الوجود واشكالياته ومفهومة عند الفيلسوف مارتن هايدغر

مارتن هايدغر (بالألمانية: Martin Heidegger)‏ (20 سبتمبر – 26 مايو 1976) فيلسُوف أَلَمَّانِي. ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928.وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927) ؛ دروب مُوصَدة (1950) ؛ ما الذي يُسَمَّى فكراً (1954) ؛ المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961)؛ نداء الحقيقة؛ في ماهية الحرية الإنسانية (1982) ؛ نيتشه (1983)

هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الإبستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

في مؤلفه – الوجود والزمن – يسعى مارتن هيدجر، المؤسس الحقيقي للوجودية بعد هسرل، إلى البحث عن مفهوم الوجود من خلال إعادة تأسيس الميتافيزيقيا، لكشف فلسفة الوجود وليس لأنشاء فلسفة للوجود، لذلك بحث عن الأنطولوجيا الكامنة المستترة أو التي كما هي أو التي من المفروض أن تكون على شاكلة معينة حسب التصور الهيدجري الفلسفي العام – الوجودية -، ولم يبحث عن إنشاء أنطولوجية تأليفية تركيبية.

في هذا الكتاب، أكترث هيدجر بمسألة غير واضحة لأول وهلة، وأرتبك في التمايز ما بين الوجود لذاته، والوجود في ذاته. لكن نحن نعتقد، لدى الدراسة المتمعنة في مجمل مؤلفاته، إنه أقرب فلسفياُ إلى الوجود لذاته الذي يتناسب أكثر أيضاُ مع الفلسفة المتعالية الترانسندنتالية. فدعونا نأخذ المعطيات بروية:

أولاُ :

هيدجر يدرك، تمام الأدراك، نقطة الأنطلاق لديه ويضعها ويرستقها بالضبط في الموقع الذي تستحقه. وحينما يتسائل ويصوغ الحيثيات على صيغة أسئلة محددة، فأنه على دراية أكيدة بالمسوغات الجوهرية المحركة لخلفيتها، ويسترسل في فرضياتها لتبدو في النهاية أكثر أنسجاماُ مع المشروع العام.

ثانياُ :

هيدجر يدرك إن معظم الفلاسفة الذين سبقوه – سيما أرسطو – قد عالجوا مفهوم الوجود من خلال محتوى الموجود، فحينما تحدثوا عن الميتافيزيقيا – الوجود – قصدوا الفيزيقيا – الموجود – فأختلف لديهم مستوى المحمول والموضوع، وأرتبكت، حسب هيدجر، مصادر ومخططات موضوعات الطبيعة. فالفيزيقيا التي هي الموجود الحاصل بالفعل – لأنه الموجود وليس لأنه موجود – لايمكن أن تكون موضوعة للميتافيزيقيا التي من المفروض أن تعالج مفهوم ماورائي لأساس المشكلة برمتها، أي تحديداُ مفهوم، محتوى، وطبيعة الوجود.

هنا، نحن ندرك إننا إزاء ورطة لغوية تعبيرية، لأن الموجود الهيدجري هو موجودي وليس وجودي، كما أن وجوده هو وجودي وليس موجودي، وهذه هي النقطة الأستراتيجية الرائعة التي تحتضن تصوره. ولتبيان ذلك نقول إن الميتافيزيقيا لدى أرسطو هي الفيزيقيا لدى هيدجر، والوجود لدى هيدجر هو – الميتاوجود – المفترض لدى أرسطو.
ثالثاُ : وعندما يتساءل هيدجر عن الشيء الذي يجعل الموجود موجوداُ، فيؤكد مضطراُ إنه الوجود الذي يمنح الموجود موجوديته دون أن يمنح نفسه – موجوديته – وكأن الميتافيزيقيا تخلق الفيزيقيا دون أن تسمح لنفسها بالقفز إلى الوجود الأرسطوي أو الميتاوجود الهيدجري، رغم أنه تارة يؤكد إن الفيزيقيا هي الموجود الذي مازال موجوداُ بما هو كذلك من ذاته ويجعل وجوده حاضراُ. وكأن اللاحضور – الغياب – يدفع بالحضور إلى الحضور دون أن يتمكن هو بالقفز إلى الحضور..

رابعاُ :

وحينما يقيم هيدجر هذه القطعية الأبدية، يحتسبها من جانب واحد منسجم مع نقطة الأنطلاق، ومتوازي مع جوهر تصوره العام، فالقطيعة التي لايمكن أن تكون من جانب – الموجود – الذي هو حضور عيني وليس حضوراُ فلسفياُ، كما توهم الكثيرون، هي من جانب – الوجود – الذي هو قبل كل شيء حضور فلسفي، لذلك يفارق هيدجر عن قصد وبدراية كاملة ما بين الأنطولوجيا والأونطيقي ( الفرق الأنطولوجي )، وكأنه يفارق ما بين رؤيا هيجل – تصور محض – ورؤيا توماس الأكويني – فعل صرف -، فالأنطولوجيا هي الوجود وما ورائيته ولاحضوره، والأونطيقي هو الموجود وأمتلاؤه وحضوره وهمومه وآلامه وكبده وربما أغترابه..

خامساٌ :

وإن ما يعزز مضمون الفقرة الرابعة، هو أن هيدجر يوضح حالة، في الحقيقة أفتراضية، ويزعم أن الوجود إذا ما أصبح – موجوداُ – لسبب ما، أصبح موجوداُ بالفعل، وأنتفى أن يكون – وجوداُ -، وهذه الحالة وأن كانت أفتراضية إلا أنها تدلل على ذهنية هيدجر، التي هي بالأساس متهمة بالغموض والأرتباك، وتشير إلى مرجعية تصوره الفلسفي، سيما وإن الحالة العكسية مرفوضة بالأساس، أي الأنتقال من الموجود إلى الوجود. وربما لهذا السبب تحديداُ، يستمر هيدجر في التأكيد ( لماذا كان ثمة موجود، ولم يكن بالأحرى لاشيء؟ وهذا ما يجبرنا على تصويغ السؤال الأول، ماذا عن الوجود؟ ).

سادساُ :

الوجود الهيدجري هو ما هو كائن وليس ما هو يكون، فالصيرورة كميكانيزم للتحول والتطور أو التفاعل أو الغثيان الرأسمالي تخص الموجود ولاتتعرف أبداُ إلى الوجود، بل هي لاتعرفه أصلاُ، وكأننا إزاء معادلة، الوجود هو الوجود، والموجود هو الموجود، مع مراعاة إن الثاني هو ما قبل الأول، والأول هو ماوراء ذاته. لذلك يحق لنا التأكيد إن الصيرورة ليست عملية أو رؤيا فلسفية في فلسفة هيدجر. وهذا ما يفضي بنا إلى النقطة السابعة والثامنة والتاسعة.

سابعاُ :

فيما يتعلق بالسلب والإيجاب، يغدوان مفهومان خاصان بالموجود والوجود والعلاقة فيما بينهما، فالموجود الذي يحجب الوجود يمثل عامل السلب في التصور الهيدجري، والوجود الذي بفضله ينكشف الموجود يمثل عامل الإيجاب فيه.

ثامناُ :

إن التقويض أو التحطيم الهيدجري، هو في الحقيقة بناء يجسد عاملاُ إيجابياُ هدفه إعادة الحياة إلى الميتافيزيقيا، أي مصالحة الوجود مع الوجود، وإعادة الأول إلى الثاني الذي ليس إلا الأول نفسه، وكأن الميتافيزيقيا ألغت الوجودية من الوجود ومنحتها للموجود، وحان آوان أن يسترد الوجود ميتافيزياقيته، ليترك الفيزيقيا للموجود..

السؤال عن الوجود

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

الوجود عند هايدغر لا ينفصل عن الحقيقة (أو الأليثين- ) التي بمفهومها اليوناني تعني اللاتحجب. لأن كل تعامل أو حكم على الموجود لا يتم الا إذا ظهر عن تحجبه. فهل قصد هايدجر باللاتحجب، الأنا المتعالي ؟. هايدجر يجد في تفسير الفلسفة اليونانية ان الإنسان ليس مركز التجربة ومحورها بل هو الموجود اللامتححب.
لقد صرح هيدجر ان السؤال عن الوجود هو الذي حرك فكره

