مشكلة الاستقراء عند كارل بويرKarl Popper

انشغل بوبر Karl Popper كثيرا بمشكلة الاستقراء، في علاقتها الوطيدة بمشكلة الفصل، طوال حياته العلمية. ففي كتابه المعرفة الموضوعية، اعترف بأن هذه المشكلة استقطبت اهتمامه، بل ووجد لها حلا، منذ فترة متقدمة من حياته العلمية. فبهذا الصدد كتب: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919، أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم واللاعلم، ولم أكن مقتنعا بكونه (الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود تداخل بين هاتين المشكلتين؛ و هذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة 1927»

وإذا كان بوبر قد توصل إلى حل لمشكلة الاستقراء حوالي سنة 1927، فإنه لم ينشره إلا في سنة 1933، في مقال مقتضب باللغة الألمانية. و في سنة 1934، أثار هذا الموضوع مجددا في كتابه التاريخي منطق البحث العلمي و منذ ذلك الحين، لم يتردد في إثارة هذا الموضوع كلما أتيحت له الفرصة، إلى درجة تسمح بالقول إن مشكلة الاستقراء شكلت، إلى جانب مشكلة الفصل، المحور الأساسي لأعماله الإبستملوجية.

وعلاوة على ذلك، شكل انشغال بوبر بمشكلة الاستقراء نقطة تحول بارزة في البحث الإبستملوجي المعاصر. فمن جهة، أمطر الاستقراء بوابل من الانتقادات الوازنة جعلت الثقة فيه تتراجع بشكل ملحوظ. ومن جهة أخرى، اقترح منهجا بديلا فضل تسميته بالمنهج الاستنباطي للمراقبة خضع، بدوره، لنقاشات كثيرة أفرزت مواقف مختلفة، بل ومتباينة أحيانا. وبالجملة، يمكن القول إن مناقشة بوبر لمشكلة الاستقراء شكلت الأرضية الخلفية لعدد لا يستهان به الأعمال الإبستملوجية التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي

بوبر ونظرية الاحتمالات

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل . الرجل يكاد يكون

بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى

سعى فيلسوف العلم كارل بوبر، إلى حل مشكلة الاستقراء. حاجج أن العلم لا يستخدم الاستقراء، وأنه يمثل أسطورة في حقيقة الأمر. عوضًا عن ذلك، تتشكل المعرفة من خلال الحدوس الافتراضية، والنقد.
قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، ‏عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” ‏كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.‏
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.

موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي ‏التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.‏
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن مباديء الجِشطلتيعد كارل بوبر أشهر فلاسفة العلم في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيرًا في مسيرة فلسفة العلم الحديثة، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه، يمكن القول إنه قد أحدث ثورة في المنهجية العلمية لا تقل عما أحدثه أينشتين في الفيزياء حين غيّر لنا نظرتنا إلى الزمن.
وعندما نتحدث عن نظرية المعرفة عند بوبر فنحن نريد أن نفهم طبيعة المعرفة الإنسانية ومبادئها ومصادرها وقيمتها وحدودها كما يراها كارل بوبر.
اللافت أن جانبيّ فلسفة بوبر الميثودولوجي (المنهجي) والابستمولوجي (المعرفي) يتطابقان تطابقًا تامًا في المباحث المشتركة بينهما؛ فالمنهج العلمي عند بوبر هو نفسه نظرية المعرفة.
والهدف من هذا المقال هو تحليل أهم أفكار بوبر الفلسفية، كذلك تحليل لعلاقة التأثير والتأثر بين أفكار كارل بوبر وبعض أهم النظريات العلمية السائدة في عصره، والتي ‏تبلورت أفكاره بالاتفاق والاختلاف معها.‏
نوعا الاستدلال العقلي
ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط؛ إذ يرتبطان ‏بإقامة الحجج العقلية، وكلاهما يوصلانا إلى استنتاجات، لكن لكل منهما منهج يختلف عن ‏الآخر. فالتفكير الاستنباطي ينقلنا من العام إلى الخاص؛ بمعنى أن الاستنتاج الذي نتوصل ‏إليه نتيجة القياس المنطقي أقل عمومية من المقدمة الكبرى التي انطلقنا منها، وعلى العكس ‏منه فإن آلية الاستدلال في التفكير الاستقرائي تنقلنا من الجزئيات إلى استنتاج عام.‏
قبل كارل بوبر كان يُنظر إلى الاستقراء على أنه الأداة الرئيسية لبناء العلم؛ فماذا عساه يضيف الاستنباط للعلم؟، فالعلم بُني بالاستقراء لا بالاستنباط، لأن الاستقراء يمثل إضافة؛ كونه ينطلق من جزئيات وصولًا إلى تعميمات أوسع تضيف إلى بنية العلم، بينما الاستنباط لا يُمكِّننا سوى من التحقق من صحة نتيجة هي أضيق من المقدمة المعلومة التي انطلقنا منها.
فالمنهج العلمي كان يقوم أساسًا على الاستقراء، لكن بوبر لم يره كذلك.

الاستدلال العقلي عند بوبر استنباط فقط!

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

كان تمييز بوبر بين الاستنباط والاستقراء مناظرًا للتمييز بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأخير كان قائمًا على الاستقراء، وتحديدًا الاستقراء الناقص، فالتجريب ما هو في حقيقته سوى وسيلة لإضافة ملاحظات يتم التعميم منها استقرائيًا للخروج باستنتاج سليم.
ولأن الاستنباط باعتباره منهج استدلال عقلي أكثر موضوعية، وأكثر توافقية وانضباطًا مع قواعد المنطق، وقدرتنا على التحقق منه أكبر بكثير من المتاحة في حال الاستقراء، فكارل بوبر يرى الاستنباط منهج الاستدلال العقلي المقبول الوحيد!، وهاجم الاستقراء كطريقة كلية بل وكعمليات صغيرة أثناء الاستدلال. كما أن بوبر يرفض الخبرة كمصدر لصدق الاستقراء لكون البرهنة عليه لا بد أن تقوم على استدلالات استقرائية!
ومفهوم نمو المعرفة هو من أهم المفاهيم التي تشيع في فلسفة بوبر العلمية، بل هو أساسها؛ فبوبر لا يقتنع بالمنهج الاستقرائي الذي يوصلنا وفقًا لملاحظاتنا إلى نظرية واحدة، من المفترض أنها تحدد ماهية المعرفة بشكل كامل، وتعطي تفسيرًا كاملًا، لن يكون قابلًا للنمو.
في رأيي أن هجوم بوبر على الاستقراء كان غريبًا. صحيح أن نتائج الاستدلال الاستنباطي تكون يقينية لأنها استنتاج من مقدمات أكبر منها، وأن الاستقراء تظل نتائجه مشكوك فيها لأنه رد صحة وصدق القضية الكلية إلى قضايا مفردة، لكن لا يمكن أن يكون الاستنباط متفردًا بالقبول المنطقي، فما بالنا بالقبول العلمي. لكن بوبر، الذي هاجم الاستقراء لم يستطع أن يستغني عنه، وكثيرًا ما نُقِد لاستخدامه عمليات استقرائية رغم ادّعائه أنها ليست كذلك. سنذكر أمثلة عليها في حينها.
ولم يركز بوبر فيما يخص الاستقراء سوى على إثبات فشله كمنهج ومبدأ، ثم كمعيار للتمييز بين النظريات العلمية. وقدّم منهجه في الكشف العلمي للرد على مشكلة الاستقراء.
وكما يرفض بوبر المنهج الاستقرائي على أساس منطقي، فهو يرفضه على أساس سيكولوجي!، فعند بوبر “ما يصدق في المنطق يصدق في علم النفس”؛ فنحن نبحث عن إطرادات لنفرضها على العالم، لأجل أن يوافق توقعاتنا. والحقيقة أن تلك الأفكار الأخيرة عن الإطرادات أو الاعتقاد بتوقعات معينة إن لم تكن استقراءً، فماذا عساها تكون؟!
لكن بوبر يدّعي أن الميل والتوقع للإطراد في الطبيعة هو اعتقاد براجماتي، إلى حد ما فطري، يرتبط بالاختيار ‏بين البدائل، وليس ناشئًا عن تكرار؛ فنظرًا لرفضه الاستقراء الذي يقود إلى نظرية واحدة، فإن منهجه قائم على الاختيار بين بدائل؛ حيث يفترض نظريات متكافئة أمامه يبحث في صحة كل منها، وصولًا لاستنتاج صحة أفضلها، والتي تبقى مع ذلك قابلة للمزيد من الفحص مع توفر بدائل أخرى.
وتتوفر تلك البدائل من خلال حدس العلماء؛ فعلى العالم أن يحْدِس (يفترض) أكثر من حَدْس، وهو تخمين ذكي لحل المشكلة، ثم باستخدام المنهجية العلمية الموضوعية يختار أفضلها؛ وبذا ينمو العلم بهذه الإضافة.
والصدق عند بوبر دائمًا مشكوك فيه، ودائمًا مؤقت. ينتظر ظهور النظرية البديلة أو الحل البديل.
في المقابل، يمكن القول إن بوبر لم يحترم الأساليب الأمبريقية كأساس لتقرير صحة نظرية أو مقارنة أفضلية عدد من النظريات أو الفرضيات المتكافئة كما كان يراها لأجل الوصول إلى نظرية أصدق وأشمل وأعمّ. وإن كان يرى أنه يمكن استخدام الأساليب الأمبريقية أحيانًا.
ويمكن تلخيص فكرته الأساسية في أنه دون خطوات استقرائية يمكن أن ينمو العلم، وذلك عن طريق وضع فرضيات، ثم اختبارها بأن نستنتج استنباطيًا ما يترتب على كل فرض، ومستعينين بالملاحظة أو التجربة نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، ‏فيتعزز الفرض، أو يتم ‏تكذيبه. ‏فيمكن الاختيار بين النظريات المتكافئة المطروحة وصولًا للنظرية الصحيحة.
ونلاحظ هنا أن الاستنباط عند كارل بوبر ينطلق من مقدمات غير مؤكدة، على عكس ‏الاستنباط الديكارتي؛ فمقدماته الاستنباطية هي فروض حَدْسية تخمينية مؤقتة وقابلة للتغير.‏

منهج الكشف العلمي

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

تبدأ خطوات المنهج الاستقرائي بالملاحظة والتجربة، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميم استقرائي أولي، وللتيقن منه يتم وضع الفروض، ثم التحقق من صدقها، وصولًا لإثباتها أو نفيها، ومن ثم يخلص الباحث إلى معرفة مُتحقق منها.
بينما خطوات منهج الكشف العلمي عند بوبر تبدأ بمشكلة ترتبط بنظرية ما، ثم يتم اقتراح حل لها عبارة عن فرض ونظرية جديدة، ثم استنباط واشتقاق قضايا قابلة للاختبار من النظرية الجديدة، ثم محاولة تفنيد وتكذيب تلك القضايا عن طريق اختبارها في ضوء الملاحظات والتجارب، ونظرًا لأنه عادة توجد فروض ونظريات متكافئة تم تفنيدها فإن الخطوة الأخيرة تكون تفضيل إحدى النظريات وترجيح إحداها.
في المنهج الاستقرائي يكون الاستدلال على صحة النظريات ومعيار التمييز بينها هو التحقق منها (استدلال إيجابي)، ويرتبط بالملاحظة والتجربة، وحساب الاحتمالات. وهذا يؤدي إلى استقرار وثبات للنظريات لا يتفق مع مفهوم بوبر عن نمو العلم، المرتبط باستمرار نقد النظريات.
في المقابل فإن منهج الكشف لبوبر لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، بل هما وسيلتان مساعدتان فقط في اختبار النظريات والفروض، وتكذيب وتفنيد غير الجيد منها واستبعاده؛ فلا بد من فرض يحْدِس به العالم يسبق الملاحظة والتجريب وليس العكس. وهو ما يعكس الجرأة والجسارة العلمية من وجهة نظر بوبر، ولكن غيره يراه تعطيلًا عجيبًا للحواس، ورفضًا لأن تكون مدخلاتها نقطة بداية في طريق المعرفة.
وسنُفصِّل في توضيح منهج بوبر، ونقارن ما لزم الأمر بينه وبين المنهج الاستقرائي.
معيار التمييز الأساسي عند بوبر (قابلية التكذيب)
كانت لبوبر طريقته التي افترضها -بديلًا عن الاستقراء- لنمو العلم والمرتبطة بمنهجه العلمي، وبمعيار القابلية للتكذيب (الدحض) الذي وضعه للتمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، وغيّر من خلاله طريقة الاستدلال على صحة النسق العلمي، من التحقق (استدلال إيجابي) إلى التكذيب (استدلال سلبي)؛ فالبيّنة (الملاحظة والتجربة) بدلًا من أن كانت تدعم فرضًا في المنهج الاستقرائي صار عليها في منهج بوبر أن ترفضه.
والاختبار العلمي للنظرية عند بوبر يتمثل في البحث عن الملاحظات المُكذِّبة؛ فإن لم تنجح البيّنة في رفض النظرية فقد نجحت النظرية في الاختبار. بل يصل الأمر أن بوبر يعتقد أن البيّنة المؤيدة لأي نظرية هي في حقيقتها كانت اختبارًا لتكذيب النظرية، ولم ينجح، وبالتالي فهي تدعم النظرية عن طريق إثباتها لصمود النظرية أمام اختبار التكذيب.
والأهم أن النظرية غير القابلة للتكذيب؛ أي التي لا يمكن التنبؤ بوقوع حادث ما يمكن أن يُكذِّبها، هي نظرية غير علمية، لأنها تفتقد شرط الاستدلال على صحتها. أما النظرية العلمية الجيدة فهي التي تحدد ما الذي لا يمكن أن يحدث لو كانت فروضها صحيحة. وتلك المُكذِّبات المحتملة للنظرية يُعطيها بوبر مصطلح “المحتوى التجريبي للنظرية”.
أما المحتوى المنطقي للنظرية فيتمثل في النتائج التي يمكن أن تُشتق من النظرية. واختبار النظرية يعتمد كثيرًا على التطبيق التجريبي للنتائج المشتقة منها. وتضم النتائج المشتقة إضافة للمُكذبات المحتملة، القضايا التي لا تناقض النظرية.
وكلما زاد المحتوى المنطقي لنظرية علمية كلما زاد المحتوى التجريبي لها “المُكذِّبات المحتملة”. أي أنه كلما أمكن اشتقاق عدد أكبر من القضايا الأساسية من النظرية كلما كانت النظرية أكثر قابلية للتكذيب.
والنزعة الشكية ظاهرة تمامًا عند بوبر، فهو لا يبحث عن اليقين، بقدر ما يسعى لتكذيب فرض، ثم البحث بعد ذلك عن فرض أفضل منه، لن يلبث أن يبحث له عن مكذبات هو الآخر. لكن شك بوبر ليس الشك المطلق الذي يدّعي استحالة الحصول على المعرفة، بل هو شك منتج ومتجدد يسعى لاختبار المعرفة وإنمائها. كما أنه يجعل العلماء في ادعائهم المعرفة الإنسانية أكثر تواضعًا.
لكن بوبر لم يفهمنا بشكل واضح ما هي الشروط التي يشترطها والتي تجعل نظرية ما كاذبة!
أسس المفاضلة الثانوية (التعزيز والصدق)
إذا وُجِدت أكثر من نظرية ذات قابلية للاختبار والتكذيب عالية، ومحتواها المعرفي واسع، فإن أساس المفاضلة عندها ينتقل عند بوبر إلى اختيار النظرية الأكثر قابلية للتعزيز والتعزيز عند بوبر يختلف عن التأييد المرتبط بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى، ونظرية أو نظريات غيرها تعاكسها. وكان عليه تحديد معيار لترجيح الصدق في ضوء أن كل نظرية من النظريتين كاذبة في بعض جوانبهما.
وكان من مرجحاته للنظرية الأفضل: إعطاء أحكام أكثر دقة تصمد أمام اختبارات أكثر دقة، وقدرة وصفية وتفسيرية أعلى للوقائع، واجتياز اختبارات، واقتراح اختبارات تجريبية جديدة، وربط مشكلات لم تكن مترابطة. وكلها معايير ترتبط بالمحتوى الأكثر ثراءً. ويؤكد بوبر أن تلك المُرجِّحات لا علاقة لها بدرجات الاحتمال أو أي شكل من أشكال الاستقراء! وهو ما لا يخلُ من شبهة هو الآخر.
“لكن تبقى قابلية التكذيب المعيار الأساسي لدى بوبر، وليست درجات التعزيز أو درجات رجحان الصدق، فالأخيران معياران تفاضليان”.
وباختصار يمكن القول إنه:
في المنهج الاستقرائي: القضايا المفردة تتجمع للتحقق وللوصول إلى القضية الكلية.
في منهج بوبر: القضايا محل الاتفاق يجب أن تكون مفردة وليست كُلية. يقوم باستغلال الاستنباط وليس الاستقراء للوصول إلى القضايا الكلية وبناء العلم؛ ذلك بأن تتجمع القضايا المفردة باعتبارها أمثلة لتكذيب القضايا الكلية، والإبقاء على القضية الكلية الصادقة منها بعد استبعاد القضايا الكاذبة.
فالنظرية العلمية تأتي من فروض العالم حول القضية الكلية وليس من استقراء الملاحظات من القضايا المفردة. ويمكن باستخدام الاستنباط التوصل إلى قضية كلية عامة باستخدام ملاحظة وحيدة.
وبوبر يستخدم الاستدلال العقلي (الاستنباطي) كما يستخدم الملاحظة والتجريب، فمصادر المعرفة عنده هي عقلية وتجريبية معًا، فلا توجد منابع مؤكدة للمعرفة، ونقد المعرفة أهم عنده من البحث في مصدرها، بالتالي هو يرفض أن يتدخل نوع المصدر في تحديد صدق المعرفة، ويصر على أن قياس الصدق يكون فقط عن طريق الفحص النقدي للمعرفة وما يترتب عليها من نتائج. كما لا يفوته أن يؤكد أن تعلم الإنسان النقد -والذي بدأ مع فلاسفة الإغريق- كان علامة فارقة في تطور ونمو المعرفة الإنسانية، وهو الذي وصل بها إلى ما هي عليه الآن.
وينبغي اللفت إلى أن منهج البحث النقدي عند بوبر أعم وأشمل من طريقة الحذف بالمحاولة والخطأ لأنه يضم إضافة إليه نمو المعرفة. ويمكن صياغة المعادلة التوضيحية الآتية:
منهج البحث النقدي لبوبر= قابلية التكذيب (معيار التمييز عند بوبر) + نمو المعرفة.
ويوجد على الانترنت مقطع فيديو شهير وقديم للغاية من زمن الأبيض والأسود للعالم الكبير ريتشارد فاينمان عن الطريقة العلمي، والتي تبدأ عنده بالافتراض، ثم يحسب ما يترتب على افتراضه، ثم مقارنة ذلك بالواقع، وتحديد ما إن كانت الفرضية صحيحة أو خاطئة بتوافقها أو عدم توافقها مع التجربة. وأيًا كان من وضع الفرضية فإن عدم توافقها يقتضي رفضها مباشرة. وطبعًا هذا يقتضي المحاولة مرة أخرى وافتراض فرضية جديدة. وهذا اتفاق كبير من فاينمان مع بوبر يوضح تأصل ذلك التصور للمنهجية العلمية لدى العلماء في العصر الحديث وليس فقط لدى فلاسفة العلم.

بوبر ونظرية الاحتمالات

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، ‏عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” ‏كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.‏
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.
موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية
يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي ‏التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.‏
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن أفكاره أولًا وآخرًا قد تبلورت للاتفاق مع نظريات راقته ورآها علمية، ونظريات أخرى لم يرها كذلك.
وربما يكون تأثر بوبر واضحًا مثلًا بنقد ديفيد هيوم للاستقراء، ولكن تأثره بآخرين في مجالات أخرى غير فلسفية لا يبدو على نفس الدرجة من الوضوح؛ لذا فإن هدفي هو تحليل لموقف كارل بوبر من النظريات العلمية التي كانت ثورة في عصره.
حل المشكلات
يبدأ بوبر منهجيته العلمية بمشكلة علمية أو فكرية تواجه صعوبات وتبحث عن حل، وليس بملاحظات متفرقة متجمعة ينبغي الاستقراء منها وصولًا لاستنتاج عام، كما هو الحال في المنهج الاستقرائي.
ويتم فرض الفروض لتفسير الظاهرة المشكلة، والفرض ما هو إلا (حَدْس) أو (توقع) لما يمكن أن يحدث تحت ظروف معينة، وبعد اختصار واستبعاد الفروض التي يظهر عدم ملاءمتها ما أمكن، نضع استنتاجات (عن طريق الاستنباط وليس الاستقراء) مترتبة على الفروض الملائمة المتبقية، وعن طريق التجريب نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، فإما أن تتفق فيتعزز الفرض، أو تختلف الظاهرة في الواقع عن الاستنتاجات المترتبة على الفرض، فيتم تكذيب الفرض.
وفي منهج بوبر، سنجد أنه حتى الفرضيات والنظريات الجيدة التي صمدت أمام اختبار التكذيب، يمكن أن تظهر أمامها صعوبات تفسيرية تؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة، فيتم دحض تلك الفرضية أو النظرية بعد ذلك.
ويعبر بوبر عن ذلك رمزيًا بأربعة رموز تمثل تدرجية المراحل التي ينتقل فيها:
P1: وهي المشكلة، ثم TT وتعبر عن وضع نظرية مؤقتة، ثم EE استبعاد الخطأ باختبار النظرية، ثم نصل إلى P2 وهي مشكلة ثانية جديدة بحاجة إلى حل جديد.
وظهور مشكلة جديدة بحاجة إلى حل هو تعبير أيضًا عن مفهوم نمو المعرفة وتطورها الدائب، وهو مفهوم رئيسي عند بوبر.
وبوبر حين يتحدث في منهجه العلمي عن المشكلات وقدرة الفرضيات على حل المشكلات هو ابن عصره؛ ففي القرن العشرين أيضًا ناقش علماء كثيرون في نطاقات علمية مختلفة أسلوب حل المشكلات، وشغلهم.

التحليل النفسي (فرويد وأدلر)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

في مطلع شبابه عمل بوبر بمستشفى (ألفرد أدلر). وقد حكى بوبر ذات مرة أنه حكى لأدلر عن حالة طفل لم يعرضها بعد عليه، وفوجيء بوبر بأدلر يُشخص الحالة قبل أن يراها في ضوء نظريته، مدّعيًا خبرته بأكثر من ألف حالة مماثلة، ولمّا كان بوبر يعرف الطفل صاحب الحالة، ومقتنعًا بأن تشخيص أدلر غير سليم، فقد كان هذا مبعثه الأول للسخرية من الدور الذي يعطيه الاستقرائيون للخبرات والتعميم منها.
التعلم بالمحاولة والخطأ في مقابل الاستبصار والإدراك عند الجِشطلت
جوهر فكرة قابلية التكذيب عند بوبر هو التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، وهي نظرية سلوكية شهيرة في علم النفس التربوي، ظهرت في أمريكا في العقد الثالث من القرن العشرين، وكانت أفكارها تقابل وتعاكس تمامًا أفكار مدرسة الجِشطلت الألمانية التي ركزت على الاستبصار الفجائي باعتباره أساسًا للتعلم.
والتعلم بالمحاولة والخطأ هو شكل من أشكال التعلم التدريجي نكتسبه من خبراتنا أثناء حل المشكلة، وعند بوبر، هو فرض تفسيرنا على الظاهرة قبل الملاحظة، وإن ظهر أنه خاطيء نضع تفسيرًا آخر ونختبره هو الآخر! فتكذيب نظرية أو فرضية ما عند بوبر تجعل العالم يقترب من الصدق ويتعلم من خطئه.
ونظرية التعلم بالمحاولة والخطأ هي نظرية توحد طريقة التعلم بين ‏الحيوانات الدنيا والعليا. وعلى العكس منها نظرية الجِشطلت للتعلم بالاستبصار، وهو شكل من أشكال التعلم لا يناسب إلا مرتفعي الذكاء. وقد بدا لي هذا عجيبًا أن يتبنى بوبر تصورًا بأن العلماء يتعلمون بنفس ‏طريقة الحيوانات الدنيا والأطفال الصغار! نتيجة رفضه التام والحاسم لأي ملاحظة واستبصار للواقع تسبق فرض الفروض! وربما كان السبب أن الاستبصار ذو نزعة استقرائية واضحة فهو يقتضي أن تنظر إلى الواقع وتلاحظه قبل أن تصل إلى الحل.
العجيب أنني اكتشفت أثناء قراءتي في السيرة الذاتية لبوبر أن كارل بوهلر، وهو عالم نفس ولغوي ألماني، وأحد أساتذة مدرسة الجِشطلت، كان أستاذه في معهد التعليم بفيينا، وكان مشرفًا على رسالته للدكتوراه! وإن كان واضحًا أن بوبر قد أخذ بتقسيم بوهلر الثلاثي حول وظائف اللغة (التعبيرية- الإشارية- الوصفية)، قبل أن يضيف إليه وظيفة المُحاججة التي هي أساس النقد، إلا أنه من الواضح أيضًا أن بوبر لم يقتنع بنظرية الجشطلت نهائيًا أثناء دراسته الجامعية؛ فأهم أفكاره جاءت انطلاقًا من رفضه لمباديء الجِشطلت؛ فموقف كارل بوبر من الكشف العلمي القائم على الحَدْس، والتعلم من خبراتنا وتعثرنا في حل المشكلة هو في حقيقته مناهضة لأفكار الجِشطلت الأساسية؛ فالمحاولة والخطأ معاكسة تمامًا للاستبصار عند الجشطلت.
فهل كان بوبر شخصًا متمردًا إلى هذا الحد؟!، فقد تمرد على دائرة فيينا الفلسفية الوضعية المنطقية، وتمرد على فكر أدلر الذي عمل في مستشفاه في شبابه، وتمرد كذلك على مباديء الجِشطلت. الرجل يكاد يكون تمرد على كل ما كان أمامه في شبابه في فيينا.
وكذا فإن رفض الاستقراء هو رفض للتسليم بمبادئ الإدراك الحسي الجِشطلتي؛ فالعقل الإنساني عند بوبر يتميز بالوعي والتركيز الشديد، وليس مجرد الإدراك الحسي. كما أن الاستقراء هو رفض لنظرية الإدراك العام Common sense في المعرفة، فالفلسفة تبدأ من نقد الإدراك العام. وبوبر يرفضها لأنها ذات طابع ذاتي وليس موضوعيًا، يختلف باختلاف ذوات ومشاعر واعتقادات أصحابه؛ بينما المعرفة عند بوبر هي معرفة مستقلة دون ذات عارفة، وهي موجودة، بغض النظر عن إدراكنا لها.
والاستقراء كما نعلم يبدأ بالمُلاحظات المرتبطة بالإدراك الحسي للمُلاحظ. وكان بوبر يركز على أن إدراكنا الحسي مهما تكرر فإنه قد يقودنا إلى استنتاجات خاطئة، مثل إدراكنا لشروق الشمس يوميًا، والذي اعتقد البشر لآلاف السنين أنه يعني أن الشمس تدور حول الأرض من الشرق إلى الغرب، بينما حقيقة الأمر أن الأرض تدور حول الشمس من الغرب إلى الشرق، فتبدو الشمس تشرق.
لكن هذا لا يمنع أن بوبر كان لا يقف في عداء تام مع معطيات الحِس بقدر ما يؤكد على ضرورة نقدها والتدقيق فيها وعدم التسليم بها كما تبدو لنا، ولكنه في الوقت ذاته ينقد نظريات الإدراك لعدم أخذها الحَدْس العقلي في الاعتبار، والذي يراه لبنة التفكير العلمي. كما أنه يلفت إلى أن مدركاتنا الحسية تكون كثيرًا هي المشكلات وليست ملاحظات قابلة للاستقراء منها! كما أن تلك المدركات تكون مرتبطة بآرائنا ومعارفنا السابقة، وبالتالي يراها بوبر تفسيرات للبيئة.

الانتخاب الطبيعي (دارون)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

مع تحفظي الشديد، ورفضي الشخصي على أسس علمية لنظرية دارون، فإنه من الملحوظ في حديث بوبر المتكرر عن نمو المعرفة الإنسانية وتطورها، تأثره الواضح فيه بأفكار دارون عن عملية التطور الحيوي.
ولا أصدق للبرهنة على ذلك من قول بوبر إنه لا فارق بين معرفة الإنسان ومعرفة الحيوان، لأن البداية المعرفية لهما واحدة، إلا أن الإنسان أكثر تطورًا. فالإنسان وفقًا لبوبر يُعدِّل ويُطوِّر توقعاته وفرضياته ونظرياته، فتزيد المعرفة. وكما أسلفنا فهو يتبنى نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ، وهي نظرية توحد طريقة التعلم بين الحيوانات الدنيا والعليا.
ملمح آخر لتأثر بوبر بالداروينية، وهو فكرة الفروض الجريئة الجسورة التي يجب أن يحْدِس بها العالم دون انتظار لملاحظات الواقع من حوله، فهي عنده أقرب للطفرات التي تفترض الداروينية –في مرحلتها الثانية بعد دارون- أن الأنواع الحية تحدثها لأجل التكيف والتطور. ونلاحظ أن الأنواع الحية هي التي تُحدث التغيير ولا تنتظر أن تفرضه البيئة! وكذا الفروض عند بوبر تسبق الملاحظة وليس العكس.
والحقيقة أن هذه النقطة تحديدًا تبدو غريبة في فلسفة بوبر، فهو رغم أنه يسمي منهجه منهج الكشف العلمي، يتحدث أحيانًا كما لو كان العالِم عندما يحْدِس بالفرض كأنه سيفرضه على الطبيعة، ويصير قانونًا!
بوبر أيضًا لم يعط اهتمامًا لمصادر المعرفة، وكان حديثه منصبًا عن كيفية نموها، وهو في هذا يشبه دارون الذي لم يحاول نهائيًا تفسير بداية الحياة، واقتصر على الحديث عن تطورها!
والقابلية للتكذيب وصولًا للنظرية الأكثر صحة ليس فقط تأثرًا من بوبر بنظرية التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، بل يظهر فيها أيضًا تأثر بوبر بفكرة الانتخاب الطبيعي لدارون، فاستمرار اختبار الفرضيات سيُطيح بالفرضيات غير الصحيحة أو يُعدِّلها لتبقى أصح فرضية، والتي هي بدورها قابلة للتطور، وهذا بشكل ما مرادف عقلي لفكرة البقاء للأصلح الداروينية البيولوجية.
فكرة أخرى يظهر فيها تأثر بوبر بتطور الأنواع الحية، وهي تسلسل المشاكل وتعدّلها وتغيّرها أمامًا وخلفًا، فنحن نبدأ بـ P1، وننتهي بـ P2 جديدة، والتي تشكل بعد ذلك بداية جديدة، ننتهي منها إلى P3، وهكذا. والعكس، فإن المشكلة التي بأيدينا نفترض أن هناك مشكلة سابقة عليها وقد تعدّلت منها، وهكذا، وهو نفس ما يفترضه التطوريون بخصوص الأنواع الحية.
كذلك كان مدخل بوبر في معالجة مشكلة علاقة العقل بالجسد مدخلًا تطوريًا. فاللغة، وهي أهم منتجات العقل، ترقّت بالإنسان من الوصف إلى النقد ثم العلم. كذا افترض بوبر أن البداية لترقِّي الوعي تكون شعورًا غامضًا عندما يواجه الفرد مشكلة متطلب حلها، ثم يتقدم ويتطور تدريجيًا، فينمو وعيه شيئًا فشيئًا من خلال تفاعل الفرد في خطوات حل المشكلة.
موقف بوبر أيضًا من التنبؤ وعدم لزومه كشرط على صدق النظرية العلمية كان له ارتباطه الواضح بنظرية التطور. كما أن رفض بوبر لتقييم النظرية العلمية على أساس درجة احتماليتها المنطقية هو تأثر بالجو العلمي في وقته، والذي وُجِّهت فيه سهام النقد للداروينية لأن درجة احتماليتها وفقًا لحساب الاحتمالات صفرية.
ولكن رغم محاولاته الكثيرة للتماهي مع نظرية التطور فقد فشلت النظرية في التلاؤم مع مقتضيات منهجه، وأهمها نمو العلم والقابلية للتكذيب. على سبيل المثال:
بوبر كان قد أسرف في الحديث عن القضايا من نوع تحصيل الحاصل، المعروفة بمغالطة الدور أو الاستدلال الدائري، وقال إن أيًا منها ليس علميًا، ونظرية دارون إحدى فرضياتها الرئيسية لا تخبرنا أكثر من أن “البقاء للأصلح ومن الواضح أن الأصلح هو الباقي”!، كما أن هذه الفكرة هي توقف لنمو العلم، ولا يوجد ما يمكن أن يُبنى عليها وفقًا لمنهجه.
كذلك فإن نظريته الأثيرة لم تنجح في تجاوز معياره الأهم لتكون نظرية علمية، وهو القابلية للتكذيب! لقد كانت غير قابلة للتكذيب في وقته، وجعل دوكنز وجماعته فرضياتها غير موجهة ومتعاكسة، فزادوا الطين بلّة، بحيث يستحيل تخطئتها، وليس هنا موضع التفصيل في ذلك.
نظرية الكم [اللا حتمية (بُور) واللا يقين (هايزنبرج)]
الاستقراء في جوهره اعتراف بإطراد الحوادث في الطبيعة، وسيطرة القوانين، حيث يمكن التعميم من قضايا مفردة وصولًا لقضية كلية. رغم قبول بوبر للإطراد في الطبيعة، لكن رفضه الاستقراء هو تعبير عن اعتقاده باللاحتمية تأثرًا بــــــــنيلز بُور وثورة ميكانيكا الكم.
إيمان بوبر باللا حتمية ظهر في كثير من المباحث في فلسفته، فرفض مصادر محددة للمعرفة. ومنهج الكشف العلمي ذاته هو تعبير عن حرية العالم في الافتراض، والتي سبق وأن ألمحنا أن بوبر يتحدث أحيانًا كما لو كان العالم سيفرض قانونه الذي حدس به على الطبيعة.
ومعروف مبدأ عدم التأكد “عدم التعين” لهايزنبرج، وهو أيضًا في إطار نظرية الكم، والذي على أساسه يستحيل أن نحدد موضع وكمية حركة الاكترون في وقت واحد.
وكان من تأثر بوبر بنظرية الكم، والتي تؤكد على اللاحتمية واللا يقين أن قدم نظريته في النزوع الطبيعي ليقدم من خلالها تفسيرًا لنظرية الكم.
بل إن بوبر يرفض حتى استخدام لفظ “اعتقادات” التي ترتبط دومًا بالاستقراء، ويرى أن الأصح استخدام لفظ “توقعات”، كونها مؤقتة ومتغيرة. فهو يبحث في الأفكار والفرضيات والنظريات ولا يرى ضرورة للاعتقاد بها.
ويصل الأمر أن يعتقد بوبر أن التنبؤ ليس من أهداف العلم، لأن النظريات العلمية عنده لا نستنتجها من الملاحظة والتجريب كما هو الحال في منهج الاستقراء، بل تُكتشف بالاستنباط من فروض العلماء، كما كان يؤكد بوبر على أن المعرفة مستقلة غير قصدية، نحاول اكتشافها دون تعمد ومن غير تنبؤ منا. لكنه في كتاباته الأخيرة لم ينفِ القدرة التنبؤية للنظريات. والنزوعات هي محاولة للتفسير والتنبؤ ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.‏ وكما قلنا فعنده هناك إمكانية للتنبؤ، ولكنها ‏غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث.‏ ولكن كان تأكيده الدائب على مبدأ نمو المعرفة، وإن كان يصعب التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه المحتوى المعرفي بعد نمائه.
وبوبر فوق ذلك لا يرفض السببية كما أنه لا يقبلها، وفقط هو يستبعد مبدأ السببية بوصفه مبدأ ميتافيزيقيًا.

النسبية (أينشتين)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

كان استبدال بوبر التوقعات بالاعتقادات ليس فقط رفضًا للحتمية، بل هو تعبير عن تصوره لنسبية المعرفة، وهو بهذا ابن عصره، ابن عصر أينشتين.
يعترف بوبر في سيرته الذاتية أن نظرية أينشتين هي التي ألهمته لوضع فلسفته في العلم. وافتراضه أن أي نظرية نقبلها الآن هي ولا شك عرضة للتغير بعد ذلك وأن يطرأ ما يُكذبها غالبًا قد تأثر بما أحدثته نظرية أينشتين عندما قلبت المفاهيم النيوتينية التي كانت راسخة رسوخ الجبال رأسًا على عقب. كما أعتقد أن فكرة القابلية للتكذيب تحديدًا تبدو من بنات أفكار أينشتين، وإن كان بوبر هو من صاغها. فأينشتاين كان قد حدّد تنبؤات في ضوء نظريته، إن لم تتفق مع حساباته، فمعنى هذا أن النظرية النسبية ستكون خاطئة.
كما ان أينشتين إضافة لذلك يُنسب إليه القول بأنه لا يوجد سبيل منطقي يؤدي إلى القوانين الكلية العامة، وإنما سبيلنا إلى ذلك حَدْس يعتمد على الشغف العقلي. وهي مقولة تعكس اتفاقًا مع أفكار بوبر، فالانطلاق يكون من حَدْس، والاستدلال عن طريق الاستنباط، وليس من ملاحظات متجمعة كما في الاستقراء. فطالما اعتقد أينشتين أن القوانين يخلقها عقل الإنسان ولا يستنتجها استقراءً من الخبرات الحسية. ومعروف عن أينشتين أنه كان يضع الفروض قبل جمع الملاحظات.
وقد التقى بوبر بكلا الرجلين؛ أينشتين وبور، في رحلته لأمريكا أوائل الخمسينات وعبّر عن سعادته بهذا اللقاء.
وأختم بأن أقول إنه ولا شك كانت لأفكار كارل بوبر أثرها الكبير في مسيرة فلسفة العلم، وأثرها على النظرة لطبيعة العلم؛ بحيث أصبحت لا تعطي قيمة كبيرة للإطرادات في الطبيعة، فهي تطورية غير ثابتة، تحْدِس بالنتائج دون البحث في المقدمات!، وقابلة للتكذيب.
بل وكان لأفكاره أثرها على الفكر البشري بوجه عام، وأعتقد أن نزعته التشككية وعدم قبوله استقرار أي معرفة مهما كانت، ورفضه الخروج بتعميمات كلية من قضايا مفردة وغيرها كان له أثر كبير في انتشار الإلحاد.
لكن، وحتى يومنا هذا، لا زال المنهج الاستقرائي الذي هاجمه بوبر فاعلًا، ولا زال الاستقراء مع الاستنباط يُشكلان معًا جناحي الاستدلال العقلي.

