لوجدنا مؤسسیها یشیدون بالمطالب الأخلاقیة ذاتها دومًا، فالعقائد تختلف من دیانة إلى أخرى بینما الأخلاق واحدة وثابتة لدي جمیع الناس، لكن الفرق هو في استخدام عقلنا في إدراكها؛ فمحمد وزرادشت وبوذا والمسیح، یدعون إلى الأخلاق ذاتها، فلماذا إذن التعصب والظلم مدمنا نشترك ونخضع للقانون الأخلاقي ذاته، وهو صالح وعام لجمیع البلدان وجمیع الناس وهو بدیهي لو تأملنا لوجدناه داخل نفوسنا.

النقد والتقويم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد زرع فولتیر في الوعي القومي الفرنسي والأوروبي إن لم نقل العالمي حب الحریة والتسامح ومقت التعصب والخرافة والاضطهاد، وتعتبر فلسفته أكثر فلسفة حدیثة مستنیرة عن روح عصر الأنوار.

إن فلسفة فولتیر الحقیقیة، كانت تحمل طابع عصره بوضوح، تمتاز بـ:

هي فهم للحیاة وحكمة عملیة، وفن العیش بسعادة مع التلذذ بخيرات الحضارة.

وهي تقریظ متحمس لاستعمال المناهج التجریبیة ضد اللاهوتیین من جهة، ومن جهة أخرى ضد العقلانیین الذین یفكرون على طریقة دیكارت التقلیدیة.

وهي نقد للتعالیم القدیمة وأمل في مستقبل أفضل للبشر في سبیل العدالة والتسامح، وبالرغم من المكانة التي وصلت إلیها أفكار فولتیر التنویریة والسلام الذي نشرته رسائله، إلا أن أسلوبه الساخر من أهم القضایا ووقفته في وجه أهم مؤسسات الدولة الدینیة والكنسیة، جعله لا یسلم من النقد أحیانًا إن لم نقل دائمًا.

فقد نظر إلى فولتیر أن أعماله لم تكن ابتكارًا ولا إبداعًا إلا نوعًا ما، اعتبرت دعوته لتسامح مثل الذي كان سائدًا عند الإنجلیز ورفضه للنظام الدیني والسیاسي في فرنسا ومحاربته له واتهامه له بالفساد.

كان فولتیر في المجال السیاسي والظلم، برغبة منه في السلطة والوصول إلى الحكم بطریقة لینة.

یتمنى لفرنسا الحریات التي كان الإنجلیز من الطبقات المتوسطة یتمتعون بها، ولم یعتقد فیما یبدو أنه یجب تقلید شكل الحكومة البریطانیة، ولكنه كان یأمل بالأحرى في أن یحكم البلد بنیة حسنة، حكومة ملكیة مستنیرة، وقد تأثر المستبدون المستنیرون في عصر التنویر في بلاد أخرى بأفكار فولتیر.

فقد انتقدت كتابات فولتیر أیضًا من ناحیة أنها جعلت من عامة الناس یجعلون من الكنیسة وأنظمة الدولة مدعاة للسخریة؛ أي أنها شجعت على التقلیل من شأن ومكانة المؤسسات الدینیة والسیاسیة في الدولة وجعلتها محل سخریة من طرف عامة الشعب التي كانت معظم كتاباته موجهة إلیهم، كرسالته في التسامح ومعظم روایاته وأعماله الأدبیة والمسرحیة.

كما شبه فولتیر بطغاة الشرق القدامى، لأنه عالج مسالة المسیحیة والكتاب المقدس بالطریقة التقلیدیة متبعًا في ذلك خطي معظم فلاسفة عصره الذین نظروا للأناجیل أنها تعسف من طرف الملوك والرهبان؛ كما تجاهل المكانة الفكریة التي تحملها الأناجیل من قیم فكریة وأخلاقیة التي كان باستطاعته بفضل ذكائه وفكره الفذ أن ینظر إلیها نظرة أكثر إیجابیة وعملیة.

ونجد فولتیر یدعو من ناحیة إلى التسامح الدیني بین الناس، ومن ناحیة أخرى یجادل ضد الدیانة المسیحیة، كما دعا إلى الإیمان بالله الواحد منظم هذا الكون، وناقض فولتیر في هذا فلسفة الأنوار التي تدعوا إلى الانفتاح والمادیة والإبعاد عن كل ما هو دیني، كما حارب المسیحیة باعتبارها أحد أكبر دعائم التعصب ومنبع الفتن وسبب الحروب، ولكن من جهة أخرى دعا إلى التسامح، وبهذا یكون قد نفى مكانة الدین وضرورته داخل المجتمعات، وكأن الرسل و الأنبیاء و الدیانات عبر التاریخ قد جاءت عبثًا.

الــــهـــــوامش
مؤجز تاريخ الفلسفة, ترجمة:د.توفيق سلوم،ط1،بيروت:دار
الفارابي،1989،ص 197
جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة،ط1،بيروت:دار
الطليعة،1987،ص 438
د.أحمد محمد األصبحي،قراءة في تطور الفكر السياسي،ج3 ،
ط،1،بيروت:مؤسسة الرسالة,عمان:دارالبشير،2000،ص1285
د.مصطفى الخشاب،تاريخ الفلسفة والنظريات
السياسية,ط1،القاهرة:جلنة البيان العربي،1953،ص 431

هاشم صالح،“فولتير : زعيم األنوار األوروبية“، صحيفة الشرق
األوسط،،2008/2/6

محمد زكريا توفيق،“فولتير رائد من رواد فلسفة التنوير

كانديد / فولتير
رسائل فلسفية / فولتير