السؤال عن الوجود في أفق الزمان

◇◇◇◇◇◇♧♧◇♧♧♧◇♧♧♧♧◇

في كتاب الوجود والزمان يتحدث هيدجر عن الوجود (أو الدازين- ) و يعني به الوجود الإنسي الذي يبقى دائما على علاقة بالموجودات ويتميز عن سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه.
هيدجر سلط ضوء جديد على تاريخ الميتافيزيقا من افلاطون حتى مناقشي القرن العشرين لموضوع الوجود و أكسى الفينومنولوجيا ثوبا انثروبولوجيا جديد، تعذر على رائدها هوسرل التعرف عليها.
كتاب الوجود والزمان كان بداية انقلاب جديد في الفكر الفلسفي و من المهم في هذا الكتاب معرفة الهدف الأساسي و هو السؤال عن الوجود، و ارتباطه بمشكلة الزمان لأن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود.
الكتاب مقسم إلى قسمين: الأول يتناول تفسير الآنية الوجودية من جهة زمانية بحتة و تفسير الزمان بوصفه الأفق الترانسندنتالي للوجود. أما القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية “للتحطيم الفينومينولوجي” لتاريخ الانطولوجيا على المستوى الزماني.
بدأ هيدجر من محاورة السفسطاني للإجابة على سؤال قديم قدم الميتافيزيقا. وهو لا يعني أن يصلنا بالتاريخ، بل يريد تصفيته مما يشوبه من غموض و التباس.
هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه، إن لم نسأل أولا عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده ؟. السائل يتفرد عن غيره من الكائنات إلى أنه الموجود الذي يهتم بوجوده. وتحليل الآنية لا يتم من خلال تأملات انثروبولوجية أو نفسية أو اجتماعية، بل الهدف هو التعرف على ماهية السائل.
ويصف هيدجر هذا السؤال بالأنطولوجيا الأساسية التي تريد تحليل اسلوب وجود السائل وتبين مقومات موجوداته. من حيث هو الوحيد الذي له علاقة دائمة مع ذاته و كينونته، أي أن له خاصية التواجد. التي لم تفطن لها الانطولوجيا التقليدية.
المهمة الرئيسية للسؤال عن الوجود تقوم على تحليل الآنية من جهة وتحطيم تاريخ الأنطولوجيا من ناحية أخرى.
ومن الصعوبة أن نقول شيئا عن الآنية، لأن العالم يغرينا بما نعرفه ونكرره في حياتنا اليومية.
هايدجر يقترح طريق دائري يبدأ بالموجود وينتهي بالوجود، ومن ثم يبدأ مرة أخرى بتحليل الآنية بعد أن حدد الوجود.
ماذا يقصد هايدجر من تحطيم تاريخ الانطولوجيا ؟. يقصد ان الآنية محتضنة في التراث والعادات والتاريخ بشكل عام، ولهذا نراها تترك مام امرها للتاريخ لاجتياز قراراتها الحاسمة، دون أن تكلف نفسها مشقة استشراف هذا التراث لاستشفاف وجودها التاريخي الخاص. فلا بد ازالة الحجب التي تراكمت على التراث والرجوع إلى المنابع الاصلية للمفاهيم والمقولات التي شوهتها المذاهب المتوالية التي اهملت السؤال الرئيسي عن الوجود.
يؤكد هيدجر ان منهجه فينومنولوجي، ولكن ليس بالتصور الهوسرلي الذي يرد كل شيء إلى الأنا الخالص (الذي يبقى حتى لو فني العالم). ويقول انالنطولوجيا ممكنة إذا أصبحت فينومنولوجيا. لأن الفلسفة هي انطولوجيا فينومنولوجية تبدأ من تفسير الآنية بوصفها مسار كل سؤال فلسفي.

وقبل أن أبدي أعتراضاتنا على مجمل هكذا تصور، أحبذ أن أسجل طبيعة الأمور الآتية :

الأمر الأول :

إن الوجود الهيدجري لايراهن على خاصيته كوجود، إنما ثمت عامل يوشك ألا ينفصل عنه، وهو الزمن، أو ما سمي بالزمن الوجودي، وربما من الأنسب تسميته بالزمن الأنطولوجي. وهذا بدوره سيكون موضوع حلقة خاصة، لأن هيدجر أستخدم مفهوماُ له خصوصيته – الزمن الزماني – الذي ينم عن جملة معطيات في العلاقة ما بين الموجود والوجود، ولا يتوقف الأمر عند هذه النقطة لأننا سنرى إن ما يسمى بالزمن التزمني يناسب طبيعة الموجود دون الوجود..

الأمر الثاني :

لن نذكر كافة الأعتراضات، لأننا سنؤجل قسماُ منها لدى الحديث عن الوجود لدى الآخرين، سيما هيجل، وسندخر قسماُ آخراُ عند الحديث عن مفهوم الزمان لدى صدر الدين الشيرازي..

الأمر الثالث :

لقد تعرض الكثير من السادة للمدلولات المختلفة لدى هيدجر، دون أن ينتبهوا إلى أمر في غاية الخطورة والأهمية، وهو أن بعض آرائه لاتمثل حالة عامة، ولاتتعلق بكل تصوراته الفلسفية، إنما هي حالة خاصة بل جزئية تتعاشق فقط مع إحدى مكونات تصوره العام، الوجود، الموجود، وجود الموجود الأنساني، مثل الغياب، العدم..

والآن، أسمحوا أن أسجل الأعتراضات التالية:

الأعتراض الأول :

في المفاصلة ما بين الوجود الميتافيزيقي، والموجود الفيزيقي، عبر مفهوم الفرق الأنطولوجي، يدرك هيدجر جيداُ إن أحدهما بات غائباُ عن الآخر، فلا الوجود يستطيع أن يدنو من الموجود دون أن يحترق، ولا الموجود مؤهل أن يرتقي إلى مجال الوجود، لذا وجد نفسه مضطراُ اضطراراُ يدعو إلى الشفقة، أن يجد جسراُ ما بينهما لكي يتسنى له أن يمنح الوجود دفقه المفترض، وأن يوهب الموجود طاقة موجوديته. وما كان هذا الجسر إلا وجود الموجود الأنساني. وهذا ما سندحضه من زاويتين أثنتين، الزاوية الأولى : ياترى ما هي المفارقة مابين الأنسان والنمور والأسود والأشجار والزيزفون والنفل البري من الزاوية الأنطولوجية. أليس الأنسان في النهاية، زيد وعبيد وفاطمة وخديجة وجورج وميشيل تماماُ مثل النمور والأسود والنباتات لو سميناها بأسماء خاصة. الزاوية الثانية : ثم لو أستطاع الأنسان، عن طريق المنفتح الهيدجري، أن يتمتع بخصائص الموجود كموجود، وبعض خصائص الوجود كوجود، فما أدرانا ألا يتمتع بها بعض الاخرين من الموجودات، بل جميع الموجودات، عندئذ يهوى ويذوي الفارق الأنطولوجي ما بينهما.

الأعتراض الثاني :

بصدد المنفتح الهيدجري يرتكب هيدجر مغالطة لاتغتفر، فهو يعتقد إن وجود الوجود نفسه يرتهن بنا، وكأنه يفكر فينا وبنا، وكأننا نفكر فيه وبه. وإذا كان الأمر على هكذا صيغة، فالحري بنا أن نستنبط الأستنتاج المنطقي الموازي، وهو أن الوجود في النهاية ليس إلا وجود الموجود الأنساني، وهذا ما يرفضه هيدجر رفضاُ مطلقاُ لأنه يؤكد إن الفارق الأنطولوجي هو مابين الحضور وماهو حاضر، وما بين الوجود وما هو موجود.

الأعتراض الثالث :

في المفاضلة ما بين الوجود والموجود والمحتوى الأنساني، نستشف أمراُ غريباُ في جدلية التصور الهيدجري، فهو يخشى أن ينزلق الوجود إلى النسيان كميتافيزيقي، وهو في الحقيقة ينزلق بالضرورة إلى النسيان المطلق، ليس لنفس السبب وإنما لسبب آخر واضح هو أن هيدجر قد أستبدل الوجود المفترض بالموجود الأنساني الذي حل محل الأول في شروط وجوده، وليس في شروط كينونته التي لادور لها في هذا المقام..

الأعتراض الرابع:

في حيثية الأدراك الفلسفي، لدى هيدجر منطوق الموجود الذي كان من المفروض أن يكون صفة ل( الوجود ) تحول إلى موصوف بحاجة إلى صفة، ومنطوق الوجود الذي لايمكن، ومن شدة الحرص،أن نستخدم صفته، ومنطوق – الموجود الأنساني – الذي نحتار في توصيفه. لكن من المؤكد إن الموجود الأنساني لايمكن إلا أن ينتمي إما إلى الأول، وإما إلى الثاني، ولايجوز أن ينتمي إلى أي ثالث حسب محتوى الفارق الأنطولوجي الهيدجري. وطبقاٌ لهذه الرؤية لابد أن ينتمي إلى الأول – الموجود – لأنه لو أنتمى إلى الثاني لكنا إزاء كارثة حقيقية. وبما أنه ينتمي بالضرورة إلى الأول فإن الثاني يصبح غائباُ إلى الأبد.

الأعتراض الخامس :

يؤكد هيدجر إن الوجود هو الذي يجعل الموجود موجوداُ، ويرتكب مغالطتين، الأولى : إن – موجوداُ – هنا هو صفة للوجود وليس صفة للموجود، أي بمعنى أن الموجود موجود كوجود وليس كموجود، وبالتالي، لا الميتافيزيقيا تلبث كما هي هيدجرية، ولا الفارق الأنطولوجي يصمد كما هو هيدجري، لأن الموجود هو وجود حقيقي وفعلي طبقاُ لمنطوق هكذا تصور. الثانية : إذا كان الوجود هو الذي يجعل الموجود – موجوداُ – فلا مندوحة أن نعي كيف يتم ذلك، هيدجرياُ الوجود لايخلق الموجود، كما لايستطيع أن يكشف عنه لأن هيدجر نفسه من الموجودات، فلم يبق أمامنا إلا القول على مضض، وبالصيغة السلبية حصرياٌ، إن لولا الوجود ما كانت الموجودات، هذه هي الصيغة الوحيدة القابلة للنقاش، وهي صيغة مرفوضة، لأن الموجودات، أما أن تدل على ذواتها، أو على ذاتيتها، في الحالة الأولى، نصبح إزاء مستويين غير متوافقين فيما يخص منطوق الوجودية، وفي الحالة الثانية، نمسي في خصام قاتل مع هيدجر نفسه..