جج بشأن الدور الرئيسي الذي تلعبه الملاحظات، والتجارب في العلم، والذي يكمن في محاولات نقد النظريات الموجودة وتفنيدها.
وفقًا لبوبر، تطرح مشكلة الاستقراء، كما نتصورها عادة، السؤال الخاطئ: إنها تسأل عن كيفية تسويغ النظريات المقدمة، والتي لا يمكن تسويغها من خلال الاستقراء. حاجج بوبر أن التسويغ غير مطلوب على الإطلاق، وأن السعي وراء التسويغ هو «طلب لإجابة استبدادية». قال بوبر بدلًا من ذلك، ما يجب القيام به هو البحث عن الأخطاء وتصحيحها. نظر بوبر إلى النظريات التي نجت من النقد باعتبارها مؤكدة بشكل أفضل، بما يتناسب مع مقدار وقوة النقد، ولكن على النقيض تمامًا من النظريات الاستقرائية في المعرفة، فليس من المرجح أن يكون ذلك صحيحًا بشكل كبير بالنسبة إلى تلك النظريات. رأى بوبر أن السعي وراء نظريات ذات احتمالية كبيرة في أن تكون صادقة، هو هدف خاطئ يتعارض مع البحث عن المعرفة. يجب على العلم أن يبحث عن النظريات التي تكون خاطئة على الأرجح، من ناحية (وهذا هو القول ذاته أنها قابلة للتكذيب إلى حد كبير، ولذا هناك العديد من الطرق التي قد يتضح أنها خاطئة)، لكن ما زالت كل المحاولات من أجل تكذيبها فاشلة حتى الآن (مؤكدة بدرجة كبيرة)

نظرية الحروف والأرقام..


إذا كان ترتيب الحروف الأبجدية كالتالي:
A B C D E F G H I J K L M N O P Q R S T U V W X Y Z
يوافق ترتيبها العددي كالتالي :
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26

إذا أعطينا لكل حرف منها وزناً بناءً على ترتيبه الأبجدي ، يعنى مثلًا أول حرف هو A وزنه يساوي 1 ، وآخر حرف Z وزنه يساوي 26 ..فإن وزن بعض الكلمات التي نعتمد عليها في حياتنا يكون كالآتي :

~ العمل الجاد يساوي :
( H+A+R+D+W+O+R+K ) =
8+1+18+4+23+15+18+11 = 98%

~ المعرفة تساوي : ( K+N+O+W+L+E+D+G+E ) =
11+14+15+23+12+5+4+7+5 = 96%

~ الحب يساوي
( L+O+V+E ) =
12+15+22+5 = 54%

~ الحظ يساوي
( L+U+C+K ) =
12+21+3+11 = 47%

معنى هذا انه لا شيء مما سبق سوف يعطيك نتيجة 100% التي تريدها 😊

إذن هل هي ،،، النقود ؟؟؟
( M+O+N+E+Y ) =
13+15+14+5+25 = 72%
طبعاً لا !

-ربما تكون القيادة ؟
( L+E+A+D+E+R+S+H+I+P ) =
12+5+1+4+5+18+19+8+9+16 = 97%
أيضا لا !!

💡لكل مشكلة حل ، ربما إذا غيرنا سلوكنا وأسلوبنا في التعامل فقط ..

السلوك ” ATTITUDE

( A+T+T+I+T+U+D+E ) =
1+20+20+9+20+21+4+5 = 100%
إذن هو السلوك ،،
إذا غيرنا سلوكنا تجاه الحياة ، سوف نحدث تغير حقيقي في حياتنا

وهذه النظرية قدمها الإسلام قبل 14قرن بقوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهم… }
والقرءان الكريم أرقى نموذج في التربية والتوازن النفسي للانسان حيث :
~ ضبط صوتنا : ” و اغضض من صوتك “
~ ضبط مشيتنا : ” و لا تمش في الأرض مرحا ” ..
~ ضبط نظراتنا : ” و لا تمدن عينيك “
~ ضبط سمعنا : ” و لا تجسسوا “..
~ ضبط طعامنا : ” و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا ” ..
~ ضبط ألفاظنا : ” و قولوا للناس حسنا ” ..
~ ضبط مجالسنا : ” و لا يغتب بعضكم بعضا ” ..
~ ضبط نفوسنا .. “لا يسخر قوم من قوم
~ ضبط أفكارنا .. “ان بعض الظن اثم
~ ضبط تصريحاتنا : ” و لا تقف ما ليس لك به علم
~ علمنا العفو و التسامح : ” فمن عفا و أصلح فأجره على الله
~ علمنا التوازن في الفرح والسرور : لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكم
~ ضبط تعاملنا بوالدينا : ” ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما”
~ فالقرءان كفيل أن يضبط حياتنا و يحقق حياة السعداء : ” الذين ءامنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب “

الخلاصة :
تخلَّقْ بخلق القرآن تعيش متّزِنا وتكتسب حياة السعداء

يومكم مبارك بإذن عبد الله بنطاهر

البرهان الأخلاقي ومسلك الأيمان العقلي عند كانت،مطارحات كانت في سبيل الايمان العقلي، محاولات البعض ايجاد تفسيرات بعيدة لكانت..

الحجة الأخلاقية هي واحدةٌ من الحُجج المُستخدمة لإثبات وجود الله. تستندُ الحُجج الأخلاقيّة إلى معياريّة الأخلاق أو النظام الأخلاقيّ. إذ تتعاطى الحُجج المُستندة إلى معياريّة الأخلاق مع بعض جوانب الأخلاق، لتخلُصَ إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ الله هو التفسير الأفضل أو الوحيد لهذا، وبالتالي فإنّ الله يجبُ أن يكون موجوداً. أمّا الحُجج المُستندة إلى النظام الأخلاقيّ فإنّها مصوغةٌ للتأكيد على الحاجة الضروريّة للنظام الأخلاقيّ للوجود في الكون. وحتى يكون هذا النظام الأخلاقيّ موجوداً، فلا بُدّ أن يكون الله موجوداً حسب هذه الحُجّة. تجدرُ الإشارةُ إلى أنّه من أجل تقييم سلامة هذه الحُجج، لا بُدّ من الإلمام بالقضايا الفلسفية الأساسية في مجال الأخلاقيات الفوقية.
أسّس الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لحُجّة أخلاقيّة مبنيّة على أساس العقل العملي. أعتقد كانط أنّ هدف الإنسان الأسمى يمتّلُ في تحقيق السعادة والفضيلة الكاملتَيْن، وحتّى يكون ذلك مُمكناً لا بُدّ من وجود الحياة الآخرة، ولتوفير ذلك يجبُ أن يكون الله موجوداً

الصيغة العامة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

جميعُ أشكال الحُجّة الأخلاقيّة تبدأ بمُلاحظاتٍ حول الأفكار أو التجارب الأخلاقيّة وتنتهي باستنتاج وجود الله. تفترضُ بعضُ هذه الحُجج حقائق أخلاقيّة تدّعي أنّها جليّةٌ في التجربة الإنسانيّة، وأنّ الله هو التفسيرُ الأفضلُ لها. وبعضُها الآخر يتعاطى مع النهاية التي يتطلّع البشر لبلوغها، والتي بدورها تتطلب وجود الله ضرورةً.
تستندُ العديدُ من الحُجج الأخلاقيّة إلى معياريّة الأخلاق، أي إلى وجود الحقائق الأخلاقيّة الموضوعيّة التي تستمدّ سلطتها من الله واجب الوجود. يرى المُحاججون أنّ الأخلاق مُلزمةٌ، فهي ليست مُجرّد تفضيلات، بل إنّ الإنسان يشعرُ بالالتزام بها بصرف النظر عن العوامل والمصالح الأخرى. وحتّى تكون الأخلاقُ مُلزمةً لا بُدّ أن يكون الله موجوداً. تتخذُ حُجّة معياريّة الأخلاق في صيغتها الأعمّ الشكل التالي:

يُمكن مُلاحظة الشعور الإنسانيّ بالأخلاق

الله هو التفسير الأفضل أو الوحيد لهذا الشعور الأخلاقيّ

إذن الله موجود

وكذلك تُشير بعضُ الحُجج المُستندة إلى النظام الأخلاقيّ إلى بُنية الأخلاق العقلانية، ولا يُمكن لذلك أن يكون إلّا إذا وُجد نظامٌ أخلاقيٌّ في الكون. تفترضُ هذه الحُجج أنّ وجود الله وحده يُمكن أن يُفسّر وجود النظام الأخلاقيّ في الكون، لذا يجبُ أن يكون الله موجوداً. كما تفترضُ حُججٌ بديلةٌ مُستندةٌ إلى النظام الأخلاقيّ أيضاً أنّ لدينا التزاماً بتحقيق السعادة والفضيلة الكاملتَيْن، وكوننا ملزمون بفعل شيءٍ فإنّه بالضرورة مُمكن، وحتّى يكون تحقيقُ السعادة والفضيلة مُمكناً لا بُدّ من وجود النظام الأخلاقيّ الموضوعيّ، الذي بدوره يستلزمُ وجود الله، لذا وجب أن يكون الله موجوداً

العقل العلمي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اعتقد إيمانويل كانط أنّه لا يُمكن إثباتُ وجود الله اعتماداً على العقل وحده في كتابه الشهير نقد العقل الخالص، ولكنّه ذهب في كتابه نقد العقل العملي إلى أنّه بالرغم من عدم القدرة على إثبات وجود الله بالعقل النظري، إلّا أنّ الأخلاق تستلزمُ افتراض وجود الله عملياً. فبدل السعي إلى إثبات وجود الله، كان كانط يُحاول إثبات أنّ الفكر الأخلاقيّ برُمّته يتطلّب افتراض أن الله موجود. كان كانط يرى أنّ البشر مُلزمون بتحقيق هدفين مركزيين: الفضيلة الأخلاقيّة والسعادة، والثانية هي نتيجةٌ للأولى. وكوننا ملزمون بشيءٍ فذلك يعني بالضرورة أن يكون مُمكناً. أشار كانط إلى أنّه ليس بإمكان الإنسان تحقيق الفضيلة والسعادة، بما أنّنا لا نستطيعُ أن نضمن أن تُؤدي الفضيلةُ إلى السعادة دائماً، لذلك يجبُ أن تكون هناك قوّةٌ عُليا لديها القدرة على خلق حياة أخروية تُكافؤ الفضيلةُ فيها بالسعادة.

محاولات توظيف فلسفة كانط لغير وجهتها النقدية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

حاول بعض خصوم الدين في الغرب توظيف فلسفة كانط لخدمة الأفكار الإلحادية ليجعلوا منها أساساً للإلحاد المعاصر. فقد استندوا في ذلك على ما قدّمه كانط حول عجز العقل عن البرهنة على وجود الله عن طريق الأدلة السابقة التي اعتمد عليها الناس ولذلك راحوا يلقون عليه التهم بأنه أسس لمقولة موت الإله قبل نيتشه وما تبعه من طرح في الإلحاد المعاصر. كما شكك بعضهم في أن كانط يقلل من قدسية الدين بربطه الدين والأخلاق بمفهوم الحرية بل عدّ الحرية أساساً للأخلاق، والأخلاق أساساً للدين.جاءت هذه الاتهامات على خلفية تفريق كانط المعرفة العلمية القائمة على التجربة عن التفكير الفلسفي المجرد، وتأكيده استحالة معرفة الأشياء في ذاتها، وأن الغيبيات هي موضوع للاعتقاد والتسليم فحسب وجعله البرهنة على وجود الله، مرهوناً بالقانون الأخلاقي مما أدى إلى انقسام المحللين واختلافهم حول فلسفة كانط بين مؤيد ومعارض. فبينما يرى بعضهم أن تلك الفلسفة التي قامت على القانون الأخلاقي بمنهج فريد هي إحدى الفلسفات التي ردت رداً عقلياً ومنطقياً وأخلاقياً على الإلحاد في ذلك العصر، نظر إليه بعضهم الآخر بوصفه واحداً من المنهجيين الملحدين ومن الناقدين الجذريين للميتافيزيقا والدين. فهل أعطى كانط مكاناً للإيمان في فلسفته؟ أو أنه وضع حجر الأساس للمذاهب الإلحادية التي جاءت بعد ذلك؟ بمعنى آخر ما موقف كانط من الإيمان وكيف كان موقفه من الإلحاد؟

لابد أن نفهم أن كانط مر بمراحل عديدة في فلسفته تبعاً لمراحله العمرية، لذلك يلزم على من يقرأ كانط ويتحدث عن فلسفته، أن يبحث في مجمل أعماله. لكن من المؤكد أنه جهر بمذهبه النقدي حينما قال: «حدث نفسك بنفسك» وهذا هو الأساس الأول الذي أقام عليه كانط رحلته الفلسفية، وهو الأساس النقدي، وسنلاحظ أن معظم كتب كانط قامت على نقد العقل للوقوف على مشكلات عصره الذي تأرجح بين الفكر الديني – ذي الصبغة اللاهوتية – المهيمن على كل نواحي الحياة، والنزعات الإلحادية في النواحي العَقَدية من ناحية والاتجاهات الفلسفية المتنوعة بين النزعة الشكية التي نتج منها الشك في مصادر المعرفة وإمكانيتها وبين النزعة الدوجماطيقية التي تبدأ بفروض تعسفية وتقرر مبادئ لا يجوز عليها التحليل أو إقامة برهان من ناحية أخرى. على أن «النزعة الشكية كانت ذات أهمية كبيرة عند كانط بالقياس إلى الدوجماطيقية لأنها تقوم على رقابة العقل، وهذه الرقابة تفضي بدورها إلى الشك»

دور هيوم في إيقاظ كانت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لذلك عدّ كانط أن هيوم هو الذي أيقظه من ثباته الدوجماطيقي ودفعه للشك لتخليص العقل من آفاته، ولا سيما في قضية السببية. وعلى الرغم من أهمية المرحلة الشكية بالنسبة لكانط لم تكن لترضي العقل، لأنها في الحقيقة ليست سوى رقابة سلبية على العقل. إنها رقابة على العقل ولكنها ليست نقداً له. لذا أراد كانط أن يقوِّض هذه المذاهب وكان سلاحه في ذلك النقد، وحسبنا أن نلاحظ الأسماء التى أطلقها «كانط» على مؤلفاته، كيف اشتملت على كلمة «نقد» نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم لنعلم منذ اللحظة الأولى أنه أراد أن مشروعه الفلسفي بأجمعه قام على نقد المنظومات التي شاعت في عصره. فالطريقة النقدية هي أن «نختار من أقوال الناس في ميدان العلم أو في مجال الحياة اليومية طائفة من الأحكام التي ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة، حتى نصل إلى المبادئ التي تكمن وراء هذه الأحكام كلها التي اخترناها»

انطلاقاً من ذلك قامت فلسفة كانط النقدية على تقييم المذاهب الفلسفية متخذاً من بعضها موقفاً إيجابياً كنقطة انطلاق لفلسفته، ومن بعضها الآخر موقفاً سلبياً سعى الى تقويضه وبناء بديل منه على أسس نقدية وعقلية صحيحة، توافق قدرات العقل الإنساني وليرسي قواعد فلسفته النقدية ليكشف من خلالها وهن الميتافزيقا التقليدية، وعجزها عن البرهنة على وجود الله، والنفس والعالم. من أجل ذلك كان عليه أن يثير العديد من الأسئلة والتي شكلت بدورها جوهر فلسفته، أهمها:

  • ما الذي يمكنني أن أعرفه؟
  • ما الذي ينبغي أن أعمله؟
  • ما الذي أستطيع أن أمله؟

هذه الأسئلة تتعلق بثلاث مشكلات تدور حول مفهوم المعرفة والبرهان الخُلقي ومفهوم الدين، فالمشكلة الأولى تتعلق بالعقل النظري (الميتافيزيقا)، بينما تخص المشكلة الثانية العقل العملي (الأخلاق)، في حين تخص المشكلة الثالثة النظري والعملي معا» (الدين). والذي يعنينا في بحثنا هذا هو موقف كانط من الدين ليتضح لنا موقفه من الإلحاد والإيمان، لذا سنقف بإيجاز عند موقفه من المعرفة والأخلاق بوصفهما الأساس الذي أرسى عليه كانط موقفه من الدين.

مفهوم المعرفة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

افتتح كانط كتابه نقد العقل المحض بقوله: «كل معارفنا تبدأ من التجربة ولا ريب في ذلك البتة لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا» لذلك لا تتقدم أي «معرفة عندنا زمنياً ـ على حد تعبير كانط -على التجربة بل معها تبدأ جميعاً» . في هذا المقتبس يؤكد أولاً: كانط أن كل معرفتنا تبدأ بالتجربة، لأننا لا نستطيع أن نقوم بأي عمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا، فتؤدي إلى حدوث التصورات تلقائياً. وثانياً: لأن التجربة تحرك نشاط الفهم لدينا، لجهة مقارنتها وربطها أو فصلها، وبالتالي تتحول «جميع الانطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات التي تسمى التجربة». لكنّ التجربة «لا تعطينا إلا أحاسيس وحوادث منفصلة تتغير في تعاقبها في المستقبل» الى جانب أن هناك تصورات تتصف بالضرورة والكلية كقوانين الرياضيات على سبيل المثال، فهذه لا تستطيع التجربة البرهنة عليها لأنها قوانين ثابتة، وغير خاضعة للحواس. لذلك أضاف كانط إلى معارفنا التي تبدأ بالتجربة، طريقاً أخر هو طريق العقل. ذلك أن «المعارف التي تتخطى العالم الحسي وحيث لا يمكن للتجربة أن تعدل أو تصحح فيها تقع ضمن مباحث عقلنا التي نعدها من حيث الهدف النهائي أفضل وأسمى بكثير من كل ما قد تفيدنا به الفاهمة في حقل الظاهرات» ولذا كان يلزم التفريق بين ناتج المعرفة وتلك الصور التي تتخذها المعرفة. هذا ما قال به كانط على وجه الخصوص: «من الواجب التمييز بين ما ينتج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتخـذها تلـك المعرفـة. وعلـى ذلـك، فعلـى الـرغم مـن أن المعرفـة تنشـأ عـن طريـق التجربـة، فإنهـا لا تُسـتمد منهـا وحدها». ولذلك أصبح مصدر المعرفة عند كانط هما التجربة والعقل.وبعد أن أثبت كانط دور العقل بجانب التجربة بوصفهما مصدرين للمعرفة أوضح الدور المهم الذي يقوم به العقل النقدي في المعرفة بعيداً عن أي دوجماطيقية. يقول في هذا الصدد: «يؤدي نقد العقل إذن، في النهاية وبالضرورة إلى علم. أما استعماله الدجماطيقي فيؤدي بالمقابل إلى مزاعم لا أساس لها، يمكن أن نعارضها بأخرى» ولا يمكن تأسيس علم إلا بتعاون التجربة الحسية والإدراك العقلي اللذين يؤديان إلى المعرفة الصحيحة.

وإذن، يعتمد كانط في بناء المعرفة على العقل والتجربة معاً، وعلى الرغم من أنه فيلسوف عقلي نجد أنه «رفض العقليين الذين يعطون العقل أكثر من طاقته فيقعون في الأخطاء والمغالطات» ولكي ينأى بالتفكير الفلسفي عن المغالطات والدوجماطيقية أسس المنطق (الترانسندنتالي ، وهو حسب تعريف كانط «قانون الفاهمة (المعرفة) والعقل.. من حيث هو متعلق بالموضوعات قبلياً لا كما يتعلق المنطق العام بالمعارف العقلية التجريبة أو المحضة دون تمييز» ويقصد كانط من (المنطق الترانسندنتالي) أن يكون أورجانوناً

وقانوناً للمعرفة في الوقت نفسه، وهذا «الأورجانون» هو الذي سيضبط الحدود المشروعة التي لا يمكن تجاوزها، ليكون ضابطاً للفكر وفق حدوده وتجاربه، وفي حال تجاوزها، تصبح المعرفة غير مشروعة. وعنه فإن حدود المعرفة البشرية لا تستخدم في البحث عن الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، وبهذا يصبح منطق كانط الترانسندنتالي متعهداً وظيفة الضبط والحماية من الغلط أو الخطأ في مضمون المعرفة ذاتها، لا في مجرد شكلها المنطقي الصوري. وهو المنطق نفسه الذي سيعتمد عليه في منظومته الفلسفية في الأخلاق والدين.لذا فإن معرفة الأشياء باعتبارها وعياً بها يتأسس على الوعي بالذات في أثناء ممارستها أفعالها المعرفية المختلفة. لذا كان هذا الأورجانون هو الضابط لحدود المعرفة المعتمدة على العقل والتجربة عند كانط، وهو نفسه الذي سيغير معالم الميتافيزيقا عنده، والتي حاول جاهداً تحديدها لمواجهة الإلحاد،حيث وجد كانط الميتافيزيقا عاجزة عن تقديم أي حقيقة عن قضايا: الله، والنفس، والعالم، ولهذا رفض الميتافيزيقا التقليدية السابقة عليه. ومن خلال رفضه لها فُتحت ثغرات الإلحاد في الفلسفة الكانطية، وبخاصة أن الطريقة النقدية التي اتبعها كانت ثورة منهجية في عصره.

موقف كانط من الميتافيزيقا

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد فرّق كانط «بين الظاهرة (الفينومين) والشيء في ذاته (النومين)، «منتهياً إلى أن العقل البشري محصورٌ في قدرته المعرفية على عالم الظواهر، ولا يمكن أن يعرف مجال الشيء في ذاته»

وهذه الفكرة استثمرت لاحقا من الفلسفات الناقدة للدين، حيث وظفت فلسفة كانط، على نحو مغاير لمقصوده هو نفسه؛ إذ نلاحظ أن كانط في القسم الثاني من كتابه نقد العقل المحض، والذي عنونه بـ»الديالكتيك الترانسندتالي» (الجدل المتعالي) يقف متسائلاً عن سبب نزوع العقل البشري إلى تجاوز عالم الحس والتجربة، مُذكراً بأفلاطون الذي وقف كثيراً عند نزوع العقل إلى التديُّن والتفكير فيما وراء العالم الحسي. فكانط في هذا الفصل يعترف أن هذه «المجاوزة ذات حافز طبيعي يوجد داخل كينونة العقل، وليست مجرد افتعال أو سلوك من الترف الذهني، لقد رأى أن العقل البشري عاجز عن إنتاج حقيقة فيما وراء عالم الحس، منتهياً إلى الاستحالة العقلية لتأسيس معرفي للميتافيزيقا»،

لذا سيعود في كتابه «نقد العقل العملي» إلى تأسيس الدين والميتافيزيقا على أساس أخلاقي لا أساس معرفي. لذلك كان الفكر الناقد للدين غافلاً عن فلسفته في نسقيتها وشموليتها، أي غافلاً عن النصف الآخر من فلسفته.. ذلك أن كانط اتخذ موقفين تجاه الميتافزيقا أحدهما سلبي والآخر إيجابي وهذا منهجه الدائم في النقد، تقويض الأفكار الخاطئة ثم بناء ما يراه متناسباً مع قدرة العقل البشري،وقد بدأ بالجانب السلبي بهدم قضايا الميتافيزيقا الرئيسة وبين تناقضاتها. ولا يمكن القول، عن أي ميتافيزيقا عرضت حتى الآن، إنها متحققة من حيث إن المعرفة مقصورة على عالم الحس والتجربة، وإن ما وراء الواقع لا سبيل إلى كشفه، لذلك أعلن استحالة الميتافيزيقا.» إذ إننا كائنات بشرية، وتقتصر معرفتنا على ميدان الخبرة البشرية الممكنة، ولكننا إذا حاولنا أن نتخطى حدودها، فإننا بالضرورة لا نفهم شيئاً مما نقوله أبداً « وقد حكم كانط على أن الميتافيزيقا التقليدية مستحيلة التحقق، لذلك رفض كانط أن تكون الميتافيزيقا بهذا المعنى ميتافيزيقا مشروعة لبعدها عن التجربة على الرغم من أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة.

في بحثه في مسألة الميتافيزيقا التي تشمل موضوعات: الله، النفس، الحرية، أكد كانط نقده الميتافيزيقا السابقة عليه؛ لأنها قدمت أجوبة عن موضوعات الميتافيزيقا من دون أي فحص لأداة المعرفة نفسها، أي من دون الالتزام بالقيام بفحص نقدي للعقل ذاته، ومن أجل ذلك أحال الميتافيزيقا إلى جانب أخر أكثر إيجابية من الميتافيزيقا التقليدية وهو ميتافيزيقا أخرى ممكنة عنينا بها: الميتافيزيقا النقدية. لهذا السبب رأى وجوب أن يكون ثمة معارف تأليفية قبلية، ذلك أن طبيعة العقل البشري تجعله غير مستغنٍ عنها، وأن عمله لا يقتصر البتة على مجرد تحليل الأفاهيم التي نكونها قبلياً عن الأشياء، ولا على شرحها تحليلياً بالتالي، بل إننا نريد أن نوسع معرفتنا قبلياً»

أصبح من الواضح أن كانط لا يهدف إلى تحطيم الميتافيزيقا على الإطلاق، بل أراد هدم نوع معين من الميتافيزيقا ليحل محله ميتافيزيقا أخرى، وكان وقد وجه كانط نقده لمحاولات المفكرين الذين حمَّلوا العقل ما لا يطيق في قضايا وجود الله، وخلود النفس، والعالم. لهذا فإن نقض الأدلة على وجود الله والنفس والعالم لا يدل على إنكارها فقد أراد كانط أن يلتمس للميتافيزيقا طريقاً آخر للبحث يجعلها علماً على غرار علمي الرياضيات والطبيعة، وهي طريقة فرض الفروض بطريق منظمة من أجل الوصول إلى النتائج، لذا ليس للميتافيزيقا من غاية خاصة لأبحاثها إلا الأفكار الثلاث «الله، والحرية، والخلود، هي تلك المشكلات التي يستهدف جهاز الميتافيزيقا حلها باعتبارها غايته النهائية والوحيدة»

حين يقرر كانط ذلك، فإنه لا يقوم بإحالة الميتافيزيقا كما هي إلى العقل العملي مباشرة. بل يفعل ذلك من خلال البرهان الأخلاقي التي يعده الأساس لمفهوم الدين ومن هنا تأتي أهمية مسألة الأخلاق في الكشف عن فلسفة الدين بما هي الغاية الأساسية في فلسفته، والتي من خلالها سنقف على الإيمان العقلي عند كانط لمواجهة ثغرات الإلحاد.

البرهان الأخلاقي (الإيمان العقلي)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

انتقد كانط براهين الإلحاد بطرق ليست مستنبطة من الدين، بل من خطاب العقل. إذ كيف له أن يقيم برهاناً ضد الإلحاد مبنياً على أسس دينية فيما المخاطب لا يؤمن بالدين من الأساس. اتبع كانط في مناقشته المشكلة الأخلاقية ما يتلاءم مع نزعته العقلية وفلسفته النقدية. فقد رفض الأدلة النظرية على وجود الله في أنماطها الثلاثة الرئيسة: الدليل الأنطولوجي القائم على فكرة الكائن الأكمل والدليل الكوني (الكسمولوجي) القائم على الإمكان، والدليل الفيزيائي اللاهوتي المستند على الشواهد من نظام الكون. وهكذا انتهى إلى استحالة وجود دليل نظري صحيح على إثبات وجود الله، وإلى أن العقل النظري الخالص لا يستطيع بكل إمكاناته معرفة «ما إذا كان الموجود الضروري متناهياً أو غير متناهٍ. إذ لا يوجد تناقض في تصور موجود ضروري، ولكنه متناه في الوقت نفسه، أما كون هذا الموجود الضروري هو الله اللاَّمتناهي، فمسألة لا يمكن إثباتها عن طريق التحليل التصوُّري البحت» لهذا لجأ كانط الى طريق آخر هو البرهان الأخلاقي، وقد وصف الإيمان الأخلاقي في الله بأنه مصادرة (مُسلمة) من مصادرات العقل العملي، بالإضافة إلى مصادرتين أخريين:هما الحرية والخلود، وهذا الإيمان بوصفه مصادرة «يزيد عن كونه افتراضياً، ويقل عن مجرد كونه مبدأً للأخلاقية. ففي حياتنا الأخلاقية لا يتمثل لنا وجود الله بوصفه اختياراً ممكناً، بل ينبغي التسليم به» ومع ذلك لا تستند الأخلاق الكانطية إلى الاعتقاد في الله لذلك أقام كانط لاهوتاً أخلاقياً وليس أخلاقاً لاهوتية، أي إن الأخلاق هي أساس للدين وليس العكس، ويصرح بذلك كانط قائلاً: «إن الأخلاق لا تحتاج أبداً إلى الدين بل بفضل العقل العملي المحض هي مكتفية بذاتها» وقد كان هذا التصريح لكانط هو المرتكز الأساسي الذي بنى عليه الباحثون، ثغرات الإلحاد في فلسفته. لهذا أيضاً عدّوه معادياً للأديان التاريخية. لقد أراد كانط من خلال اللاهوت الأخلاقي أن يجعل معرفتنا بالله غاية إيمانية لا معرفة نظرية، لذلك رفض أي فيزياء لاهوتية وانطلق للبرهان الأخلاقي من الأساس الغائي للطبيعة، حيث تضع الطبيعة أمام التأمل النظري للعقل معطيات وفيرة بحيث يستطيع العقل البشري من خلالها الوصول لوجود سبب عاقل للعالم. ومع ذلك فالأساس الغائي لا يجعل من الله قضية إيمانية لأن غاية العقل هنا هو تفسير الطبيعة، وليس من أجل تحقيق الواجب، وهذا ما يرفضه كانط، لذا ومن أجل أن يصبح الله قضية إيمانية لا بد من العثور عليه من خلال «مفهوم مبدع أخلاقي للعالم، لأن هذا وحده يوفر الغائية النهائية التي لا نرى أنفسنا ملتزمين بها إلا بقدر ما يتصرف وفق ما يفرضه علينا القانون الأخلاقي كغاية نهائية، وهكذا يلزمنا بها، وبالنتيجة لا يكتسب مفهوم الله تمييز اعتباره قضية إيمان في إثباتنا إلا من خلال علاقتنا بموضوع واجبنا كشرط لإمكان بلوغ الغاية النهائية لهذا الواجب» . وعليه فإن غائية الطبيعة لا تكفي وحدها للبرهنة على لاهوت من دون البرهان الاخلاقي، حيث إن الأخير يحتفظ دائما بقوته، ولأنه يبرهن على وجود الله من الناحية التي لا غنى عنها للعقل وهي الناحية العملية. وللوصول الى كائن أسمى، لم يكن علينا الاعتماد على الأساس الغائي الطبيعي للبرهان، لذلك يأتي الدور المهم للغاية الأخلاقية، والتي تستند إلى مبادئ عقلية في الأساس، تستطيع التفضيل لتفضي إلى لاهوت ما يرضي غاياتنا النهائية. أما هذه الغاية فلن تكون نهائية، إلا بوجود كائن أسمى أبدي. وهكذا يبدو لنا مفهوم مبدع واحد أسمى يجمع العلم الكلي والقدرة الكلية والحضور الكلي وأبدي يناسب اللاهوت الأخلاقي. وتبعاً لذلك الإيمان العقلي، عارض كانط النظريات الأخلاقية، التي ترى أن فكرة الخير هي دعامة الأخلاق، إذ أسس فلسفته الخلقية على مفهوم الواجب والإرادة وما يتبعهما من نتائج أخلاقية وعدّ الأخلاق هي (فكرة الواجب)، فالواجب «هو ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون. أما القانون فصفته الجوهرية تكمن في أنه كلي أي صادق في الأحوال كافة، من دون استثناء. والقانون الأخلاقي هو ذلك القانون الذي يقول لنا إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقياً إذا سيطر العقل على كل ميوله»

الواجب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لذلك يرى كانط أن الواجب هو ما أملاه العقل، والإرادة الخيرة هي التي تلبي النداء الأول وهو العقل وتبعد عن الأهواء. ونداء العقل هو نداء الواجب، وأمره هو الذي يجب أن يطاع، فالإنسان لا يكفيه أن يأتي الفعل مطابقاً لما يقضي به الواجب. ذلك أنه إذا «كان كل شيء في الطبيعة يتحرك بمقتضى قوانين، فإن الكائن العاقل هو وحده الذي يتحرك بمقتضى فكرة القانون، أي تصور القانون، وهذا يضعنا مباشرة أمام مبدأ الإرادة ». لذلك كان لابد من فعل الإرادة المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الواجب، «فالإرادة التي تعمل وفقاً للواجب هي إرادة خيّرة، بالضرورة» وبالتالي فكرة سيطرة العقل. أما صيغة هذه السيطرة فإنها تسمى، بحسب كانط، وازعاً، والوازع هنا عقلي وأخلاقي في آن. وإذ يقول كانط هنا، منذ بداية القسم الأول لـ (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) «إن من كل ما يمكن تصوره في العالم، بل خارج العالم بصورة عامة أيضا، ليس ثمة ما يمكن أن يعد خيراً من دون حدود أو قيود، اللهم إلا الإرادة الخيِّرة» إن ما يقصده كانط في هذه العبارة هو أن الإرادة الخيِّرة هي وحدها التي يمكن أن تعد خيراً في ذاته، أو خيراً مطلقاً أو خيراً غير مشروط موضحاً أكثر أن الإرادة الخيِّرة يجب أن تكون خيِّرة في كل الظروف، ومهما كانت الأحوال، فلا تكون خيّرة في ظرف، غير خيّرة في ظرف آخر. أو خيّرة كوسيلة لغاية، وشريرة كوسيلة لغاية أخرى. وهنا ينبهنا كانط على خطر الخلط بين الإرادة الخيّرة، وبين مجرد الرغبة في الخير من دون اتخاذ الوسائل المتاحة لتحقيقه. ومن هنا اتخذ الشر مفهوماً أخلاقياً مخالفاً لما تناولته التيارات الإلحادية المتعددة، إذ رأى كانط أن هبة الله الحقيقية للإنسان هي الإرادة الحرة، لذلك تكمن حرية الاختيار إما للخير وإما للشر، فإن كان شراً فليخلع الشر ويلبس الإنسان الخير، فالإنسان يكمن بداخله نزوع للشر وليس مفطوراً عليه والحرية هي مصدر كل ما هو شر أو خير فيه، وعلى ذلك فالشر ليس خبثاً، بل هو ناتج فقط من ضعف في الطبيعة الإنسانية بما فيها من خلط للدوافع الأخلاقية وغير الأخلاقيه، والتي هي أحد عوامل نزوع الإنسان للشر . وإلى هذا يرى كانط أن «حكمة الله العليّة تهيمن وتحكم الكائنات العاقلة وتصرفا بحسب مبدأ حريتهم، وأولئك الموجودات يجب أن يتحملوا مسؤولية أيّ خير أو شر يقترفونه» ذلك أن الخير والشرعند كانط موجودان في الطبيعة البشرية حيث يوجد الخير في ماهية الإنسان بينما يوجد الشر في طبعه،ولذلك وطبقاً لمبدأ تناقضات العقل الذي قال به كانط فلا ضير أن يتعايش الخير والشر معاً داخل النفس البشرية الواحدة فهما فطريان، ويخرجان من منبع واحد هو الحرية، والحرية هنا هي حرية مرتبطة بدرع الإرادة والواجب في القانون الأخلاقي فالمرء بشكل حر لا يعني سوى «أن يغير حياته إلى حياة جديدة مطابقة للواجب» فالحرية هي حركة بعث من جديد للإنسان وتغير حالته من الشر إلى الخير، هذا التغيير يتم بالخروج «من الشر ودخوله الخير، خلع للإنسان القديم ولباس للإنسان الجديد» وهنا نجد تشابهاً بين ما جاء في الكتاب المقدس وعبارة كانط. فقد جاء في الكتاب المقدس «كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضاً صورة السماوي» لكن كانط يستعملها كفكرة شمولية في حدود لاهوته الأخلاقي المؤسس على الإيمان العقلي وليس في حدود حدود الدين وحده، ومن هنا فخلاص البشر لا يوجد إلا «في القبول الأشد حميمية بالمبادئ الأخلاقية الأصيلة في صلب نواياهم، ولا يتم ذلك إلا من خلال الانتقال إلى مسلمات القداسة التي في تلك النّوايا» لذلك أضحت النية في فلسفة كانط هي المحدِّدة وليس الدافع إذا كان الإنسان خيِّراً أو شرِّيراً. ذلك أن من يعمل ضد هذا القبول ليس شهوة الحس المتهمة غالباً، بل هو ضرب من الانحراف المذنب في حق نفسه أو كما يريد المرء أن يسمي هذا الخبث، هو الخداع، والكذب، ومكر الشيطان، الذي منه دخل الشر إلى العالم، وهو انحراف كامن في كل إنسان ولا يقهر إلا بفكرة الخير الأخلاقي» ويظهر جلياً من تحليل كانط الشر والخير الدلالة على نظرته الإيمانيه وإلمامه بالكتاب المقدس، خلاف ما فهمه بعض الذين يتحدثون عن ثغرات للإلحاد، في الفلسفة الكانطية. إن ما مايريده كانط هو بعث الإنسان من جديد وتغيير حالته من حالة الشر إلى حالة الخير، فكما يبعث الإنسان في الآخرة ويتغير من حالة إلى حالة كما جاء في الكتاب المقدس، كذلك يستطيع الإنسان من منطلق حريته وإرادته أن ينشئ أخرويات متحققة في العالم الأرضي من خلال خلع الشر ولبس الخير، لذا يرى كانط في هذا الإطار أن جميع المفاهيم الأخلاقية تحتل مكانها وتستمد أصلها، قَبْلياً تماماً، في العقل نفسه. لهذا وجدناه يقول: «إن الأخلاق وهي تقوم على أساس مفهوم الإنسان من حيث هو كائن حر يلزم نفسه عن طريق عقله بقوانين غير مشروطة»

فكرة الحرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

انطلاقاً من مبدأ عقلانية الأخلاق هنا، يوصلنا كانط إلى فكرة الحرية، على أساس أنها فكرة لا يمكن فصلها أبداً عن فكرة العقل «لأن فكرة الحرية هي محور مذهب العقل الخالص – العقل النظري والعقل العملي في آن – وهو يكون، في هذا، قد مهد الطريق لتحويل سيادة العقل العملي على العقل النظري إلى علاقة عليّة جوانية» أو علاقة شرط بمشروط. وإذ يصل كانط إلى هذا يفيدنا أيضاً أن التجربة لا تفيد أبداً في عملية وضع مبادئ الأخلاق، ذلك أن القانون الأخلاقي بصفة عامة، لابد إن يكون غير ممزوج بأية إضافة غريبة لدوافع حسية، ومكتسبة من التجربة، وفي هذه الحالة سيصبح له تأثير في القلب الإنساني من طريق العقل وحده، تأثير أقوى بكثير من تأثير الدوافع الأخرى كلها، التي يمكن أن تثار في مجال التجربة لذلك يجب أن ننظر لواجباتنا «على أنها أوامر للكائن الأسمى، لأننا لا نستطيع أن نأمل في الخير الأسمى إلا استناداً إلى إرادة كاملة من الناحية الأخلاقية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نأمل في بلوغ الخير الأسمى إلا من خلال الانسجام مع هذه الإرادة» وتبعاً لذلك كان جوهر الدين عند كانط هو «التوافق مع…فكرة مشرِّع أخلاقي لجميع البشر هو بلا ريب متطابق مع الواجب» . وتقابلنا هنا مشكلة كبيرة جداً في كتابات كانط، فهو من ناحية يقرر أن واجباتنا الأخلاقية أوامر إلهية ومن ناحية أخرى يقرر أن الواجبات الأخلاقية صادقة بذاتها بالضرورة، ونابعة من الأمر المطلق للإرادة الإنسانية، على هذا الاعتراض يجيب كانط: «يجب أن ننظر إلى الأخلاقيات على أنها أوامر الكائن الأعلى لأننا لا نستطيع أن نأمل في الخير الأسمى إلا استنادا إلى إرادة كاملة من الناحية الأخلاقية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نأمل في بلوغ الخير الأسمى إلا من خلال الانسجام مع هذه الإرادة»

لذا كان المبدأ المعيّن الأعلى للإرادة، يدور بين عاملين مهمَّين، الأول:مصادرة وجود علَّة للطبيعة بأسرها، والثاني: مبدأ توافق الطبيعة، وتوافق السعادة الأخلاقية، إذاً ليس الخير الأسمى ممكناً في العالم، إلا من حيث الإقرار بأعلى للطبيعة، لذا فلو أن من الواجب تحقيق الخير الأسمى، فهو أيضاً مرتبط بوجوب الحاجة إلى افتراض إمكان هذا الخير الأسمى، ولا يتحقق هذا إلا بوجود الله، وقد أكد ذلك كانط، حين ربط ربطاً لا ينفصم افتراض هذا الوجود بالواجب، وذلك يعني أنه من الضروري أخلاقياً أن نقر بوجود الله» وهذا إقرار من كانط بأن الإقرار بوجود الله إلزام أخلاقي.