الأعتراض السادس :

لكي ندرك فلسفة هيدجر بصورة أجمل وأوضح، ينبغي أن نميز ما بين سؤالين مختلفين أساسيين. الأول : ماهي حقيقة الأنسان ووجوده، والثاني : ماهو الوجود وحقيقته. في أساس فلسفته، ينطلق هيدجر من تصور الوجود وحقيقته، لذلك قلنا إنه يدرك تماماُ نقطة الأنطلاق لديه، لكن تصور الوجود وحقيقته شيء، والإجابة الفعلية عن وقائعية هذا الوجود وحقيقته شيء مستقل آخر. وبما أنه لايدرك الوجود ولم يدركه حتى مماته، أنبرى في الشرح لمسألة حقيقة الأنسان ووجوده، وأنغرق في تداعياتها التي أستغرقته. لذلك عندما يتحدث عن الزمن، سيما عن الزمن التزمني، لايستطيع إلا أن يؤكد إن الأنسان لايعيش في الزمن، لأنه لو قالها لأكد أن الوجود الأنساني هو الوجود نفسه وهذا ما لا يرضاه، ومن هنا يزعم إن وجوده له زمنه وهذا أساس وجوهر ما عرف فيما بعد بمفهوم الدازاين الهيدجري. وأعتراضنا هنا إن الدازاين الهيدجري غير خليق أن يؤصل أساس الوجود الهيدجري، وإن كان من الممكن، وفي أحسن الأحوال، أن ينبهنا إلى موقعه المفترض..

الأعتراض السابع :

حينما نتحدث عن الموجود لدى هيدجر فأننا نتجاوز حدود المسموح به أنطولوجياُ، لأن أي من – الموجود – لايملك إلا أمتلائه وحضوره، أي جسم وشكل وهيئة وهيكل مثل الحيوانات، الطيور، الناس، الورود، الأشجار، وهذه الأشكال أو الأجسام ليست لها إلا الصفة الفردية، بمعنى تلك الشجرة، وهذه الزهرة، أو ذاك الذئب، تماماُ مثلما نقول هذا زيد وذاك عبيد. لذلك نؤكد إن فلسفة هيدجر، بعد أن راهنت على مفهوم الوجود الميتافيزيقي وأنغرقت في الموجود الأنساني، تعاملت مع تلك الهيئات الفيزيقية كالموجودات، وليس كالموجود. وأعتراضنا واضح وبديهي، من يسلب عن الموجودات قوة الوجود، يسلب عن الوجود قوة الموجودات، وبالتالي قوة الموجود، وبالتالي قوة صفة الموجود في الوجود، وبالتالي قوة الوجود في الوجود، وهذا أخطر ما يمكن أن تقترفه أي فلسفة كمغالطة..

الأعتراض الثامن :

نحن لو فارقنا ما بين فعل الكون وفعل الوجود لأدركنا، بطبيعة القضية، إن هيدجر الذي أنطلق بكل جدارة ومعرفة ووعي من فعل الكون، أنغمس كلياُ، وأختنق في غياهب فعل الوجود، وأستسلم للقلق والذعر والعوامل المرضية في المجتمعات الرأسمالية، دون أن ينتبه كمحصلة أن عليه الإجابة على السؤال التقليدي الهيدجري، ما هو الوجود، السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه هيدجر، لأنه لو أجاب عليه لأنتفى الوجود، ولأنتهى إلى الأبد.

مصادر

♧♧♧♧♧◇◇◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

^ هايدغر الفيلسوف الوجودي/ بقلم: بولس الخوري/ثلاثون عاماً على رحيل هايدغر..

الموسوعة الفلسفية /، عبدالرحمن بدوي
الفلسفة الوجودية / عبدالرحمن بدوي

المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة البشرية عند ديفيد هيوم

ينظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة أخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد. ومعنى هذا أن ما يفهمه هيوم من مصطلح “الفلسفة الأخلاقية ليس مقتصرًا على ما يُفهم عادة منه أنه يخص مبحث الأخلاق فحسب هيوم تنقسم المعارف البشرية إلى فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي والأحيائي والرياضي، وفلسفة أخلاقية تضم كل ما يخص الإنسان، ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية هي والسياسة والاقتصاد والدين، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية. وكان في ذلك منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته الأخلاقية من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم.

ولذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو “محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية”، وهو يقصد بالموضوعات الأخلاقية كل أجزاء كتابه: الفهم الإنساني والانفعالات والأخلاق.
لم يكن هيوم هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي. وهو يقصد من المنهج التجريبي تتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى، فهو يدرس المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس، ويدرك الأخلاق انطلاقاً من الانفعالات. والحقيقة أن البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية، وهو يعترف بذلك بالفعل ويذهب إلى أن علم النفس هو العلم الفلسفي الحقيقى عن جدارة. والملاحظ أن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية، ولذلك نستطيع أن نفهم مصطلح “الطبيعة البشرية” باعتبارها العنوان العام لفلسفته على أنه الطبيعة السيكولوجية للبشر. ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث.
كما يقصد هيوم من تطبيق المنهج التجريبي على الموضوعات الفلسفية والأخلاقية أن يكون مُشِّرح الطبيعة البشرية، مثلما يفعل الطبيب ودارس الجسم الإنساني عندما يشرح الجسم ويكشف أن الأنسجة والتكوين الداخلي ووظائف الأعضاء. وهدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية في مجال الموضوعات الأخلاقية. كما يهدف هيوم من تشريح الطبيعة الإنسانية الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة. وقد أخذ إيحاءه في ذلك من الإنجاز الذي حققه نيوتن لعلم الطبيعة أو الفيزياء. اكتشف نيوتن عدداً قليلاً من المبادئ التي تحكم كل حركة فيزيائية سواء على الأرض أو في الأفلاك، وينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة، يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً مثلما أمكن لنيوتن أن يتوصل إلى مبادئ الطبيعة الفيزيائية ولأن العلم النيوتوني هو في الأساس علم للحركة، فقد نظر هيوم أيضاً إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم للحركة، لكنها الحركة النفسية لا الحركة الفيزيائية، وبذلك انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الانفعالات والأحاسيس، والمشاعر، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق.

لكن هيوم الذي بدأ بالاعتقاد في أن علم الطبيعة البشرية يجب أن يكون علماً لحركة النفس، وذلك في “بحث في الطبيعة البشرية” انتهى في مؤلفاته اللاحقة إلى النظر إلى ذلك العلم على أنه علم وظائف لا علم حركة، ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس. ولذلك فهو لم يطبق نموذج العلم النيوتوني بحذافيره، لأن المنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية لن يكون بحثاً عن الحركة مثلما هو الحال مع الفيزياء. بل سيصبح بحثاً عن الوظيفة. وهذا هو بالضبط ما يميز هيوم عن توماس هوبز مثلاً، وهو أيضاً السبب الذي جعل هيوم يتوصل إلى أن أفعال النفس صادرة عن ملكات معرفية وأخلاقية، وتحدث بتوسع عن الإدراك الحس والمخيلة والفهم باعتبارها ملكات معرفية.

إن سبب إعجاب هيوم بالعلم الطبيعي النيوتوني هو أن هذا العلم قد نجح في تفسير حركة الأجسام الأرضية والسماوية بقليل من المبادئ العامة والكلية، وهذا ما جعله يحاول دراسة الطبيعة الإنسانية بنفس الأسلوب الذي درس به نيوتن الطبيعة الفيزيائية، هادفاً التوصل إلى أهم القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني، الأخلاقي والمعرفي والسياسي والاقتصادي. وكان هيوم ينظر إلى المنهج التجريبي على أنه هو المنهج العلمي، وأن الدراسة العلمية للطبيعة البشرية هي دراسة من منطلق المنهج التجريبي.
ومن متطلبات المنهج التجريبي رفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، بل ترك البحث يأخذ مجراه الطبيعي ملاحظاً سلوك الإنسان تاركاً التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، مثلما كان يفعل الفلاسفة القدماء، ولا يمكن أيضاً الانطلاق من ملاحظة سلوك الباحث نفسه والتأمل في ذاته على طريقة ديكارت. ذلك لأن هيوم يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. هذه الطريقة استخدمها ديكارت، وتوصل بها إلى أن الإنسان ذو طبيعة مفكرة في الأساس ويوجد باعتباره شيئاً مفكراً، وما الجسد الإنساني سوى ملحقاً بالعقل. وقد توصل ديكارت إلى هذه النتيجة الخاطئة من وجهة نظر هيوم لأنه اعتمد على التأمل وحده وعلى الحدس الداخلي الذي أثبت به وجود الأنا أفكر ووجود الإله والعالم، وعندما يعكف المفكر على تأمل فكرة ذاته وحسب يدرك خطأ ً أنه وجود مفكر وحسب. وفي مقابل ديكارت يرفض هيوم طريقة التأمل الداخلي هذه ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف. وفي ذلك يقول هيوم

.
وتقترب طريقة تفكير هيوم من نيوتن ومنهجه في جانب أساسي من فلسفته، وهو المتعلق بالمعرفة. ذلك لأن نيوتن قد درس الطبيعة على أنها مكونة من ذرات بسيطة ومن حركة عامة هي الجاذبية. وهيوم كذلك يدرس الطبيعة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار. وترابط الأفكار هذا ينظر إليه هيوم على أنه شبيه بالتجاذب بين الأجسام في مجال الفيزياء النيوتونية. يقول هيوم في ذلك “هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي”.