لقد كانت محاولة كانط في فلسفته الاستدلال على مشابهة قانون الأخلاق المسيحي بفكرته الناقدة للعقل المحض، بل رتب المشابهة في نقده والقانون المسيحي حتى بلغ حدّ التماثل مع اختلاف في المصطلح. فقد رأى كانط أن النية المتمثلة للقانون الأخلاقي عن احترام هي الفضيلة، وهذا هو جل الكمال الأخلاقي المقدّس الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه، وبالتالي فإن هذا الأمر يُظهر وعياً بالدوافع المزيَّفة التي هي غير أخلاقية والتي تدعو إلى اتباع ذلك القانون. وحسب كانط فإن ما يتطلبه المخلوق لتقديس ذلك القانون هو الأبدية أو التقدم إلى اللانهائي، وقد يبدو لنا أن السعادة ليست مرتبطة ضرورة بالقانون الأخلاقي، لذا كانت السعادة هي العنصر الثاني، وكان السعي لإمكان الخير الأسمى لا غنى عنه لينبع العنصر الثاني وهو السعادة، ذاك ما يبدو جلياً حين نعلم أن جميع الكائنات العاقلة في العالم كرست نفسها للقانون الأخلاقي، وهذا لأن ملكوت الله وحده هو الذي يصل إلى هذا التناغم والانسجام ما بين الطبيعة والقانون الأخلاقي. هذا مع العلم أن كلاً منهما على حده منفرداً يبدو غريباً مستغرباً متنافراً. والنتيجة التي لا مرد لها كما يقول كانط «أن الأخلاق تقود للدين» فالدين هو الغائية النهائية للقانون الأخلاقي، وعلى الرغم من هذه النتيجة التي كانت متضمنة في فلسفة كانط الأخلاقية وصرح بها إلكنّ اعتماد كانط على الأخلاق وصولاً للدين، قد فتح على فلسفته ثغرات بدعوى أن كانط مؤسس للفكر الإلحادي في الحداثة المعاصرة، لا سيما أن المغزى الذي يستند عليه كانط لكل المسائل الفلسفية التي تناولتها فلسفته راجع إلى القانون الأخلاقي وبصفة خاصة لدى تناوله مفهوم الدين.

مفهوم الدين

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

من كل ما سبق نلاحظ أن القانون الأخلاقي قادنا إلى مفهوم «الخير الأسمى» وذلك كما يقول كانط «بوصفه موضوع العقل المحض وغايته النهائية» وبناءً عليه يتضح أن جميع الأوامر الإلهية هي واجبات وليست عقوبات، ولكي يكتمل الهدف الضروري والرئيس من الخير الأسمى الذي يفرضه العقل المحض من دون تدخل، أي من الدوافع الحسية، نصل إلى نتيجة، أخرى متمثلة في المصادرة على (خلود النفس). ذلك لأن الهدف من الاكتمال الضروري والرئيس للجزء الأول من الخير الأسمى لا يمكن أن ينجز بالكامل إلا في أبدية، وهذا القانون نفسه هو الذي يقودنا مرة أخرى إلى العنصر الثاني من الخير الأسمى، وهو السعادة، وهذا يعني أن يقود ـ العقل المحض ـ إلى افتراض علة كفءٍ لهذا المعلول، أي يجب أن يطالب بوجود الله. وهنا يأتي الارتباط ضرورياً بوجوده من أجل الخير الأسمى. وقد رأى كانط أن النية المتمثلِّة في احترام القانون الأخلاقي هي الفضيلة ولذلك «فالفضيلة هي التي تستطيع أن تشكل الفكرة التي يفهمها المرء من وراء كلمة «تقوى الله التي هي النية الدينية» وهذا هو جل الكمال الأخلاقي المقدس الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه وعلى هذا الأساس لا يريد كانط توقيراً منفعلاً كسولاً للقانون الإلهي، بل يريد بالإنسان أن يصرف قواه الخاصة في مراعاة القانون الأخلاقي المؤسَّس على الواجب. وحين يؤسس كانط الدين على دعامة الأخلاق، فإنه يؤسسه في الوقت نفسه على دعامة العقل. لا على تأملات العقل النظري، بل على حاجات العقل العملي، التي هي النور الهادي الوحيد الذي يستطيع أن يرشدنا في متاهة الأفكار؛ وبالتالي فإنه هو الدعامة الوحيدة الممكنة لإقامة إيمان عقلي. فقد لاحظ كانط أن هذا الإيمان يشبع أيضاً اهتمام العقل الخالص نظراً لأنه يضمن قيام ترابط بين ملكوت الطبيعة وملكوت الحرية الأخلاقية. «حيث حرية الانسان لا تنبع من فوضوية، بل من أخلاق بإرادة حرة، كأنه يقول أنا لن أتكلم على الإلحاد، ولكن (الأخلاق المعاملة) وهذا واضح في عبارته «إنّ أصل حاجة البشر إلى الدّين لا يكمن في أيّ نوع من العبوديّة، بل في قدرتهم الرّائعة على الحريّة، وبالتّحديد حريّة المصير، حرية اقتراح غاية نهائية لوجودهم على الأرض، تليق بعقولهم، أي بقدرتهم على إعطاء قيمة، أو معنى لسيرتهم الخاصة في تدبيرأنفسهم» ومن ثمّة فالحاجة إلى الدّين لا تأتي إلى الأخلاق من الخارج بل هي «فكرة تنبع من الأخلاق، وليست أساساً لها»، وهذا الترادف الذي حكى عنه كانط والقسائم المشتركة التي تحدث عنها هي السبيل الأسمى لما يتحدث عنه الملحدون ولكن بمنهجه الأخلاقي القويم والغاية الأرقى، مصطلحات يتشدق بها العلمانيون من دون أسس منهجية، لا تدعو إلا فوضى وجدانية وإلحاد؛ والنتيجة حرب على الله، وخسائرها تفتيت الأخلاق، ولا مغنم فيها سوى انهيار مجتمعي في شتى المجالات والمناحي. لقد جاء الدين عند كانط بتلك الإرادة الحرة ليكون من أهم نتائجها غاية أسمى يراها في احترام الدين لاحترام أعظم وهو الله.. وحالئذٍ يبلغ الإنسان جل ما يبحث عنه بكامل حريته، فلا يصبح الإنسان متخلّقا لأنّه متديّن، بل الأمر بعين الضدّ، إنّه لا يصبح متديّناً إلاّ لأنّه متخلّق، أي إنه قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته. ولهذا فهو الكائن الوحيد الذي يستطيع تجاوز ثبات القوانين التي تحكم طبيعته وحياته ليصنع لنفسه عالماً جديداً هو عالم الإنسانية التي رأها كانط في الحرية، وعليه تناول كانط مسلَّمة الحرية كحلقة وصل بين مفهومين متعاليين هما الله والخلود. فقد وضع الحرية بين مسلَّمة الله والخلود، حتى تتخطى الحس عن طريق قانون السببية، وانطلاقا من ارتباط مفهوم الحرية بمفهوم السببية من ناحية ومن ناحية أخرى ارتباطه بالمفاهيم المتعالية لا بد أن نفترض «سبباً أخلاقياً للعالم هو مبدع العالم لكي نضع أمام أنفسنا غاية نهائية تتفق مع القانون الأخلاقي وبقدر ما تكون هذه الغاية النهائية ضرورية تكون ضرورية أيضا لافتراض.. أن الله موجود» .أصالة الوجود الإلهي

لقد توصل كانط الى تصور يقوم على أن قانون الطبيعة يقضي بأن لا شيء يحصل من دون سبب متعين قبلياً تعيناً كافياً، إذن فالقضية «التي تنص على أن كل سببية ليست ممكنة إلا وفقا للقوانين الطبيعية تتناقض ذاتياً في كليتها اللاَّمحدودة، ومن المحال إذن أن نسلم بهذه السببية بوصفها السببية الوحيدة. وعليه يجب التسليم بعلية يحصل بموجبها شيء من دون أن تكون تلك العلة متعينة، وذلك بصعودنا إلى أعلى بعلة أخرى متقدمة وفقا لقوانين ضرورية»لملحوظ في منهج كانط للوصول إلى فكرة سبب أسمى محدد، هي في حد ذاتها إحدى طرق دحض الإلحاد؛ إذ لا يمكن أن نستدل لملحد على وجود فكرة السبب الأسمى من خلال ما أنزل سواء من دين أو أخلاقيات الدين (أخلاق لاهوتية) لأن الملحد لا يقبلها من البداية بل يراها ميتافيزيقيا تقليدية مرفوضة لديه، بل إن منهج التدليل على وجود وجوب أخلاقي ولاهوت أخلاقي، ملزم للارتقاء لفكرة سبب أسمى محدد، هو عين الاضطرار للعقل إلى الصعود، لذا رأى كانط أن الطريقة الأخرى سيئة، أي الطريق المعاكس، بل تعد عقلاً مقلوباً»[48]. ولا ضير كيف استخدم كانط مبدأ السببية للوصول إلى الكائن الأسمى، المهم أنه وصل إليه بطرق أخرى أفضل وأقرب إلى العقل والفهم.

التمس كانط واقعية الحرية لأنها كامنة فينا على الرغم من منهجه الترانساندتالي، لذا جعل منها نقطة التوسط بين قضيتين متعاليتين هما الله وخلود النفس، لهذا كان من اللافت تماماً في هذا أن الحرية هي من بين الأفكار الثلاث الخالصة الذي يبرهن كانط على واقعيتها الموضوعية إذ يتم تصورها كفكرة ترنسندتالية من خلال نتائجها في الواقع، وبالتالي يجعل منها إمكاناً لربط فكرتين متعاليتين وفي نفس الوقت نصعد منها إلى الدين وبذلك وصل إلى مفهوم الحرية، حيث تم البرهان على حقيقته بقانون ضروري للعقل العملي، لذلك يصفها كانط بأنها تشكل «حجر الغلق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها» لذلك لا يتم الفعل الاخلاقي عند كانط إلا من خلال فكرة الحرية، وهي مفتاح الاستقلال الذاتي والإرادة. في المقابل نجد أن الضرورة الأخلاقية ذاتية، أي إنها حاجة، وليست موضوعية، بمعنى أنها هي نفسها ليست واجباً، وذلك لأنه لايمكن أن يكون هناك من واجب يقضي بافتراض وجود أي شيء، نظراً لأن هذا أمريتعلق بالاستخدام النظري للعقل، ولذلك «لا يعني التسليم بوجود الله كمصادرة أنه أساس لكل إلزام بصورة عامة، لأن هذا الأساس يقوم علي التشريع الذاتي للعقل نفسه» وهذه أخذها دعاة الإلحاد على كانط باعتبار هذا اللاهوت الأخلاقي هو لاهوت بلا شعائر وطقوس. لكنكانط كان يرمي من وراء ذلك رؤية الكائن «الإنساني لا باعتباره غاية طبيعية مثل أي كائن منظم بل بوصفه غاية أخيرة للطبيعة على الأرض »فا لإنسان هو الغاية الأولى والأخيرة للوجود بحكم العقل المفطور فيه من دون سائر الكائنات الأخرى، لذا أراد كانط تخليص الدين من كل أنطولوجيا أو ميتافيزيقا، بجعله ديناً تتحدد أهميته وضرورته من منطلق أخلاقي تمليه فكرة الواجب الكليِّ المنزَّه من كل غرض ومصلحة، لا مكان فيه للطقوس والشعائر، سعياً نحو غائية لا توجد إلا فيه وحده، محاولاً بذلك سد النقص والثغرة التفسيرية التي تنتج من مبدأ الآلية حينما يحاول تفسير الحياة ذاتها ضمن التصور الميكانيكي للكون، كما يأخذ موضعه أيضاً ضمن سعي العقل العملي لأنه يرى التجانس بين ما يقوم به من فعل أخلاقي وبين الخير الأعلى الذي لا يستطيع بلوغه في حياته القصيرة الفانية. ولعل النزعة العقلية النقدية التي اتبعها كانط في فلسفته هي التي أفضت إلى هذه النتيجة والتي بلغت أوْجَها من خلال شكل العبادة التي تحكم العلاقة بين الإنسان والله، وذلك من خلال التمييز بين دين العبادات والدين الخلقي من دون نفي للأول. لكن كانط استنكر ما جاء في إنجيل يوحنا «لا تؤمنوا إلا إذا رأيتم الآيات والعجائب» [تعجباً بقوله: «إذا أنتم لم تروا العلامات والمعجزات فلا تؤمنوا!»[وتساءل «هل الإيمان متوقف على رؤية العلامات والمعجزات وما دونهما لا يوجد إيمان» من هذا المنطلق وضع كانط تمييزاً جوهرياً بين مفهوم دين العبادات، ومفهوم الدين الخلقي المحض، إذ يرى أن في دين العبادات نجد الإنسان يتقرب إلى الله بأنه «يمكن أن يجعله سعيداً أبداً من دون أن يكون عليه بالضرورة أن يصير إنساناً أفضل» لا نبذ كانط التواكل والتمني من دون عمل، فلو كان كل شيء بالتمني لأصبح العالم خيِّراً من دون شر، لذلك يقول: «إن الله يمكن أن يجعل منه إنساناً أفضل من دون أن يكون هو ذاته شيئاً آخر ليفعله سوى أن يصلي من أجل ذلك، رُبّ صلاة لأنها تتم أمام كائن بصير بكل شيء لا تعدو أن تكون ضرباً من التمني وبذلك هو على الحقيقة لم يفعل شيئاً إذ لو كان ذلك شيئاً ينال بالتمني مجرداً لكان يكون كل إنسان خيراًهذا لا ينبغي حصر الدين في مجرد الطقوس التي ربما يكون منها الكثير مما لا يحمل على نقاء القلب وحسن النية. وهو ما شاع في الغرب الأوروبي حيث شكلت السلطة الكنسية أداة للإقطاع ومصدراً لشيوع الخرافات. وإذن العقل وحده حسب كانط هو الذي يستطيع مهما كان الإنسان كامل العقل أن يجد لذة مباشرة في إظهار مظاهر التشريف لهذا المعبود بكونه سيداً كبيراً للعالم وأن يناله من التمجيد والتعظيم والتشريف ما يليق به، ولكن ذلك اتباع لأمر مباشر منه، وذلك أيضاً «بوصفه شأناً يخص الله وليس الإنسان» ويدل كانط بمفهوم الدين الخلقي المحض وصفه هو الأصلح لدين عام للإنسانية وذلك لا يكون إلا عبر القوانين النظامية التي هي أوامر الله، لكن في الحقيقة ومن أجل أن يكون الإنسان قادراً على رؤية تلك القوانين التي تخصه والتي تعني بشأن الإنسان، فإنه يستطيع بقوانين الدين الخلقي المحض، ومن دون القوانين النظامية أن يستند إلى عقله الخاص وبذات نفسه أن يصل إلى أساس الدين والمتمثل في إرادة الله، لذلك يرى كانط حاجتنا تلك القوانين الأخلاقية المحضة التي «هي من حاجة العقل لأن يقبل بوجود قوة، بإمكانها أن تخلق المفعول التام، الممكن في عالم ما والموافق للغاية الأخلاقية النهائية» وذا يكون نهايته إلزامية بأن يكون هناك إله واحد، والذي يترتب عليه دين واحد، وهو أن يكون دين خلقي محض، وبذلك يحقق هذا الدين ما لم يحققه دين العبادات بقوانين نظاميه سواء عبر وحي خاص لواحد معين، أو عبر كتاب عام للناس، أو ليكون إيمان هذا الدين إيماناً تاريخياً وليس إيماناً عقلياً محضاً، لأنه بالإيمان العقلي المحض يستطيع الإنسان الوصول إلى فهم إرادة الإله. على أن كانط لا يرفض تماماً الوحي بل يحلله «هل هو بضاعة عقدية متناقلة بشكل وضعي وتاريخي، أو هو وحي العقل المحض لأنه أقدس ما يمكن أن يخطر على بال البشر عامة، لا يخلو أي وحي من معان عقلية صرفة ولذلك ليس المطلوب سوى الإنصات إلى ما هو عقلي في كل وحي وتخريجه بشكل مناسب لطبيعتنا الأخلاقية أي لحريتنا، «إن الإيمان الحر هو موقف أخلاقي باطني.. ولذلك لا معنى لأي عنف ديني» فما يريده كانط هو حماية الإنسان من تحويل الدين لمجرد مظهر خارجي بل يريد جوهر الدين، لأن الله كل شيء،لأنه معبود خارجي في أفق أنفسنا ومن ثم أكثر الأفكار العقلية حرية إلينا، فكانط لا يريد إبطال دين الشعائر كما ذهب بعضهم إلى ذلك ولكن يريد إيقاظ الضمير البشري لكيفية عبادة الله..أليس ما تعانيه مجتمعاتنا المعاصرة اتخاذ بعضهم الدين مظهراً وليس جوهراً، أليس سبب العنف والدكتاتورية المعاصرة، البعد عن جوهر العقل وإعماله في الدين؟

الايمان الاخلاقي الذي يدعو اليه كانت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن الإيمان الأخلاقي الذي يدعو له كانط هو إيمان التوكل وليس التواكل المؤسس على صفاء النية ونقاء القلب، إيمان الحرية لله وحده وليس إيمان الأغراض الدنيوية الذي يسميه كانط «إيمان المرتزقة»، إيمان الحرية لا العبودية، فمعنى أن يكون الإنسان حراً «لا يعني سوى أن يغير حياته إلى حياة جديدة مطابقة للواجب» لان حر ليس هو إيمان كفارة، الإيمان الحر – كما يقصده كانط – هو إيمان العقل الذي يستطيع هو وحده «أن يحررنا من شعور الذنب وذلك ليس ثمة واجب على الأرض أقدس من سيرة حسنة وفقاً لقوانين الحرية وهو موقف لا نحصل عليه بالقيود والرهبانية المسرفة بلا جدوى بل باستعمال حريتنا وطبيعتنا البشرية ولهذا يرفض كانط أن يصنف الناس كفاراً زناديق ومؤمنين. فهناك ما يطلق عليه كانط بالاستعداد للدين الخلقي، المطمور في صلب العقل البشري، ولكن ليس يعني أنّ الإيمان العقلي الحر يرفض ويتنكر للعقائد والملل وإنما كونه لا يحتاج البتة إلى شعائر حتى يقتنع به اللاّهوتيون أن ما يريده كانط هو حماية الضمير البشري من تحويل الدين إلى كهنوت، فهو لا يهدف من الإيمان الحر إلى إبطال دين الشعائر والطقوس أو دين المعتقدات ولكنه يريد إيقاظ العقل بكيفية التعامل ولذلك فالحاجة إلى الدّين لا تأتي إلى الأخلاق من الخارج بل هي فكرة تنبع من الأخلاق، وليس أساسا لها، وهذا الترادف الذي حكى عنه كانط والقسائم المشتركة التي تحدث عنها هي السبيل الأسمى لما يتحدث عنه الملحدون ولكن بمنهجه الأخلاقي القويم والغاية الأرقى.

إنّ حاجة الإنسان إلى احترام أعظم من كل أنواع الاحترام الأخرى، هو الذي يجعله يفكر من نفسه في جعل شيء ما موضوعاً للعبادة، ومن جوهر هذا الاحترام يختم كانط كتابه نقد العقل العملي بعبارة تجمع كل فلسفته الخلقية والدينية بقوله: «شيئان يشغلان الوجدان بإعجاب وإجلال يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما، السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في صدري»[62] فلا يكون الله كل شيء لأنه معبود خارجي بل لأنه أنبل فكرة في أفق أنفسنا، ومن ثم فهو أكثر الأفكار حرية إلينا ولذلك وكما بدأنا بحثنا هذا، يكون كانط من الذين صعدوا للسماء بالأخلاق، وعليه لا يمكن الحكم على كانط إلا من خلال منطق العقل وحرية التفكير اللذين يشكلان جوهر فلسفته، ذلك بأن حاجة الإنسان إلى احترام أعظم من كل أنواع الاحترام الأخرى هو الذي يجعله يفكّر في جعل شيء ما موضوعاً للعبادة. وهذا بدوره أعطى لكانط بُعداً آخر للدين مخالفاً بعض الفلاسفة .

المصادر والمراجع

-كانط: تأسيس ميتافيزيق الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، مراجعةالترجمة عبد الرحمن بدوى، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، ألمانيا، 2002، ص15

  • جمال محمد أحمد سليمان: إيمانويل كانط «أنطولوجيا الوجود،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع «بدون رقم طبعة «2009ص173
  • كانط: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة،مركز الإنماء القومي، لبنان، بدون تاريخ أو رقم طبعة ص385

-ول ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة،1988،ص 335

-كانط: مقدمة لكل ميتافيزيفا مقبلة، ترجمة نازلي إسماعيل ومحمد فتحي الشنيطي، موفم للنشر،الجزائر،الطبعةالأولى، 1991ص85

-كانط: نقد ملكة الحكم ترجمة،سعيدالغانمي،ط ١،منشوراتالجمل، ٢٠٠٩،، ص،417،416

-كانط: الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى،2012ص45.

-زكريا إبراهيم:المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، بدون تاريخ أو رقم طبعة ص167

-كانط: نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،لبنان، الطبعة الأولى،2008 ص218.

🌷هل أتزوج وأسكن مع أمي؟ 🏡

📍الأم مكانتها عظيمة، ولا تدانيها الزوجة ولا الأبناء، وحقها مقدم على كل الحقوق، وبرها سبب رضا الله، وسخطها باب من أبواب جهنم، روي عن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه كان يخشى أن يأكل مع أمه على مائدة، فقيل له في ذلك فقال: “أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتُها” وكان حيوة بن شريح- وهو أحد أئمة المسلمين- يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: “قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس ويفعل ما أمرته أمه!!”
إذا كانت الأم لوحدها فلا يجوز بحال أن يتركها ولدها ويعيش بعيدا عنها، ولا بد أن يسكن معها حتى ولو كان ذلك قد يسبب له المشاكل، والزوجة الصالحة هي التي تراعي ذلك وتحرص على بر هذه المرأة تقربا إلى ربها وإحسانا إلى زوجها.
🌷أمك هي أمك أنت، ولكنها ليست أما للآخرين، وليست أما لزوجتك، فما تراه من حنان وعطف هو يخصك أنت، ولا يخص أباك الذي هو زوجها، ولا يخص زوجتك التي هي كنتها، وهذا ما يجعل بعض الأزواج قد يظلم زوجته وينتصر لأمه إذ يقيس معاملتها له على معاملتها للآخرين.
👨‍👩‍👧‍👧حين تخطط للزواج فأنت ستحضر امرأة على امرأة، هذه تحبك وهذه تحبك، هذه تريد منك وهذه تريد منك، هذه بحاجة إليك وهذه بحاجة إليك، وهنا تستيقظ أنوثة أمك، فتنظر أحيانا إلى كنتها كما تنظر الضرة إلى ضرتها، بل قد تغار منها إذ تخلو بك، وهذا مشاهد ومتكرر، ولذلك فإن من البر أن تجنب أمك هذه المشاعر السلبية، خصوصا إذا كنت تعلم منها حدة في الخلق، أو رغبة في السيطرة.
👫 الزوجة التي ستتزوجها هي امرأة كذلك، ومن أحلام المرأة أن يكون لها بيتها 🏡 الذي تعرف كل تفاصيله وترتب كل أجزائه على ما يوافق ذوقها، فبيت المرأة جزء من كينونتها، نظافته نظافتها، وجماله جمال لها، وهو لباسها الكبير، ففطرتها ترتيب العش وتجهيزه وتنظيفه وتجميله، فإذا لم تشعر بأن العش عشها فإنها تفقد جزاء مهما من كينونتها، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية ضمنت لها مسكنا خاصا بها، ولو كان مجالا ضيقا، لكنه خاص بها، وقد كان لزوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجرات خاصة بهن، لا تتعدى الحجرة 15 متر مربع، المشكلة إذن هي أن أمك وزوجتك سيشتركان نفس المساحة وكل واحدة تشعر أن المكان مكانها، ولذلك تجد نفسك في صراعات قد تراها تافهة من مثل: لماذا وضعت هذا الشيء هنا، فتحرق بذلك أعصاب والدتك، وتدمر قلب زوجتك.
⚠️لذلك فإن من الحكمة أن تقدر الأمور بمقاديرها، وتدرك أن هذه المغامرة قد تكون سببا لسعادة أمك بوجودك إلى جانبها، وقد تكون سببا لتعاستها بكثرة ما ستجلب لها من الهم والصداع، وإن من أشد ما يقطع قلب الزوج حين يجد صراعا بين شخصين كلاهما له مكانة في قلبه، مع أن الأم لا تقارن بالزوجة، لكنه يظل حائرا ويدخل في تفاصيل كان هو وفي غنى عنها.
⚠️إذا كان لك ظرف مادي خاص، فيمكن أن تبدأ حياتك الزوجية مع والديك، وتقنع بذلك زوجتك، وتضعان سقفا زمنيا لتلك الاستضافة، وتسعى في اتخاذ أسباب الرزق، وهذا الحل أفضل من ترك الزواج، لأن الزواج في حد ذاته سبب من أسباب الغنى، مثله مثل الضرب في الأسواق.
⚠️السكن مع الأهل مغامرة لها إيجابياتها ولسبياتها، وأهم عنصر فيها هو قدرتك على السيطرة على الأمور وضبط تصرفات زوجتك، فإذا كنت لا تضمن سلامة تصرفك، ولا تضمن أخلاق زوجتك، فاحذر أن تقدم على مغامرة غير مدروسة العواقب، فإن غضبة واحدة من غضبات أمك قد تنزلك إلى درك العقوق الذي هو من السبع الموبقات.

أمكثمأمك

الجاحظ المفكر المسلم الذي اكتشف التطور قبل داروين بألف عام، وموقف العلم والدين من نظرية التطور..

في البداية انا ماحبيت ادخل في هكذا موضوع للحساسية الشديدة له من بعض القراء وخاصة المتدينين ولما له علاقة بالايمان والالحاد ،لكن كثرة الطلبات والالحاح من المتصلين بي على الخاص بعمل منشور او مقالة عن نظرية التطور وداروين وموقف الاسلام منها وهل له ذكر في تراثنا العربي والاسلامي
اجبتهم الى ذلك فماكان فيه من خير وعلم فمن الله وما كان فيه من تقصير فمن نفسي ولا ادعي اني اعطيت الموضوع حقه كاملا فالكمال لله وحده

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

تعد نظرية التطور للعالم البريطاني تشارلز داروين واحدة من أهم نظريات العصر الحديث.
فقد أحدث مفهوم تغير الأنواع تدريجيا عبر ما يسمى بالانتقاء الطبيعي ثورة في فهمنا للعالم الحي.
وفي كتابه “أصل الأنواع” الذي صدر عام 1859 أوضح داروين أن التطور أدى إلى ظهور أنواع مختلفة من أصل واحد.
ولكن يبدو أن نظرية التطور ذاتها لها أصل ايضا، ويأتي من العالم الإسلامي.

الانتقاء الطبيعي

قبل داروين بنحو ألف عام، ألف الجاحظ، الفيلسوف المسلم المقيم في العراق، واسمه الحقيقي أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري،كتابه “الحيوان” عن كيفية تغير الحيوان عبر ما سماه أيضا بالانتقاء الطبيعي.
ولد الجاحظ عام 776 ميلادية في البصرة، جنوبي العراق، في الوقت الذي زاد فيه نفوذ المعتزلة، الذين كانوا ينادون بإعمال العقل وتشجيع الفكر الإنساني.
وكان ذلك في أوج العصر العباسي، وشهدت حركة الترجمة لكبار الأعمال في الفكر والفلسفة والعلوم تترجم من اليونانية إلى العربية، وكانت البصرة تشهد نقاشات وسجالات فكرية قوية عن العلوم والفلسفة، مما ساهم في تشكيل في فكر الجاحظ وساعده على صياغة أفكاره.
وعرفت البصرة الورق عن طريق التجار القادمين من الصين، وساعد وجود الورق على نشر الأفكار ونقلها، وبدأ الجاحظ منذ نعومة أظفاره في الكتابة عن العديد من القضايا والمواضيع.
وتعددت اهتمامات الجاحظ بين الكثير من القضايا، وكان من بينها العلوم والجغرافيا والفلسفة والنحو والأدب. ويعتقد أن الجاحظ ألف نحو مائتي كتاب، لم يبق منها لعصرنا الحالي إلا نحو ثلثها.

كتاب الحيوان

يعد كتاب الحيوان للجاحظ كتابا موسوعيا يقدم معلومات موسعة عن 350 حيوانا، ويقدم فيه الجاحظ أفكارا تحمل تشابها كبيرا لنظرية داروين للتطور.
ويقول الجاحظ في كتابه إن الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى. ويرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى.
ويرى الجاحظ في كتابه الحيوان أيضا أن الحيوانات التي تبقى وتنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.
ويتضح من الكتاب إدراك الجاحظ أن الكائنات والعالم الطبيعي في صراع دائم للبقاء وأن هناك أنواع أقوى من أنواع أخرى.

وحتى تضمن البقاء، يتوجب على الحيوانات أن يكون لديها سمات تساعدها على التنافس على العثور على الطعام وعلى ألا تكون فريسة لحيوان آخر وعلى أن تتكاثر. وهذا يؤدي إلى تغيرهم من جيل إلى آخر.
وكان لفكر الجاحظ تأثير على الكثير من العلماء المسلمين الذين جاءوا بعده، حيث قرأ علماء ومفكرون مثل الفارابي والبيروني وابن خلدون أعماله.
كما يعرب محمد إقبال، “الأب الروحي” لباكستان، عن أهمية الجاحظ وتأثيره عليه في سلسلة من المحاضرات التي نشرت عام 1930، وكتب قائلا: “الجاحظ هو من أوضح التغيير الذي يحدث لحياة الحيوان بسبب الهجرة وتغيير البيئة”.

النظرية الإسلامية

وكان الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر على دراية بإسهامات العالم الإسلامي في مجال التطور. في واقع الحال، كان العالم ريتشارد دريبر، المعاصر لداروين، يتحدث عن “النظرية المحمدية للتطور” عام 1878.
ولا يوجد دليل على أن داروين ذاته كان على دراية بأعمال الجاحظ أو أنه كان يفهم اللغة العربي لاحظ داروين وجود تنوع في شكل المنقار لدى طائر الحسون اثناء رحلته البحثية الشهيرة لجزر غالاباغوس
ولكن ذلك لن يؤثر على مكانة داروين كعالم أمضى أعواما في السفر لبحث العالم الطبيعي وتأمله ودراسته التي زضعها بتفصيل غير مسبوق وبوضوح قادر على تغيير كيفية تفكيرنا عن العالم.
ولكن الصحفي العلمي إحسان مسعود، الذي أعد سلسلة لراديو بي بي سي بعنوان “الإسلام والعلوم”، يقول إن من المهم تذكر الآخرين الذين ساهموا في فكر التطور.

نظرية داروين

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

نظرية داروِن هي في الأساس نظرية علمية اعتمدت علي المنهج العلمى في البحث واستعان صاحب النظرية بنخبة من أساتذة التاريخ الطبيعي وعلماء الأحياء والنبات والجيولوجيا والحفريات لصياغة الصورة النهائية لكتاب أصل الأنواع والانتخاب الطبيعي بعد أن أستغرق دأبه في البحث العلمي فترة زمنية جاوزت ٢٨ عاماً. وكان الهدف منها أعطاء تفسير علمي لهذا الكم الهائل من التنوع والتشابه والاختلاف في الكائنات الحية و نشأتها، و تأثير المتغيرات البيئية علي تطوّرها عبر ملايين السنين..!! بعيداً عن الفكرة العقائدية والدينية لنشأة الخلق…!! ولم يكن الغرض منها تحدي الخالق أو مواجهة الأديان الإبراهيمية. إنما هي نظرية علمية عقلية، مثلها مثل أي نظرية معروفة

وقبل الخوض في نظرية التطور الداروينية يجب علينا ان نسلم بالحقائق التالية :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

١- أنه لا توجد حتي الأن نظرية علمية قائمة علي قواعد راسخة او تفسير عقلاني ومنطقي تستطيع الصمود أمام رزانة النظرية الدارونية في تفسير نشأة المخلوقات وتنوعها! وإذا وجد تفسير أخر عقلاني ومقنع قائم علي الأدلة والشواهد، أقول هاتوا برهانكم ان كُنتُم صادقين…!
٢- الهجوم علي نظرية دارون هجوم ديني وسياسي وإعلامي ليس قائماُ على الأدلّة والبحث العلمي.
٣- التطوّر مستمر والتغيّر الى الأفضل والأحسن مواكبة للبيئة حقيقة واقعة لا بد التعايش معها.
٤- اذا كانت الأمة الأسلامية ذات المليار ونصف المليار مسلم بمتدينيها ومثقفيها وجامعاتها لا تعترف بنظرية داروِن، فهذا لا يغير من الواقع شيئاً. فنظرية داروِن التطورية فرضت نفسها في الدول التي أثرتنا بإنجازاتها واختراعاتها. وتُحظى النظرية بقبول شبه تام في المجتمع العلمي بعدما أيّدتها حزمة واسعة من البراهين والاكتشافات العلمية الدقيقة كعلم “الجينوم” (الخارطةالجينية). بل في ٢٠٠٩ أحتفلت عديد من المؤسسات الجامعية والهيئات الثقافية والعلمية في أمريكاوكندا وأوروبا وأستراليا بمرور قرنين على ميلاد عالم الأحياء تشارلز دارون (١٨٠٩-١٨٨٢)، مؤسس النظرية، والتي تتزامن مع الذكرى ١٥٠ عام لصدور كتابه (أصل الأنواع، ١٨٥٩) المثير للجدل، والذي أحدث ثورةً في فهم الانسان لعلوم الحياة ونشأة الأجناس وتطورها على الارض. كما خَصَّصَت متاحفُ التاريخ الطبيعي في لندن ونيويورك وواشنطن قاعات ضخمة لشرح التطور البيولوجي وآلياته وتسليط مزيد من الضوء على التراث العلمي لهذا الرجل…!!!

بداية التفكير في أصل و نشأة المخلوقات الحية

طاليس Thales ابو الفلسفة اليونانية في ٥٤٠ قبل الميلاد أوّل من أفترض أصلاً واحداً للحياة إذ قال ان مياه البحر هي الأم التي نشأت منها كل أنواع الحياة.

تلميذ طاليس أناكسمندر هو أول من ذكر ان الحياة نشأت من الطين وتفاعل العناصر الرطبة في جوفها نتيجة تأثير الشمس وتولدت منها اسماك شوكية انبثقت منها مخلوقات جديدة تطور منها الإنسان فيما بعد

أرسطو، في ٣٤٠، قبل الميلاد يقول بأن الحياة قد بدأت بالنباتات وتطورت الي النباتات الحيوانية ثم تطورت تدريجيا وببطء الي الانسان.

لعل الكاتب العربي أبو علي أحمد بن مسكويه في زمن الدولة البويهية (توفى ٤٢١هـ) هو أول من أستخدم عبارة النشوء والإرتقاء..يقول في كتابة (الفوز الأصغر) أن الانسان ناشئ من آخر سلسلة البهائم، وأنه قابل للأرتقاء من مراتب القرود وأشباهها التي قاربت الأنسان في خلقته وليس بينها الا اليسير الذى اذا تجاوزه صار إنساناً. ونحن بعد مرور عشرة قرون علي هذة الكتابات نهاجم دارون بسبب تصوره لصلة الأنسان بالقرود…!!

كما شرح في كتاب (تهذيب الأخلاق) تأثير البيئة والطبيعة في تطور ذكاء القرود والمجتمعات البدائية الي أن تصل الي الإنسان المتحضر.

كما أورد إخوان الصفا (في الرسالة العاشرة) مبادئ أولية ومصطلحات مثل: الوراثة، الانتخاب الطبيعي، الإنقراض..وكوّنوا سليلة من التطور تمتد من الجماد والنبات الي الحيوان

وذكر ابن خلدون ( توفي ٨٠٨ هـ) في المقدمة الثالثة، ص ٦٩، ان لون الجلد يتعلق بالمناخ وكمية الضوء وان السودان اختصوا باللون الأسود لحرارة الجو وليس كما جاء في التوراة عن انهم ولد حام الذي دعا علية أبوه نوح بالعبودية..!!

وذكر الجاحظ في كتاب (الحيوان) عن استخلاص سلالات من سلالات وظهور انواع جديدة عبر التزاوج.!!

كان لامارك ( Lamarck ) هو أول إنسان أثارت أستنتاجاته عن وجود قوانين بيولوجية وبيئية تسبب التغير في عالم الأحياء وليست نتيجة تدخل أعجازي.. نشر أراءه عام ١٨٠٩ في كتابه الفلسفة الحيوانية ..ولكن أخطأ في استنتاجه بأن الصفات المكتسبة اثناء الحياة بسبب ضغوط البيئة هي التي يمكن توريثها للذرية… وهذا طبعاً غير حقيقي لأن المسلمين واليهود رغم مئات الأجيال من عملية ختان الذكور لم ننجح في إنتاج أطفال لا يحتاجون الي ختان… “لامارك” لم يفترض وجود عامل داخلي ومحرك أساسي لتغير الصفات وتحويل الأنواع الحية.. ألا وهي الجينات..!!

نظرية التطور في ضوء القرآن وفهم السلف

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يظن كثير من الناس أن داروين هو أول من قال بنظرية التطور، حتى نسبت النظرية إليه، فيقال:” النظرية الداروينية”، وعرف أتباع هذه النظرية بالداوريين، وهم قوم طورا نظرية التطور، وتعدوا ما قاله أستاذهم داروين، وقد سبق داروين اليوناييون وغيرهم.
وتتلخص نظرية الداروين في أن الإنسان والقرد من أصل واحد، وهي تتلخص عنه في نقاط أربعة هي:
1- الارتقاء2 – النشوء3 – البقاء للأقوى4 – الانتخاب الطبيعي
على أن نظرية التطور التي قال بها داروين لم تقف عند هذا الحد، فداروين لم يكفر بالله، فقد كان يهوديا يداهن الكنيسة، لكن نظريته أدت إلى الإلحاد واستند عليها كثير من الملحدين في الخروج عن الدين بالكلية.
كما أن داروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد، بل قالها العالم ( هيقل)، وهو الذي أدخلها في النظرية الدارونية عام 1868م.
وقد استند عليها ماركس في إنكار وجود الله، وذلك بناء على مادية داورين.
كما تأثر كثير من المفكرين في نظريات متعددة بنظرية داورين، وبنيت عليها نظريات كثيرة جدا كانت لها مساحة في الفكر الإنساني ، مثل: نظرية ماركس في المادية، وأن الحياة قائمة على الغذاء والسكن والجنس، وعليها قائمة نظرية فرويد في التحليل النفسي، باعتبار الإنسان حيوان جنسي، وكذلك نظرية برجسون في الروحية الحديثة، ونظرية سارتر في الوجودية، وقد أدخلها هربت سبنسر إلى مجال علم الاجتماع، بل تعدت نظرية داورن إلى المجال السياسي واحتلال الدول العظمى للدول الضعيفة بناء على ما أصله دارون بأن البقاء للأقوى، وأن الحياة قائمة على الصراع، وأن هذا أمر طبيعي في هذا الكون!
ومع كل هذه الشهرة فقد انتقدت نظرية داروين من قبل كثير من العلماء، مثل: (آغاسير) في إنجلترا، و(أوين في أمريكا)، ووصفوا نظريته بالخرافة العلمية، كما وصفها العالم (كريسي موريسون) بالجهل، ووصفها ( أنتوني ستاندن) صاحب كتاب العلم بقرة مقدسة بالعجز، وغيرهم كثير.
الصحابة يناقشون نظرية التطور:
لكن من اللافت للنظر أنه قبل أن يقول داروين نظريته بألف ومائتي عام ناقش بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرية التطور، لكنها عكس نظرية داروين، فقد ظن بعضهم أن القردة أصلها إنسان، فقد سأل الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل القردة والخنازير الموجودون هم من نسل من مسخ من بني إسرائيل، فأجابهم بالنفي، وذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: إن الله لم يهلك قوما [أو يعذب قوما] فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك». (مسلم)
وصرح غير واحد من فقهاء الإسلام، كالنووي وابن حجر وغيرهما أن القردة والخنازير كانت موجودة قبل زمن المسخ، فيقول:
قوله صلى الله عليه وسلم (وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك) أي قبل مسخ بني إسرائيل فدل على أنها ليست من المسخ” ( شرح النووي على مسلم (16/ 214)، و فتح الباري لابن حجر (6/ 353)،
القردة في القرآن:
وهذا المعنى يشير القرآن الكريم إليه في نفي نظرية داروين، وهي أن مجموعة من بني إسرائيل والمعروفون بأصحاب السبت ممن عصوا الله تعالى مسخوا قردة ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وفي موضع آخر: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].
بل المسخ لم يقف عند حدود القردة، بل تعداها أيضا إلى الخنازير، كما قال تعالى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60].
بل يصرح القرآن الكريم أن الله تعالى خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 75، 76]
بل إن إبليس رغم عداوته لآدم عليه السلام لا يقول بنظرية التطور، بل يقر بأمرين:
الأول: أن آدم مخلوق خلقه الله تعالى، وأنه خلق مستقل.
الثاني: أنه مخلوق من طين.
ومن العجيب أن هذا التخبط العلمي عاش ملايين من البشر فيه في تخبط عشواء يبحثون عن الحقيقة، والحق أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر أمة، والقردة أمة، والخنازير أمة ، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام: 38].
فالقرآن والسنة يجيبان عن الأسئلة الفلسفية الوجودية الكبيرة، وإن المسلم العامي يستطيع أن يجيب عن تلك الأسئلة الكبرى التي حار فيها كثير من الفلاسفة، ويبقى القرآن كتب المعرفة الإنسانية، وتبقى السنة شارحة لهذا الكتاب الخالد.

الاعتراضات على نظرية التطور ونقضها

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الاعتراضات على نظرية التطور

منذ برزت الأفكار التطورية في القرن ال19 عندما نشر تشارلز داروين نظريته حول التطور في كتابه أصل الأنواع عام 1859، والفكرة أن الأنواع نشأت من خلال التوريث مع التعديل من سلف واحد مشترك في عملية يقودها الانتقاء الطبيعي إضافة إلى النظريات التي طرحها لامارك، فصادفت اعتراضات مختلفة على أسس علمية وسياسية ودينية، وأبرزها تلك الاعتراضات التي قادها جورج كوفييه الذي دافع عن الخلق المباشر، و ريتشارد أوين، واستمر خلال القرن العشرين الانتقادات من علماء مختصين وغير مختصين يقودهم دعاة التصميم الذكي القائلين أن بعض الميزات في الكون عموما وفي الكائنات الحية خصوصًا من وراءها مصمم ذكي، ويرى المنتقدون أن النظرية بنيت منذ بدايتها على أمرين هما الأدلة الافتراضية وذاك ما اعترف به تشارلز داروين بأنها غير موجودة بالفعل، والأمر الثاني من الأدلة الخاطئة مثل توريث الصفات الجسدية المكتسبة وغيرها، وقد أشار داروين في الفصل السادس من كتابه أصل الأنواع الذي عنونه بصعوبة النظرية ومن ذلك الغياب التام للحفريات الوسطية أو البينية أو الانتقالية بين الأنواع، ولا يعني ذلك إيجاد حفرية أو اثنتين بل من المفترض إيجاد الكثير من الحفريات، يقول داروين في حيرة وشك:

إذا كانت الأنواع قد انحدرت من أنواع أخرى عن طريق التسلسل الدقيق، فلماذا لا نرى في كل مكان أعدادا لا حصر لها من الأشكال الانتقالية؟ لماذا لا تكون الطبيعة كلها في حالة اختلاط بدلا من أن تكون الأنواع كما نراها محددة تحديدا واضحا؟ ولكن وفقا لما ورد في هذه النظرية، ينبغي أن يكون هناك عدد لانهائي من الأشكال الانتقالية… لماذا إذن لا نعثر عليها مطمورة بأعداد لا تعد ولا تحصى في قشرة الأرض؟ لماذا لا نجد الآن في المنطقة المتوسطة، التي تتسم بظروف حياتية متوسطة، أنواع متوسطة تربط بصفة دقيقة الأشكال البدائية بالأشكال المتقدمة؟…لقد حيرتني هذه الصعوبة منذ فترة طويلة من الوقت[

إن المشكلة الأساسية في إثبات النظرية تكمن في سجل المتحجرات أي آثار الكائنات الحية المحفوظة في التكوينات الجغرافية للأرض، فلم يكشف هذا السجل قط آثارا للأشكال المتوسطة التي افترضها داروين، وعوضا عن ذلك تظهر الأجناس وتختفي فجأة، ويدعم هذا الشذوذ حجة دعاة الخلق بأن الأنواع قد خلقها الله، كما أن الأدلة العلمية الأولية التي ارتكز عليها تشكيل وبناء التأريخ التطوري للإنسان هي مجموعة صغيرة من العظام، شبّه أحد الأنثروبولوجيين هذه المهمة بتلك التي تعيد بناء سيناريو السلم والحرب اعتمادا على 13 صفحة مختارة عشوائيا[6]، فلم يعد هناك أي مجال للاعتذار بفقر المتحجرات، إذ أصبحت هذه المتحجرات غنية إلى درجة أصبح من الصعب فرزها وتصنيفها، وأصبح الاكتشاف يسبق عمليات التوحيد والدمج، ومع ذلك فإن سجل المتحجرات لا يزال يحتوي على فجوات كبيرةولا يصح ما يعتقد البعض أن الحفريات توفر جزءا هاما من الحجة العامة لصالح التفسيرات الداروينية في تاريخ الحياة

الاستدلال الدائري

يعتقد المنتقدين أنه ليس هناك حفريات تدعم نظرية التطور بل مجرد استخدام لمغالطات الاستدلال الدائري بمعنى عكس وضع الدليل والنتيجة، حيث لا يصير الدليل هو الذي يقود إلى النتيجة كما في كل النظريات العلمية، ولكن يصير التطور أن تضع النتيجة أولا كنظرية مفروغ منها ثم يتم وضع أي أدلة أخرى، بدءا من الأدلة المزعومة في الحفريات ووصولا إلى الأدلة التي يستغل فيها اليوم علم الجينوم وارتقاء الاكتشافات المتوالية فيه خطوة بخطوة، حيث يتم أيضا استغلال الأعضاء ووظيفتها لصالح التفسير الصدفي التطوري العشوائي، كما حصل في القرن التاسع عشر عندما وضع أحد علماء الداروينية قائمة فيها حوالي 86 عضوا ضامرا أو آثريا على صحة التطور وهو يجهل وظيفتهم في الكائن الحي، ثم مع توالي الاكتشافات العلمية والتشريحية لم يتبقى من هذه القائمة عضو واحد ليس له فائدة بعكس ما افترض مؤيدوا نظرية التطور أنها من بقايا التطور وأنه ليس لها فائدة في جسم الإنسان، وكان من تلك القائمة الغدد الصماء قبل معرفة الهرمونات إلى آخر ذلك مما يعول عليه لجعل النتيجة أولا كحقيقة مفروغ منها ثم تفسير أي شيء على أنه تطور، فاتباع هذا الأسلوب لا يصح لإثبات صحة النظريات بل العكس هو الصحيح أي الدليل ثم النتيجة، فنظرية التطور لم تقدم شيئا للعلم ووصفت بأنها أكبر خدعة في تاريخ العلوم فالخطأ المنهجي في نظرية التطور في الالتجاء لمغالطة المصادرة على المطلوب، وذلك يجعل المطلوب إثباته أو النتيجة المرجو الوصول إليها هي التطور، ومقدماته أو إحداها التي يجب الاستدلال عليها هي التشابه شيئا واحدا، والمغالطة المنطقية تحصل هنا حينما يتم افتراض صحة النتيجة التي يراد البرهنة عليها في المقدمات سواء بشكل صريح أو ضمني، وحين يتم الاستدلال بالنتيجة المرجو الوصول إليها كحقيقة أولية لبناء هكذا افتراض. ولهذا فالتطور يقوم على التلفيق لإثبات صحته من بين كل العلوم والنظريات المحترمة، ولعل حادثة العثور على ضرس واحد فقط وعلى الفور تم جعل هذا الضرس دليلا على الحلقة المفقودة في تطور الإنسان وسلفه الماضي غير الموجود أصلا فأسموه رجل نيبراسكا، ثم بعد ذلك اتضح أن الضرس كان لخنزير أمريكي بري منقرض. أو مثل تلك الحادثة الأخرى عن عثورهم على جزء صغير من جمجمة والتي على الفور تم جعلها تمثل سلف الإنسان أيضا فسموه ساعتها رجل أورك ثم تبين بعد ذلك ان الجمجمة لحمار. أو تلك العظمة الأخرى التي عثر عليها ثم جعلت ترقوة لسلف الانسان فتبين بعد ذلك أنها جزء من ضلع دولفين، فيعلق على هذه الواقعة أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا تيم وايت فيقول «المشكلة مع الكثير من علماء الأنثروبولوجيا هي رغبتهم الملحة لإيجاد أسلاف الإنسان، لذلك فإن أي شظايا من العظام تصبح عظاما لأسلاف» فهذه بعينها هي مغالطة الاستدلال الدائري، التي يعتمد عليها كل التطور من أيام داروين إلى يومنا هذا، وكما اعترف بذلك العالم التطوري رونالد ويست عندما قال: «على عكس ما يكتبه معظم العلماء فإن سجل الأحافير لا يدعم نظرية داروين، لأننا نستخدم تلك النظرية لتفسير السجلات الحفرية، ولذلك فنحن مذنبون في الاستدلال الدائري حين نقول أن السجل الأحفوري يدعم هذه النظرية» فلو صح التطور لامتلأت الأرض بمليارات من حفريات الكائنات الوسيطية أو البينية بين الأنواع المختلفة أثناء تطورها ببطء عبر الزمن، وتتجلى فيها أخطاء العشوائية والتخبط الذي من المفترض أن يعمل التطور عليه وانتقائه، لكن هذا ما لم يحدث تماما كما اشتكى داروين وإلى اليوم.[بحاجة لمصدر]

حفريات تخالف نظرية التطور

آثار أقدام إنسان عصري عمرها 3.6 مليون سنة التي عثر عليها سنة 1977 في منطقة بتنزانيا، ولقد عثر على هذه الآثار في إحدى طبقات الأرض التي قُدر عمرها بنحو 3.6 مليون سنة، والأهم من ذلك أن هذه الآثار لم تكن تختلف عن آثار الأقدام التي يخلفها الإنسان العصري، وقد تمت دراسة هذه الآثار من قبل عدد من علماء علم مستحاثات البشر فجاءت النتائج أنه من دون شك أن هذه الآثار تشبه آثار أقدام الإنسان العصري، فلا تتميز عن آثار الإنسان في عصرنا، فقوس القدم مرتفع وإصبع القدم الكبير ضخم ومحاذ للإصبع الثاني، وتقبض أصابع القدم على الأرض مثلما تقبض عليها أصابع الإنسان الذي لا يرى في أشكال الحيوانات الأخرى، وقد أظهرت الدراسات التي أجريت على البنية الشكلية لآثار الأقدام مرارا وتكرارا أنه كان يجب أن تقبل بوصفها آثار أقدام الإنسان، بل أكثر من ذلك إنها آثار أقدام إنسان عصري (إنسان اليوم العاقل)، فبعد فحص هذه الآثار تبين أنها تعود لأقدام إنسان عاقل (هومو سابينز)[بحاجة لمصدر] . و من بين كل السمات الشكلية القابلة للتمييز لا يمكن التمييز بين أقدام الأفراد الذين خلقوا هذه الآثار وبين أقدام الإنسان العصري، وقد كشفت الدراسات المحايدة التي أجريت على آثار الأقدام عن أصحابها الحقيقيين، فآثار الأقدام هذه قد تكونت من عشرين أثرا متحجرا لإنسان عصري في العاشرة من عمره وعشرين أثرا لإنسان أصغر عمرا، فقد كانوا أناسا عاديين مثلنا، لقد كانت هذه الآثار مركزا للمناقشات لسنين، وقام علماء علم مستحاثات البشر من أنصار نظرية التطور بمحاولات لإيجاد تفسير للموقف لأنه كان من الصعب عليهم أن يقبلوا حقيقة أن إنسانا عصريا كان يمشي على ظهر الأرض قبل 3.6 مليون سنة، وخلال عقد التسعينات من القرن العشرين بدأ هذا التفسير يتبلور، إذ قرر دعاة نظرية التطور أن آثار الأقدام هذه كان يجب أن تكون من مخلفات القرد الجنوبي، فحسبما الورد في نظرية التطور يستحيل أن يوجد إنسان عاقل قبل 3.6 مليون سنة، واعترف بعضهم أنه في المجمل تشبه آثار الأقدام البالغة من العمر 3.5 مليون سنة والتي عثر عليها في الموقع G بمنطقة لاتولي آثار الأقدام المعتادة لإنسان عصري لا ينتعل حذاء، ولا توحي أي من سماتها أن كائنات المنطقة الشبيهة بالبشر كانت حيونات ثنائية القدمين أقل قدرة منا، ولو لم يكن معروفًا أن آثار الأقدام الموقع G قديمة جدا لاستنتج أنها تعود إلى فرد من أفراد الجنس الإنساني، ولكن حسب ادعاء الداروينية بسبب مشكلة العمر فيضطر إلى افتراض أن هذه الآثار تعود لمخلوق من نوع لوسي أي من نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس. فمن غير الممكن أن تكون آثار الأقدام هذه التي يفترض عمرها 3.6 مليون سنة خاصة بقرد جنوبي، وكان السبب الوحيد الذي دعى إلى الاعتقاد بأن آثار الأقدام قد تخلفت عن قرد جنوبي هو الطبقة البركانية البالغة من العمر 3.6 مليون سنة التي عُثر فيها على آثار الأقدام، وقد نسبت الآثار إلى قرد جنوبي على افتراض أن البشر ليس من الممكن أن يكونوا قد عاشوا في مثل هذا العصر المبكر، وتبين لنا التأويلات بآثار الأقدام أن دعاة التطور لا يدافعون عن نظريتهم عن طريق دراسة الاكتشافات العلمية، بل رغمًا عنها، وهذه الحالة تبين نظرية يتم الدفاع عنها بغض النظر عن أي شيء، مع إهمال أو تشويه كل المكتشفات الجديدة التي تعارض النظرية لخدمة أغراضها فتم الإبقاء على النظرية رغم الملاحظة العلمية المخالفة لها..

اكتشاف كوخ يعود تاريخه إلى 1.7 مليون سنة عُثر عليه في أوائل السبعينات في منطقة في جورجيا، ففي هذه المنطقة في الطبقة الثانية من طبقات الأرض اكتشف أن أنواع القرد الجنوبي والإنسان القادر على استخدام الأدوات والإنسان منتصب القامة كانت تعيش معًا في نفس الفترة الزمنية، والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو البناء الذي عثر عليه في المنطقة نفسها، عُثر على بقايا كوخ خشبي، ويتمثل الجانب غير العادي في هذا الحدث في أن هذا البناء الذي لا يزال يستخدم في بعض أجزاء من أفريقيا ما كان يمكن لأحد بناءه غير الإنسان العاقل، ووفقا لما توصل إليه مكتشفوه فلابد أن يكون القرد الجنوبي والإنسان القادر على استخدام الأدوات والإنسان منتصب القامة والإنسان العصري قد عاشوا معًا قبل نحو 1.7 مليون سنة تقريبًا

اكتشاف عظمة بشرية تعود ل 1.84 مليون سنة، والعظمة عبارة عن خنصر في اليد اليسرى لإنسان عادي، والعظمة تتطابق مع عظام البشر الحاليين بشكل كبير ولا يمكن نسبها إلى أسلاف البشر. هذا الاكتشاف الذي سيشكل صدمة لأنصار نظرية التطور، ويعارض رواية أسلاف البشر وتطورهم، فالإنسان القديم هو نفسه الإنسان الحالي بكامل تميزه عن غيره من القرود.

حفرية ساحلنثروباس تشادينسيز وهي عبارة عن جمجمة اكتشفت في التشاد بوسط أفريقيا في صيف 2002 بعمر يصل إلى 7 مليون سنة، وتشبه الإنسان الحالي، وتعد أقدم عضو في العائلة البشرية، وتبين الجمجمة بشكل حاسم أن الفكرة القديمة المتصلة بالحلقة المفقودة ما هي إلا افتراضات لا قيمة لها، ولا بد أن يكون جليًا أن لب فكرة الحلقة المفقودة الذي كان موضع شك، لا يمكن التمسك به مطلقًا بعد هذه الحفرية وحتى بعض مؤيدي نظرية التطور اعترفوا أن هذه الجمجمة المكتشفة يمكن ان تقضي على أفكارهم بشأن تطور الإنسان، وأن لهذا الاكتشاف أثر قنبلة نووية صغيرة.

مستحاثات ديناصورات من 20 إلى 40 ألف سنة، كانت بدايتها منذ 1997 عندما تم العثور على بقايا بروتينات دم في عظام ديناصور المفترض أنه انقرض منذ 65 إلى 80 مليون سنة حسب الرواية الداروينية ثم تكرر الأمر في 2002 بالعثور على أنسجة مرنة ولينة في بقايا عظام الديناصورات وظلت الصدمة مهيمنة وتواصل الحديث عنها في المجلات العلمية من الحين لآخر في محاولة لتصعيدها على السطح مرة أخرى لغرابة التكتيم عليها، وتم تقديم 20 عينة من حفريات لديناصورات مختلفة تم فحصها بطرق معينة من الكربون-14 المشع، فأثبتت أن أعمارها ما بين 22 إلى 40 ألف سنة فقط، وقدمت كل هذه الحقائق سنة 2013.

اكتشاف حفرية في إسبانيا سنة 1995 من قبل ثلاثة علماء متخصصين في الأنثروبولوجيا القديمة، والحفرية عبارة عن وجه صبي في الحادية عشر من عمره كان يبدو مثل الإنسان العصري تمامًا، على الرغم من مرور 800 ألف سنة على وفاته أي أقدم من 200 الف التي قدر التطوريون عمر ظهور الإنسان، الأمر الذي أدهش علماء الحفريات

تزوير الحفريات لتثبيت النظرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إنسان بلتداون

سمكة سيلاكانث وهي السمكة التي رأى مؤيدوا نظرية التطور في حفرياتها جسمها الممتليء وبقايا أعضاء داخلية ظنوا أنها مثل البرمائيات، وكذلك رأو زعانفها الكبيرة فتخيلوا أنها هي جد البرمائيات التي انتقلت بالأسماك إلى البر، فقالوا أنها منقرضة لأنه لم يراها أحد حية إلى اليوم وأنها عاشت مند 70 مليون سنة وأنها كانت تعيش قرب سطح الماء لكي يسهل عليها القفز إلى البر فجعلوها إحدى أدلة نظرية التطور، لكن ذلك لم يكن صحيحا ففي 22 ديسمبر من سنة 1938 حيث مع تطور أدوات الغوص والصيد في أعماق البحار والمحيطات تم اصطياد أول سمكة من هذا النوع ليتأكدوا بأنها لا زالت حية إلى اليوم، أي لم تنقرض أصلا، ولكنها تعيش في الأعماق ولذلك لم يكن يراها أحد إلى ذلك الوقت، وأن أعضائها الداخلية ليست مثل البرمائيات، ثم توالت عشرات الاصطيادات لها حول العالم، حتى أن أحد من انخدع بها في البداية وهو عالم الكيمياء التطوري جي سميث وهو الرئيس الشرفي لمتاحف أسماك جنوب إنجلترا الذي قال:«إن العثور على سمكة كويلامانث حية هو مثل العثور على ديناصور في الشارع»

أحفورة إنسان بلتداون فقد ادعى مؤيدوا نظرية التطور العثور على عظمة فك وجزء من جمجمة داخل حفرة بإنجلترا، وأن عظمة فكها أشبه بفك القرد، والأسنان والجمجمة كانتا أشبه بأسنان وجمجمة الإنسان، وزعموا أن عمرها أكثر من أربعين ألف سنة، فأعدت لها رسومات وتأويلات، وقدموها بوصفها دليلا مهما على تطور الإنسان وأنها اكتشاف مذهل عن الإنسان البدائي. وفي سنة 1949 حاول علماء المتحجرات البريطانيين تجربة طريقة اختبار الفلور لتحديد تاريخ المتحجرة، فأجري الاختبار على متحجرة إنسان بلتداون، فكانت النتيجة أن عظمة الفك لا تحتوي على أي فلور ويدل هذا على أنها لم تظل مدفونة في الأرض لأكثر من بضع سنين، أما الجمجمة التي احتوت على مقدار ضئيل من الفلور فقد تبين أن عمرها لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين، كما اتضح أن الأسنان الموجودة في عظمة الفك تنتمي إلى الأورانجوتان قد تآكلت اصطناعيا، وأن الأدوات البدائية المكتشفة مع المتحجرات هي مجرد أدوات بسيطة مقلدة شحذت بواسطة أدوات فولاذية[46]، وبالتحليل المفصل كشف هذا التزوير للجمهور بعد 40 سنة وذلك سنة 1953، فالجمجمة تخص إنسانا عمره نحو خمسمائة سنة في حين كانت عظمة الفك السفلي تخص قردا مات مؤخرا، وقد تم ترتيب الأسنان على نحو خاص في شكل صف ثم اضيفت إلى الفك وتم حشو المفاصيل لكي يبدو الفك شبيها بفك الإنسان، وبعد ذلك تم تلطيخ كل هذه القطع بثنائي كرومات البوتاسيوم لإكسابها مظهرا عتيقا، ثم بدأت هذه اللطخ بالاختفاء عند غمسها في الحمض، فقد ظهرت الأدلة على حدوث كشط صناعي فكانت الأدلة واضحة على زيفها.

حفرية الروديستوس التي زعم أنها الحلقة الوسطى المفقودة ذات الأرجل والزعانف لتطور الحوت كما قال مكتشفها فيليب جنجريتش وهو مدير متحف الحفريات بجامعة ميشيغان بأمريكا، ففي مقابلة أجراها معه بصفته مكتشف الحفرية، كانت المفاجأة أن من أجراها معه لم يجد هيكل حفرية الروديستوس الموجود بالمتحف ولا الزعنفة الخلفية التي في الرسم، ولا الزعنفتين الأماميتين مثل الحيتان وكما رسمها جنكريخ أيضا، فسأله عن السبب فرد بأنهم وجدوا أطرافه الأمامية واليدين والذراعين الأماميين للروديستوس، وأنهم يتفهمون أنه لا يملك هذا النوع من الأذرع التي يمكن أن تنتشر مثل الزعانف التي في الحيتان حيث اعترف جنجريخ بأخطاء أخرى متعمدة في باقي الحفريات لتطور الحوت فعلق قائلا: «باسم داروين، لقد أضاف العلماء ذيل الحوت إلى حيوان عندما لم يتم العثور على ذيل له، وقد أضافوا أيضا الزعانف لنفس هذا الحيوان الأرضي عندما لم يكن له

الإنسان والقرد

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

خصائص تفرد الإنسان عن القردة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

هناك نشوء لعدة أنظمة تميز الإنسان عن الرئيسيات العليا الأخرى على سبيل المثال

المشي على قدمين منتصبا بالترافق مع التعديل في تركيب الحوض والمخيخ، على عكس القرود التي تمشي على أربع، فالمشية المركّبة بين الأربعة أطراف منحنيا ًوبين القدمين منتصبا ليست ممكنة

استطالة الساق وقصر الذراعين، مع بصمات أصابع تمتلك حاسة لمس جيدة للغاية.

الدماغ أكبر بكثير وكذلك الجمجمة أكبر بثلاث مرات من القردة العليا

تعديل في البلعوم ينتج عنه السماح بالنطق، والتعديل في النظام العصبي المركزي خاصة في منطقة فص صدغي والتي تسمح بالتمييز المحدد للحديث.

تغير في الجهاز العضلي.

تعديلات في عضلات اليدين والشفاه واللسان.

زوال الشعر.

المساحة بين العينين قريبة بما فيه الكفاية لإدراك المسافات والرؤية المجسمة، وتقدم شبكة العين تقدم رؤية الألوان المختلفة.

الذكاء والخبرة والقدرة العقلية الفائقة والفريدة.

فكيفية تميز الإنسان بهذا هي محل تساؤل.
الاختلافات الجينية بين الإنسان والشمبانزي تصل إلى 35 مليون زوج من قواعد الحمض النووي على أقل تقدير، وقد وُجد ان الفترة الزمنية اللازمة لتثبيت طفرة واحدة فقط في أسلاف الرئيسيات هي ستة ملايين سنة، وأن الحصول على إثنين فقط من الطفرات وتثبيتها عبر التطور الدارويني المزعوم للبشر هو 100 مليون سنة، فيتضح أمر بخصوص فاعلية معدل الطفرة في التطور وفشل الداروينية في توفير الدعم النظري بعد فشل الدعم التجريبي لإثبات قصة السلف المشترك. إذا كان تاريخ الانفصال التطوري الذي حدث بين الإنسان والشمبانزي من السلف المشترك قد حدث ما بين خمس لسبع ملايين سنة مضت، وهذه الفترة التي من المفترض أن يختلف فيها الإنسان عن الشمبانزي بما مقداره 35 مليون زوج من قواعد الحمض النووي عن طريق الطفرات هي بالكاد كافية لحدوث وتثبيت طفرة واحدة فقط، علما أن تقديرات الوقت المتاح للحصول على إثنين من الطفرات اللازمة في طريق تطور البشر هي 216 مليون سنة، وهي طويلة بشكل غير واقعي، وهذا يعني أن الوقت الذي من المفترض أن تتطور فيه كل الثدييات على كوكب الأرض من ثديي بدائي عاش في هذا الوقت يتحصل فيه نموذج الوراثة السكانية على طفرتين فقط ويدور التساؤل عن كافة الاختلافات الأخرى بين البشر والشمبانزي ومدة الوقت الذي يستلزم ذلك، كما أن الكروموسوم الذكري Y بين الإنسان والشمبانزي مختلف جدا بحيث يستحيل معه أن يكونا من سلف واحد، وأثبتت فحوصات الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين أن الهوموإيركتوس ليس من أسلاف البشر الأمر الذي يجعل الإنسان والقرد ليسا من سلف مشترك وأما ما قيل بأن أبحاث الجينوم اثبتت أن التشابه بين الحمض النووي للإنسان والشمبانزي يصل إلى 98.5 في المائة فمصدره دراسة قديمة تمت على 30 إلى 40 بروتينا من أصل 100000 بروتين كما أنها تمت بطرق مثيرة للجدل حتى قام أحد العلماء بإعادة التجربة ولم يحصل على نفس النتائج وبين أن هناك تلاعبا بالنتائج الأولى، وكشفت دراسة أخرى أنها لا تتعدى 95 في المائة وعند دراسة كائنات حية أخرى يتضح عدم وجود أي علاقة جزيئية كتلك التي يدعيها أنصار التطور[وتبين هذه الحقيقة أن مبدأ التشابه ليس دليلا على التطور. فمسألة تشابه جزيئات البروتين بين الكائنات الحية هذه بديهة طبيعية وضرورة حياتية لازمة للسلسلة الغذائبة والهرم الغذائي فمثلا نسبة تشابه بين الإنسان والدجاج تكاد تكون متطابقة، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا للتطور بل لتصميم مشترك

علماء يرفضون نظرية التطور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الكثير من العلماء ممن تصدى للتطور بردهم أنها نظرية زائفة بلا أدلة، فمن بينهم:

عالم الرياضيات والبيولوجيا الجزيئية والفلسفة ديفيد بيرلينسكي وهو أشهر من انتقد التطور الذي يرى أنه يروج بين الناس باسم العلم والحقائق، وذلك بعدما زادت شكوكه الكثيرة حوله كلما تقدمت العلوم وقد أعلن ذلك على الملأ في مجلة كومينتاري عندما قال أنه متشكك في التطور في مقال بعنوان انكار داروين عام 1996م، في السنوات الأخيرة قام بوضع كتابه الشهير وهم الشيطان عام 2008م، ولهُ حوارات مليئة باعترافاته من سخرية العلماء الحقيقيين من التطور ومليئة بالسخرية العلمية من افتراضات التطور الخيالية ونقاط ضعفها القاتلة.
وكذلك عالم الكيمياء الحيوية مايكل دنتون الذي كان يؤمن بالتطور في السابق إلى أن بدأ يكتشف بنفسه مع التقدم الرهيب في البيولوجيا الجزيئية عشرات الثغرات القاتلة عن التطور، فقام ساعتها بوضع كتابه الشهير التطور نظرية في أزمة وهو من أوائل الكتب التي قلبت نظرية التطور في العصر الحديث رأسا على عقب وذلك عام 1985، وله مشاركات عديدة في وثائقيات علمية عن الدقة المتناهية وعلامات التصميم الذكي في الحياة والأرض والكون وصولا إلى الإنسان، فقد ترجم أعماله في كتابه قدر الطبيعة عام 1986.