يُشِّبه هيوم في هذا النص ترابط الأفكار وفق مبدأ عام بالاتحاد والتفاعل بين الأجسام الفيزيائية وفق مبدأ الجاذبية، وهو يستعير نفس مصطلح “الجاذبية” ليصف ما يحدث بين الأفكار في المخيلة والذاكرة، وهو ذاته المصطلح الذي يصف حركة الأجسام في الفيزياء النيوتونية.
ينطلق هيوم في بحثه في الطبيعة البشرية من فكرة أساسية، لم يتوصل إليها ببرهان عقلي أو استدلال، بل عن طريق ملاحظة سلوك البشر. تذهب هذه الفكرة إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني، سواء كان معرفياً أو أخلاقياً أو فنياً، هو الإحساسات. فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأحمر نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم، ونسعى بذلك للحصول على اللذة وتجنب الألم. والطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شئ ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر. أما العقل فلا يحتل دوراً في هذه المجالات، ويقتصر دوره على المجال العلمي وحده. والهدف الأساسي لدى هيوم هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية التي تجعلها تسلك سلوكها المعروف عنها. وأهم توجهات الطبيعة الإنسانية التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي الانفعالات. ويعلي هيوم من شأنها حتى أنه يعطيها الأولوية على العقل ذاته، ويجعل العقل نفسه خاضعاً لها. ويقول في ذلك “العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شئ سوى أن يخدمها ويطيعها”.
والحقيقة أن هذه النظرة للطبيعة الإنسانية والتي تعطي الأولوية للانفعالات على العقل مناقضة تماماً للنظرة التقليدية للإنسان والتي سادت التفكير الفلسفي منذ أرسطو الذاهبة إلى أن الإنسان كائن عقلاني في الأساس، والتي تُعِّرفه على أنه حيوان ناطق، وتميزه عن باقي الكائنات الحية بما لديه من عقل وقدرة على التفكير. لكن هيوم يقف ضد هذا الميراث الطويل ويقر بأن الانفعالات والأحاسيس والعواطف هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية. وقد كان مبرره في ذلك قوياً، لأن الإنسان يسلك في حياته اليومية حسب نفس الصفات التي حددها هيوم للطبيعة البشرية، بالإضافة إلى أن استخدام العقل والتفكير العقلاني مقصور على الممارسة العلمية. إذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الانفعال والإحساس والعاطفة لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فحسب فلسفة هيوم فإن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. هذا الدور التنظيمي المحدود للعقل يجعل للانفعال الأولوية القصوى لدى هيوم، فلا يمكن للشئ الذي يقتصر دوره على التنظيم أن يكون موجهاً، أو دافعاً للسلوك، بل إن العقل نفسه لدى هيوم يعد ملكة في خدمة الانفعال، حيث تضفي شيئاً من العقلانية والتبرير العقلاني المنطقي لدوافع وتوجهات ليس لها أدنى علاقة بالعقل بل تنتمي كلها إلى الانفعال. ويصر هيوم على أن العقل ليس له أي دور في حياة البشر وسلوكهم. كما أن دوره منعدم في مجال الاعتقاد، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد وعلى أساس العقل وحده لا يمكن الوصول إلى أي اعتقاد، وإذا كان البشر يسلكون وفقاً للعقل لتوقفوا عن الإيمان بأي اعتقاد لكن هذا غير صحيح بالمرة، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل أى دور في حياتهم.

كتاب بحث في الطبيعة الإنسانية

يتكون كتاب “بحث في الطبيعة الإنسانية من ثلاثة كتب، الأول عن الفهم، وفيه يتناول هيوم الأفكار من حيث أصلها وأجزاءها وما يجري عليها من تجريد وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد والاحتمال. والكتاب الثاني عن الانفعالات، وفيه يتناول هيوم الكبرياء والتواضع، والحب والكره، والإرادة. والكتاب الثالث عن الأخلاق، وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلم، والخير والإحسان. والكتاب بهذه الصورة يحتوي على نظرية في المعرفة في الكتاب الأول، وسيكولوجيا للانفعالات في الكتاب الثاني، ونظرية أخلاقية في الكتاب الثالث. لكن سبق أن قلنا أن أساس نظرية هيوم في الطبيعة البشرية هو النظرة إلى الكائن البشري من منطلق الانفعال لا العقل، ولذلك فإن البداية الحقيقية لنظرية هيوم هي في الكتاب الثاني حول الانفعالات لا الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة. وهذا ما جعل أبرز الباحثين في فلسفة هيوم وهو نورمان كيمب سميث إلى الذهاب إلى أن الكتاب الثاني هو البداية الحقيقية لفلسفة هيوم، وما الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة سوى تطبيق لنظرية حول الانفعالات لم يقدمها هيوم إلا في الكتاب الثاني. وقد ذهب كيمب سميث إلى أن بداية هيوم بالمعرفة كانت خاطئة، إذ كان عليه أن يبدأ بالانفعالات منطلقاً منها إلى المعرفة والأخلاق لا العكس، وأن هذه البداية الخاطئة أدت إلى سوء فهم لفلسفة هيوم، إذ أدت إلى اشتهار هيوم بأنه فيلسوف الشك، وإلى النظر إلى الفهم الإنساني على أنه يشكل أساس الانفعالات والأخلاق وهذا غير صحيح.

فلم يتبنى هيوم نظرة شكية في الفلسفة من منطلقات ابستمولوجية بل من المنطلق السيكولوجي الذي وضعه في الكتاب الثاني حول الانفعالات، ما الشكية الابستمولوجية عنده والتي تنصب حول السببية والاعتقاد وأفكار الجوهر والعلاقة سوى توسيع لنظرته الشكية حول الانفعالات. وهذا ما جعل سميث يعيد ترتيب أفكار هيوم ويبدأ بالانفعالات منتقلاً منها إلى الأخلاق وأخيراً إلى المعرفة.
هيوم قبل أن يعرض للانفعالات كان عليه أن يتعامل مع عناصر الإدراك الحسي البسيط، ومع الكيفية التي يفهم بها العقل الأشياء، فتلقي الانطباعات الحسية من الخبرة التجريبية له الأولوية على تكوين النفس للانفعالات. ويبدو أن هيوم كان مدركاً أن البحث في الطبيعة البشرية، حتى ولو كان أساسها انفعالي، يجب أن يبدأ بالقدرة على تلقي الانطباعات الحسية وتكوين الأفكار وإقامة الصلات بينها، فهذا هو أول مستوى يكشف عن تعامل الطبيعة الإنسانية مع الخبرة.

الانطباعات والأفكار

لا يطلق هيوم على موضوعات العقل مصطلح “الأفكار” كما فعل لوك، بل يطلق عليها “إدراكات”، وهو يقسم هذه الإدراكات إلى نوعين: الانطباعات والأفكار. ويميز هيوم بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى، ذلك لأنه كي يتمكن العقل من التفكير والاستدلال فيجب أن يكون حاصلاً في البداية على انطباعات تأتي من الإحساس والإدراك الحسي. وفي حين أطلق لوك مصطلح “الأفكار” على كل عناصر العقل سواء كانت حسية أو عقلية، مجردة أو انفعالية، فإن هيوم يضع في البداية “الإدراكات” ويقسمها بعد ذلك إلى انطباعات حسية وأفكار، محتفظاً في هذا التقسيم بالمعنى الأصلي للأفكار والذي يدل على الجانب العقلي المجرد من عناصر التفكير.
ويميز هيوم بين الانطباعات والأفكار على النحو التالي

إن الفرق بينهما يتمثل في درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي. فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية أفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأل مرة في النفس. وأعني بالأفكار الصور الخافتة لهذه في التفكير والاستدلال، مثل تلك التي تظهر في هذا البحث.

ومعنى هذا أن الفرق بين الانطباعات والأفكار هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة، والاثنان عنده من نوع واحد، إذ هما معاً إدراكات. وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة. وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً، بمعنى أنه لا يتلقى الانطباع الحسي نفسه بل يتلقى صورة ذهنية عنه.
ولأن هدف هيوم الأساسي سواء في الكتاب الأول من “بحث في الطبيعة البشرية” أو في كتابه الآخر في المعرفة وهو “بحث في الفهم الإنساني” الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة انفعالية في الأساس، فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار. ولأن الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة. ويمكننا النظر إلى هذه النظرية على أنها سيكولوجية أو تكوينية. فهي سيكولوجية لأنها ترد ا لمعرفة إلى تأثر الحواس بالأشياء في صورة انطباعات وأفكار، وهي تكوينية لأنها تتبع عملية المعرفة إلى أبسط مكوناتها أو مدخلاتها الأولى من الإحساسات. كما أنها في نفس الوقت تطورية، ذلك لأن النظر إلى المعرفة على أنها تبدأ بمرحلة الإحساس، ثم الإدراك الحسي الذي يتلقى الانطباعات ثم الذهن الذي تنطبع فيه الإحساسات في شكل صور ذهنية، ثم صنع الذهن من هذه الصور الذهنية لأفكار ثم لعلاقات، يعد نظرية تطورية في المعرفة، شبيهة بعلم النفس المعرفي التطوري عند جان بياجيه. ولقد سبق أن لاحظنا أن هذا التشابه مع بياجيه ينسحب على نظرية المعرفة عند لوك. ولذلك ينظر إلى لوك وهيوم على أنهما من إرهاصات علم النفس المعرفي الحديث، ومن الممهدين لبياجيه. والذي يجعل نظرية هيوم في المعرفة نظرية سيكولوجية أنها تركز على عملية التفكير باعتبارها عملية وظيفية إجرائية، حتى أنه يميل إلى النظر إلى الانفعال المعرفي للذهن البشري على أنه يرجع إلى ملكات ذهنية، إذ يذهب في سياق شرحه لنظريته في المعرفة إلى النظر إلى الإحساسات والربط بينها على أنها وظيفة لملكة الذاكرة والمخيلة على التوالي، والنظر إلى وظيفة الربط بين الانطباعات والأفكار على أنها وظيفة لملكة الفهم. هذا التأكيد على الملكات المعرفية باعتبارها قائمة بوظائف هو الذي يميز نظرية هيوم عن نظرية لوك، وهو أيضاً الذي جعل هيوم هو المؤثر الأكبر على كانط الذي سوف تكتمل على يديه نظرية المعرفة باعتبارها نظرية في وظائف وملكات الذهن البشري.