مايكل بيهي أحد العلماء البارزين في انتقاد نظرية التطور
مايكل بيهي وهو عالم متخصص في الكيمياء الحيوية وأستاذ في ببنسيلفانيا بأمريكا، وقد ساورته شكوك كثيرة أيضا في التطور مع تخصصه العلمي الدقيق والاكتشافات العلمية الأخيرة وخصوصا عندما قرأ كتاب التطور:نظرية في أزمة لمايكل دنتون ووجد أن كل النقاط التي ذكرها بالفعل طعنت التطور الصدفي والعشوائي فقام بتأليف كتابه الشهير صندوق داروين الأسود عام 1996 ويعتبر من أشهر من أسسوا ووضعوا قواعد التصميم الذكي أو الصنع المتقن في شكلها الأكاديمي الأخير وخصوصا نقطة التعقيد الغير قابل للإختزال ودلالاته على استحالة التطور التدريجي العشوائي عبر الزمان وعلى دلالاتها على الغائية لظهور الأعضاء المعقدة مرة واحدة من جهة مصمم ما.
وليم ديمبسكي عالم في الرياضيات وفيلسوف أمريكي ومن دعاة التصميم الذكي والمعارضين بشدة لنظرية داروين من خلال الانتقاء الطبيعي يقول ديمبسكي أن تفاصيل الكائنات الحية يمكن أن توصف بشكل مشابه. خصوصاً نماذج التتابع الجزيئي في الجزيئات البيولوجية الوظيفية مثل ال الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين والثبات من ناحية المفاهيم في نقاش ديمبسكي للتعقيدات المتخصصة كان موضع جدل داخل المجتمع العلمي، مؤيدو التصميم الذكي يعتبرونه كبرنامج للبحث العلمي يحقق في آثار المسبب الذكي فالتصميم الذكي يدرس آثار المسبب الذكي وليس المسبب الذكي نفسه. على ضوء ذلك، وبما أنه لا يمكن اختبار هوية المؤثرات خارج نظام مغلق من داخله، تقع الأسئلة التي تتعلق بهوية المصمم خارج حدود المفهوم.، وهو صاحب كتاب تصميم الحياة مشاركة مع جوناثان ويلز ويعد الكتاب من بين أقوى ما كتب في النقد العلمي للنظرية.
جوناثان ويلز وهو عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي فمع دراسته للبيولوجيا الجزيئية ومع الاكتشافات الحديثة أيضا الناطقة بعلامات الغائية والخلق تراجع عن إلحاده إلى المسيحية وصار من أعداء نظرية التطور وهو صاحب الكتاب الشهير أيقونات التطور عام 2002، وأيضا له كتاب تصميم الحياة مشاركة مع ديمبسكي.
جيري فودور وماسيمو بياتيللي بالماريني الأول بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي والثاني بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية أريزونا بدأ الأول بالتشكيك في حقيقة وجود الانتخاب الطبيعي وذلك في كتاب لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟ والذي نشر سنة 2007 بمعرض لندن للكتاب، ثم شارك مع ماسيو في إصدار الكتاب الصادم وهو كتاب: عام 2011 وكتبا في مقدمته أنه نقد علمي وليس ديني أو ما شابه وذلك حين قالا: «هذا ليس كتابا عن الله، ولا عن التصميم الذكي، ولا عن الخلق، ليس أيا من أحدنا متورط في شيء من ذلك، لقد رأينا أنه من المستحسن أن نوضح هذا من البداية، لأن رأينا الأساسي فيما يقضي بأن هناك خطأ ما وربما خطأ لدرجة قاتلة في نظرية الانتخاب الطبيعي»
فيليب جونسون متخصص في القانون وكان تطوريا فتركه وأفاق بدوره على كتاب التطور نظرية في أزمة لدنتون وبدأ في التوسع في القراءة ومتابعة آخر الأخبار العلمية إلى أن تيقن تماما من أخطاء التطور وأنها لا تعدو تزييفات وتكهنات خيالية لا يدعمها أي دليل عقلي أو علمي تجريبي صحيح وعلى أثر هذا صار من أشهر من ينتقدون التطور في أمريكا، وله مجموعة كتب كذلك من بينها هزيمة الداروينية وكتاب محاكمة داروين وكتاب الاعتراضات الوجيهة للتطور وأشياء.
دوان كيش متخصص في الكيمياء الحيوية شارك في العديد من المحاضرات الجامعية والمؤتمرات الدولية للرد على نظرية التطور بأسلوب علمي وحضاري، وله عدة أبحاث التي بين فيها عدم صحة نظرية التطور، وقد جمع محاضرته في كتاب هل تعرضت لغسيل الدماغ؟ ومن كتبه أيضا المتحجرات ترد على نظرية التطور بالرفض
يدعي البعض أن التطور يتراجع مع التقدم العلمي وأن أخطاءه صارت كثيرة جدا في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، فعلماء مختصون بالآلاف يرفضونه، لذلك ظهرت أبحاث وكتب علمية تكشف عن عدم صحته وأن داروين كان مخطئا بخصوص شجرة الحياة، والعلماء يؤكدون أن شجرة التطور خاطئة ومضللة والاعتراضات التاريخية بدأت أشهر خطواتها علنا بقائمة معهد ديسكفري المكونة من 100 عالم ومتخصص يرفضون الداروينية سنة 2001 حيث ذكروا أسمائهم ودرجاتهم العلمية في أمريكا ثم تطورت الفكرة لإنشاء موقع متخصص على النت لتسجيل هؤلاء المعترضين سواءا من أمريكا أو خارجها حيث كل عالم يذكر اعتراضه ودرجته العلمية ولما انتشر الأمر وصلت لوسائل الإعلام من كندا قرابة 1000 عالم يعارضون الداروينية]، ومع مرور الوقت وصل الرافضون للداروينية التطورية إلى ثلاثة ألاف في أمريكا فقط وهناك غيرهم لم يتم تسجيلهم يخشون على مناصبهم وأسمائهم ، والأمر لا يختص بعلماء البيولوجيا فقط، لأن نظرية التطور تمس علم الإحصاء والاحتمالات والفيزياء والكيمياء وغيرهم، لذلك ظهر علماء فيزيائيون وجراحون يرفضون الداروينية بما فيها

المصادر والمراجع

أصل الانواع جارلس داروين ترجمة احمد مظهر

الحيوان من ثمانية اجزاء تاليف ابوعمرو عثمان بن بحر الجاحظ

حوار مع صديقي الملحد تاليف د مصطفى محمود

المناحي الفلسفية عند الجاحظ / علي بوملحم

تهافت نظرية داروين امام التقدم العلمي / اورخان محمد علي

داروين ونظرية التطور / شمس الدين اق يلوت دار الصحوة

الدين ومفهومه عند الفيلسوف ديفيد هيوم1711 – 1776م

ديفيد هيوم. 1711 – 1776م

فیلسوف ومؤرخ وعالم اقتصاد اسكتلندي ,نشأ في اسكتلندا وبدأ حياته كمؤرخ فكان له دور كبير في بلورة الفلسفة الغربية وهو كان قائد حرة تاريخ التنوير الاسكتلندي ، كان ديفيد هيوم مشهور في البداية كمؤرخ ولكن كتاباته الفلسفية كان لها شعبية أكثر ، فحظيت كتاباته الفلسفية بتركيز كبير من قبل الباحثين .

حازت فرنسا على إعجابه واستقر بها لفترة وفيها كتب أشهر مؤلفاته وهي ( بحث في الطبيعة البشرية ) ،ولكن هذا الكتاب لم يلقى نجاحا وقتها ، هذا الأمر جعل ديفيد هيوم يفكر في تصغير الكتاب عن طريف جعله على شكل أبحاث مصغرة مثل ( بحث في الفهم الإنساني ، وبحث في مبادئ الأخلاق

الأسس التي تقوم عليها فلسفته :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

تقوم فلسفة (( هيوم )) على عدد من الأسس أهمها ::

أولاً : تنطلق فلسفته وآراؤه جميعها من الحس كمجال وحيد للمعرفة ، ومنبع فريد للإدراك . فالمعارف عنده تقوم على أساس حسي بحت ، والمادة الجامدة هي مصدر المعارف ، وليس هناك مصدر آخر يستقي الإنسان منه معارفه . وكل ما يتحدث عنه المتدينون من مصادر للمعرفة غير الحس والمادة ، فإنما هي أوهام لا حقيقة لها ، ولا وجود لها إلا في مخيلة أصحابها .

ثانياً : أكد على الذاتية في مقابل الواقعية

والموضوعية . وذهب إلى أن معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي إنما هي من وحي خيال الإنسان ومن خلق أوهامه وأنها لا ترجع إلى العالم الخارجي، وإنما ترجع في حقيقة الأمر إلى ما يتوهمه الإنسان عن العالم الخارجي ، وذلك نتيجة لما لديه من معتقدات سابقة ، ومدركات ذهنية مختزنه ، فهو يسقط كل ذلك على العالم الخارجي ويفسره بها ، فتكون الحصيلة أن يعلن عن ذاته . وعن مكونات نفسه ، ولا يعلن عن الحقائق الخارجية التي يزخر بها العالم الواقعي .

ثالثاً: استمراراً في تأكيده على الذاتية في مقابل الموضوعية ،

ونتيجة لذلك ، فقد جعل أفعال الإنسان وسلوكه إنما هي ردود أفعال لما يعتمل في نفسه من إحساس باللذة أو الألم ، واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه الأشياء من سعادة أو شقاء ، فأفعال الإنسان تحكمها الحواس الظاهرة من الإحساس باللذة والألم ، ويتبع الحواس الظاهرة الحواس الباطنية مثل المحبة والكراهية ، أو الرجاء والخوف ، والفرق بين الحواس الظاهرة والحواس الباطنية أن الأولى مباشرة ، فاللذة والألم يحس بها الإنسان مباشرة من مصادر كل منهما . ثم يأتي رد الفعل بعد ذلك على هيئة إحساس باطني أو انفعال وجداني ، فنحب النوع الأول ، ونحرص عليه ونرجو تحقيقه ، ونكره النوع الثاني الذي هو الألم ، ونتجنبه ونفر منه .

رابعاً : تأكيدا على ماتقدم ، وتأسيسا عليه ، يذهب (( هيوم )) إلى أن الفرق بين ما هو خير ، وما هو شر ، إنما يكمن فيما ينتج من كل من لذه أو ألم ،

فالفيلسوف (( هيوم)) يربط بين اللذه والخير ، والألم والشر ، فكل ما سبب للإنسان لذة أو سعادة فهو خير ، وكل ما سبب له ألماً أو تعاسة فهو شر .وبالتالي فإن الفضيلة والرذيلة تخضعان لنفس المقياس ، مقياس اللذة والألم ، فكل ما يحقق للإنسان لذة فهو فضيلة ، وكل ما يسبب له ألماً فهو رذيلة .
ويأتي هنا سؤال هام وخطير : أين محل إرادة الإنسان من كل هذا ؟‍ ثم ما أثرها في توجيه الإنسان ما دامت أفعاله ردود أفعال؟‍
والجواب الواضح والحتمي بناء على المبادئ التي يعتنقها (( هيوم)): إن إرادة الإنسان الحرة المختارة لا وجود لها ، إن الإنسان يتحرك كآله تحركها مشاعر الألم واللذة ، وتتحكم فيها أو هامة ، وخيالاته عن العالم الخارجي ، الذي لا يتعامل معه إلا من خلال ردود الأفعال .

وهكذا قضى الرجل على الأخلاق على مرحلتين :

الأولي :

حين ربط بين الخير واللذة ، والشر والألم ، ثم ربط الفضيلة إلى اللذات ، والرذيلة إلى الآلام ، فجعل الأخلاق في أساسها تقوم على أصول حسية مادية بحتة .

الثانية :

حين جرد الإنسان من مسئوليته على أفعاله بأن جعل كل أفعاله إنما هي ردود أفعال ، وقيد إرادته الحرة التي تقوم عليها المسئولية الفردية والخلقية بما يحس به من لذة وما يحس به من ألم ، فإنه يندفع إلى الأولى بلا وعي وينفر من الثانية كذلك بلا وعي .

مفتاح شخصيته :

1- طبق الفيلسوف مبدأه في ذاتية المعارف في مقابل موضوعية العالم الخارجي على قانون السببية والعلية .
فقد أنكر أن يكون هناك قانون للسببية أو العلية ، بل إنه أنكر ما يسمى بالأسباب والعلل . مدعيا أن ما يزعمه الناس من قوانين للأسباب والمسببات ، أو العلل والمعلولات ، إنما هو من أوهام النفس وخداع الذات ، وأن الواقع أنه لا يوجد ما يسمى بالسببية أو العلىة .
أما كيف يفسر الرجل دعواه هذه؟

فإن الرجل يدعي أن ما يسمى سببا وما يسمى مسبباً ، كل منهما ظاهرة منفصلة تماما عن الأخرى ، وانه لا توجد أية علاقة حقيقية بين الظاهرتين ، كل ما هنالك أن الناس لاحظوا أن الظاهرة الثانية تأتي عقب الظاهرة الأولى ، فربطوا بينهما بسبب اقترانها في الوجود زماناً ومكانا ، وهذا الربط إنما هو افتراض ذهني ذاتي قائم على تداعي المعاني ، ولا حقيقة له فالإنسان يشعل النار ، وهذه ظاهرة ، ثم يشعر بالحرارة والدفء ، وهذه ظاهرة أخرى قد جاءت عقب الظاهرة الأولى ، ولا يوجد دليل في العقل أو الواقع على ضرورة وجود الظاهرة الثانية دائما عقب وجود الظاهرة الأولى كمالا يوجد دليل على علاقة بين الظاهرتين .

وهو يضرب مثالا بكرات (( البلياردو )) التي يضرب اللاعب بإحدى الكرات لتصطدم بالكرات الأخرى وتحركها إلى حيث يريد اللاعب .. فيقول : إنني أرى كرة البلياردو تتحرك ، فتصادم كرة أخرى ، فتتحرك الأخرى ، وليس في حركة الأولى دليل على ضرورة تحرك الثانية حين تصطدم بها الأولى . ويضرب الرجل مثالاً ثالثاُ يقوم على تحرك أعضاء الجسم تبعاً لإرادة الإنسان فيقول : نرى الإنسان يريد أن يأكل تفاحة وضعت أمامه, فتتحرك يده لتلقط التفاحة وترفعها إلى فمه, ويبدأ في قضمها مرة بعد مرة, ولا توجد علاقة بين رغبة الإنسان في أكل التفاحة ، وامتداد يده إليها ورفعها إلى فمه . فالرجل يدعي أنه لا علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده نحو التفاحة وحملها إلى فمه ، ويرفض أن تكون إرادة الإنسان هي السبب أو العلة في حركة اليد . ويقول :

(( أنا لا أدري كيف يمكن لفعل ذهني – يقصد إرادة الإنسان – أن يحرك عضوا ماديا ً – يقصد يد الإنسان – إني لا أدرك علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده ))
إن الرجل يرجع قانون العلية والسببية إلى ما سماه قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان

وهو يقصد بالتقارن في الزمان والمكان ـ أن ظاهرة السبب وظاهرة المسبب قد ألف الناس اقترانها في الوجود معاً متعاقبين في نفس الزمان والمكان ، فقد ألف الناس أن اصطدام العصا باليد – في حالة الضرب بالعصا – تحدث شعورا بالألم ، وأن هناك اقترانا بين الأمرين أو الظاهرتين في الزمان والمكان . فبسبب هذا الاقتران توهموا علاقة بين الظاهرتين سموها علاقة السببية !!

وقد تحقق نفس الألم عقب الاصطدام بين العصا واليد ، في كل مرة يحدث ذلك ، فهناك تشابه في كل الحالات . وهذا ما سماه الرجل ( قانون التشابه )!
فهو يزعم أن القول بالسببية والعلية ناشئ عن هذا الاقتران والتشابه . ويسمى ذلك : قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان ويسميها كذلك :

(( قوانين تداعي المعاني )) ويفسر قانون تداعي المعاني بقوله :(( إن ما يسمى بالعلة شئ كثر بعده تكرار شئ آخر حتى إن حضور الشيء الأول يجعلنا – عن طريق تداعي المعاني – دائما نفكر في حضور الشيء الثاني )).

موقف(( هيوم )) من الدين :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولم يكن اهتمام هیوم الدائم بالدين أسيرا للرؤى والمناهج التقليدية؛ إذ إنه سعى لتطوير نظرية وضعية في الدين، حدد فيها ما هو أساسي وطبيعي في الاعتقاد الديني، من خلال تتبع تاريخ الدين الطبيعي، الأمر الذي يعني أنه رفض التاريخ المقدس للدين، ونحى جانبا التاريخ السامي فوق الطبيعي الذي تقدمه الكتب السماوية، وفي الوقت نفسه سعى إلى تجاوز أية نظرية وضعية قبله بخصوص نشأة الدين وتطوره، وكشفت نتائج هذا السعي عن تفرد وتمیز من نوع ما في بحث الظاهرة الدينية؛ لأن هيوم أسس نظرية في الدين على ملاحظة الطبيعة الإنسانية ذاتها من حيث أهوائها، وحاجاتها، ودوافعها، وميولها، فضلا عن ملاحظة الفاعليات الاجتماعية.

ولقد أكد هيوم بوضوح على أن ” كل بحث متعلق بالدين يعد ذا أهمية قصوى ، ويطرح سؤالين في هذا المجال ، يحددان تفكيره أكثر من غيرهما ، يتعلق أحدهما بخصوص أصل الدين في العقل ، بينما يتعلق ثانيهما بأصله في الطبيعة الإنسانية ،

ويرى هيوم أن السؤال الأول ،

وهو الأعظم أهمية عنده، يتيح لنا حلا أكثر وضوحا حيث ” يدل الإطار الكلي للطبيعة على مبدع عاقل! ولا يستطيع باحث عقلانی ، بعد تأمل جاد، أن يوقف اعتقاده لحظة بشأن المبادئ الأولى للتوحيد والدين الحقيقيين

لكن السؤال الثاني المتعلق بأصل الدين

في الطبيعة الإنسانية عرضة لصعوبة أكبر من وجهة نظر هیوم، لأن تحليل الطبيعة الإنسانية لا يكشف عن كون الدين أمرا فطريا، ولا غريزة من غرائز النفس الإنسانية! فالاعتقاد في قوة عاقلة غير مرئية منتشر بشكل عام بين أفراد الجنس البشري، في كل مكان وفي كل عصر، لكنه ليس عامأ وكلية إلى الحد الذي لا يقبل استثناء ! لأنه لا يوجد حوله تماثل في المعتقدات على أي درجة من الدرجات. ذلك أن بعض الشعوب المكتشفة حديثا لا تضمر عاطفة دينية، ولا يوجد شعبان من الشعوب، بل لا يكاد يوجد اثنان من بنی الإنسان، يتفقان بدقة في مكونات العاطفة الدينية.

ولذلك فإن هيوم يعتقد “

أن هذا التصور السابق لا ينشأ من غريزة أصلية أو انطباع أولى من الطبيعة مثلما ينشأ حب الذات، والعاطفة بين الجنسين، وحب الذرية ، والعرفان بالجميل ، والامتعاض ، لأن كل غريزة من غرائز هذا الطراز راسخة بشكل كلي تماما في كل الشعوب والعصور، ولها قصد محدد بدقة ومستمر بدون تغير” ومن ثم فإن العقائد الدينية الأولى لابد أن تكون ثانوية مكتسبة وليست أولية فطرية

في ضوء هذا التأويل لمسألة أصل الدين، تفرض مجموعة من الأسئلة نفسها:

ما تلك الأسباب التي أدت إلى نشأة الاعتقاد الديني؟

وما تلك الظروف والحوادث التي أثرت في تكوينه وبنيته؟

وما طبيعة الحاجات النفسية التي يتجاوب معها الدين؟

وما النوازع والأهواء الطبيعية التي تحركه؟

وكيف يمكن تحديد ملامح نظرية وضعية عن الدين الأول الذي اعتنقه الإنسان البدائي؟

وكيف يمكن تحديد مراحل تطور الدين وارتقائه من أدنى صورة حتى أعلاها؟

وهل الدين من الأساس- أمر ممكن عقليا ؟

وما جدواه بالنسبة للإنسان على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي؟

تتوزع آثار هيوم على ثلاث فئات كتبت كلها من زاوية نقدية تعارض العقيدة الدينية. والفئات الثلاث هي:

نقد الأدلة العقلية على إثبات الله،

أي نقد الدين العقلاني، أوعلى حد تعبير هيوم نفسه: الدين الطبيعي.

نقد أدلة صحة الوحي المسيحي ووثاقة الكتاب المقدس
أونقد الدين المنزل أوالدين الوحياني.

البحث عن علل وأسباب ظهور العقيدة الدينية في التاريخ البشري أو اكتشاف علل الدين النفسية والاجتماعية والتاريخية.

وربما تسنى إضافة فئة أخرى إلى هذه الفئات الثلاث تتمثل في آثار هيوم التي تدرس وتنقد بعض التعاليم الأخلاقية الدينية، وكذلك تأثيرات الدين على الأخلاق.

يتبع ديفيد هيوم منهجية واحدة في كل هذه النقود المتعلقة بهذه الفئات الثلاث أوالأربع من كتاباته

. إنه يعتقد أن المنهج الصحيح لمعرفة الأمور الواقعية هوالبحث عن العلاقات العلية بين الظواهر وتشخيصها، بشرط أن يكون لدينا إدراكنا وتحليلنا الصحيح للعلاقة بين العلة والمعلول، وأن نعلم مدى اعتبار وإتقان الأحكام المبتنية على المنهج الصحيح للبحث.

اشكالية هيوم للدين

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(( هيوم)) فيلسوف ملحد لا يؤمن إلا بالمادة وحدها ، ولا يرى وسيلة للمعرفة إلا الحس الذي يستقي معارفه ،
ويستمد علومه من المادة
. وهو يرفض الإيمان بأي شئ خارج نطاق العلم الطبعي المحسوس
. ومن ثم فقد أعلن (( هيوم)) الحرب على الدين ،

وسخر فلسفته في جانبها الأكبر والأهم لمحاربة الدين ،

وإقامة أوهامة التي اعتبرها أدلة على بطلان الدين ،

وإثبات أن الدين ما هو إلا خرافة ووهم من الأوهام التي تعود إلى الذاتية ، والتي لا حقيقة لها في الخارج .

ليس هذا فحسب ؛

بل إن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفته إنما وضعها وأكد عليها ليصل من خلالها إلى إثبات أن الدين باطل

،وإنه من أوهام النفس وخيالات الذات .
وواضح أن الرجل بدأ ملحدا، ثم رسم لنفسه من بدايات اشتغاله بالفكر والتفلسف أن يسخر فكره وفلسفته لهدف واحد ، وهو حرب الدين ،

والقضاء عليه في نفوس المتدينين .

. ولذلك فنحن نستطيع أن نحدد نقطة الانطلاق في فكر الرجل وفلسفته ، ونبين الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها مذهبة بأنها : الإلحاد .

الإلحاد – إذن – هو مفتاح شخصية الرجل والمحور الذي يدور عليه فكره وهذا يتضح من المجهود الذي بذله طوال حياته من خلال مؤلفاته . وإن نظرة إلى مؤلفاته يتضح منها أنه لم يكتب شيئا في الفلسفة والفكر إلا حول الإلحاد ، ومحاربة الدين .

فنحن إذا استثنينا مؤلفة : (( مقالات سياسية )) ثم مؤلفه الآخر الكبير : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) . وهما كتابان في شئون بعيدة عن الفلسفة ، أوأن صلتها بالفلسفة صلة محدودة فإن مؤلفاته الأخرى جميعها تدور حول الإلحاد وتأكيده ، وبيان افتراءاته على الدين .

ونحن لا نهتم كثيرا بكفره بالنصرانية البروتستانتية التي يدين بها قومه –
وإن كان النصراني أفضل من الملحد –
لكن الذي يهمنا أن الرجل لم يقف حربه على النصرانية ،
ولكنه حارب الدين بكل صورة ، واخذ يركز حربه كلها وافتراءاته جميعها على وجود الله – سبحانه وتعالى عما يصفون –
ومن ثم فلم يعد الأمر وقفا على نصرانيته ( المحرفة ) ، بل أصبح الأمر عاما شاملا لكل دين ؛ حتى الدين الحق ( الإسلام ) .طبعا وفق مفهومنا والا ليس وفق مفهومه

•وقد وضع الرجل مبادئ فلسفته لهذا الهدف

.
1-فهو حين أنكر علاقة الفكر الإنساني بالواقع ، وأكد على الذاتية في مقابل الأمور الخارجية ، والحقائق الموضوعية ، واتهم الإنسان بان كل ما يدعيه من معارف إنما هي ناشئة عن أوهامة الذاتية ، إن الرجل حين وضع هذا المبدأ أو روج لهذه الفكرة ، إنما أراد أن يقرر أن المتدينين ، وكل من يعبد ربه ، وكل من يخضع لإلهه ، أيا كان ذلك الدين ، فإن هؤلاء جميعا واهمون ، وأن الدين وكل ما يتصل به من عقائد وعبادات ، إنما هي من أوهام الذات التي لا صلة لها بالواقع .
2-وهو حين أنكر قانون السببية والعلية ، فإنه فعل ذلك ليصل إلى إبطال الأدلة على وجود الله – سبحانه وتعالى ..
إن أشهر الأدلة وأقواها على وجود الله – سبحانه وتعالى – وأكثرها شيوعا بين عامة المتدينين إنما هو الدليل القائم على الانتقال من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، إن الفطرة ، وبديهية العقل ، ومسلمات الفكر وأولياته تجعل لكل فعل فاعلا، وتجعل من الفعل دليلا على فاعله ، ومن قديم والناس يستدلون على الخالق – سبحانه وتعالى – من خلال خلقه ، كما يستدلون بوجود صنعة ما على وجود صانعها ، بل إنهم ليستدلون على صفات الصانع من خلال ما يرون في الصنعة من حكمة وإبداع وإتقان فيقولون : صانع بديع حكيم
أو قد يرون في الصنعة خلاف ذلك أو عكسه ، فيصفون الصانع بما يناسب ما رأوا ، هكذا كان الناس ، وهكذا هي فطرهم التي فطرهم الله تعالى عليها ، لا غرو ، قد لفت الله – سبحانه وتعالى – الناس إلى خلقه ودعاهم إلى أن ينظروا إلى ما في ذلك الخلق من إتقان وعناية وحكمة وإبداع ثم إلى الإيمان بالخالق الذي خلق وأتقن وأبدع فإن الخلق آية وعلامة على الخالق .
يقول عز وجل :
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون . وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون . ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون . سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .
هذه الأدلة وغيرها قائمة على أساس من قوانين السببية والعلية ؛ بمعنى أن انتقال الإنسان من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، هو من باب انتقاله من المسبب إلى سببه أو من المعلول إلى علته .
إذا عرفنا ذلك ؛
وقد عرفنا قبل ذلك أن (( هيوم )) ملحد ، وقد نذر نفسه للانتقاض على الدين والمتدينين وسد الطريق أمام الناس الذي يصلون من خلاله إلى الاستدلال على وجود الله – سبحانه – فماذا هو فاعل ؟

لقد ،فكر وقدر ثم وجد أن أيسر الطرق إلى القضاء على الدين ، وتجفيف منابع التدين في نفوس المتدينين ، إنما هو القضاء على قانون السببية ،وإبطال كل علاقة بين السبب والمسبب حتى لا يقيم الناس من المسببات التي هي المخلوقات ، طريقا أو قنطرة يصلون من خلالها إلى المسبب أو الخالق – جل الله و عز .
إذن ؛ فكل هذه الثورة من الفيلسوف الملحد على قانون السببية ، وهو قانون فطري بدهي ، عبر عنه البدوي قديما بقوله : ( البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على العليم الخبير )؟
والذي ذكره العربي القديم فطرة الله في كل الخلق فهو ليس قصرًا على العربي لأنه لا يرجع إلى عروبته التي تخص جنسه ، بل يرجع إلى إنسانيته أو فطرته كإنسان ، وتلك تجمع الخلق كلهم ، فما أحس به العربي وأشار إليه من الانتقال من الفعل إلى الفاعل ، أو من المسبب إلى السبب ، فطرة الله في الخلق أجمعين ، ولذلك حينما فكر الفيلسوف أن يتوجه بالطعن إلى الأسباب والمسببات ، فيبطل العلاقة بينهما ، ثم تكون النتيجة إبطال الانتقال من المسبب إلى سببه وهكذا يقضي ذلك على شجرة المعرفة وأصلها فهو يحمل معوله ليضرب به في أصل الشجرة ، ليقطع جذعها ، وليس غصنا من أغصانها
والرجل لم ينكر ذلك . بل صرح به في كتبه كلها التي وضعها لهذا الهدف ، فهو يردد في كل ما كتب ( أن الصنعة لا يمكن أن تدل على صانع لها إلا إذا رأينا الصنعة في يد الصانع يقوم بتشكيلها ، ورأيناها تخرج من بين يديه ، إننا حكمنا بأن الساعة لها صانع ، لأنا رأينا الصانع يقوم بصنعها ، لكنا لا نستطيع أن نطبق ذلك على الكون ، لأنا لم نر الكون داخل مصنع ، والصانع يجتهد في صنعه ) !

ويقول : (( لماذا نبحث للمادة عن صانع مفارق – ولماذا لا نمد المادة إلى لا نهاية ثم نجعلها هي الله فيكون الإله أمامنا ومن بيننا ) ؟

واخيراً يقول 🙁 إذا كنا سوف نتمسك بقانون السببية ،وأن كل موجود له سبب ؛ فسوف نجد أنفسنا مطالبين بالسير في القانون إلى نهايته فنبحث عن سبب لوجود الله نفسه ) !
.

نقد آراء هيوم :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن الذي يتعرض لنقد الآراء الباطلة ، والفلسفات الفاسدة ، يجد نفسه أمام نوعين ؛ منها نوع خفي البطلان ، مستور الفساد ، يحتاج من الناقد ذكاء في الذهن ، ودقة في النظر وعمقا في التحليل ، وصبرا على التنقيب بين ثنايا تلك الفلسفات ، وخبايا هذه الآراء ، حتى يستطيع أن يظهر ما كان منها خفيا ، ويكشف ما كان منها مستورا ، ويبين للناس فسادها وبطلانها ، ولكن بعد جد وجهد ومثابرة

.
والنوع الثاني : من تلك الآراء والفلسفات على عكس النوع الأول ، ظاهرة الفساد واضح البطلان، بين الزيف ، لا تحتاج من الناقد جهدا ، ولا تكلفه مشقة ، بل إن بعض هذه الفلسفات الفاسدة ، والآراء الزائفة الباطلة ، لتكون من وضوح البطلان ، وظهور الفساد إلى الحد الذي لا يجد الناقد ما يقوله فيها ، حيث يكون فسادها أوضح من أن يوضح ، وبطلانها أظهر من أن يحتاج إلى إظهار

وآراء هذا الفيلسوف التي نعرضها للنقد ، هي من النوع الثاني ، إذ هي بينه الفساد ، واضحة البطلان . لكنا نزيد ذلك بيانا ووضوحا ، فنتناول أفكارها الأساسية التي قامت عليها تلك الفلسفة بالنقد في نقاط محددة .

أولاً : إن الرجل يصدر آراءه وفلسفاته على صورة تقريره بحتة ، دون أن يكون لدية دليل على أي منها . فهي آراء وأفكار لا وجود لها إلا في ذهنه المريض فقط ، وإذا ما طالبناه بدليل على شيئ مما يقول ، لم نجد لديه سوى ادعاءاته ، وافتراضاته ، وسوف يتضح لنا ذلك من مناقشة آرائه فيما يلي .
ثانيا: ادعاؤه بأن الناس يعيشون داخل ذواتهم ، وأن صلاتهم بالعالم الخارجي مقطوعة ، وأن كل ما يعرفه الإنسان عن العالم الخارجي إنما هو أوهام من صنع نفسه ، ولا صله لها بالواقع . هذا الادعاء أوضح في البطلان من أن يوضح ، فإن العالم الذي نعيشه حقيقة واقعة ، ونحن نتعامل مع قوانينه ومعطياته في كل لحظة من لحظات حياتنا ، وليس هناك ما يختلف حوله الناس من تلك القوانين والمعطيات ، فهل يختلف الناس على أن النار محرقة ؟ وهل هذه حقيقة من الحقائق الخارجية أم أنها وهم من أوهام الذات ؟ إن الناس يأكلون ليشبعوا من جوع ، ويشربون ليرووا من ظمأ ، ويتداوون ليبرأوا من مرض ، ويبيعون ويشترون فهل كل هذه أوهام ذاتية ؟ أم أنها حقائق خارجية ؟…

ثم إن الفيلسوف نفسه عندما كان يشعر بالجوع ؛ هل كان يسارع إلى الطعام ليحفظ على نفسه حياته ؟

أم أنه كان يقول لنفسه ما يقول للناس في فلسفته :

إن شعوره بالجوع وهم من أوهام ذاته، ثم يجلس بلا طعام حتى يهلك ؟ إنه لو فعل لأراح الناس من أباطيله ، لكن سلوكه نفسه يدل بوضوح على بطلان ما يدعيه .

ثالثا : مثل ما ذكرنا في النقد السابق ، نذكر هنا في نقدنا موقف الرجل من قانون السببية ، فإن قانون السببية أمر واقع ، والجدال حوله ، والتشكيك فيه تحت أية مبررات إنما يعتبر صداما مع الواقع ، وجحدا للحقائق الموضوعية التي يزاولها الناس منذ خلقوا . وإن حياة الفيلسوف الملحد نفسها وسلوكه في كافة شئونه لتدل دلالة واضحة على كذبه وفساد آرائه . إنه كان يأكل وشرب ويتداوى ، فهل كان يفعل ذلك إلا لأن هذه أسباب تؤدي إلى مسبباتها من الشبع ومن الري ومن الشفاء ؟…

إن هذا الذي يطعن في السببية وينكرها عاش حيته ملتزما بقوانين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ،إنه لم يزد في فلسفته تلك على أن أعلن نفاقه وكذبه في دعاواه الباطلة ، إذ يطلع على الناس بأفكار وآراء هو أول من يكذبها ويرفض التعامل معها.

رابعا : زعمه أن الإنسان يعيش حياته شبه آلة تحركها الشهوات ، وتنحصر أفعاله كلها في ردود الأفعال تجاه ما يسبب له لذة أو ألما ، ثم ربطه الأخلاق باللذات والآلام ، وجعله الخير هو اللذة ، والشر هو الألم ، كل ذلك يتمشى معه كفيلسوف ، ويتفق مع نظريته في المعرفة التي حصرها في الحس . فالحس عند هو المصدر الوحيد للمعرفة ، ولا يقر بآي مصدر آخر للمعارف سوى هذا المصدر المادي المحدود .لكن هل جاء بشيء جديد ؟

إنه لم يزد على أن أضاف للحسيين الماديين الملاحدة دابة أخري هي من شر الدواب الذين قال الله – تعالى – فيهم : ( إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) .
فهو لم يأت في هذا الجانب بجديد ، سوى أنه حول نفسه آله حسية مادية جامدة . لا تتحرك إلا طلبا للذة الحسية المسفة ..
ورغم ذلك فإن مذاهبهم باطلة من سلوكهم أنفسهم .. أليس الواحد يتجرع الدواء المر طلبا للشفاء ؟ فلماذا أقبل عليه رغم أنه يسبب له ألما ؟ ولا يجلب له لذة حسية ؟ أليس الواحد منهم يجري عملية جراحية فيها آلام حسية ، وفيها شق اللحم وإسالة الدم بل وبتر عضو ، كل ذلك طلبا للشفاء ؟

فلم يفعلون ذلك ؟.. إن هذه السلوكيات فيها تكذيب واضح لما ادعاه الرجل ولكل ادعاءات السابقين عليه من أصحاب مدارس اللذة الحسية في فلسفة الأخلاق مثل الأبيقوريين ومن جرى مجراهم

.
خامساً : نأتي إلى أخر رحلتنا معه لنناقش فكرة وفلسفته حول وجود الله سبحانه .. ونحن لن نناقشه في عدم ايمانه ، . ولكن يهمنا هنا أن نناقش دعواه التي يقول فيها :

إن البحث عن علة للوجود المادي يدفع بنا إلى أن نبحث عن علة لله نفسه – سبحان الله وتعالى عما يصفون – .
إن الخطأ الذي وقع فيه الرجل ويقع فيه كل من على شاكلته أنهم لا يفرقون بين الأسباب الناقصة والأسباب التامة ، أو بين الأسباب الوسائطية والأسباب النهائية . أنهم يخلطون بين هذه وتلك, وعلتهم ليس في خفاء هذه الحقيقة البسيطة ، ولكن علتهم في قلوبهم المريضة ، لأن هذه الحقيقة بديهية لا تخفي على أقل الناس فهما وأدناهم ذكاء .
فالأسباب التي نزاول حياتنا من خلالها في هذا الوجود إنما هي أسباب وسائط . وخبرة مسخرة لغيرها ، ولها مسبب ومسخر. والمسببات التي تنشأ عن هذه الأسباب إنما ترجع إلى هذه الأسباب مباشرة من قريب ، لكنها ترجع في حقيقة الأمر إلى مسبب لها تام .. فنحن نأخذ الدواء . والدواء سبب في شفاء المرض . والشفاء يرجع إلى سببه المباشر وهو الدواء ، لكن الدواء سبب ناقص ، وهو في نفسه مسبب عن السبب التام ، أو الفاعل التام الذي بيده الشفاء ؛ الذي هو الله – سبحانه .
ونحن نستطيع أن نقرب القضية بمثال .. فإن الدواء سبب في الشفاء لكن الدواء نفسه مسبب وسببه هو الصيدلي الذي أعده في صيدليته ، والصيدلي نفسه لم يأت بذلك من نفسه ، بل إن السبب في إعداده الدواء هو الطبيب الذي أرسل إليه ورقة فيها تحديد الدواء المطلوب لهذا المريض ، ثم إن الطبيب نفسه مدين بعلمه ذلك لمن علمه ، فهو السبب في أن الطبيب عرف المرض ووصف الدواء … وهكذا تمشي سلسلة الأسباب والمسببات ، وكلها تترقى من مستوى إلى مستوى ، لكنها جميعها مشتركة في أنها أسباب ناقصة ، بمعنى أنها في حاجة إلى من يقف وراءها ، مثل الدواء ، فإنه سبب محتاج إلى الصيدلي ، والصيدلي سبب لكنه محتاج إلى الطيب وهكذا . تمشي تلك السلسلة ، ولا نجد من بينها سببا كافيا مكتفيا بنفسه ، بل كلها معلولات لما قبلها . وذلك هو معنى كونها أسبابا وسائط ،وهذا النقص يصل بنا إلى السبب التام ، الفاعل الكامل ، الذي هو وراء كل شيء يجري في هذا الوجود ، خالق الكل ، ومدبر الكل، ومقدر الكل، والذي بيده كل شيء ، يحتاج إليه الكل وهو غني عن الكل – سبحانه وتعالى عما يصفون ..
والفرق بين السبب الوسيط والسبب الكافي التام ، أن السبب الوسيط لا يفعل ولا ينتج إلا في إطار السبب التام . الذي هو في حقيقة الأمر مسبب جميع الأسباب ومسخرها والمتصرف فيها .
ويتضح هذا في كل شئون الحياة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فقد يكون أمام الطبيب الحاذق حالتان مرضيتان ، وهما متشابهتان في المرض والعلة . وإحداهما شديدة ، والأخرى بسيطة خفيفة . ويصف نفس العلاج والدواء للحالتين مع اعتقاده أن أحد المريضين حالته ( ميئوس منها) – كما يقولون عادة في مثل هذه الأحوال – والآخر حالته الصحية جيدة وسيبرأ سريعا . لكن ، يفاجأ الطبيب ومن حوله أن المريض الأول قد برأ من مرضه ، ونقه وشفي ، وأما الآخر فقد انتقل إلى الدار الآخرة !
إن هذا ليس فشلا من الأسباب الوسائط ، فالطبيب حاذق جيد ، والدواء جيد ، وطريقة العلاج موفقة , لكن الأصل في كل هذه أنها مجرد وسائط ، وتبقى الكلمة الأخيرة والمصير النهائي للسبب الكافي والفاعل التام وراء كل هذه الوسائط .. إنه الله – سبحانه – خالق كل شيء . والذي بيده مقاليد كل شيء .
.

المناحي الثورية التربوية في فلسفة جان جانك روسو الطبيعية قراءة في كتاب أميل لجان جاك روسو

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إميل، أو في التربية، أو دراسة في التربية (بالفرنسية:Émile, ou De l’éducation) هو كتاب لجان جاك روسو ويعدّه من أفضل مؤلفاته وأكثرها أهمية،, حيث يدرس فيه طبيعة كلاً من التربية والإنسان. نُشر الكتاب عام 1762 ومُنع تداوله على الفور في باريس وجنيف كما حُرقت نسخ أولى طبعاته أمام العامة، وذلك بسبب محتوى أحد أقسام الكتاب والذي كُتب بعنوان “عقيدة الكاهن سافوا”. من الجدير بالذكر أنّ الكتاب كان سبباً لإنشاء نظامٍ تربويٍ وطنيٍ جديد في خضم أحداث الثورة الفرنسية.

يتناول هذا العمل أسئلة أساسية تخص السياسة والفلسفة تتمحور حول علاقة الفرد بالمجتمع، ويتحدث تحديداً عن تمكّن الفرد، في ظل فساد جماعته، من الحفاظ على الطبيعة البشرية الأصيلة -حسبما يسمّيها روسو- حيث استهلّ الكتاب بالعبارة التالية: “يخرج كل شيءٍ صالحاً من يد الخالق، ثم يعتوره الفساد والنقص بين يدي الإنسان”.
يرغب روسو في وصف النظام التربوي الذي من شأنه تمكين الإنسان الطبيعي الذي سبق ذكره في العقد الاجتماعي (1762) من النجاة في ظل فساد المجتمع. ولذلك وظّف الأداة الروائية متجسدةً في إميل ومعلمه لتصوير الطريقة المثلى لتربية المواطن. فكتاب إميل ليس دليلاً أبوياً مفصّلاً فحسب بل وشاملاً لبعض النصائح المحددة فيما يتعلق بتربية الأطفال.يعدّه البعض رائداً في مجال فلسفة التربية في الثقافة الغربية لِما يحمل بين طياته من محتوى متكامل، وهو أحد أول الروايات التربوية.

اقسام الكتاب

قُسِّم الكتاب بمجمله إلى خمسة كتب، خُصصت الثلاثة الأولى منها للطفل إميل، ويبحث الرابع في مرحلة مراهقته، أما الخامس فيُوجز تربية شريكته صوفي بالإضافة إلى حياته الأسرية والمدنية.

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

في مفهوم الطبيعة عند جان جاك روسو:

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

لا يستقيم البحث في نظرية روسو التربوية ولاسيما في التربية الطبيعية دون العودة إلى مفهوم الطبيعة لأن تحديد هذا المفهوم يشكل حجر الزاوية في فهم معمق لأبعاد واتجاهات نظرية روسو الطبيعية في التربية.
يحدد روسو ثلاثة تجليات لمفهوم الطبيعة، يأخذ الأول منها صورة الكون أو العالم الخارجي على نحو ما يتبدى لنا بصورة موضوعية، فالطبيعة وفقا لهذا التصور هي تقاطعات كونية في دائرتي الزمان والمكان. فالأرض وما عليها من بشر وشجر وحجر، والسماء وما فيها من كواكب ونجوم وأجرام كونية تشكلان الحدود القصوى لمفهوم الطبيعة بصورته الشمولية عند روسو.
ويتجلى المفهوم الثاني للطبيعة عند روسو في العالم الداخلي عند الإنسان، فغرائزنا وميولنا الأصيلة وما فطرنا عليه من قوى داخلية منحتنا إياها الطبيعة يمثل مفهوم الطبيعة الإنسانية. وهذه الطبيعة خيرة بكل ما تنطوي عليه من غرائز وميول وقوى داخلية لأنها صناعة كونية إلهية وليست من صنع الإنسان.
أما التصور الثالث للطبيعة فيتحدد بالطبيعة الاجتماعية للوجود البشري. لقد كان روسو يعتقد بأن الإنسانية كانت في العهود لغابرة تعيش حياة طبيعية سابقة للحضارة والثقافة وهي الحالة الطبيعية. كان الناس في حالتهم الطبيعية الاجتماعية كما يصورهم في كتابه ” مقالة في العلوم والفنون ” يعيشون حالة إنسانية تتميز بأصالتها وسموها وعظمتها إذ كانت حياة الناس البدائيين تخلو من الحقد والكراهية والحسد. إنها حياة آمنة يتفانى فيها الإنسان في خدمة الإنسان ويضحي فيها الفرد من أجل الآخر والجماعة. في هذه الحالة الطبيعية كان أفراد الجماعة الإنسانية يعيشون دونما إكراه اجتماعي، فالناس يأكلون ما يجمعون ويعيشون في ظل سمو أخلاقي يفيض عليهم بكل معاني التسامح والمحبة التي كانت قانونا كليا يحكم الوجود الإنساني برمته. إلا أنه ومع ظهور الملكية الخاصة للأرض، ومع تدجين الحيوان، ومع اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يقول لأخيه الإنسان هذه لي وهذا لك، بدأت مرحلة الجشع والطمع والفزع وبدأ الصراع الإنساني نحو مزيد من السيطرة والتسلط والاستبداد، وظهر الحاكم القوي الذي فرض على الجماعة قوته وبسط جناح سلطانه وتحول الإنسان إلى عبد لأخيه الإنسان فظهرت المظالم والشقاء وامتد البؤس الإنساني ليضع الناس جميعا في حالة استلاب واغتراب. فالحالة الطبيعية الاجتماعية هنا قد انتهكت وفقدت طهارتها وأصالتها ونقاء انتمائها وصفاء وجودها. لقد انتهكت الطبيعة الإنسانية ودنست طهارتها مع ولادة الثقافة والملكية وصولة الطغاة وتسلط الحكام. وهذه الأفكار الطبيعية هنا تجد مدّها في كتاب روسو مقالة في أصل التفاوت بين البشر حيث يبين لنا كيف تطورت الإنسانية من حالة الطهارة والحرية إلى حالة العبودية والقهر (16) .
ومهما يكن الأمر فالخير كامن في طبقات الطبيعة بأبعادها الثلاثة: في الكون وفي الإنسان وفي المجتمع. ومن أجل خروج الإنسان من حالته المأساوية يتوجب عليه أن يبحث عن الفردوس في العودة إلى الطبيعة في الإنسان وفي الكون وفي المجتمع. لقد جاء كتابه ” العقد الاجتماعي ” دعوة مطلقة للعودة إلى حالة الطبيعة وإحياء طقوس الحرية والمساواة التي كانت تسود المجتمعات القديمة قبل أن يلفها الفساد. وفي التربية على الإنسان كي يتحرر من ربق العبودية والقهر وينتقل إلى الفضاء الأرحب للحرية أن يعمل على بناء الإنسان وفقا لمبدأ الطبيعة وروحها.

ينطلق روسو في منظومته التربوية من المبدأ الذي يقول بأن الطبيعة الإنسانية خيرة وأن فطرة الإنسان معدن كل خير، وهو وفقا لهذه الرؤية يعارض الأفكار السائدة في عصره التي تبنى على أن الشر أصيل في طبيعة الإنسان، وهي الفكرة التي يؤسس لها الفيلسوف الإنكليزي هوبز وأغلب رجال القرن الثامن عشر كما يؤسس لها رجال الدين والكنيسة في عصره. وعلى هذا الأساس كانت التربية وفقا لمبدأ الشر الأصيل في النفس، تؤكد أهمية اقتلاع الشر من النفس الإنسانية بما توفره التربية ذاتها من أدوات التسلط والقوة والقهر لاستئصال الشر الدفين في النفس الإنسانية. وعلى خلاف هذه الرؤية البائسة للطبيعة الإنسانية، كان روسو يعتقد بأن الطبيعة خيرة وخيرها يفيض بالمطلق، ولذلك فإن التربية يجب أن تنطلق على أساس الميول الطبيعة ليكون الطفل ابن الطبيعة وربيبها. ولأن الطبيعة خيرة فإن التربية الحرة يجب أن تعمل على تأكيد النمو الحر الطليق لطبيعة الإنسان ولقواه وميوله الطبيعية.

في التربية الطبيعية عند روسو:

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يشار إلى روسو بوصفه زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والتربية الحديثة دون منازع. وقد أودع أفكاره الطبيعية هذه في مختلف أعماله ومؤلفاته بدءا من كتابه الأول ” رسالة في العلوم والفنون ” مرورا بكتابه ” مقالة في أصل التفاوت بين البشر ” ثم في سفره المشهور “العقد الاجتماعي ” وأخيرا في كتابه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة ” إميل والتربية” . وفي هذه الأعمال جميعها نجد نسقا متكاملا من الأفكار والاتجاهات الطبيعية في المجتمع والتربية والسياسة والفلسفة. ويعد كتاباه “إميل” و” العقد الاجتماعي” أروع ما أهداه روسو لبني البشر . وفي هذا الصدد يقول بورجولان في كتابه المعروف “فلسفة الوجود عند روسو ” يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة”
ويأخذ كتابه إميل صورة عمل أدبي وتربوي صقله إلهام ارتجال عبقري يتضوع بالأحاسيس الإنسانية النبيلة. ولم يكن هذا الكتاب أبدا مجرد تلبية لرغبة السيدة شونسو من أجل تربية ابنها بل كان حركة عبقرية ألهمت الحضارة والإنسان في القرن الثامن عشر وفي الأزمنة الحديثة طرا “
يتضمن كتاب روسو في “إميل” منظومة عبقرية من الأفكار التربوية، وهي تشكل نظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعية وبمقتضى الطبيعية. ويأتي هذا الكتاب بلورة منهجية لمنظومة أعمالة السابقة التي كتبها ولاسيما مقالته في العلوم والفنون وفي اصل التفاوت بين البشر.
يفتتح روسو كتابه هذا بقوله ” كل شيء صنعه خالق البرايا حسن وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان”

. وهو في هذا القول يضع استراتيجية نظرية يؤسس عليها نظريته الطبيعية في التربية والحياة وخلاصة هذا القول تكمن في عبارة قصيرة قوامها ” الطبيعة خيرة والإنسان يفسدها”.
فالطبيعة خيرة وخيرها يتدفق بالمطلق وعلينا ” أن نؤمن إيمانا لا مرية فيه بأن الحركات الأولى للطبيعة هي دوما رشيقة وما من فساد أصيل في النفس الإنسانية أو في القلب البشري”

فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينا أن نحصن الطفل ضد الشر المستطير الذي يميد بالحياة الاجتماعية. وتأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور المجتمع وآثامه يرى روسو أن الطبيعة هي مبدأ الخير، ومنها يجب أن ننطلق إلى بناء الخير في النفوس، وتشكيل المناعة الأخلاقية في العقول، فالطبيعة هي المبتدأ والخبر في معادلة البناء الإنساني الخيّر، وفي أحضانها يجب أن ينمو الأطفال ليكونوا في منعة وامتناع عن كل ضروب الإثم والشر في التكوين الإنساني للفرد. فإميل ” ابن الطبيعة، تربية الطبيعة وفق قواعد الطبيعة لإرضاء حاجات الطبيعة”

. ومن هنا يتدفق تمرد روسو ضد المجتمع منبع الشرور والآثام.
هذا ويعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل ولذلك يجب أن نوكل أمر تربيته إلى الطبيعة ذاتها. لأن الطبيعة تريد للطفل أن ينمو نموا حرا وأن يعمل بمقتضى تكوينه الطبيعي بوصفه طفلا.
إن أعظم ما قدمه روسو للتربية يتمثل في عبقرية الكشف عن طبيعة للطفل مفارقة لما هو معهود ومألوف في عصره وفي العصور التي سبقته. يرفض روسو المبدأ التربوي الذي ينظر إلى الطفل بوصفه راشدا صغيرا، وهو على خلاف ذلك يرى بأن الطفل صغير الراشد. فطبيعة الطفل مفارقة لطبيعة الراشد نوعيا وليس من الجانب الكمي. فالطفل يختلف في مستوى قدرته على الإدراك والنظر والتحليل اختلافا نوعيا عما نجده عند الكبار. يروي روسو قصة ذلك الطفل الذي حكيت له حكاية الإسكندر الكبير وطبيبه، لقد كان هذا الطفل معجبا إلى حد كبير بشخص الإسكندر وشجاعته، ولكن هل تعلمون أين كان يرى موطن هذه الشجاعة؟ كان يراها في قدرة الإسكندر على تجرع شرابا سيء الطعم، وفي هذا المثال يبين روسو أن إدراكات الطفل وطريقة نظرته إلى الوجود مختلفة كليا عن الراشد فالطفل لا يمتلك هذا التفتح الذهني الذي يمكنه من فهم العالم بما ينطوي عليه على النحو الذي يدركه الراشدون. ومن هذا المنطلق ينادي روسو بأهمية معرفة طبيعة الطفل على نحو ما تفرضه هذه الطبيعة من خصوصية مفارقة لطبيعة الراشدين. ولروسو فيض من القول في طبيعة الطفل ومن أشهر مقولاته في هذا الخصوص:”تعلموا كيف تتعرفون إلى أولادكم لأنكم يقينا تجهلونهم كل الجهل” ولماذا هذا الجهل لأن الكبار ينظرون إلى الصغار نظرة الراشد إلى الراشد وليس نظرة الكبير إلى الصغير. نحن ” نجهل الطفولة الجهل كله وكلما راودتنا الأفكار الخاطئة التي نملكها عنها ازداد ضلالنا”

. إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء الإنسان على صورة الطبيعة أي كما خلقه الله وكما يريد له أن يكون
.
وهنا نجد أن روسو غالبا ما يكرر أقواله المأثورة:” دعوا الطفولة تنمو في الأطفال”… ” دعوا الطبيعة تعمل وحدها زمنا أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها.”احترموا الطفولة ولا تتسرعوا أبدا بالحكم عليها خيرا كان أم شرا”(….) ” فالإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله بل وظيفة ضرورية للنمو “. وكثيرا ما كان يقول ” الطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيرة طالما تعمل وحدها وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها “

.
تتضمن التربية الطبيعة عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة والأطفال. وقد استلهم روسو هذا العطف على الطفولة من الحرمان العظيم والبؤس الخانق والآلام الفادحة والمدمرة التي عاناها في طفولته المعذبة. وفي حنانه هذا زفرة طفولة مقهورة وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة الأطفال والعناية بهم. يقول روسو والقول يتدفق بأعظم معاني الحنان والحب للطفولة والأطفال: ” أحبوا الطفولة، يسروا لها ألعابها ومسراتها وفطرتها المحبوبة. من منكم لا يأسف أحيانا على تلك السنين التي لا تفارق فيها الابتسامة الشفتين(…) فلم تريدون أن تحرموا هؤلاء الصغار الأبرياء من متعة فترة تكاد من قصرها تفوتهم(…) ولم تريدون أن تملؤوا بالمرارة والآلام هذه السنوات الأولى الخاطفة التي لا تعود إليكم؟ أيها الآباء، هل تعلمون الأجل الذي ينتظر فيه الموت أبناءكم؟ قلا تتهيؤوا للندامة إذ تحرمونهم من الهنيهات القليلة التي منحتهم إياها الطبيعة. متّعوهم بلذة الوجود منذ أن يصبحوا قادرين على الاستمتاع بها حتى إذا دعتهم المنية في ساعة من الساعات، لم يموتوا قبل أن يتذوقوا الحياة ويقضوا منها وطرا”

.
ويمكن تحديد أهم المبادئ الأساسية لطبيعة الطفولة في التربية عند روسو على النحو التالي

:
1- طبيعة الطفل خيرة وليس شريرة.
2- يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.
3- التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن ذلك.
4- تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر الأطفال لأن طبيعة الطفل هي التي تحدد نوع التربية الممكن.
5- العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية التربوية.
التربية الحرة:

ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة وإيمان متفجر بمبدأ الحرية الإنسانية. وتتجلى هذه التربية السلبية في رفض مطلق لكل إكراهات التسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتشع في تصوراتهم وممارساتهم الإنسانية والتربوية.

يقول روسو “

الحكمة البشرية ذاتها لا تنطوي إلا على تحكمات استعبادية، فعاداتنا لا تعدوا أن تكون إذلالا واستعبادا، وكبتا وألما فالرجل المتمدن يولد ويعيش ويموت في حالة عبودية: يلف عليه القماط يوم يولد، ويزج في الكفن يوم يموت ويغلق عليه التابوت يوم يدفن، وما دام حيا فإنه يكون مقيدا بأغلال الأنظمة المختلفة “

إنه يقترح عبر مفهوم التربية السلبية ثورة تربوية عارمة تحرر الإنسان من قيوده وتحطم أغلاله وأصفاده. نادى روسو بمبدأ التربية السلبية فالتربية الأولى التي تقدم للطفل يجب أن تكون سلبية وهي لا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة، ولكن قوامها المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل. ويعتقد روسو التربية الحقة تكون في النمو الحر الطليق لطبيعة الطفل وقواه الداخلية وميوله الفطرية. والتربية التي ينشدها ليست نفيا للتربية بل هي رفض للأساليب التربوية التقليدية السائدة التي تزج الإنسان في مدافن العبودية والإكراه. فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل أن ينمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيرة. إنها التربية التي تتيح للطفل أن ينمو روحيا وعقليا ونفسيا نموا حرا أصيلا خارج دوائر الإكراه والتسلط والقهر. فالتربية السائدة تربية إكراه تفقد الإنسان براءته وأصالته لأنها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة. ولذلك فإن التربية السلبية تشكل نفيا للعادات والأساليب التربوية السائدة في عصره. وهو يقول في معرض وصفه للتربية الإيجابية بأنها هذا النوع من التربية الذي يساعد على تكوين العقل قبل الأوان كما يساعد على تلقين الطفل واجبات الرجال. وهو لا يعني بالتربية السلبية حالة من السكون والكسل بل هي نوع من التربية الحرة التي لا تسبب الفضيلة ولكنها تحمي القلب من الرذيلة. وعلى خلاف ما هو معهود وسائد في عصره يؤكد روسو ألا شر أصيل في النفس الإنسانية ومن هذا المنطلق فإن طبيعة الطفل خيّرة بالمطلق وأن التربية الحقة تجري على نبض الإيقاع الداخلي لهذه الطبيعة.
التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نماء طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم. وكأننا بروسو في هذا التوجه يميل إلى الاستغناء عن المربي كليا، وميلا إلى أن يوكل مهمة تربية الطفل إلى الطبيعة ذاتها وأن يدع الطفل منفردا في صدامه مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها. فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف على إميل عن بعد، وهو ليس مطالبا بالتدخل إلا حينما تقتضي الضرورة القصوى تدخله. وليس على المربي أن يحتسب الزمن والوقت في عملية نماء الطفل وتربيته بل يجب عليه أن يبدد الزمن ويهدر إمكانية الإحساس به لأن إميل يختمر ويتكوّن وكلما كان نضجه في ظرف زمني هادئ مستريح في صدر الزمن كلما كان ذلك في مصلحة البناء والتكوّين والإعداد التربوي عند إميل. والقاعدة التي يعلنها روسو في هذا الصدد تقول وتشدد القول ” بأن ليست أهم قاعدة في التربية أن نربح الوقت بل أن نضيعه”.

وانطلاقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيرة وأن المجتمع يفسدها فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز إلى أمرين أساسيين:

  • حماية إميل من الفساد الاجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.
  • مجاراة التطور الطبيعي في الطفل لأن الطفل يمتلك شروط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.
    تنطوي التربية السلبية على ثلاثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة:
  • الحرية الجسدية التي توفر للطفل كل ما يحتاجه من إيقاعات النماء الجسدي الحر الذي يأخذ مساره عبر النشاطات والفعاليات والألعاب وتترك لجسده الحرية. وهنا يجب نرفض كل ما من شأنه أن يقيد حرية الطفل الجسدية. ومن هنا جاء رفض روسو للقماط وهجومه العنيف على الأساليب التربوية التي تمنع الطفل من إمكانيات الحركة والقفز والانطلاق واللعب، وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل. كان روسو يعتقد بأنه لا يمكن للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر، لأن الحرية كينونة صماء لا تقبل التجزئة والانشطار. ولا يمكن لإنسان ما أن يكون حرا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.
  • الحرية العاطفية والانفعالية: إذ يتوجب إبعاد إميل عن كل ما من شأنه أن يفرض على الطفل مشاعر مقننة وعواطف جامدة معلبة أو مثلجة. فالتطور الطبيعي للطفل يكون في أن نترك لمشاعره الداخلية حرية النمو وفقا لاندفاعات إنسانية داخلية نابعة من أحاسيس الطفل وتجربته ومشاعره، وتلك هي الخصوصية التي يجب ألا تتعرض لعدوان الراشدين وتسلطهم. إن التدخل في توجيه النمو العاطفي والانفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل، وهو إكراه يتجاوز كل إكراه، لأن الروح، وهي أعمق وأقدس ما في الإنسان، يجب أن تترك حرة أصيلة رشيقة كما تفرضها الطبيعة. دعوا الأطفال يتذوقون العالم عبر إحساسهم الإنساني بعيدا عن كل أشكال التسلط والإكراه. فللطفل أن يشعر بحرية أن يحب ويكره ويغضب ويتسامح بحكم مشاعره الداخلية وعلى منوال ما تفرضه روحه الداخلية التي تفيض بالعطاء.
  • الحرية العقلية: ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما لا يحتمل وما لا يستسيغ. إن الاغتراب الحقيقي يكون عندما نفرض على عالم الصغار رؤانا ومعتقداتنا وأن نعلمهم وبصورة مبكرة ما نرغب من العلوم والمعارف. إن التعليم المبكر يقض مضاجع الأطفال ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفالا. وهنا يرى روسو أن القاعدة في تعليم الأطفال وتشكيل عقولهم ليست في أن نربح الوقت ونقتنص الزمن بل تكون في هدر الزمن وتضييع الوقت بالمعنى التقليدي، فتضييع الوقت وهدره في التربية الطبيعة وفقا لمفهوم روسو هو عملية استثمار عظيمة، لأن كل لحظة تبذل في سبيل التربية تجد مردودها العظيم في التكوين الخلقي والإنساني للطفل، لأن عقل الطفل يكون في المراحل الأولى في مرحلة التكوين، وهو الخاصة الإنسانية التي تنضج متأخرة. وفي هذا يقول روسو: لو كان بيدي لجعلت الطفل لا يعرف يمينه من يساره حتى الثانية عشرة من عمره. وهو بذلك يريد للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم وأن يكون في مرحلة يمتلك فيها زمام نفسه وعقله بحيث لا يقبل إلا ما يراه وفقا لمقتضى طبيعته بأنه صحيح وخير وأصيل. إنه ينادي بألا نهتم بالإعداد العقلي للطفل حتى بعد سن الثانية عشرة، لأن فترة الطفولة هي فترة الركود العقلي وهي مرحلة كومونية لا نستطيع أن نتصور مدى أهميتها، ولذلك يجب ألا ندفع الطفل إلى التفكير أو إلى القراءة أو إلى بذل أي مجهود عقلي في هذه المرحلة.
    وتعتمد التربية السلبية على قانون الجزاء الطبيعي، بحيث ندع الطفل يتحمل النتائج الطبيعية لأعماله دون تدخل أي إنسان. ويرى روسو في ذلك أن المربي يمكنه أن يقوّم أخلاق الطفل طالما يبين له أن العقوبة كانت طبيعية مثال: إذا أبطأ الطفل في ارتداء ملابسة للخروج للنزهة فاتركه في المنزل. وإذا أفرط في الأكل أتركه يعاني ألم التخمة. وباختصار دعه يتحمل النتائج الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.
    وباختصار شديد التربية السلبية لا تعني نفيا للتربية، بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة، وإذا كانت التربية الإيجابية تسعى إلى تكوين النفس قبل الأوان فإن التربية السلبية تسعى إلى تعبيد طريق المعرفة وجعل أدواتها جاهزة قبل إعطاء المعرفة. إنها التربية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين نمو العضوية والنفس والعقل عند الأطفال. وهي تنطلق من مبدأ النمو الذاتي الحرّ لطبيعة الطفل. إنها لا تعلم الفضيلة بل تجنيب القلب من الوقوع في الرذيلة وهي، في جماع عبارة واحدة، النمو الحر لطبيعة الطفل وميوله الطبيعية.
    ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧ من الميلاد إلى الخامسة:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يؤكد روسو على أهمية الأبوين كمربيين طبيعيين للطفل، فالأبوان هما ال أكثر قدرة على أن يمنحا الطفل الحنان الضروري لنموه إنسانيا وأخلاقيا على نحو طبيعي. فالأب هو المعلم الطبيعي والأم هي حاضنته. ويعلي روسو هنا من شأن الأم على نحو خاص في العملية التربوية، وكان يلح دائما على دور الأم بقوله “إذا أردتم أن تعيدوا كل إنسان إلى واجباته الأولى عليكم البدء بالأمهات وستعجبون لما تحدثونه من تغيرات”
في هذه المرحلة يجب على الأبوين رفض جميع الأساليب التربوية التقليدية السائدة واعتماد المنهج الطبيعي في التربية. وتكون البداية بإرضاع الطفل إرضاعا طبيعيا من صدر الأم، ويحذر من تغذية الطفل من غير صدر أمه كما كان سائدا في ذلك العصر. ويرفض روسو بمطلق الرفض أن يعهد بالأطفال إلى مربيات ومرضعات، ويهيب بالأمهات أن تقوم بواجبات الأمومة لأن غير ذلك يؤدي إلى مخاطر مذهلة يتصدع لها عقل الطفل وقلبه. وكان في هذا الصدد يرفض أن يغسل الطفل بالخمرة والنبيذ ويرفض هذا على مبدأ أن الخمرة شراب متخمر وبالتالي فإن الطبيعة لا تنتج ما هو متخمر.
يرفض روسو قطعيا وضع الطفل في القماط المعهود أو في ” المهاد” لأن المهاد يمنع عليه الحركة وتدفق الدماء ويميت قلبه الحر، ويحذر من استخدام هذه الطريقة كما يحذر من آثارها المدمرة للطفل جسديا ونفسيا. ويؤكد أهمية اللعب بمستوياته المختلفة، حيث يأخذ اللعب مستويات تتدرج وفقا لعمر الطفل في مدى وحدود هذه الفئة أي من الميلاد إلى الخامسة من العمر. فإميل في هذه المرحلة يجب أن يتكوّن جسديا على محك الألعاب الرياضية. فالرياضة المضمخة باللهو والتسلية واللعب هي الرياضة التي تناسب نمو إميل جسدا وعقلا. وهو يعتقد في هذا الصدد بأن جميع الرغبات الشهوانية تجد لها مسكنا في الأجسام الضعيفة، وكل ضعف يولد ضعفا، والطفل لا يكون سيء الخلق إلا لأنه ضعيف فإذا قويته تحسن وتم له النماء الأخلاقي والجسدي في آن واحد. يرفض روسو تلقين إميل فيضا من الكلمات والمفردات اللغوية ويريد لإميل هذا أن يحقق تناسقا بين نموه اللغوي ونموه الفكري. وباختصار فإن روسو يؤكد في هذه المرحلة العمرية على:

  • عدم استخدام القماط.
  • دعوة إلى الرضاعة الطبيعية.
  • أن تكون التربية عملية نمو داخلية عضوية.
  • الابتعاد عن الأوامر والنواهي.
  • التأكيد على التربية الجسدية.
    التربية من الخامسة إلى الثانية عشرة:
    يركز روسو على أهمية هذه المرحلة ويعتقد بأنها من أخطر المراحل التربوية في حياة الإنسان. وهو يؤسس للتربية في هذه المرحلة وفقا لمبادئ ثلاثة:
    1- على إميل أن يستمد معلوماته وخبراته عن طريق الحواس والتجربة والاحتكاك المباشر مع الطبيعة.
    2- يجب على التربية في هذه المرحلة أن تكون تربية سلبية حيث يترك الطفل في غفوة أشبه بالسبات بعيدا عن مختلف التأثيرات الخارجية. وهنا يجب على المربي عدم التدخل إلا عندما تقتضي الضرورة. لأن إميل يتكوّن تكوّنا طبيعيا في هذه المرحلة وحري بنا أن نجعل الطبيعة تفعل فعلها وتنهض بواجبها دون تدخل المربين والكبار.
    3- التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي، فعندما يسقط إميل يتألم، وعندما يتخم يعاني من الألم، وعندما يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام، وعندما يضع يده على مكان لاهب يشعر بألم الحرارة ووخزها، وفي كل هذا يجب أن يشعر الطفل بأن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا ينبع من طبيعة الأشياء ذاتها وأن هذا العقاب لم يكن انتقاما أو إكراها يمارسه الكبار. وباختصار أيضا

يؤكد روسو على المبادئ التالية في هذه المرحلة:

  • التربية السلبية في مختلف مستويات هذه المرحلة.
  • التربية الأخلاقية عن طريق النتائج الطبيعية.
  • تدريب الحواس لا تدريب العقل.
  • التعلم بالأشياء والخبرة والتجربة.
  • لا حاجة إلى القراءة والكتابة.
    التربية من سن الثانية عشر إلى الخامسة عشرة
    في هذه المرحلة تبدأ عملية تعليم إميل، لأن مرحلة الغفوة والسبات قد انتهت وقد اكتملت لإميل أسباب التعلم بعد أن نضجت ملكاته الطبيعية وبعد أن خمرته الطبيعة وسوته وهيأته لتلقي المعرفة الإنسانية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير ثقافية. لقد آن الأوان لتعليم إميل وتزوده بالمعرفة والمعلومات والمعارف. وفي هذه الفترة كما يقول روسو تزداد فيها قوة الفرد على ما يحتاج إليه.
    ومع أهمية هذه المرحلة وضرورة التعلم فيها فإن روسو يرسم سبل التعلم والاكتساب ويحدد مساره وطريقته. فالتعلم والاكتساب يجب أن يتم عن طريق التشويق وأن يتساوق مع الرغبة في التعلم وحب الاستطلاع، وهنا يجب أن يكون ميل إميل وتعطشه للعلم والمعرفة ناجما عن رغبات طبيعية أصيلة في أعماقه.
    ومن حيث طبيعة المعرفة التي يجب أن نزودها للطفل يجب أن تكون متوافقة مع اهتمامات الطفل ولاسيما هذه التي تدفعنا غرائزنا إلى تتبعها والتي تتضح أهميتها وفائدتها العملية بالنسبة لإميل.
    على الطفل كما يؤكد روسو وينصح أن يقرأ قصة “روبنسون كروزو” لأن هذه القصة تؤكد أهمية التعلم وفهم الحياة وفقا لقوانين الطبيعة حيث تبرز أهمية الاعتماد على النفس فيها.

ويجب على إميل أن يتعلم حرفة بحد ذاتها، وذلك ليس من أجل الكسب، بل من أجل غرض أسمى من هذا، وهو التغلب على العقائد الفاسدة التي تحط من قدر هذه الحرفة؛ وعندما نؤكد من جديد على أهمية التجربة الذاتية، ويكون التعليم مناسبا لحاجات إميل وميوله، فإن إميل سيصبح شخصا مجدا هادئا صبورا مملوءا بالشجاعة والثقة، وقادرا على أداء وظيفته الحيوية والاجتماعية بصورة تجعله أكثر قدرة على التكيف والاستمتاع بحياته وتحقيق السعادة الطبيعية المنشودة.
وفيما يتعلق بالمواد الدراسية يتوجب علينا أن نعلّم إميل العلوم الطبيعية مثل الفلك والجغرافيا وخير وسيلة لتعلم الخرائط هي الأسفار والتنقل والترحال. وهو يرفض تعليم إميل النحو واللغات القديمة والتاريخ لأنه يريد لإميل أن يعيش في عزلة عن المجتمع وفي دائرة الطبيعة تحديدا.

وفي منهج التعليم، يرفض روسو مبدأ الخطب الرنانة المصقعة، ومبدأ النصح والإرشاد، ويؤكد على الأهمية الكبرى للمارسة والتجربة ويقول ” لنحوّل إحساساتنا إلى أفكار، وعلينا أن نتجنب القفز مباشرة من عالم المحسوس إلى العالم المجرد، ولنتحرك وبأناة وروّية من فكرة محسوسة إلى فكرة محسوسة، لنتعلم عن طريق الأشياء، وعلينا أن نبتعد عن معالجة الأشياء بالرمز طالما نستطيع أن نرصدها أشياء في دائرة المكان والزمان”.

من سن الخامسة عشرة إلى العشرين

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇♧◇

في هذه المرحلة تنمو استعدادات إميل وقدراته على التكيف مع الآخرين والحياة الاجتماعية، وقد آن الأوان ليصبح إميل كائنا اجتماعيا فاعلا ومشاركا في دائرة الحياة التي تنتظره في المجتمع. ومن أجل هذه الغاية يتوجب علينا أن ندربه على العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين. في هذه المرحلة يكون إميل قد اكتمل نضجه جسديا وحسيا وعقليا، وقد آن الأوان لكي يتشكل عاطفيا وروحيا.
فالتربية في المراحل السابقة كانت تربية ذاتية تهدف إلى بناء الجسد والنفس، أما الآن فيجب إعداد إميل من أجل الحياة الاجتماعية، وعلينا أن ندربه على امتلاك شروط العلاقة الاجتماعية وفقا للمعايير الاجتماعية التي يفرضها تكيف الأنا مع الآخر.
تسعى التربية في هذه المرحلة إلى تنمية الوجدان وبناء الأخلاق الاجتماعية، حيث تنتهي في هذه المرحلة فترة التعليم أو التربية العادية أو السلبية كما يحلو لروسو أن يسميها. وهنا يؤكد روسو في هذه المرحلة على التربية الدينية والأخلاقية. ولكنه يرفض الأساليب القديمة في تشكيل إميل أخلاقيا ولاسيما أخلاق النصح والإرشاد حيث يجب على إميل أن يكتسب عمقه الأخلاقي عن طريق الممارسة ومحاكاة أبطال التاريخ.
وفي هذه المرحلة أيضا تبدأ إمكانية بناء صلة دينية بين إميل وربه، وتتوجب تربيته الدينية على قيم الحق والخير والجمال. فالطفل يمتلك القدرة في هذه المرحلة على فهم أمور الدين ويمكنه أيضا أن يدرس البلاغة والتاريخ والمسرح لأن هذه المرحلة تمكنه من تذوق الفن والاستمتاع بالقراءة والمطالعة.
فإميل يمتلك في هذا العمر رصيدا محدودا من المعرفة ولكنه يمتلك هذه المعرفة امتلاكا حقيقيا والمعرفة التي يمتلكها معرفة نابعة من صميم الأشياء وراسخة في قلب إميل وعقله، وهناك أشياء كثيرة أيضا مازال يحتاج إلى معرفتها وهناك أشياء لا يعرفها ولا يحتاج إلى معرفتها ولكنه يمتلك القدرة الكلية على معرفة كل الأشياء.

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

تربية المرأة :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يكرس روسو الجزء الخامس من كتابة إميل لتربية المرأة التي أطلق عليها اسم(صوفي)، وهي تظهر مباشرة في الكتاب دون تمهيد يذكر. يؤكد روسو في هذا الجزء على أهمية التربية الجسدية لصوفيا، ويرى بأنه يتوجب عليها أيضا أن تتعلم فن الطهي والتطريز والموسيقى والعناية بالطفل وعدم الاهتمام بالعلوم. وهنا نجد أن روسو كان كلاسيكيا وعدوانيا في نظرته إلى المرأة، فوظيفة المرأة هي إسعاد الرجل وإرضائه والقيام بتربية الأطفال. وهو يقف موقفا سلبيا من المرأة المثقفة التي قد تكون وبالا على زوجها وأطفالها وعائلتها. وكثيرا ما يؤخذ على روسو هذا الموقف المتوحش من المرأة، ويؤخذ عليه أيضا أن آراءه متطرفة وعنصرية وغير إنسانية فيما يتعلق بدور المرأة ووضعها الإنساني والاجتماعي. ومن أوجه الغرابة في هذا الموقف أن روسو كان في سيرة حياته كلها يدين للمرأة التي كانت عونه في مسيرته الإبداعية والفكرية والحياتية. فعبقرية روسو وحياته كانت وليدة عناية أنثوية خالصة، ولا يخفى على من يقرأ سيرة حياته أنه كان مدينا للمرأة الأم والصديقة والزوجة والعمة التي كثيرا ما كان ينهمر دمعه على عمته وعلى عدة نساء كان لهن دورا عظيما في حياته، فلمسة الحنان الوحيدة في حياته كانت هي لمسة المرأة. فصوفيا في هذا الكتاب لا تمتلك إلا على فضائل ثانوية وهي الفضائل التي تتصل بالحياة الزوجية والأسرية وهي كما يصورها روسو شخص ناقص يحتل مرتبة دنيا في عالم إميل وحياته.

مكانة روسو في الفكر الانساني العالمي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

سجل روسو نفسه في تاريخ الفكر مربيا ومعلما وفيلسوفا وأديبا وثائرا، وكانت سيرته الحياتية والفكرية من أغرب السير التاريخية في تاريخ الفكر إن لم تكن أغربها على الإطلاق. ومن أوجه الغرابة والإدهاش في هذه السيرة أننا مع روسو نجد أنفسنا أمام عبقرية شمخت ونهضت على أعمدة القهر وعلى ثوابت الألم والهزيمة. وعلى هذا الأساس شيّد مملكته الفكرية الجبارة الفيّاضة بكل المعاني الإنسانية النبيلة والخلاقة. لقد أحدث انقلابا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده. ولا غرابة في ذلك فهو مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة.
وما يدهش أن علم النفس الحديث والنظريات التربوية الحديثة قد استجابت لاندفاعات روسو العبقرية الجامحة المتمردة. ولم تستطع الانتقادات التي وجهها العلماء والمفكرون والكتاب لنظريته التربوية والاجتماعية أن تنال من شموخ هذه النظرية بل زادتها شموخا وتمردا. صحيح أن مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة ولكن جوهرها الإنساني مازال يحلق في الأجواء الشامخة.
إن ما اكتشفه روسو بفطرته وعواطفه ونبيل إحساسه الإنساني وعبقريته الأدبية كان كشفا عن مناطق مظلمة في حياة الإنسانية فأراد أن يطرد منها العتمة ويحررها من الجمود عبر شطحات عقل ثائر متمرد. وما حمله روسو إلى البشرية عبر نظريته التربوية تارة والاجتماعية تارة أخرى لا يضاهيه عطاء. لأنه وباختصار جاء ينتصر للأطفال والضعفاء والمظلومين والمحرومين والمقهورين، جاء ليحرر الطفل من ظلمات القرون الوسطى لأن الطفل في نظريته رمز البراءة والعطاء بل هو هبة الله ولذلك فإن سعادة الأطفال يجب أن تكون هدف التربية بالمطلق.
وإذا كان عصره لم ينصفه، إذ عاش حالة التشرد والقهر مظلوما مهزوما في وطنه، فإن روسو اليوم يمثل رمزا من رموز الحضارة الإنسانية التي تفتخر به فرنسا ثقافة وحضارة، وهو الذي هجرته الأيام فعاش متوحدا حزينا مقهورا مغلوبا مطاردا من قبل رجال الأمن والسلطات في عصره. ومن من المفكرين في القرن التاسع عشر ولاحقا في القرن العشرين من لا يدين لروسو الأب الروحي للتربية الحديثة. فالتاريخ يعلمنا بأن جميع المبدعين من بعده في مجال التربية والفكر الاجتماعي يدينون له ويأخذون عنه ويتمثلون جوهر رؤيته للتربية والإنسان.
ليس غريبا أن يكون كتابه العقد الاجتماعي طفرة فكرية وجهت عمل الثورة في فرنسا وهي أعظم ثورة تشهدها أوربا ضد القهر والاستبداد والإرهاب. وليس غريبا أيضا أن يحدث ثورة تأخذ طابع الاستمرار في مجال التربية. لقد وضع روسو حجر الزاوية لانقلاب فكري تربوي أتى على كل التراث القديم في مجال التربية وأحدث انقلابا كوبرنيكيا في المفاهيم والرؤى والتصورات. وستبقى نظريته في العقد الاجتماعي ونظريته في التربية أحجارا كريمة براقة في عقد الفكر الإنساني الحر إلى الأبد.