ويضيف هيوم إلى نظريته حول العلاقة بين الانطباعات والأفكار توضيحاً ضرورياً، يقول فيه أنه مثلما أن الأفكار صور للانطباعات، فيمكننا أن نكوِّن أفكاراً ثانوية تكون صوراً للأفكار الأولية. فاللون الأحمر الذي أفكر فيه هو صورة ذهنية لإدراكي الحسي لهذا اللون، وهذه الصورة الذهنية هي فكرة أولية، تؤدي إلى تكوين لفكرة ثانوية تكون صورة ذهنية من مستوى ثاني أكثر تجريداً عن فكرة اللون ذاتها. ويذهب هيوم إلى أن هذا التمييز بين فكرة أولية وفكرة ثانوية ليس استثناءً من نظريته حول أولوية الانطباعات على الأفكار بل هو تأكيد لها، ذلك لأن هذا التمييز يثبت إمكان أن تقوم الفكرة الأولية بدور انطباع من مستوى ثاني يؤدي إلى ظهور فكرة ثانوية. ومعنى هذا أن ما يسميه هيوم بالانطباع ينسحب على ما تستقبله الحواس من إدراكات، وأيضاً على ما يستقبله العقل من أفكار أولية.
ويميز هيوم بين نوعين من الانطباعات: انطباعات الإحساس وانطباعات التفكير أو الانعكاس. ويقول عن انطباعات الإحساس أنها “تنشأ في النفس أساساً، من أسباب غير معروفة”.
لكن كيف تكون أسباب انطباعات الإحساس غير معروفة؟ إن هذا التصريح من قبل هيوم يعد من أكثر أجزاء فلسفته غموضاً، وكان مصدراً لاعتراضات كثيرة من قبل دارسي فلسفته، ويمكننا تبرير فكرة هيوم هذه بمعرفة رأيه في النفس. كان الأحرى لهيوم أن يؤكد تأكيداً حاسماً على أن انطباعات الإحساس تتمتع بصحة ويقين مطلق مثلما ذهب لوك، إلا أنه لم يفعل ذلك واختلف عنه. وتعد هذه النقطة من أهم الجوانب التي اختلفت فيها تجريبية هيوم عن تجريبية لوك. إن هيوم في العبارة السابقة لا يتحدث عن وجود الانطباعات الحسية ذاتها، فهو لا يشك في وجودها أو في الموضوعات الحسية التي تؤثر على أعضاء الحس، بل يشك في كيفية الانطباع نفسه، في النفس الإنسانية، ذلك لأن عملية الانطباع في حد ذاتها تنطوي على موضوع مدرك حسياً ينطبع في النفس، وعلى النفس التي يظهر فيها الانطباع. لا يشك هيوم في وجود وحقيقة الموضوع المنطبع أو الانطباع ذاته، بل يشك في موضوع الانطباع وهو النفس، ذلك لأن النفس ذاتها لا تعرف بانطباع حسي بل بعملية استدلال عقلية مجردة. وما يعرف بانطباع حسي يكون ضرورياً، أما ما يعرف باستدلال وبرهان يكون احتمالياً. كيف إذن تُعرف الانطباعات الضرورية بشئ محتمل مثل النفس؟ وكيف يُعرف ما هو مباشر وغير متوسط عن طريق وسيط غير مباشر وغير واضح لدى الذات الإنسانية أثناء عملية الانطباع؟ كل هذه الصعوبات هي التي جعلت هيوم يضع العبارة السابقة التي يشك فيها في أسباب نشوء الانطباعات الحسية في النفس، ذلك لأن النفس لا تعرف مباشرة وبوضوح أثناء عملية الانطباع، وتأتي معرفتها بعد ذلك بممارسة التفكير في العمليات الذهنية التي تقوم بها. وكل ما نعرفه عن النفس هو تلك العمليات الذهنية، أما النفس ذاتها من حيث الجوهر فلا نعرفها، ذلك لأن هيوم لا يعتقد في أن النفس الإنسانية جوهر ثابت بعكس ما ذهب ديكارت ولايبنتز، وكل ما نعرفه عنها هو آثارها وأفعالها، وهي في حقيقتها ليست سوى هذه الأفعال، فهي وظيفة وليست جوهراً ومن أجل ذلك ذهب إلى أن سبب الانطباع لا يمكن معرفته بما أننا لا نعرف النفس معرفة حقيقية باعتبارها جوهراً. وإذا فكرنا في النفس على أنها ليست سوى مجموعة من الأفعال الذهنية فكأننا بذلك نردها إلى وظيفتها الحسية وحسب، أما جوهرها العقلي فلا يمكن معرفته. وإذا كانت النفس هي سبب نشوء الانطباعات فيها لكانت بذلك جوهراً، لكنها ليست جوهراً، بالتالي فسبب الانطباعات لا يمكن معرفته. أما انطباعات التفكير فيذهب هيوم إلى أنها ترجع إلى الأفكار. فعندما يؤثر انطباع ما على أعضاء الحس ويجعلنا ندرك الحرارة أو البرودة، العطش أو الجوع، اللذة أو الألم، فإن لهذا الانطباع نسخة أخرى يستقبلها العقل تبقى فيه بعد أن يختفي الانطباع، وهذه النسخة هي ما يسميها هيوم فكرة. هذه الفكرة عن اللذة والألم عندما ترجع إلى النفس، تنتج انطباعات جديدة بالرغبة والإحجام، أو الرجاء والخوف، وهي ما يطلق عليه هيوم انطباعات التفكير لأنها مستقاة من التفكير حول الانطباعات الأولية السابقة. ومعنى هذا أن انطباعات التفكير تسبق الأفكار، لكنها لا تعتمد على انطباعات الإحساس. وبذلك يمكننا ترتيب العملية الذهنية في الترتيب التالي: انطباعات الحواس ، وأفكار أولية، وانطباعات التفكير، وأفكار ثانوية، وأفكار مجردة (المكان والزمان والسببية والاعتقاد

المعرفة وحدودها عند الفيلسوف جون لوك

جون لوك (29 أغسطس 1632 – 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke)‏ هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك)

درس جون لوك في كرايست تشيرش

في أكسفورد وأصبح طبيباً ومستشاراً للايرال أوف شافتسبري. ثم تحّول إلى الفلسفة، فأنتج طوال فترة عملية غير قصيرة مؤلفاً قيِّماً في موضوع المشكلات التي يستطيع الفهم البشري التعاطي بها .
وقد تولى لوك عدداً من المناصب الحكومية، ولكنه فقد حظوته لما نُفي شافتسبري عام 1683م، ولكن الملك وليام الثالث من إنكلترا رحّب بعودته وعيّنه مستشاراً للحكومة في ميدان سكّ النقد.
في عام 1667 أصبح طبيباً خاصاً لأسرة أنتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في (1689–1692) مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.
اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان “مقالتان عن الحكومة” تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر وليس ضد هوبز كما كان يظن البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة الشرطة له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها: مقال خاص بالفهم البشري

وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704. كان لجون لوك دور كبير غير مباشر في الثورة الأمريكية إذ أن كتابه ((رسالتان في الحكم)) كان محط إعجاب الأمريكيين وكانت من ضمن آرائه في الكتاب أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية ويجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته، وقد ساهمت آرائه في زيادة وعي الأمريكيين الذين اعتنقوا آرائه وقرروا تنفيذها.ومن أشهر عباراته الفلسفية”الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً…. وتتم مقاومتها غالباً… لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد”

فلسفة جون هوك

•••••••••□□□□□□□□□□□□□□□□

لقد كان لوك فيلسوفا تجريبيا حسيا ومن أكبر أعمال لوك مقال عن الفهم الإنساني الذي يشرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم. اشتهر جون لوك زعيم الحسيين بعبارته المشهورة:”إذا سألك سائل:متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة:عندما بدأت أحس”.لقد سلم لوك بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده وإمكانياته وقد وضح ذلك في معظم كتبه ولا سيما كتابه (مقال في الفهم الإنساني) وكتابه (عن العقل البشري)وخلاصتهما أن العقيدة السائدة قبل لوك هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار الفطرية الموروثة منذ الولادة دون أن يكتسبها العقل من التجارب التي تمر به أثناء الحياة ولقد بلغ من رسوخ هذا المذهب في نفوس أنه لم يكن يستهدف حتى لمجرد البحث والجدل.وكان ديكارت من أشد المدافعيين عن صحته وتبوته، أما لوك فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء الفطرية بأشد الإنكار.ويقول في ذلك “انها ((أي الأفكار الفطرية))ليست مطبوعة على العقل بطبيعتها، لأنها ليست معرفة بالنسبة للأطفال والبلهاء وغيرهم.
ظهرت فلسفة لوك في عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التي كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى في كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التي أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني في نفس الوقت(3 )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية. ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التي تجمع في نفس الوقت بين حق الملكية الذي يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التي تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذي يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفي نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة في اعتماد العقل حكماً في كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التي وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التي تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحي من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذي سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحي والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية في اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى. ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً في المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذي تحرر العقل عندهم من أي تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هي طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التي صنعت نفسها وثروتها بالانشغال في العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهي كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية في فلسفة لوك هي التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك في المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، في مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهي الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.