المصادر والمراجع

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

  • بو منرو، المرجع في تاريخ التربية، ترجمة صالح عبد العزيز و حامد عبد القادر، مكتبة النهضة المصرية، 1949، الجزء الثاني، ص 229.
    السيد محمد بدوي، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 94

جان جاك روسو، إميل والتربية، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

  • عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1984، ص 377. جان جاك روسو، أصل التفاوت بين البشر، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

العدمية والتشائم بين أبوالعلاء المعري والفيلسوف الالماني شوبنهاور – فكرة وجود وخلاص

عندما اتخذ مؤسس الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت مبدأ الشك لليقين، كان الإمام الفيلسوف أبو حامد الغزالي قد سبقه فى ذلك بعدة قرون، وكذلك كانت أسبقية ابن خلدون على كارل ماركس فى علم الاجتماع. وإذا كان دانتي قد اقتبس فكرة “الكوميديا الإلهية” من كتاب المعري “رسالة الغفران” بعد ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، فإن الأخير كان أيضاً سباقاً بطرح “العدمية” قبل شوبنهاور والفلسفة الوجودية عموماً وبزمن بعيد.

ولقد فضلنا المقارنة هنا بين أبي العلاء المعري “973-1057” والفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور “1788-1860”، دون سارتر وغيره، لأن القاسم المشترك فيما بينهما هو التشاؤم من جهة. وتقارب نوع ما للوضع الفردي حياتياً من جهة أخرى. وسوف نعتمد بشكل عام على ديوان “اللزوميات”، وعلى كتاب “العالم كإرادة وفكرة” الترجمة الإنكليزية. وقبل أن نحلل العدمية بين هذين الكبيرين، علينا أن نعلم بأن تشاؤمية المعري كانت أسبابها: أنه فقد بصره بعدما أُصابه الجدري وهو في سن الرابعة من عمره.

وقطع دراسته فى كبرى مكتبات طرابلس الشام بعد وفاة أبيه المفاجئ ، وكذلك ترك دراسته فى بغداد عندما سمع بمرض أمه، ثم خبر وفاتها وهو في طريق العودة إليها. علاوة على الاضطراب السياسي والحزبي بين الحمدانيين والفاطميين، والنزاعات الحربية مع الروم البيزنطيين. أما بالنسبة إلى شوبنهاور فإن أباه قد مات منتحراً عام 1805، وسلوكية أمه معه لم تكن بالموقع الحسن، حيث كانت من أروع من نبغ فى عصرها بكتابة القصة، وترفض أن يعلو شأنها الأدبي أى شخص حتى لو كان وحيدها آرثر.

فكانت تقسو عليه وتجافيه، خصوصاً بعدما أخبرها الشاعر الكبير غوته بعظمة عقلية ابنها في المستقبل. فضلاً على ذلك سلسلة الحروب النابليونية والاضطرابات السياسية التى كانت تسود أوربا على مدى عقدين من الزمن.

وهكذا طغت الصفة التشاؤمية على عقلية وتفكير المعري وشوبنهاور، إذ جمعتهما حالة متقاربة الشبه رغم الفارق بين ظرفي الزمان والمكان والوضع العائلي والتناحر السياسي ورحى الحروب الطاحنة.

لذا أمسيا ينظران إلى العالم والطبيعة والمجتمع والفرد من زاوية كالحة لا تطاق. ما الخير والسعادة عندهما إلا أمور سلبية سرعان ما تأتي سرعان ما تزول، لأن الحياة ملؤها التعب ليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، والوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:

ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها

فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد

أو

نزول كما زال آباؤنا

ويبقى الزمان على ما ترى …

ويرى شوبنهاور بأن في “كل فرد حوض من الألم لا محيص عنه”، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأن هذا الألم له نهاية، فإنه سوف “يحل مكانه على الفور عناء آخراً” وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص.

إذن فإن القاعدة الحقيقية للبشرية جمعاء داخل هذا العالم هو الألم المستديم، وإذا تساءلنا علام كل هذا التشاؤم الدامس؟ يأتينا الجواب من المعري:

فى العدمِ كنا وَحُكمُ الله أوجدنا

ثم اتفقنا على ثانٍ من العدمِ

أو

-نمرُ سراعاً بين عدمينِ مالنا

لباثُ كإنا عابرون على جسرِ

وينص شوبنهاور أيضاً على أن “الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم”، وفى كلتا الحالتين لا خير فى هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

العقل

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

رغم أن المعري وشبونهور يعتبران فيلسوفين مثاليين، إلا أن المعري كونه شاعر أولاَ، لذا فإنه يمتلك ذبذبة غير مستقرة تجاه العقل، عكس شوبنهاور الذى يمتلك فكراً فلسفياً مستقراً، فإذا كان الأخير قد وضع العقل بعد الإرادة منزلة، فإن المعري نراه تارة ينظر إلى العقل على أنه المرشد الصحيح لأصول المعرفة حيث يقول:

إذا تفكرتَ فكراً لا يمازجهُ

فساد عقلٍ صحيحٍ هانَ ما صعبا

أو

ولو صفا العقل ألقى الثقلَ حاملُه

عنه ولم ترَ في الهيجاء معترِكا

وتارة أخرى يمجده أيما تمجيد ويعلو من شأن قدرته حتى يصل به إلى درجة النبوة فى عالم الغيب، وعلينا أن نشاوره وحده:

أيها الغر إن خُصصتَ بعقلٍ

فاسألنهُ فكل عقلٍ نبي

أو

فشاور العقل واترك غيره هدراً

فالعقل خير مشير ضمه النادي …

ولكن فجأةً يعود ويحط من شأنه وقدرته ويساوي بين منزلة العالِم والجاهل:

وما العلماء والجهال إلا

قريب حين تنظر من قريبِ …

هي ذي تذبذبات المعري، ولا غرابة فى ذلك لكونه شاعراً وتغلبه روح التوصية. علاوة على أنه صاحب عاهة مستديمة:

فاحذر ولا تدع الأمور مضاعة

وانظر بقلبِ مفكرٍ متبصرِ

أما شوبنهاور فالعقل عنده الأساس في البحث عن الحقيقة ويهاجم الفلسفة المادية متسائلاً: كيف نفسر العقل بأنه مادة ما دمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟ ..ثم لا يمكن أن نستدل عن كنه الحقيقة بالبحث عن المادة ذاتها وثم ننتقل إلى التفكير والعكس هو الصحيح عنده، حيث “أننا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج”. لذلك أوجب معرفة طبيعة عقولنا أولاً، ثم ننظر إلى العالم الخارجي ثانياً.

وهنا يفسر لنا شوبنهاور لماذا يعتبر العقل أقل أهمية من الإرادة. وحسب تصوره، أن “أغبى إنسان ينقلب إلى مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه للبحث تمس رغباته مساً قريباً.

وإذا حاولنا أن نجعل العقل محل “الإرادة” فهذا خطأ يجب علينا تجنبه. لأن العقل “قد أنتجته الطبيعة ليخدم إرادة الفرد”. كما وأن شخصية الفرد تشكلها إرادته لا عقله، كون أن الإرادة “هي العنصر الوحيد الدائم الثابت”. فالعالم والطبيعة والإنسان عنصرهم الحقيقي هي الإرادة.

إذا أردنا أن نشير إلى الفارق هنا بين المعري وشوبنهاور، فإن الأول لم يتأثر بفكر فلسفي معين، ولم يبن فلسفته على أنقاض من سبقه أو يضعها مقابل من عاصره. أعني أن مبدأه في العقل نابع من إحساسه الفكري الممزوج بالروح الشعرية، بينما الثاني فقد شيد مبدأه فى العقل مقابل فكرة مواطنه عمانوئيل كانت “الشيء فى ذاته”. ومعاصره جورج هيجل في “الفكر وحدة عضوية”.

حكمة الموت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن المعري وشوبنهاور ينظران إلى الموت بأنه نعيم، حيث يقطع عنا عناء الألم، بل إنه راحة أبدية ورقاد يستريح فيه الإنسان حسب قول المعري:

ضجعة الموت رقدة يستريح –

الجسم فيها والعيش مثل السهادِ

أو

موتٌ يسير معه راحةٌ

خيرٌ من اليسرِ وطول البقاء

ويذهب بعدميته بُعداً تشاؤمياً حاداً عندما يتمنى أن ينقطع النسل ويموت حتى الطفل الرضيع، ويرى العدم نعمة:

فليت وليداً ماتَ ساعة وضعهِ

ولم يرتضع من أمهِ النفساء

أو

وأرحتُ أولادي فهم في نعمة

العدمِ التي فضلت نعيمَ العاجلِ

ورغم أن شوبنهاور يعتبر الموت مروعاً مفزعاً لكنه أعظم النِعم البشرية، حيث أن حب الحياة مسألة باطلة كاذبة ويجب مقاومة إرادة النسل، إذ “أن إشباع الغريزة الجنسية هو الذي يستوجب المنع لأنه أقوى ما يثبت شهوة الحياة”.

إن هذه السوداوية المضنية إنما تعكس الوضع السلبي الذى عاناه المتشائمان المعري وشوبنهاور حياتياً واجتماعياً. فقد بقيا وحيدين دون أهل ولا أصدقاء، أو لنقل رفضا الزواج والخلان وفضلا الانطواء عن المحيط الذى لم يعزلهم.

الخلود

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يذهب الفيلسوفان في هذا المجال بالامتداد التشاؤمي عن أمور الدنيا وما يتعلق بأمر الخلود، فالمعري، وكما معروف لنا، يخضع إلى الشحنات النفسية التي تجتاح جوانحه. فإن كانت سلبية كفر الدين والآخرين، وإن كانت إيجابية تعيده إلى ركن الإيمان. ومع ذلك نجده فى كلتا الحالتين ينفي وجود حياة بعد الموت:

حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ

حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو

أو

-أرى هذيانا طال من كل أمة

يضمنه ايجازها وشروحها

وأوصال جسم للتراب ما لها

ولم يدر دار أين تذهب روحها ؟

ثم يخبرنا بأنه سيرحل عن هذا العالم المادي، ولكن إلى أين؟ لا يعلم! ولذلك يطالبنا بأن لا نرجو منه عودة:

سأرحل عن وشيك ولست بعالم ٍ

على أي أمرٍ لا ابالك أقدم

أو

أترجون أن أعود إليكم

لا ترجوا فإنني لا أعودُ

ولجسمي إلى التراب هبوطُ

ولروحي إلى الهواء صعودُ

إنها فعلاً حيرة مستعصية عند شاعرنا المعري، وليس له منها من محيص حيث لا يوجد من يسأله فيخبره عما سمع ورأى فى مماته:

فهل قامَ من جدثً ٍميتٍ

فيخبر عن مسمعٍ أو رأى؟

ثم:

هل فازَ بالجنةِ عمالها؟

وهل ثوى في النارِ نوبخت؟

أما شوبنهاور فيشير إلى أن “الإنسان بعد أن كون من آلامه وعذابه فكرة الجحيم رأى أن لم يبق لديه شيء يكون منه الجنة إلا الملل”. وحسب تصوره فإن الإنسان منذ نعومة أظافره يحس ويلتمس بمرارة هذا العالم الكريه المملوء شراً.

وبما أن شوبنهاور قد آمن بفكرة “النيرفانا” أو تناسخ الأرواح وفق العقيدة البوذية، والمعري يرفض هذه الفكرة.

لذا فإنه أكثر وضحاً من شوبنهاور في هذا الشأن، حيث يؤمن بقدرة الله المطلقة بإحياء الموتى وحشر الخلق:

وقدرة الله حق ليس يعجزها

حشرٌ خلقٍ ولا بعث لأجسادِ

أو

-ومتى شاء الذى صورنا

أشعر الميت نشوراً فنشرنا

كان وما يزال التشاؤم صفة شائعة بين الشعراء والأدباء على مختلف العصور؛ لم يسلم منه ابن الرومي ولا الخيام ولا نازك الملائكة حتى.. والمعري – نسبة إلى بلده معرة النعمان- أحد هؤلاء الذين اصطبغ شعرهم بهذه الصبغة حتى سمي بها حين لقبوه برهين المحبسين، محبس التشاؤم ومحبس العمى وإن كان هو نفسه في أحد أشعاره يُعدد محابسه بالثلاثة، داء العمى، واعتزال الناس، وحبس نفسه في جسد خبيث:

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
ويعدد عبد الزراق أيوب في كتابه “انعکاس الفكر السياسي على الأدب العربي في العصر العباسی” أسباب ودواعي التشاؤم عند المعري فيقول إنّه کان يعاني من فقد بصره؛ فقده بالجُدری بعد أربعة أعوام من مولده فذهب بصره، ولم يعرف من الألوان إلّا اللون الأحمر، وهو لون الثوب الذي لبسه يوم أصابه الداء، يضاف إلى ذلك موت والديه وفقره الشديد. وقد ملأ كتابه اللزوميات بهذا التشاؤم من الدنيا ووصف الحياة بأنّها دار الآلام والعذاب، ويضاف إلى ذلك أيضًا أنّه عاش في زمن مليء بالفساد بکل أشکاله وهو العصر العباسي الذي قسمه طه حسين إلى قسمين: عصر القوّة وعصر الضعف، وکان أبو العلاء يعيش في عصر الضعف والفساد.
ويضيف حنا الفاخوري إلى العمى دواع تشاؤمية أخرى بقوله إنّ المعري كان ذا خلق ذميم، قصير القامة، نحيف الجسم، واسع الجبهة مشوه الوجه بآثار الجدري؛ ويصفه مُعجبًا: “غير أنّ ذلك الثوب الرث كان يحوي نفسا كبيرة”. ويورد ابن العديم في “الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري” أنّه “کان منذ حداثته يسيئ الظن بالناس، ولا ينظر إليهم نظرة الرضی والطمأنينة، ويميل إلى الانقباض عنهم؛ وحُبّبت إليه العزلة”..
وبالنظر إلى ذلك يمكن تصنيف تشاؤم المعري في اتجاهين؛ أولهما الاتجاه النفسي المتمثل في المرض بالعمى واليتم والفاقة، وثانيهما الاتجاه الاجتماعي بعيشه في عصر کانت الحياة الاجتماعية والسياسية فيه مضطربة، وقد انعکس ذلك في كثير من شعره.
بل بلغ حد التشاؤم بالمعري أن يذم اسمه فهو أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء التنوخي، ففي أشعاره يعكس وجهة النظر هذه بأنّ اسمه يجب أن يشتق من الذم لا الحمد وذلك لكثرة أفعاله المذمومة:

رويدك لو كشفت ما أنا مضمر
من الأمر ما سميتني أبدًا باسمي
أطهر جسمي شاتيًا ومقيظًا
وقلبي أولى بالطهارة من جسمي

ولم يقف الأمر على كره اسمه بل لحق حتى بكنيته فهو يرى أنَّ كنية أبي العلاء تتعلق بالعلو والرفعة، والأولى أن تكون بدنو المنزلة وأسفلها حيث يقول:
دُعيت أبا العلاء وذاك مَيْنٌ
ولكن الصحيح أبو النزول
لم يولد أبو العلاء كفيفا بل ولد مبصرا إلا أن الجدري الذي داهمه في سن الرابعة تسبب في فقدانه البصر، وقد حاول التعايش والتصالح مع عماه والاستفادة منه في حياته بل عدَّه نعمة تستوجب الحمد بقوله “أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، وقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء والبغضاء”:
قالوا العمى منظر قبيح
قلت بفقدي لكم يهون
والله ما في الوجود شيء
تأسى على فقده العيون
مرد اعتزال المعري للنَّاس اعتقاده بفساد المُجتمع لغياب قيمتي العدل والمساواة، وتفشي الخيانة والبغض والظلم، ويرى أنه في مجتمع طالح كهذا يعد الإنجاب جريمة وتجنياً على القادمين الجدد، ويعزو الكاتب عمر فروخ هذه النظرة التشاؤمية إلى تأثر المعري بمذهب مزدك الفارسي ومذاهب الزهاد الهنود التي ترى أن الكون مليء بالشرور وعدم السعادة:
دُنياكَ دارُ شرورٍ لا سرورَ بها
وليسَ يَدري أخوها كيفَ يحترسُ
ويكتب إسلام محمد أنّ العقاد أوجد كثيرا من التشابه بين نزعة المعري التشاؤمية، ونزعة الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور؛ لاسيما في فلسفتهما حول النوم؛ فشوبنهاور يرى أنّ النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا ذات ما كتبه أبو العلاء في شعره:

ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكرى

وقريبا من هذا يقول في موضع آخر:

وموت المرء نوم طال جدًا
عليه، وكل عيشته سهاد

ويرى عماد الجبوري في معرض مقاربته بين المعري وشوبنهاور أن كلاهما ينظر إلى العالم والطبيعة والمجتمع من زاوية كالحة لا تطاق؛ فالخير والسعادة عندهما أمور سلبية زائلة؛ لأنّ الحياة كلها كد وتعب وليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، فالوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:
ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها
فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد
ويتفق ذلك مع فلسفة شوبنهاور بأنّ “في كلّ فرد حوض من الألم لا محيص عنه”، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأنّ هذا الألم له نهاية، فإنه سوف “يحل مكانه على الفور عناء آخراً” وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص.
ويتساءل الجبوري حول أسباب هذا التشاؤم الدامس وهذه العدمية المطلقة ليأتيه الجواب من المعري:
في العدمِ كنا وَحُكمُ الله أوجدنا
ثم اتفقنا على ثانٍ من العدمِ
ويتناص ذلك مع مقولة شوبنهاور: “الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم” وفي كلتا الحالتين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور-
ومن مواطن التشابه بينه وبين شوبنهاور أن هذا الأخير يرى أن النوم جيد باعتباره سلفة مستعارة من الموت، وأبو العلاء يقول عن هذا الاعتقاد في شعره:
ونومي موت قريب النشور … وموتي نوم طويل الكرى
وهو يقول أيضًا:
وموت المرء نوم طال جدًا … عليه، وكل عيشته سهاد

الاخلاق والدين عند براتند راسل

أسهم راسل إسهامًا كبيرًا في المناقشات التي دارت حول الأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام. ولم يَرَ هذه الإسهامات باعتبارها إسهامات فلسفية بالمعنى الضيق للكلمة. فكما يوضح الفصل السابق، كان يرى الفلسفة باعتبارها فرعًا فنيًّا من فروع المعرفة يتناول الأسئلة المجردة التي تُعنَى بالمنطق والمعرفة والميتافيزيقا. وهذه المناقشات الأخرى في المقابل — في رأيه — عبارة عن قضايا تتعلق بالعاطفة والرأي، وترتبط بالنواحي العملية للحياة. وقد أقر راسل بإمكانية وجود تحليلٍ للخطاب الأخلاقي والسياسي في إطارٍ صوري؛ أي كدراسة منهجية تتناول منطق الخطابات الأخلاقية والسياسية بدلًا من جوهرها؛ ولكن ما كان يهمه هو القضايا العملية والمشكلات الواقعية، خاصةً بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك تصدى راسل في بعض كتاباته لعرض أساس الأخلاق. لم يكن يحاول صياغة نظرية جديدة، بل اكتفى بوجهات النظر الثانوية التي (بعد أن أصبح اهتمامه بالقضايا العملية اهتمامًا جديًّا) كانت تتَّسم بطابع «نظرية العواقبية»؛ أي إنها كانت ترى أنه يجب الحكم على القيمة الأخلاقية لأفعال الناس والحكومات بالنتائج. وفي الوقت نفسه — وليس على نحوٍ متسق مطلقًا — كان يكتب وكأنه كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الجوهرية لأشياء معينة، مثل الخصال الشخصية كالشجاعة والشهامة والأمانة. وقدم كذلك — في بعض كتاباته الأولى — وجهة نظر غير متسقة كذلك مع هذه الآراء، مفادها أن الأحكام الأخلاقية عبارة عن أقوال مُضمرة معبرة عن الموقف الذاتي. والمشكلة الأساسية التي واجهت راسل هي كيفية التوفيق بين جانبين متعارضين: من ناحيةٍ، الإخلاص لمعتقدات أخلاقية يؤمن بها بثبات وحماس، ومن ناحيةٍ أخرى، ما يبدو من انعدام وجود مبررات للحكم الأخلاقي. وازدادت الصعوبة التي تواجهه في تحقيق هذا التوفيق بفعل موقفه المتشكك حول ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية موجودة أساسًا.
لعل أفضل طريقة لوصف إسهام راسل في المجال الأخلاقي هو القول بأنه كان معلمًا أخلاقيًّا معنيًّا برفع مستوى الأخلاق عند الناس أكثر مما كان فيلسوفًا أخلاقيًّا. وكان شأنه شأن أرسطو من قبله يرى الأخلاق والسياسة مستمرين؛ فلا فارق في النوع بين الحكم الأخلاقي أن الحرب شر والمطلب السياسي لتحقيق السلام؛ من ثَمَّ نجد أن فكر راسل عن الأخلاق والسياسة والمجتمع يتَّسم بالسلاسة والاتساق؛ مما يفسر سبب تناولها معًا في أشمل كتبه عن هذه المسائل، وهو كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة».
وفي السياسة كان راسل طيلة حياته راديكاليًّا وليبراليًّا من دون مغالاة. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح عضوًا في حزب العمال وترشَّح في سباقَين انتخابيَّين كمرشح للحزب. وقد مزَّق بطاقة العضوية في ستينيات القرن العشرين في استياء من دعم هارولد ويلسون للحرب التي شنتها أمريكا في فيتنام. ولكنه لم يكن اشتراكيًّا بالمعنى العتيق للكلمة؛ إذ لم تقنعه الماركسية حين درسها في ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر أثناء الإعداد لكتابه الأول: «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» (كانت «الديمقراطية الاجتماعية» تعني الماركسية آنذاك). وكان معارضًا بالفطرة للاتجاه للمركزية الذي تنادي به الاشتراكية حسب مفهومها آنذاك — وكانت تلك هي السمة الوحيدة تقريبًا للاشتراكية التي طُبقت بالكامل في الدول السوفييتية — ولذلك جذبته أكثرَ الاشتراكيةُ النقابية، وهي شكل لا مركزي من الملكية والسيطرة التعاونية يحكم الناس أنفسهم بموجبه في ظروف — على المستوى المثالي — تدمج حياتهم الاجتماعية والترفيهية والعملية.

كان راسل في أفضل حالاته حين انتقد الأحوال الأخلاقية والسياسية المعاصرة. وكانت البدائل الإيجابية التي طرحها تبدو عادةً غير مقنعة؛ إذ كانت عادةً إما مثالية إلى حدٍّ خيالي أو على أقل تقدير — إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي قدَّمها فيها — غير عملية إلى حدٍّ ما. ولكن كناقد شديد القسوة لاذع الكلمات، كان في مكانة سقراط وفولتير نفسها.
لا أحد يحتاج إلى عذر أو رخصة للإسهام في المناقشات التي تتناول القضايا المهمة في المجتمع، وهي قضايا السياسة والأخلاق والتعليم. إنه واجب كل مواطن أن يشارك عن معرفة وفهم. إذنْ فأنشطة راسل في هذه المجالات لا تتطلب أي تبرير. ولكن يوجد سبب وجيه يفسر لماذا تتَّسم إسهاماته بقوة إقناع معينة. ولم يكن سبب ذلك أنه كان وريثًا لتراث جليل تميَّزَ به حزب الأحرار البريطاني في المشاركة في الشئون العامة، مع أن هذا بلا شك حفز اهتمامه بالشئون العامة وإحساسه بواجب المشاركة؛ بل كان السبب هو أن اهتمامه وإحساسه بالواجب كان يدعمهما أربع مميزات قيمة: ذكاء نادر، وفصاحة واضحة الأسلوب، ومعرفة واسعة بالتاريخ، وجرأة كبيرة في وجه المعارضة؛ مما جعله مناقشًا مَهيبًا. ولم يَبْدُ أسلوبه مفرطًا في التذمر وغير ملائم إلا عند نهاية حياته، حين كان الآخرون من حوله يتحدثون ويكتبون باسمه.
لم تَجِدْ بعضُ أفكاره — مثل الإيمان بالحكومة العالمية — حتى الآن أي دعم يُذكر. وساعدت بعض الأفكار الأخرى في تغيير وجه المشهد الاجتماعي في العالم الغربي، كما في مواقفه تجاه الزواج والأخلاق الجنسية، على سبيل المثال. وفي مجالات أخرى أيضًا — تتعلق بالدين بالأخص — ساعد راسل على تحرير عقول كثيرة، ولكنه لم يكن ليندهش — عند الأخذ في عين الاعتبار فهمه للطبيعة البشرية — إذا اكتشف أن التفكير الخرافي يزدهر حاليًّا أكثر مما كان في عصره، وأن المعتقدات الدوجمائية — «الإيمان هو ما أموت من أجله، أما معتقداتي الدوجمائية فهي ما أقتل من أجلها.» — قد عادت بقوة.

الأخلاق النظرية

يتضح من الفكر المبكر لراسل عن الأخلاق أنه كان يؤمن بوجهة النظر الرومانتيكية الهيجلية القائلة بأن الكون خيِّر في حد ذاته وأنه هدف مناسب «للمحبة الفكرية». وكان ماك تاجارت هو من أوحى له بقبول وجهة النظر هذه، ولكنها لم تسيطر عليه لمدة طويلة. وتوضح أول مناقشة جادة للقضايا الأخلاقية يتصدى لها راسل — وعرضها في بحثه المعنون «عناصر الأخلاق» ونشره في عام ١٩١٠ — أنه يتبع التعاليم الواردة في كتاب «المبادئ الأخلاقية» من تأليف جي إي مور، ويؤكد فيه مور أن الصلاح خاصية غير قابلة للتعريف وغير قابلة للتحليل ولكنها خاصية موضوعية لوصف الأشياء والأفعال والبشر، وأننا ندرك الصلاح عن طريق فعل قائم على حدْس أخلاقي مباشر. كان مور يؤمن بشكلٍ من أشكال مذهب النفعية، ويمكن إيجازه بأنه وجهة النظر القائلة بأن الصواب الذي نفعله في أي حالة معينة هو أي فعل من شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير على الشر في تلك الحالة. وأثرت آراء مور في أعضاء جماعة بلومزبري، وخصوصًا في تعزيز الفكرة الجذابة القائلة بأن الصداقة والاستمتاع بالجمال هما أسمى القيم الأخلاقية. (ادَّعى الخبثاء ممن انتقدوا الفكرة أن أعضاء جماعة بلومزبري أعجبتهم وجهة النظر هذه لأنها أتاحت لهم فرصة التوفير — إذا جاز التعبير — بأن يكون لديهم أصدقاء يتميزون بالجمال.)
تُطرح الصعوبات نفسها على الفور فيما يتصل بوجهة النظر النفعية. ومن بين هذه الصعوبات أنه يتعذر علينا معرفة العواقب المترتبة على التصرف بطريقة معينة بدلًا من طريقة أخرى؛ ومن ثَمَّ قد نتسبَّب دون قصد في عواقب سيئة كنتيجة للتفكير المضطرب أو الأفكار الحدْسية الكاذبة. ويقر راسل بهذا في رؤيته لوجهة نظر مور، ولكنه يؤكد أننا نكون قد تصرفنا تصرفًا صحيحًا حين نشعر بالرضا؛ لأننا أمعنَّا التفكير في الأمور بعناية، وبذلنا كل ما في وسعنا باستخدام المعلومات المتاحة. ومع ذلك، الادِّعاء بأن الصلاح أمر موضوعي هو أمر مختلف، ولم يستطع راسل أن يشعر بالرضا عن وجهة النظر هذه لمدةٍ طويلة، فمع أنها — إن شئنا الدقة — ربما يتعذَّر دحضها، فلا يمكن إثبات صحتها كذلك، وخصوصًا في مواجهة شخص يختلف بلا مواربة مع الفكرة الحدْسية التي أعلنها غيره، والقائلة بأن الصلاح موجود في فعل بعينه أو موقف بعينه.
دفعت هذه الصعوبة راسل إلى اتخاذ وجهة النظر — التي عبَّر عنها في كتاب «موجز للفلسفة» (١٩٢٧) — القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليست موضوعية — بمعنى أنها ليست صحيحة ولا كاذبة — بل إنها جُمل دالة على أمر أو جُمل دالة على التمني أو جُمل دالة على الموقف. والجملة الدالة على الأمر هي أمر، مثل «لا تكذب.» والجملة الدالة على التمني عبارة عن خيار أو أُمنية — كما يختار المرء شيئًا بدلًا من شيء آخر — في الحالة الأخلاقية ترمز إليها جملة «ليت لا أحد يكذب.» أما جملة «أرفض الكذب» فهي قول معبر عن موقف قائلها من الكذب. ومن الواضح أن الجُمل الدالة على الأمر والجُمل الدالة على التمني تفتقر إلى قيمة الصواب. ومع أن الأمر يكون بخلاف ذلك فيما يتعلق بالأقوال المعبرة عن الموقف، فهذا فقط لأنها عبارة عن أوصاف للحقيقة النفسية ذات الصلة الخاصة بقائليها؛ فلا يُقال شيء صادق أو كاذب عن القيمة الأخلاقية للكذب، فما يقال يتعلَّق فقط برأي القائل في الكذب.
ربما يُطلق على هذا الرأي — في مقابل «الموضوعية» التي كان يؤمن بها مور — «الذاتانية». وهذا المذهب يتسم بمشكلات جسيمة هو الآخر، وأهمها أنه منفر بدرجةٍ كبيرة. فلنتأمل مثلًا جريمة المحرقة النازية. فمن غير المقبول القول بأن مبرر المرء للحكم أن المحرقة النازية شر هو أنه يستنكرها فقط. شعر راسل بهذه الصعوبة بشدة؛ ولذلك حاول في مناقشته الأخيرة والمستفيضة لهذه القضايا (في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة») أن يصل إلى موقف يمثل حلًّا وسطًا بين الموضوعية والذاتانية يحتفظ بالمميزات ولكن يتجنب الصعوبات الموجودة في وجهتَي النظر كلتيهما.
ويؤكد راسل في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حدٍّ ما في مجتمعٍ معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة الجميع. وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بِناءً على فهْم علمي أو على الأقل منطقي للعالم. وكثيرًا ما كاد راسل يفقد هذا الإيمان بإمكانية الحلول المنطقية للمعضلات الأخلاقية حين كان يتأمل حماقة الإنسان، ولكنه مع ذلك ظل يتمسك به.
يقول راسل إن البيانات الأساسية للأخلاق هي المشاعر والانفعالات. ووفقًا لذلك فإن الأحكام الأخلاقية هي عبارة عن مشاعر متخفية تعبر عن آمالنا أو مخاوفنا أو رغباتنا أو الأشياء التي نكرهها؛ فنحن نحكم على الأشياء بأنها صالحة حين تلبِّي رغباتنا؛ ومن ثَمَّ فإن الخير العام — أي خير المجتمع ككلٍّ — يكمن في تلبية الرغبة تلبيةً كاملة، بصرف النظر عمن يتمتع بها. وعلى المنوال نفسه يكمن خير أي قسم من المجتمع في تلبية رغبات أفراده تلبيةً كاملة، ويكمن خير الفرد في تلبية رغباته الشخصية. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف التصرف الصائب بالقول إنه أي شيء — في أي مناسبة معينة — من المرجح أن يؤديَ إلى الخير العام (أو إذا كان يتعلق بفرد واحد فحسب، خير الفرد)؛ وهذا بدوره يمنحنا تفسيرًا للواجب الأخلاقي، فكرة أنه يوجد أشياء «يجب» أن يفعلها المرء؛ وهو أنه يجب على المرء أن يفعل التصرف الصائب حسب هذا الفهم (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٢٥، ٥١، ٦٠، ٧٢).
يقر راسل بالطبع بوجود مشكلات في هذا الوصف، ويناقش عددًا منها. فعلى سبيل المثال: يتسبب تعريف «الخير» بأنه «تلبية للرغبة» في توجيه انتقادٍ منطقي بأن بعض الرغبات شر، وأن تلبيتها شر أسوأ. ويتأمل راسل مثال القسوة. هل من الممكن أن يكون من الخير أن يتمنى شخصٌ ما أن يتسبب في معاناة شخص آخر؟ وأليس من الأسوأ أن ينجح في تنفيذ أمنيته؟ يقول راسل إن تعريفه لا يقتضي ضمنًا أن مثل هذه المواقف من قبيل الخير؛ أولًا: لأن ذلك يتضمن إحباط رغبات الضحية؛ لأن الضحية بالطبع ترغب في تجنُّب المعاناة على أيدي المتسبِّب فيها، وثانيًا: لأن المجتمع ككلٍّ لا يريد عمومًا أن يقع أفراده ضحايا للقسوة، وسيؤدي ذلك إلى إحباط رغباته أيضًا في هذا الصدد؛ ومن ثَمَّ سيؤدي ذلك إلى زيادة هائلة في الرغبات غير المحققة عند ارتكاب فعل يتَّسم بالقسوة؛ مما يجعل ذلك الفعل سيئًا.
ومن الصعوبات الأخرى التي يتَّسم بها الوصف الذي يقدمه راسل أن الرغبات قد تتعارض. ويجيب راسل عن ذلك بقوله إن هذا يتطلَّب منَّا أن نختار الرغبات التي يقل احتمال تنافسها بعضها مع بعض. ويستعير راسل مصطلحًا فنيًّا من لايبنتس، فيطلق على الاتساق بين الرغبات أنه «التوافق» بينها. إذنْ يمكن تعريف الرغبات الصالحة والسيئة على أنها الرغبات المتوافقة — بالترتيب — مع أكبر عدد وأقل عدد ممكن من الرغبات الأخرى.
يخصص راسل فصلًا يناقش فيه السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحكام مثل «القسوة خاطئة» ليست إلا تعبيرات متخفية تعبر عن موقف ذاتي. وكما سبق وذكرنا، هذا السؤال مهم، وقد أزعج راسل بشدة. وتوصل راسل إلى ما قد يُطلق عليه إجابته المبنية على علم الاجتماع — أن القيمة الأخلاقية هي نتاج نوعٍ من الإجماع الاجتماعي — بعد دراسةٍ في الاحتمالات البديلة التي تقدمها المناقشة الأخلاقية.
من الممكن عرض المشكلة بأن نذكر أن الاختلاف الأساسي بين الخطاب الواقعي العادي والخطاب الأخلاقي يكمن في وجود مصطلحات مثل «يجب» و«الخير» ومرادفاتها في الخطاب الأخلاقي. هل هذه المصطلحات جزء من «المفردات الأساسية» للأخلاق، بمعنى أنها غير قابلة للتعريف وأساسية لأي فهم للمفاهيم الأخلاقية؟ أم هل يمكن تعريفها في إطار شيء آخر، كالمشاعر والانفعالات مثلًا؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأخير، فهل العواطف التي نحن بصددها هي عواطف الفرد الذي يصدر حكمًا أخلاقيًّا؟ أم لها مرجعية أشمل، تعود إلى الرغبات والمشاعر البشرية؟ (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٠-١١).
يذكر راسل أثناء مناقشة هذه الأسئلة أنه عند دراسة الخلافات الأخلاقية المتعلقة بما يجب فعله في حالة معينة، نجد أن الكثير من تلك الخلافات ينشأ من النزاع حول النتيجة التي ستنشأ من هذا الخيار أو ذاك. ويُثبت هذا أن التقييمات الأخلاقية تعتمد على تقديرات النتائج، وأنه لذلك يمكننا تعريف «يجب» بالقول إنه يجب تنفيذ فعلٍ ما — من بين كل الأفعال الممكنة في تلك الحالة — إذا كان هو الفعل الذي من المرجح أن يؤديَ إلى أكبر قدرٍ من «القيمة الجوهرية» (وهو تعبير يستخدمه راسل كبديل أدقَّ عن كلمة «الخير»).
هل «القيمة الجوهرية» قابلة للتعريف؟ يعتقد راسل أنها كذلك؛ إذ يقول: «حين ندرس الأشياء التي نميل لأن نرى فيها قيمة جوهرية نجد أنها هي كل الأشياء التي نرغب فيها أو نستمتع بها؛ فمن الصعب أن نصدق أن أي شيء من الممكن أن يحمل قيمة جوهرية في كونٍ مجردٍ من الوعي الأوَّلي. ويوحي ذلك بأن «القيمة الجوهرية» قد تكون قابلة للتعريف في إطار الرغبة أو المتعة أو كلتيهما» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٣). وما دام يتعذَّر أن تكون كل الرغبات ذات قيمة جوهرية لأن الرغبات تتعارض، ينقح راسل المفهوم بحيث تُفهم القيمة الجوهرية باعتبارها سمة ﻟ «حالات مزاجية» يرغب فيها من يتعرضون لها.
وبهذا التعديل يقدِّم راسل الموجزَ الآتي لوجهة نظره. إن استحساننا أو استقباحنا لأفعالٍ معينة عادةً ما يتوقف على العواقب التي نعتقد أنه من المُرجح أن تنتج عنها. ونسمي عواقب الأفعال التي نوافق عليها «صالحة»، ونسمي العواقب التي نرفضها «سيئة». ونسمي الأفعال نفسها «صائبة» و«خاطئة» بالترتيب. وما «يجب» أن نفعله هو كل فعل صحيح في هذه الحالة، بمعنى كل ما مِن شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير.
ومن بين هذه النقاط تحمل النقطة الأولى القدر الأكبر من الأهمية. إذا كان التقييم الأخلاقي مسألة تعتمد على ما يوافق عليه الناس وما يرفضونه، أَفَلَسْنَا عالقين في المعضلة الذاتانية، دون أسس منطقية لتوريط أنفسنا في خطأ العنصرية والتعصب والقسوة وغيرها؟ وإجابة راسل هي أنه في واقع الأمر يوافق الناس موافقةً واسعة الانتشار على كل ما هو مرغوب. ويتفق مع هنري سيدجويك في أن الأفعال التي عادةً ما يوافق عليها الناس هي الأفعال التي تؤدي إلى أكبر قدْر من السعادة أو المُتع. وإذا كان هذا يشمل تلبية الاهتمامات الفكرية والجمالية («إذا اقتنعنا فعلًا بأن الخنازير أسعد من البشر، فلا ينبغي لذلك السبب أن نرحب بالخدمات التي قدمتها الساحرة سيرسي التي جاء ذكرها في الأساطير الإغريقية.» فبعض المُتع مفضلة «فطريًّا» عن غيرها)، يصبح لدينا وسيلة للإفلات من الذاتانية؛ إذ إن وجهة النظر هذه تمنحنا إفادات عما يجب فعله، وهي ليست جُملًا دالة على التمني أو أوامر متخفية؛ ومن ثَمَّ تحمل قيمة صواب؛ ولكنها تستند إلى وقائع تتعلق بمشاعرنا وبتلبية رغباتنا؛ فالوقائع المتعلقة بمشاعرنا هي أساس تعريف «الصواب» و«الخطأ»، والوقائع المتعلقة بتلبية رغباتنا هي أساس تعريف «القيمة الجوهرية». وهكذا يحقق راسل نجاحًا في صياغة موقف وسيط يقع بين الموضوعية والذاتانية، ويحمل نجاحه — في الوقت نفسه — شهادة معتمدة عملية على نحوٍ دقيق إلى حدٍّ ما؛ إذ يوفر سبيلًا ليس فقط لتقييم الأفعال من النوع الذي يكون عادةً محلَّ خلاف في المناقشات الأخلاقية، بل كذلك العادات الاجتماعية والقوانين والسياسات الحكومية.
بالرغم من تفاؤل راسل حيال وجهة النظر هذه، فهي تتضمن عددًا من الصعوبات؛ إذ تقول في الواقع إن أساس التقييم هو إجماع الرغبات. ولكن هذا معناه أنه إذا كانت الأكثرية في مجتمعٍ معينٍ مستاءةً من المثلية الجنسية — مثلًا — فإن المثلية الجنسية إذنْ تُعد سيئة، فيما إذا كانت الأكثرية في مجتمع أكثر تسامحًا يسري فيه إجماع مختلف، فلن تكون المثلية الجنسية سيئة. هل النسبية الأخلاقية من هذه الدرجة جديرة بالتصديق؟ وتتصل هذه الصعوبة بصعوبةٍ أخرى، وهي أنه ما دامت قيمة العواقب تقاس بقدر الرغبات التي تلبيها، فإن درجة الشر التي تتسم بها المحرقة النازية تصبح نتيجة متوقفة على درجة تفوُّق نسبة إحباط رغبات ضحايا النازيين ورغبات السواد الأعظم من سكان العالم — ممن قد لا يريدون أن يشيع القتل الجماعي (ربما تحسبًا لاحتمال أن يقعوا هم ضحايا له) — على نسبة تلبية رغبات النازيين. وكان راسل نفسه يشعر بوجود شيء أكثر إقناعًا يكمن خلف الهلع الأخلاقي الذي نشعر به حيال المحرقة النازية، ولكن مبادئه لا تشرحه.
إن أي قدر من الإلمام بالمناقشات المتعلقة بالأخلاق يوضح أن جهود راسل في هذا المجال سطحية؛ فحتى في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» تتسم المناقشة بطابع نُصحي أكثر منه فلسفيًّا. ويقوم كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» على عموميات سيكولوجية شاملة، ولا يحتوي إلا على إشارة واحدة عن الدقة، وهدف الكتاب هو إقناعنا بقَبول منهجٍ عملي للتقييم الأخلاقي بدلًا من تقديم الأخلاق مدعمة بأساسٍ نظري. ويعود جزء من سبب ذلك — كما ذُكر فيما سبق — إلى أن راسل لم يكن يعتقد أنه يمكن تطبيق الدقة على مناقشة الأخلاق؛ فكان من المقرر في البداية أن تكون الفصول التي تتناول الأخلاق في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» عبارة عن تكملةٍ لكتاب «المعرفة البشرية»، ولكنه لم يدرجها في الكتاب، لعدم رضاه عنها، ولم ينشرها — مدعمة بفصولٍ عن المسائل السياسية — إلا بعد أن قرر أخيرًا أنه لم يستطع عرض الحجج التي تحتويها عرضًا منهجيًّا أكثر. ولكنه لم يشكُ من ذلك؛ فهدفه الأساسي من الأخلاق — كما هي الحال بخصوص كل المسائل الاجتماعية التي تصدَّى لها — كان على كلٍّ هو الجدل. كان يتمنَّى أن يكون مؤثرًا في طريقة حياة الناس، وكان راضيًا لتوريط نفسه في مجال الدفاع عن قضايا معينة والإقناع لبلوغ تلك الغاية.

المُثُل الأخلاقية العملية

نال راسل جائزة نوبل في فرع الآداب، وكان الكتاب الذي ورد في حيثيات نيل الجائزة هو كتاب «الزواج والأخلاق». ألَّف راسل الكثير عن المسائل المتعلقة بالمُثل الأخلاقية العملية، ونجد بعض أفضل ما ألَّفه في هذا المجال في عشرات المقالات القصيرة التي كان يكتبها للصُّحف، وأهمها المقالات التي نشرتها دار نشر هيرست بريس في أمريكا إبان أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي هذه المقالات (دائمًا ما كانت لا تزيد عن ٧٥٠ كلمة، حسبما يتطلب حجم العمود المخصص لها في صفحة الجريدة) يمنحنا راسل انطباعًا بأنه سريع الملاحظة ومتسامح وعطوف ومتعقل، ولم يكن يسبق عصره فقط، بل وعصرنا نحن أيضًا في الكثير من المسائل.

فلنأخذ مثلًا مقاله «عن اللباقة». يقول في هذا المقال إننا نخصص للباقة والصدق مكانَين منفصلَين تمامًا، ولكن يأتي هذا على حساب أمرٍ آخر:

كنت أمرُّ أحيانًا بجوار أطفال يلعبون في الحديقة العامة، فأسمعهم يقولون بصوتٍ عالٍ واضح: «ماما، من ذلك العجوز المضحك؟» فأسمع من يرد بصوتٍ هامس مرتاع: «اسكت! اسكت!» فيدرك الأطفال إدراكًا مبهمًا أنهم ارتكبوا شيئًا خاطئًا، ولكنهم يعجزون تمامًا عن تصوُّر كنه ذلك الخطأ. يتلقَّى كل الأطفال من آنٍ إلى آخر هدايا لا تعجبهم ويلقنهم آباؤهم أنه يجب أن يبدوَ عليهم وكأنهم فرحوا بالهدايا. وحين يأمرونهم كذلك بأنه يجب عليهم ألا يكذبوا، يؤدي ذلك إلى تشوُّش أخلاقي.

(«عن اللباقة»، في كتاب «البشر وغيرهم» (ألين وأنوين، ١٩٧٥) ص١٥٨)

تتحدث هذه الفقرة عن التربية القائمة على اللباقة. ويقول راسل إن اللباقة من الفضائل يقينًا، ولكن لا يفصلها عن النفاق إلا خيطٌ رفيع للغاية. ويتوقف الفارق بينهما على الدافع. فإذا كان العطف يدفعنا لإرضاء شخصٍ ما في ظروف قد تؤدي الفظاظة فيها إلى إزعاجه، تصبح اللباقة ملائمة؛ ولكنها تصبح أقل لطفًا حين يكون الدافع هو الخوف من الإساءة، أو الرغبة في الحصول على ميزة بالتملُّق. ولا تعجب اللباقة من يتسمون بالجدية الشديدة؛ فحين زار بيتهوفن جوته في مدينة فايمار صُعق حين رآه يتصرف بأدب مع مجموعة من المتملِّقين الحمقى. إن من يواظبون على الصدق ولا يكذبون قط بدافع التهذيب عادةً ما يحظَوْن بالتقدير، ولكن يقول راسل إن هذا سببه أن الصادقين الحقيقيين مجردون من الحسد والحقد والتفاهة. «معظمنا يدخل في تكوينه شيء من هذه الرذائل؛ ولذلك علينا أن نستخدم اللباقة لتجنُّب الإساءة للغير. وليس من الممكن أن نصبح جميعًا من القديسين، وإذا كان بلوغ مرتبة القديسين أمرًا مستحيلًا، فلنا أن نحاول على الأقل أن نتجنب أن نكون سيئي الطبع.»

ربما تبدو هذه مادة سطحية واهية، ولكنها تتسم بالأثر العميق، وتطرح نقاطًا جديرة بالدراسة والتأمل؛ فكتابات راسل الصحفية عن المسائل الاجتماعية ذات طابع ممتع ومسلٍّ ومثَقِّف، وهو ما تميز به.
ويتناول كتاب «الزواج والأخلاق» مسائل أكبر وأكثر إلحاحًا؛ فهو يركز على الجنس والحياة الأسرية. ومن وجهة نظر راسل، للمُثل الأخلاقية الجنسية مصدران أساسيان: رغبة الرجال في التيقن من أنهم حقًّا آباء الأطفال الذين تلدُهم زوجاتهم، والاعتقاد الديني بأن الجنس آثم. كان راسل مستعدًّا دائمًا لتلقِّي الإرشاد من العلم في عصره، وفي هذه الحالة لجأ إلى علم البيولوجيا (الأحياء) للبحث عن تفسيرٍ لأصول تلك العادة. وقد دفعه علم الأحياء إلى الاعتقاد بأن المُثل الأخلاقية الجنسية في العصور القديمة كان الغرض البيولوجي منها هو توفير حماية الأبوين لكل طفل، وهو دافع يحرص راسل على الموافقة على أنه دافع وجيه. ويقول إن الكثير من الضغوط تهدد الحياة الأسرية في العصر الحديث ويجب التصدي لها؛ فالأطفال بحاجة إلى عاطفة كلا الأبوين؛ أما البديل المتمثل في ترك تنشئة الأطفال جزئيًّا أو حتى كليًّا للدولة — كما تمنَّى أفلاطون — فليس مستحسنًا؛ فإذا تولَّت الدولة تنشئة الأطفال، فسينتج عن ذلك قدْر مفرط من التماثل، وربما قدْر مفرط من القسوة؛ ومن الممكن استغلال الأطفال الذين يُربَّوْن بهذه الطريقة ليصيروا أتباعًا مخلصين لمروجي الدعاية السياسية ومثيري الفتنة والاضطرابات.
ولكن فيما يتصل بالمُثل الأخلاقية الجنسية — من وجهة نظر راسل — فالاتجاه الحديث نحو زيادة حرية التعبير والسلوك أمر طيب؛ فالآراء الأكثر تحررًا تنشأ من تراخي قبضة المُثل الأخلاقية التقليدية، ولا سيما المُثل الأخلاقية الدينية؛ ويصبح السلوك الأكثر تحررًا ممكنًا بفعل التطورات التي حدثت بخصوص منع الحمل؛ مما وضع النساء على قدم المساواة مع الرجال من حيث التحكم في حياتهن الجنسية.
في رأي راسل، تسببت العقيدة القائلة بأن الجنس آثم في ضررٍ فادح، ويبدأ الضرر في الطفولة ويستمر حتى النضج في صورة النواهي وما تسببه من ضغوط. يؤدي كبت الدوافع الجنسية إلى تسبب المُثل الأخلاقية التقليدية في إفساد أنواع الشعور الودي الأخرى أيضًا؛ مما يجعل الناس أقل تسامحًا وعطفًا، وأكثر ميلًا إلى القسوة والأنانية. لا بد بالطبع من أن يحكم الجنسَ مبدأٌ أخلاقيٌّ، كما هي الحال مع التجارة أو الرياضة، ولكن لا ينبغي أن يقوم «على محظورات عتيقة يعرضها غير المتعلمين في مجتمع يختلف تمامًا عن مجتمعنا»، ويقصد راسل بهذا تعاليم آباء الكنيسة القدماء. «ففي الجنس، كما هي الحال في الاقتصاد والسياسة، ما زال مبدؤنا الأخلاقي تهيمن عليه المخاوف التي جعلتها الاكتشافات الحديثة غير منطقية» (الزواج والأخلاق، ص١٩٦-١٩٧).
لا بد من مُثل أخلاقية جديدة قوامها رفض المذهب البيوريتاني المتزمِّت، على أن تُبنى على الاعتقاد بضرورة تدريب الغريزة وليس التصدي لها. ولا ينطوي الموقف الأكثر تحررًا تجاه الحياة الجنسية على أنه من المسموح لنا أن نطيع دوافعنا ونتصرف كما نشاء؛ وذلك لأنه لا بد من وجود اتساق في الحياة، ومن بين أهم جهودنا المفيدةِ الجهودُ الموجهة نحو الأهداف الطويلة المدى؛ مما يقتضي تأجيل المتع القصيرة المدى. أيضًا، لا بد من مراعاة الآخرين و«قواعد الاستقامة». ولكن ضبط النفس — كما يؤكد راسل — ليس غاية في حد ذاته، وينبغي أن تضمن الأعراف الأخلاقية أن تكون ضرورة اللجوء إليه في حدها الأدنى لا الأقصى. ومن الممكن اللجوء إلى ضبط النفس إلى الحد الأدنى في حالة حسن توجيه الغرائز بدءًا من الطفولة وإلى المراحل التي تليها. ولأن الغرائز الجنسية قوية للغاية، فإن دعاة علم الأخلاق التقليديين يرَوْن أنه لا بد من كبحها بشدةٍ في الطفولة، خوفًا من أن تصير فوضوية وبذيئة. ولكن لا يمكن أن تُبنى حياة رغدة على المخاوف والمحظورات.
ومن ثَمَّ، فإن المبادئ العامة التي يعتقد راسل بأن المُثل الأخلاقية الجنسية يجب أن تقوم عليها بسيطة وقليلة. أولًا: ينبغي أن تقوم العلاقات الجنسية «بقدر الإمكان على تلك المحبة العميقة الجادة بين الرجل والمرأة التي تشمل الشخصية الكاملة لكلٍّ منهما، وتؤدي إلى اندماجٍ يثري كلًّا منهما». وثانيًا: إذا نتج أطفال عن تلك العلاقات، ينبغي رعايتهم بدنيًّا ونفسيًّا على نحوٍ مناسب. ويعلق راسل متهكمًا بأن أيًّا من هذين المبدأين ليس شديد الفظاعة؛ إذ يدرك الخزي الذي لحق به لما عُرف عنه من زنًا وطلاقٍ ومساكنة دون زواج وبسبب لا مبالاته بإخفاء كل ذلك عن العيون، وكانت كلها سلوكيات فاضحة إلى حدٍّ فادح آنذاك. ولكن المبدأين معًا يعنيان ضمنًا أن مجموعة القوانين الأخلاقية التقليدية قد طرأت عليها تعديلات مهمة معينة.
أحد هذه التعديلات هو أنها تسمح بدرجةٍ مما يُطلق عليه عادةً «الخيانة». فإذا لم ينشأ الناس وهم يرَوْن أن الجنس تقيده المحرمات، وإذا لم تكن الغيرة تحمل موافقة المعلمين المعنيين بعلم الأخلاق، لَاستطاع الناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعضٍ بمزيد من الإخلاص والتسامح؛ فالغيرة تدفع الحبيبين إلى حبس كلٍّ منهما للآخر في سجن مشترك، وكأنها منحت كلًّا منهما حقًّا في السيطرة على كيان الآخر واحتياجاته. كتب راسل يقول: «لا ينبغي تناول الخيانة على أنها أمر فظيع.» إذ إن وجود «ثقة في القوة المطلقة لعاطفة عميقة ودائمة» هو رابطة أفضل بكثير من الغيرة (الزواج والأخلاق، ص٢٠٠-٢٠١). ويؤكد راسل في مواضع أخرى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على الزواج المفتوح — كما يُطلَق أحيانًا على ذلك النظام — بشرط ألا تُنجب المرأة أطفالًا من عشيق وتتوقع أن يربيهم زوجها. وقد انتهى زواجه هو ودورا جزئيًّا بسبب هذه المشكلة.
ويختتم راسل كتاب «الزواج والأخلاق» بالقول إن المبدأ الذي يقدمه — رغم هذه التعليقات التي تتناول الخيانة — ليس مبدأً يقوم على الفسق؛ فهو يشمل حقًّا قدر ضبط النفس عينه تقريبًا الذي تطالب به المُثل الأخلاقية التقليدية، والفارق الملحوظ هو أن ممارسة ضبط النفس تكون بالامتناع عن التدخل في حرية الآخرين بدلًا من كبت حريتنا نحن. وكتب راسل يقول: «من المأمول — في رأيي — أنه عن طريق التعليم المناسب من البداية يصبح هذا الاحترام للهوية الشخصية وحرية الآخرين سهلًا بعض الشيء؛ ولكن من وجهة نظر مَن نشأ منَّا وهو يرى أنه يحق لنا أن نعترض على تصرفات الآخرين باسم الفضيلة، فلا شك أنه من الصعب الامتناع عن ممارسة هذا النوع المحبب من الاضطهاد.» إن جوهر الزواج الناجح هو الاحترام المتبادل والأُلفة العميقة؛ فعند وجود هذه العناصر، يصبح الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة هو «أكثر تجربة مثمرة من بين كل التجارب الإنسانية»؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يشجعه كل من يتأملون في الزواج والأخلاق (الزواج والأخلاق، ص٢٠٢-٢٠٣).
وقد شعر الكثيرون آنذاك بأن آراء راسل شائنة إلى حدٍّ مروِّع. وتسبب كتاب «الزواج والأخلاق» في فقدانه وظيفته في نيويورك في عام ١٩٤٠ (مع أنه أدَّى إلى فوزه بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات — كما ذُكر آنفًا — وهو ما يوضح كيف من الممكن أن تكون الحياة متقلبة وغير متوقعة)، وأوحى الكتاب — وكذلك سمعته بحب صحبة النساء — إلى الكثيرين للربط بينه وبين شخصية الرجل الشهواني. ولكن ربما يمكن أن نذكر نقطتين عن هذه الآراء؛ أولاهما هي ما تتسم به من عقلانية هادئة ومتسامحة، والأخرى هي أن آراءه لم تنشأ من فراغ؛ فهي في الواقع تعبر عن موقف يشاركه فيه طليعة المثقفين اليساريين إبان عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ إذ كانوا يرَوْن أن حرية العلاقات الجنسية ورفض الغيرة الجنسية بمنزلة مبادئ غير مكتوبة. كان راسل يمتلك الشجاعة والفصاحة المنطقية الجازمة، وهو ما يلزم للدفاع عن هذه الأفكار أملًا في تغيير وجه مجالٍ من مجالات الحياة في أمسِّ الحاجة إلى ذلك. ومع التغير الجذري الذي طرأ على الاتجاهات والعادات بعد ذلك بجيل — الذي أسهم فيه جزئيًّا نشاط راسل — فإن حججه ما زالت تستحقُّ القراءة كعلاج فعَّال ضد الرجعية.
كثيرًا ما تتكرر في آراء راسل عن العلاقات الإنسانية ثلاثة موضوعات؛ أولها: هو ضرر الدين، والثاني: هو ضرورة التعليم الجيد، والثالث: هو الحرية الفردية. وكلٌّ منها عبارة عن فكرة رئيسة ثابتة في فكر راسل الاجتماعي، وقد أولى راسل كلًّا منها اهتمامًا كبيرًا. وسأعرض لهذه الموضوعات بالترتيب.

الدين

يفاجأ الناس حين يعلمون أن راسل لم يكن ملحدًا؛ إذ كان بالأحرى لاأدريًّا. وقد دفعه الثبات على المبدأ إلى قبول «الاحتمال» القائل بأنه ربما يكون للكون إله، ولكنه كان يعتقد أن وجود شيء من هذا القبيل مستبعد للغاية، وأنه لو كان يوجد شيء من هذا القبيل — خاصَّةً إذا كان أقرب إلى فكرة الله في المعتقد التقليدي للمسيحية — لكان النفور الأخلاقي للكون أكبر مما هو عليه؛ لأنه في تلك الحالة سنُضطَرُّ إلى قبول فكرة أن كيانًا قادرًا على كل شيء يسمح — أو يشاء — بوجود الشر الطبيعي والأخلاقي في العالم («الشر الطبيعي» يعني المرض والكوارث مثل الزلازل والبراكين، وما شابه). ومن وجهة نظر راسل، ينبغي أن تكفيَ زيارة واحدة إلى عنابر أي مستشفًى للأطفال لتجعلنا نشعر إما بأنه من غير المحتمل وجود إله، أو أنه إذا كان يوجد إله فعلًا، فإنه قاسٍ.
سُئل راسل ذات مرة في واقعةٍ شهيرة عما عساه أن يفعل إذا اكتشف عند موته أن الله موجود على كلٍّ؛ فرد أنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده. وسُئل كذلك عن رأيه في «رهان باسكال»، وهو الرأي القائل بأننا ينبغي أن نؤمن بالله حتى لو كانت أدلة وجوده واهية للغاية، لأن فائدة الإيمان بالله — في حالة وجود الله — تفوق بكثيرٍ الخسارة في حالة عدم وجوده. ورد راسل بأنه إذا كان الله موجودًا لَاستحسن موقف غير المؤمنين لأنهم استخدموا عقولهم ووجدوا أن الأدلة التي تدعم الإيمان غير كافية.
وكان من الأساليب التي درج راسل على استخدامها رفضُ قبول أي قضية إلا في حالة وجود سبب وجيه يقنعه بذلك. ومن أهم أركان الحجة المستخدمة في اللاهوت الطبيعي لدعم قضية وجود الله («اللاهوت الطبيعي» معناه مناقشة مفهوم الإله بمعزلٍ عن أي وحيٍ معين ورد في كتب مقدسة أو تجربة صوفية) مجموعةٌ معروفة من «البراهين على وجود الله». وقد ناقش راسل هذه البراهين في كتابه «لماذا لستُ مسيحيًّا؟» (نُشر في عام ١٩٥٧، وكان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها للمرة الأولى في عام ١٩٢٧).
أحد هذه البراهين هو حجة السبب الأول، وتقول بأن لكل شيء سببًا؛ إذنْ لا بد من وجود سبب أول. ولكن هذه الحجة — كما يقول راسل — متناقضة مع نفسها؛ لأنه إذا كان لكل شيء سبب فكيف يمكن أن يكون السبب الأول بلا مسبب؟ حسب بعض وجهات النظر، فإن الله هو السبب المسبب بذاته (حسب أرسطو، المحرِّك بذاته)، ولكن هذا المفهوم غير مترابط، وإذا دلَّ على شيء ممكن، إذنْ فإما يكون مبدأ السببية الكلية الذي تستند إليه الحجة بأكملها مبدأً باطلًا إذا اتضح أنه لا بد أن تكون الأسباب غير نتائجها (كما يوحي المبدأ فعلًا فيما يبدو)، أو إذا كان من المحتمل أن تكون الأسباب هي مسبباتها نفسها، فلماذا يكون من المحتمل وجود سبب واحد فقط؟
وتوجد حجة ثانية تستنتج من مظاهر التدبير في الكون نتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مدبِّر. ولكن من ناحيةٍ، مظاهر الخلق في الأشياء تعللها على نحوٍ أفضل نظريةُ التطور، وهي نظرية لا تتضمَّن كيانات إضافية في الكون، وتتفق مع البيانات التجريبية؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يوجد على أي حال أي أدلة على وجود تدبير «كلي» في العالم؛ حيث توحي الوقائع — باتساقٍ مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يخبرنا بأن العالم يتحلل في حقيقة الأمر — بعكس ذلك تمامًا.
لدينا أيضًا حجة ثالثة تقول إنه لا بد من وجود إلهٍ كي يوجد مبرِّر للمُثل الأخلاقية. ومع ذلك، فهذه الحجة لا تفيد؛ لأنه كما يؤكد راسل في مكان آخر بإيجاز، قائلًا: «لطالما لقَّنَنَا علماء اللاهوت أن الأحكام التي يقدِّرها الله خير، وأنه لا سبيل لإنكار صحة هذه الحقيقة؛ إذ يترتب على ذلك أن الخير مستقل منطقيًّا عن أحكام الله» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٤٨). وربما نضيف أنه إذا اعتبرنا أن مشيئة الإله مبرر للمُثل الأخلاقية، إذنْ يصبح السبب الذي يدفعنا إلى التحلي بالأخلاق هو الحذر من عواقب أفعالنا؛ إذ يكمن في الرغبة في الإفلات من العقاب. ولكن هذا المبرر ليس أبدًا أساسًا مقنعًا لتقوم عليه الحياة الأخلاقية، والتهديدات ليست على أي حال مقدمات مقنعة «من الناحية المنطقية» لأي حجة.
وتقول حجة ذات صلة — استخدمها كانط — إنه لا بد من وجود إله لإثابة الفضيلة وعقاب الشر؛ لأنه يتضح لنا من التجربة أن الفضيلة في هذه الحياة لا تُقابَل دائمًا أو حتى كثيرًا بالثواب. ولكن هذا — كما يقول راسل — أشبه بالقول إنه ما دام كل البرتقال الموجود أعلى صندوق الفاكهة فاسدًا، فلا بد أن البرتقال الموجود تحته في الصندوق طيب؛ وهو استنتاج منافٍ للعقل.
يهاجم الكثيرون من مناهضي الدين الأثر المضر للدين في العالم باعتباره يتسبب في الاضطهاد والشقاق، ومع ذلك يرَوْن أن المسيح شخصية جذابة، ولكن موقف راسل كان مختلفًا؛ إذ كان يعتبره أقل لطفًا ورأفةً من بوذا وأدنى منزلةً بكثير من سقراط فكرًا وخُلقًا. ويرى راسل أن بعض تصرفاته غير لطيفة؛ فمثلًا حين أذبل شجرة التين — ولم يكن ليفيد أن تصير الشجرة غير مثمرة، ما دامت في غير أوان التين — وهدد بإصابة من رفضوا أن يؤمنوا به بالكرب الأبدي. ولفت راسل إلى أنه على مدى قرونٍ طويلة ظل الناس يُلقَّنون أن يؤمنوا حرفيًّا بصحة هذه التحذيرات الوحشية، ما دام ذلك كان يخدم مصالح الكنيسة. ولكن حين أشار المنتقدون في عصرٍ أكثر إنسانيةً إلى مدى قبحها، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها بالقول إنه ينبغي فهم التحذيرات فهمًا مجازيًّا.
ولكن راسل كان يوجه معظم انتقاداته ضد المسيحية نفسها كظاهرة «منظمة». وكان يكره الإيمان بالمعتقدات الخرافية — «تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القس يمكنه تحويل كسرة خبز إلى جسد المسيح ودمه بالتحدث إليها باللاتينية» — وسخفه المطبق؛ فمثلًا «هم يأمروننا بألا نعمل في أيام السبت، ويفهم البروتستانت هذا على أن معناه أنه ليس لنا أن نلهوَ في أيام الآحاد.» يرى راسل أن المسيحية تتميز على الأديان الأخرى بميلها إلى الاضطهاد؛ فالمسيحيون ضايقوا وقتلوا المنشقِّين واليهود والملحدين وبعضهم بعضًا؛ وأغرقوا آلاف البريئات وأحرقوهن وقتلوهن بطرقٍ أخرى بتهمة «السحر»؛ وأزهقوا حياة مئات الملايين من البشر بِناءً على عقائدهم المنافية للعقل المتعلقة بالخطيئة والسلوك الجنسي.
استخدم راسل في حربه على الدين أسلحة تتألف غالبًا من التهكم والازدراء. كان ملمًّا بالكتاب المقدس على نحوٍ يفوق الكثيرين من خصومه، وكان باستطاعته أن يفحمهم باقتباسٍ مناسب؛ ومثال ذلك حين يقول — وهو يناقش المزايا المقارنة بين الدين والعلم — إن «الكتاب المقدس يخبرنا أن الأرنب الوحشي يمضغ الطعام المجتر»؛ مما يسبب صعوبات للأصوليين عند مواجهتهم بعلم الحيوان. وفعلًا لم يكن التباين بين العلم والدين ليكون على نحوٍ أشد وضوحًا. يتناول الدين حقائق مطلقة ولا تقبل الجدل تظل سارية إلى الأبد؛ أما العلم فهو أشد حذرًا وترددًا. يفرض الدين قيودًا على الفكر، ويحرم الاستقصاء حين يتعارض مع ما تسنه الكنيسة؛ أما العلم فيتسم بسعة الأفق (الدين والعلم، ص١٤–١٦). وهذه اختلافات لافتة؛ ففي مواجهة المنطق العلمي أفضل ما يستطيع الدين أن يفعله — حين لا يحاول أن يظل أصوليًّا على نحوٍ متعنت — هو إعادة تفسير النصوص المقدسة بأسلوب مجازي، والتخفي خلف الادِّعاء بأن الحقائق الدينية تتخطى الفهم البشري.

ولكن مع أن راسل كان معاديًا للدين، فقد كان رجلًا متدينًا، وهذا تناقض ظاهري فحسب؛ فمن الجائز أن يكون للمرء موقف متدين للحياة دون الإيمان بوجود كائنات وأحداث خارقة للطبيعة. وفي هذا الموقف يؤدي تذوق الفن والحب والمعرفة إلى تعضيد الروح الإنسانية، وينطوي على شعور بالإجلال حيال العالم وأحبائنا، وينطوي كذلك على شعور مصاحب من الرحابة التي يكون المرء جزءًا منها. وفي مقال شهير وإن كان يتسم بأسلوب متكلف — بعنوان «عبادة الإنسان الحر» — كتبه راسل تحت تأثير فشل زواجه الأول وما صاحَب ذلك من تغيرات في نظرته للأمور، يعرض هذه الرؤية بعينها. ولكن كلماته تحمل بعض التحفظات المبهمة إذ يقول:

حين يتضح في البداية تعارض الوقائع والمُثل العليا، يصبح من الحتمي التحلي بروحٍ يفيض بالتمرد الناري وبكراهية جارفة للآلهة للدفاع عن الحرية. فأن نتحدى عالمًا معاديًا بإخلاص كإخلاص بروميثيوس وأن نراقب شروره دومًا، ونظل نكرهه دومًا، وأن نرفض الألم الذي قد ينزله أذى السلطة المتعمد؛ هو فيما يبدو واجب كل من يرفضون الاستسلام للمحتوم. ولكن السخط ما زال قيدًا، إذ يجبر أفكارنا على الانشغال بعالم خبيث؛ وفي خضم ضراوة الرغبة التي ينبع منها التمرد يوجد نوع من توكيد الذات الذي يجب على الحكماء التغلب عليه؛ فالسخط هو خضوع أفكارنا ولكن ليس رغباتنا؛ والحرية المنزهة عن الانفعال بالفرح أو الترح التي تكمن فيها الحكمة نجدها في خضوع رغباتنا، وليس أفكارنا. وتنشأ من خضوع رغباتنا فضيلة التسليم بالقضاء؛ وينشأ من حرية أفكارنا عالم الفن والفلسفة بأكمله، والقدرة على رؤية الجمال الذي من خلاله نتمكن من استعادة العالم النافر.

(مقال «عبادة الإنسان الحر»، ١٩٠٣، أعيد طبعه في كتاب «التصوف والمنطق»)

وكما يتضح، كان راسل يرى دائمًا أن التوق إلى السموِّ — لحلم الفيلسوف سبينوزا بفهم واضح ونزيه وشامل تمامًا لكل الأشياء التي من شأنها أن تحرر المرء — تلطفه الوقائع القاسية للمعاناة في العالم. وفي ديباجة سيرته الذاتية يكتب قائلًا: كان الحب والمعرفة — بقدر توافرهما — يرفعانِنِي إلى سماء الفردوس. ولكن الشفقة دائمًا ما كانت تعيدني إلى الأرض. ومن ثَمَّ، كان راسل يَتُوقُ بأسلوبه اللاأدري إلى الفردوس، وسعى إلى اكتشاف السُّبل التي من شأنها أن تقود البشر إلى هناك.

التعليم

كان راسل يأمل أن يكون أهم تلك السبل هو التعليم، الذي كان يرى أنه يتناول السؤال المتعلق بالكيفية التي ينبغي بها إعداد البشر للحياة. ولم يتناول راسل التفاصيل الإدارية المتعلقة بإعداد المدارس والجامعات وتدريب المعلمين — مثلما كان من الممكن أن يفعل سيدني وبياتريس ويب — ولكنه تحدَّث بدلًا من ذلك عما قد نسمِّيه الأهداف الروحية (بمعنًى علماني) للتعليم. وكتب راسل أن ما يهدف إليه التعليم هو بناء الخُلق؛ وأن أفضل خُلق هو الحيوية والشجاعة ورهافة الحس والذكاء، على أن تكون كلها «بأعلى مرتبة». وهكذا يعبر عن الموضوع في كتاب «عن التعليم»، الذي نُشر في عام ١٩٢٦، وذلك قبل أن يؤسس هو ودورا مدرسة بيكون هيل بعام واحد. ويتناول هذا الكتاب أساسًا سنوات الطفولة المبكرة، ويُقِرُّ راسل في سيرته الذاتية أنه كان «مفرطًا في التفاؤل حيال علم النفس»، وأنه كان أيضًا في بعض النواحي «مفرطًا في القسوة» في المناهج التي اقترحها. ومن أمثلة ذلك وجهة النظر — التي اتخذها من مبادئ مونتيسوري — القائلة بأنه إذا كان أحد الأطفال سيئ السلوك فينبغي فصله عن غيره من الأطفال حتى يتعلم أن يصبح صالحًا. وبات راسل يرى لاحقًا أن هذا نمط قاسٍ من قواعد ضبط السلوك.
ومع ذلك يحتوي الكتاب على بعض النصائح الوجيهة. ويبدأ راسل بالأطفال الصغار في سنٍّ مبكرة جدًّا، فيؤكد بأنه ينبغي وضع روتين منتظم للأطفال الرضع وإمدادهم بأكبر عدد ممكن من فرص التعلم، وأنه ينبغي إخفاء أي قلق يبديه الأبوان حتى لا «ينتقل القلق إلى الطفل بالإيحاء». وتعكس هذه العقيدة إيمان راسل بأنه ما دام القلق ليس فطريًّا بين الثدييات العليا الأخرى، فلا بد أن ظهوره على الأطفال يأتي نتيجةً لتأثرهم بالبالغين. وذكَّر قُرَّاءه في الوقت نفسه بأنه لا داعي لتعذيب أنفسهم في سبيل أداء واجبهم كآباء، بل أن يحرصوا على الموازنة بين مصالحهم ومصالح أطفالهم.
كان راسل يرى أن المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداةٍ للتحرير.

معلومات قد لا نعرفها عن الذئب :

أنثى الذئب التي تسمى بـ “السرحانة” عندما تجد شريك حياتها فإنها تعيش معه طول حياتها ولا تستبدله بآخر حتى بعد موته، وذكر الذئب لا يعاشر أنثى أخرى حين يكون مرتبطاً بزوجة، حتى لا يضيع ويتفرق نسله، وهو في هذا أحرص حتى من البشر

كذلك الذئاب لا تترك والديها عندما يكبرا في العمر ويعجزا عن تأمين غذائهما، فشباب الذئاب يصيدون ويأتون بالفرائس إلى أوكارهم حيث يتشاركون الأكل مع والديهم الكبار وأشبالهم الصغار.

معلومة أخرى.. الذئب هو الكائن الوحيد الذي يستطيع قتل الجن.
لذلك يطلق البدو على الذئاب “نسل الملوك”.
لماذا يقال خليك ذيب ؟!
لماذا الذيب بالذات ؟

معلومات قد لا نعرفها عن الذئب :

1- لا يأكل الجيفة مطلقًا .

2- هو من السباع ومن سلالة ملوك الحيوانات.

3- لا يحدث عند الذئب زواج المحارم أي أنه لا يتزوج من أمه أو اخته كباقي الحيوانات .

4- وفاء الأزواج لديه منقطع النظير أي أنه يتزوج من ذئبة واحدة مدى الحياة وكذلك تفعل الأنثى و لذلك فإن الذئب يعرف أبناءه فهم يخلقون من أم واحدة وأب واحد .

5- في حالة موت أحد الزوجين يقام حداد من قبل المتبقي لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وقد تستمر سنة كاملة تصاحبها حالات انتحار وقليل ما يبقى أحد الزوجين على قيد الحياة.

6- يُلقب الذئب بالابن البار لأنه الحيوان الوحيد الذي يبر والديه بعد وصولهما لمرحلة الشيخوخة وعدم القدرة على مجاراة القطيع في الصيد فيبقى الأبوان في الوكر ويصطاد لهما الأبناء ويطعموهما .

فلذلك عندما يطلقون لقب الذئب على رجل فهم يأملون به أن يحمل صفات الذئب مثل الشجاعة والوفاء للقطيع والوفاء للزوجة والتنزه عن السفاسف وعزة النفس ومبرة الوالدين .
معلومات قيّمة و فعلًا نحن نجهل الكثير ،
مع إننا نقول للأطفال في بعض المواقف خلك ذيب دون معرفة حقيقية بصفاته..