مراتب المعرفة وحدودهاعدل

يذهب لوك إلى أن العقل البشرى يستطيع الوصول إلى الصدق والحقيقة في معارفه، ولذلك فهو يرفض وجهة النظر الشكية رفضاً تاماً. والحقيقة أن مذهبه التجريبى كان يمكن أن يؤدى به إلى نزعة شكية، مثلما هو الحال عند هيوم، وذلك من منطلق أن كل معرفة تأخذ نقطة انطلاقها من الحواس والإدراكات الحسية معرضة للشك. لكن نفس المنطلق التجريبى الذي أدى ببعض المذاهب الفلسفية إلى الشك مثل مذاهب الشك اليونانية كمذهب زينون الإيلى والمذهب الشكى الحديث لدى هيوم، يؤدى لدى لوك إلى القطع بيقين وصحة المعرفة الإنسانية. وتنقسم المعرفة عند لوك حسب طبيعتها ودرجة اليقين فيها إلى معرفة حدسية intuitionist ومعرفة استدلالية demonstrative( 44). والمعرفة الحدسية عنده أكثر يقينية وصدقاً من المعرفة الاستدلالية. وهذا الرأى غريب بعض الشئ، ذلك لأن لوك يرفض فيه أن تكون المعرفة القائمة على مبادئ عقلية مجردة تستخدمها في براهين للوصول إلى الصدق ذات أولوية أو أفضلية على المعرفة الحدسية، ذلك لأنه يرفض نظرية الأفكار الفطرية منذ البداية، ويرفض فكرة أن يكون لدى العقل البشرى مبادئ قبلية يتوصل بها إلى حقائق بالاستدلال والبرهان. ولذلك لا ينتمى لوك إلى فئة الفلاسفة العقليين الذين يعطون الأولوية للمعرفة الاستدلالية من مبادئ عقلية، وينضم إلى فئة التجريبيين. ويبدو لأول وهلة أن إعطاء لوك الأولوية للمعرفة الحدسية متناقض مع مذهبه التجريبى، ذلك لأن رده كل المعرفة البشرية إلى الخبرة التجريبية يجعل قوله بأولوية المعرفة الحدسية متناقضاً، وهو تناقض ينشأ عن الاعتقاد في أن الحدس الذي يقصده لوك هو فعل روحى خالص متحرر من أى خبرة تجريبية. لكن مفهوم لوك عن الحدس مختلف تماماً عن أى معنى عقلى أو مثالى للحدس، فالحدس عنده تجريبى تماماً؛ إذ هو قوة في الذهن يستطيع بها إدراك الحقيقة تماماً كما تدرك الحواس الأشياء( 45)، ولذلك فهو في نفس مرتبة الإدراك الحسى. وإذا كان الإدراك الحسى هو الفعل الذي تقوم به الحواس، فإن الحدس هو الفعل الذي يقوم به العقل، وهذا الحدس هو نوع من الإدراك الحسى الخاص بالعقل. وعلى الرغم من أن هذا الحدس غير حسى، إلا أنه مثل الرؤية الحسية تماماً، فهو مباشر وغير متوسط، وفيه لا ينشغل العقل بإثبات أو فحص أى شئ برهانياً، بل يدرك الحقيقة مثلما تتلقى العين الضوء بمجرد أن تتوجه إليه. وما يجعل لوك يعطى الأولوية للحدس أن كل برهان أو استدلال في الدرجة الثانية من المعرفة وهي المعرفة الاستدلالية تعتمد على حدس مباشر وواضح، إذ تبدأ بهذا الحدس صانعة منه كل العلاقات والارتباطات بين الأفكار. ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة في طريقها بالطريقة المنطقية، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التي يتبعها العقل في معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هي ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل في إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التي ترجع إلى الإدراك الحسى

ومعنى هذا أن الحدس الذي يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هي الفهم الإنسانى والتي تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى. والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التي تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة

. وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار. والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل عن الإدراكات الحسية، واتفاقها فيما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هي المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهي المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التي يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علم مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة في إدراك حسى بل هي مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذي يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية في الصغر والكسور والأعداد المتناهية في الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين في الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذي يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهي كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل في الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة في الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً في الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها في الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، في صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة في ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق في الواقع. أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذي تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذي هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة. أما معرفة الإله فهى معرفة برهانية استدلالية، إذ نعرف وجود الإله من ملاحظتنا للترتيب والنظام في الطبيعة متوصلين بذلك استدلالياً إلى ضرورة وجود كائن وضع هذا النظام والترتيب. أما وجود العالم فهو معرفة حسية، إذ نعرف وجوده بما نتلقاه من إحساسات بأشيائه المختلفة.

المصادر

رسالة في التسامح / جون لوك

مقال في الفهم البشري / جون لوك

فلسفة الجمال عند الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل1770-1831

فلسفة هيجل الميتافيزيقية

تعتبر فلسفة هيجل ذروة ما بلغته الفلسفة المثالية في ألمانيا، فهي أشمل من أطروحات أستاذه فتشه وزميله شلنج، رغم أنه استعان بأطروحاتهما، فقد كان مهتماً بأطروحاتهما الفلسفية ومطلعاً عليهما اطلاعا تاماً، حتى أن أول كتاب نشر له كان عنوانه “في الفرق ما بين نسق فيتشه ونسق شلنج في الفلسفة”…

لقد ولد هيجل في سنة 1770 م من أسرة تنتسب إلى الطبقة الوسطى، هاجرت عائلته من إقليم كرنيتا في النمسا لأسباب دينية واستقرت في إقليم اشفابن جنوبي ألمانيا، فقد لاقت عائلته اضطهاداً دينياً لأنها تنتمي إلى المذهب البروتستنتي. تلقى تعليماً عالياً في صغره، فأبوه كان موظفاً عالي الرتبة، درس هيجل اللاهوت والفلسفة في معهد توبنجن، ولكنه لم يمارس مهنة القسيس كما كان ينبغي، بل انتقل في سنة 1793 م إلى برن ومن ثم إلى فرانكفورت للعمل بوظيفة مربٍ لأبناء العائلات الثرية.

بعد ذلك، أنتقل إلى يينا في سنة 1801 للالتحاق بفتشه وشلنج، وكانت محطة مهمة في حياة هيجل الفلسفية، فقد دشن فلسفته فيها من خلال إلقاء محاضرات تعتبر لب فلسفته المعروفة في التاريخ وظاهريات الروح، وبدا نجم هيجل في تصاعد، وبعد بضعة سنين ذاع صيته في ألمانيا كلها وأصقاع أخرى من أوربا، وتجمّهر حوله التلاميذ والإتباع، وأضحت فلسفته تمثل مدرسةً فلسفيةً بعد أن بلغت شهرته أوّجها في مرحلة مقامه في “برلين” سنة 1818م، ولكن لم يطل به المقام، إذ مات في سنة 1831م بداء الكوليرا في ذات المدينة.

لعل أفضل تشبيه نستطيع أن نشبه به فلسفة هيجل هو الهيكل المشيّد البناء، والشاهق الطول، والمنسجم الأبعاد، فمذهبه هو عبارة عن نسق متكاملة، ولا مشاحة أن يهتم هيجل هذا الاهتمام ببناء فلسفة على هذا الأساس المتقن، إذ أن الفكر الذي لا يصاغ بهذه الصورة النسقيّة لا يعتبر فلسفة علمية لدى هيجل الذي يقول: “وما لم تشكل الفلسفة نسقاً فإنها لن تكون نتاجاً علمياً”.

مذهب هيجل هو عبارة عن ثالوث فلسفي، كل حلقة من هذا الثالوث ينقسم بدوره إلى ثالوث فرعي، وتنقسم هذه بدورها إلى حلقات فرعية أخرى، وهكذا تنقسم فلسفته في إطارها العام إلى ثلاث حلقات رئيسية هي: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وتنسجم هذه التقسيمات والحلقات مع منطق فلسفة هيجل الجدلية.

المنطق في مذهب هيجل الفلسفي هو مقولة الفكرة في ذاتها (وهي القضية)، وفلسفة الطبيعة هي الفكرة في الآخر أي في تخارجها إلى الموضوعات (وهي النقيض)، والقسم الأخير من الثالوث الهيجلي هو الروح المطلق، إذ أنها (المركب) الذي يتكون من القضية ونقيضها، وتتجلى الروح المطلقة فيه عن نفسها في العالم عائدةً إلى ذاتها بعد أن فارقتها في مرحلة النقيضة. هذا ما يعرف بالديكالطيقي الهيجلي، وأضحى له شأناً عظيماً في فلسفة التاريخ، إذ صور التاريخ في صيرورة دينامية تسير على هدى هذا المنهج.

تنطلق فلسفة هيجل بدايةً من المنطق، لأنه هو ” علم الفكرة في وسطها الفكري الخالص “… أي أنه ” علم الفكر: بقوانينه وأشكاله المتميزة ” (موسوعة العلوم الفلسفية – ص 79) الذي يهتم بمقولات ونشاطات العقل من حيث أنه هو ذاته، وعلى هذا الأساس يؤكد هيجل على أنه لا ينبغي أن ” يُفهم على أنه يعني منهجاً أو صورة، بل على أنه يعني الشمول الذي يتطور ذاتياً لقوانينه، وأشكاله الخاصة، وهذه القوانين هي عمل الفكر نفسه، وليست مجرد واقعة حقيقية يكشفها، ولابدّ أن يخضع لها”

وطالما أن المنطق هو مقولة الفكرة في ذاتها، فإن الطبيعة هي الفكرة في الآخر، وهي تتلمس ذاتها في العالم الواقعي ، إذ أنها “تتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفسها وتستبطن في فكرة الإنسان” في النهج الديكالطيقي، الطبيعة هي المرحلة الثانية، وهي نقيضة القضية الأولى (الفكرة/العقل)، على أنه لا ينبغي أن ننظر لمفهوم الطبيعة هنا على أنها خروج عن الفضاء الفكري والروحي، فالطبيعة ليست إلا الفكرة، ولكنها في تخارجها عن ذاتها، ففلسفة هيجل لم تهتم بالمادة في الطبيعة، وإنما بفكرة الطبيعة، بخلاف العلوم التجريبية، وكان هيجل يحرصّ على أن لا يزاحم الفيلسوفُ العالِمَ الطبيعي في حقله المعرفي.

وفي فلسفة الروح، وهي المرحلة الأخيرة من الثالوث الهيجلي، نصل إلى مربط الفرس في فلسفة هيجل فيما يتعلق بمبحثنا هذا، لأن الروح المطلق تتمثل في الفن، وكذلك في الدين والفلسفة، وهذه هي ذات” فينومينولوجيا الروح التي يرينا فيها هيغل الوعي وهو يترقى رويداً رويداً من الإشكال الابتدائية للإحساس وصولاً إلى العلم، ثم المنطق حيث يتحدد التصور في ذاته، ثم فلسفة الطبيعة التي تشير إلى اللحظة التي يغدو فيها الروح غريباً عن نفسه، وأخيراً فلسفة الروح التي تبين عن عودة الروح إلى ذاتـه في القانون والأخلاق والدين والفلسفة، فالمذهب إذن ملحمة رحيبة للروح “تجربة” كما يقول هيغل نفسه”.

هذه الملحمة تشبه ملحمة الأوديسة، التي يغترب فيها الملك “عوليس” في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، ثم يعود بعد غياب طويل إلى وطنه وزوجه، فالفكرة في تخارجها عن ذاتها للطبيعة، تشعر بالاغتراب، والحنين إلى العودة إلى ذاتها تارة أخرى، ولكنها هذه المرة، لا تعود كفكرة في ذاتها كما في المرحلة الأولى، بل تعود محملة بعلوم عن الآخر، فتتحوّل روحاً مطلقاً، لأن الروح لا يمكن أن تستقل بإدراك ذاتها وحسب، ولكن لابد لكي تبلغ أوّجها أن تدرك الآخر، وعودة الفكرة إلى ذاتها حينئذٍ هو تجلّى للروح المطلق بكل جلالها وعظمتها، ولا غرو أن تكون هذه محط فلسفة هيجل كلها في فلسفة الحضارات الإنسانية من تاريخ وقانون وأخلاق وفن ودين.

وتنقسم فلسفة الروح إلى ثلاث حلقات فرعية تندرج – كما قلنا آنفاً – إلى الثالوث الرئيسي من فلسفة هيجل المطابق للمنهج الديكالطيقي. (1) الروح الذاتية مضمونها هو العقل البشري منظوراً إليه نظرة ذاتية على أنه عقل الذات الفردية. أما في (2) الروح الموضوعية، فهي تبدأ بالخروج من ذاتها إلى الآخر في الخارج، هو عالم الموضوع، ولكنه ليس بالعالم المادي، بل هو العالم الروحي (الفكري) – أي عالم المؤسسات والتنظيمات: القانون والأخلاق والدولة. ويتحد الذاتي مع الموضوعي فيشكلان (3) الروح المطلق التي تمثل الروح البشري في تجلياتها في الفن والدين والفلسفة، وهذه المراحل لا ينبغي أن تفهم على أنها مراحل زمنية، ولكنها بالأحرى منطقية، إذ تُستنبط كل حلقة من الأخرى استنباطاً منطقياً.

  • فلسفة هيجل في الجمال والفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

فلسفة الجمال والفن لدى هيجل مشتقة من فلسفته الميتافيزيقية، وفي مقدور من أطلع عليها – ولو لماماً – أن يتكهن بفلسفته في الجمال، هيجل يستهل فلسفة الجمال من خلال فلسفته في الروح المطلق التي تنشأ من التضاد ما بين المتناهي واللامتناهي، كمركب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها – أي القضية ونقيضها، “فالروح يعقل التناهي بالذات بوصفه نفيه، فيدرك عن هذا السبيل اللامتناهي، وما حقيقة الروح المتناهي هذه سوى الروح المطلق، فالروح المطلق هي تلك الكلية هو الحقيقة العليا”

والجمال الفني هو موضوع للمتناهي، وهكذا يصبح جزءاً لا تجزأ من هذه الجدلية التي تحدث ما بين المتناهي واللامتناهي، ويتمخض عنها الروح المطلق.

وهناك رابطة أخرى ما بين الجمال الفني والروح المطلق، وهي رابطة الوعي بالحقيقة، فـ”أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم”

، وجمال الفن من هنا يتلاقى مع الروح المطلق بحكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة…!

فمكانة الفن في النسق الهيجلي الفلسفي تقبع في مرحلة الروح المطلق من فلسفة الروح، وهي آخر عماد في ثالوثه الفلسفي كما سبق أن ذكرناها، ويشترك مع الفن في هذه المنزلة الفلسفة والدين، لأنهم جميعاً يمارسون فعلهم على موضوع المطلق والحقيقة العليا.

ماهيـة الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يعرّف هيجل الفن بأنه تجسد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، “وتكمن مهمة الفن في التوفيق بين هذين الجانبين: الفكرة وتمثيلها الحسي بتشكيل كلية حرة منهما”

مقدار تطابق الفكرة مع الشكل هو الذي يحقق درجة سمو الفن، ولكي يحقق هذا، لابد أن يشتمل على عدّة شروط: أولاً: لابدّ أن يكون المضمون الذي ينبغي تمثيله صالحاً للتمثيل فنياً، ثانياً: لا يجوز أن يشتمل مضمون الفن على شيء مجرد، وثالثاً: يجب أن يكون الشكل والصورة عيّنيين في الجوهر ويتلاقيان وينسجمان مع بعضهما البعض، وهذا التطابق هو ما يكوّن “المثال”… عليه، يؤكد هيجل بـ”أن الفكرة والتمثيل يتطابقان في الفن الأكثر رقياً على نحو موافق للحقيقة، بمعنى أن الشكل الذي يتجسد فيه الفكرة هو الشكل الحقيقي في ذاته، وأن الفكرة التي يعبر عنها تشكل بدورها التعبير عن حقيقة”

وتشكلُ “المثال” في الفن الراقي هو الذي يقصيه عن التلبس بمفاهيم أخرى قد يتلاقى مع بعض أوجهها، مثل الرغبة وما تنطوي عليها من اللذة والألم، وهما من دواعي المادة، فالفن لا يرتكز على “الرغبة” وإن تلاقى معه في اهتماماته بالحسي، إذ أن الرغبة تنحو إلى الأشياء في الطبيعة مدفوعةً بشهوتها للاستهلاك بخلاف الفن الذي لا يخضع لرسم الاستهلاك، وبتالي النزعة الفنية لدى البشر منزهة عن الحسية النفعية.

ولا يعني هذا – طبعاً – بأن الفني يلغي الحسي إلغاءً تاماً، أو أنه ينشد الفكر المحض أو الكلاني (إذ أن هذه هي مهمة الفلسفة)، بل هو يكتفي بتجلي الفكر بالظاهر الحسي، من هنا يخبرنا هيجل بأن الفن يحتل “منتصف الطريق بين الحسي المحض والفكر المحض، يمثل الحسي بالنسبة إلى الفن لا المادية المباشرة والمستقلة، مادية النبات والحجر والحياة العضوية على سبيل المثال، وإنما المثالية التي لا يجوز الخلط أصلاً بينها وبين مثالية الفكر المطلق”

… ولا يقصد هيجل بظاهر الحسي هو أن الفن لا يلامس الأعماق، ولكنه يقصد بأن الفكرة في الفن تتجلى في شكل حسي، ندركها بحواسنا، فالمنحوتة الفنية على سبيل المثال تعبر عن فكرة في صورة مجسمة، فالظاهر الحسي هو الشكل الفني.

لذا، الفن من منظور المظهر الذاتي عبارة عن نشاط روحي وحسي معاً، ليس آلياً كما هو الحال مع الأشياء في الطبيعة، ولا عملياً كما هي مع الأفكار الفلسفية، لذا “هذا النشاط لا يتعامل مع أفكار محضة أو مجردة، بل ينبغي أن يكون في آن واحد حسياً وروحياً”

. منتجات هذا النشاط لدى هيجل هي من إبداع التخيّل، فإن كان الفن مضمون روحي يتم التعبير عنه عن طريق التمثيل الحسي، فإن “التخيل هو الذي يضفي على هذه المضامين أشكالاً حسية”

والتخيل هو المجازى الذي يضفي معنى على الفن، فيقدمه من صورة حسية سواء كانت قصيدة أو رواية أو رسمة أو غير ذلك من صنوف الأشكال الفنية الجمالية…!

جمال الفن والطبيعة

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يساهم الفن في إبراز الوعي الذاتي للروح المطلق، لأنه التعيين “الحقيقي” الفردي لها في الخارج من خلال تمثيلها تمثيلاً حسياً، فالفن من حيث أنها موضوع للحقيقة هو الذي ” يعقل ويمثل الوجود بوصفه حقيقياً في تظاهراته الظاهراتية، أي في توافقه مع مضمون متماسك المنطق تجاه ذاته، وله بذاته قيمته الذاتية، ليس حقيق الفن إذن الصوابية المحضة البسيطة، وهو ما يقتصر عليه ما يسمى بمحاكاة الطبيعة، بل على الفن كيما يكون حقيقياً، أن يحقق التوافق بين الخارج والداخل”

، وهذا لا يتأتى للطبيعة ، لأنها عاجزة عن جعل هذه الحقيقة مدركة بموجودات جزئية مثل الشمس والقمر، بحكم خصوصياتها بالذات وجمودها.

وهذا ما دفع بهيجل إلى أن يميل إلى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة، يقول هيجل مؤكداً على هذا: ” في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فأن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن”.

كما أنه يقرر بأن هناك فرق ما بين الحسي (الطبيعي) وبين العمل الفني الموضوعي، فرغم “أن العمل الفني يعرض نفسه لحدسنا أو لتمثلنا الحسي، الخارجي والداخلي، تماماً كما تفعل الطبيعة الخارجية أو طبيعتنا الذاتية الداخلية” إلا أن الحسي في الفن “يوجد أساساً وجوهراً من أجل الروح… والجانب الحسي في العمل الفني لا يوجد ولا يجوز أن يوجد إلا من أجل الروح”

والنظرية الكلاسيكية التي تصرّ على أن دور الفن هو محاكاة الطبيعة لأنه يشترك معها في الجانب الحسي هي نظرية باطلة في رأي هيجل، فهذه النظرة تتجاهل “المثال” في الفن الذي يميّزه عن الطبيعة… فضلاً على أن الطبيعة فاقدة للحرية، بخلاف الفن الذي يقوم على الحرية، بحكم أنه هو الممثل للروح المطلق في الحسيّ.

الفن والأخلاق

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طالما أن جمال الفن هو جمال خالص يسمو على الأغراض والرغبات، فلابد – إذن – أن يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق، بل أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه، “فلئن لم يكن بد بأي ثمن من غزو هدف نهائي إلى الفن، فإن هذا الهدف يجب أن يكون من طبيعة يكفي معها نفسه بنفسه، وعليه، لا يمكن لغايته المفترضة إلا أن تكون غاية في ذاتها”

ولا يرى هيجل بأن الفن خاوٍ من كل دلالة أخلاقية، ولكن يرفض أن يكون هو الغاية النهائية للفن، كما “لا يرى مانعاً أيضاً أن توجد الوصايا الأخلاقية في العمل الفني بشكل ضمني، بشرط ألا تظهر فيه بصورة جلية ولا تقدم لنا كواجب ينبغي العمل به” .

أنواع الفن وتمظهر فكرة الجميل في الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

بعد أن بيّن لنا هيجل “فكرة الجمال” في الفن، أخذ يرصدها في صنوف الفنون وأشكاله عبر التاريخ، من هنا يربط فلسفة الجمال بفلسفة الروح والتاريخ معاً.

فدرجة الجمال في الفن تعتمد على مدى تطابق المضمون مع الشكل وتعيّنات الفكرة في الواقع، ثم تماهيهما في “المثال” كجوهر واحد، وعلى هذا الأساس، صوّر هيجل أشكال هذه العلاقة التي تربط الروحي بالحسي في آصرة الفن في ثلاثة أشكال:

المرحلة الرمزية – الفن المعماري

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طبعاً هيجل لا يقصد بهذا الفن الرمزي الذي يذهب إلى أن التعبير عن التجربة الفنية يتم من خلال إيحاء تصويري ترمز للعاطفة والأفكار الجمالية التي يراد توصيلها كما قد نظن لأول وهلة، ولكنه يقصد بها تخلف المادة الحسية عن التعبير عن الفكرة، فالشكل الفني هنا فقط يشير إلى الفكرة رمزاً، ولكن يفشل في الإفصاح عنها إفصاحاً خليق بالفكرة ذاتها، يلخص الدكتور نوكس مراد هيجل في الفن الرمزي، فيقول: “في هذا الفن تبدو الفكرة غامضة مشوشة وغير محددة، فلم تستطع إخضاع المادة، هناك قصور في الفكرة قصور وفي المضمون الأمر الذي نتج عنه بالتالي قصوراً في الشكل”

يرجع هيجل هذه المرحلة إلى نتاج الحضارات الشرقية القديمة في الفن، إذ “أنه يقدم لنا مدلولات غير متفردة بعد، وبمعنى أن الأشكال المرتبطة به يمكن أن تكون متطابقة وغير متطابقة على حد سواء”

. إذن الفن المعبرة عنه من خلال الرموز هو فن ملتبس وغامض، في حاجة إلى كدّ ذهني كيما يتم رفع الستار عن المعنى المحجوب، وهذا ما نشهده مثلاً في الفنون القديمة، سيما لدى الهنود والفراعنة، فهذه الحضارات عبرت عن معانٍ في قوالب رمزية مجسدة لا تشكل “المعنى” المراد وفقاً لرأي هيجل، فتم مثلاً تصوير “القوة” في شكل حيوانات مثل الأسد، مع أنها ليس هي حقاً مغزى “الفكرة”، وهذا يعتبر تطاولاً على الفكرة ذاتها وتمددها الحر – هكذا يفقد الفن الرباط الذي يبقي الفكرة مطابقة للجسد بكل عفوية وحرية، فتنفصل الفكرة عن تعيّينها في الخارج الحسي حيث أنها “حرية مجردة ولا متناهية تطلق العنان لنفسها فيها تراهم [أي الفراعنة والهنود القدماء] لرغبتهم في جعل المادة مطابقة يدفعون بها نحو المسيخ، ويشوهون الشكل ويجعلونه غريباً بشعا أو تراهم يدرجون الفكرة الكلية في الأشكال الأشد قبحاً “

ونشهد مثل هذه الأمثلة الكثير في أساطير الأولين، ففي ظل عجز الإنسان عصرئذٍ عن تفسير العالم حوله والتعبير عن أفكاره ارتمى في أحضان فن محفوف بالألغاز والأحاجي…!

فن العمارة هو الأبرز في هذه المرحلة، ففن العمارة تطوّر في ظل التعبير عن الإلهي، وذلك من خلال بناء المعابد، ولكن لم يكن في مقدوره أن يقوم بذلك، لسيادة المادة (فهو أكثر الفنون اعتماداً على المادة الصماء) على فكرة المطلق – الإلهي.

يقدم لنا هيجل مثالاً على ذلك هو بناء الأهرامات فهي قبور محصنة للملوك تمثل كما يقول هيجل “صورة الفن الرمزي في مطلق بساطته، فهي عبارة عن بلورات هائلة الحجم، أشكال خارجية خلقها الفن لتحمي شيئاً ما داخلياً، وعلى نحو يوحي إلينا حقاً بأنها ما وجدت إلا لتسوير هذا الداخلي الذي تجرد من الطبيعي المحض” فالأهرام هي “المظهر الشكلي للمضمون الفني حقاً مضمون الانفصال عن الحياة العينية والمنظورة” رغم ذلك ليست “هي بعد بمملكة يسري في أوصالها تيار حي، ما هي بعد بمملكة الروح الحر والحي، وإن أرتقت ما فوق الحسي”

المرحلة الكلاسيكية – فن النحت

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة، يتفتق العقل البشري، ويصبح قادراً على تمثيل المطلق في صورة محسوسة تعبر عن تجليه في الفن، لقد ردمت الهوة هنا ما بين الفكرة والمادة المجسدة لها، وأصبح للفن تعييناً فردياً مباشرة في الطبيعة بعكس بعض التجسّيدات الرمزية التي كانت تحاكي المطلق بإشكال مشوهة أو غامضة، لقد أضحى الشكل الإنساني المثالي علامة على هذه المرحلة، من هنا نلج عصر النحت حيث يتم اختزال المطلق في الجسد البشري، كما يتم تجسيد الحضور الإلهي في المعابد التي سبق أن تم انجازها في الفن المعماري، النحت أكبر قدرة على تشكيل المادة، لكي تعبر عن الروح، لا في رموز حيوانية أو شكلانية، ولكن في أجساد بشرية مكتملة، هذه هي الفردانية الروحانية التي يسعى لها الفن.

رغم ذلك، لا يزال الفن حبيس المحدود، وإن تطابقت فيه الفكرة بالشكل إلا أنه لم يحقق “المثال” في أعلى صورته المطلقة، فهو يصوّر المتناهي من دون حرية تامة، و”تصور الجانب الإلهي الذي يتجسّد تصور معيب خاطئ، ذلك لأن الله ينبغي أن يكون حراً وروحاً لا متناهية، في حين أن آلهة اليونان لم يكونوا أحراراً أو لامتناهين”.

المرحلة الرومانسية – الرسم والموسيقى والشعر

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة الأخيرة لا نشهد قصوراً في تعبير المادة عن الفكرة كما في الفن الرمزي، بل بالعكس من ذلك، نشهد علواً في الفكرة على المادة، فالروح المطلق يسمو على المادة، لتغدو حرة تتجلى من دون قيود الحسي “من دون أن تكون بها حاجة كيما تتفتح إلى اللجوء إلى وسائل حسية أو على الأقل إلى التعرض لضغط هذه الوسائل”

يسمى هيجل هذه المرحلة أيضاً بالفن المسيحي، فالفن الكلاسيكي نجح في تقصي الروح في المثال البشري، عبر المنحوتات التي نحتت لتعبر عن الآلهة في العصر الإغريقي، لكنها ظلت حبيسة المادة، بينما هي في المرحلة الرومانسية تتخطى حواجز المادة المحسوسة في الجزئي العيني، وأخذت تعبر عن الإله المسيحي المطلق لدى جمهور المؤمنين. ولم يعد المضمون عبداً للشكل، بل طغى المضمون على الشكل، فتجلّتْ الفكرة في حرية أكبر في الفن الرومانسي، فالحياة الداخلية الذاتية هي التي تسيطر على الشكل، وتبرز سمو أكبر للروح المطلق، فتصل إلى أعلى ذرى وعي ذاتها بذاتها.

من هذا المنظور، من الطبيعي أن تتجلى الروح المطلق في فنون أكثر تجريديةً من فن العمارة والنحت كما هو الحال في المرحلتين السابقتين، فالرسم والموسيقى والشعر هي الفنون البارزة في هذه المرحلة الرومانسية، ويرجع هذا لجوهرها الذي يتسم بالتجريد الروحي، فالرسم تصوير أرقى من النحت، لأن الفكرة فيه تتخطى الأبعاد الثلاثية الحسيّة، وتستبدل هذا بالظل والنور والألوان، وطالما أن الفن الرومانسية يعبر عن الحراك الذاتي للروح، نجد أن الموسيقى والشعر أقرب تعبيراً عن جوهر هذه الروح، فالمادة الحسية التي تتشكل فيهما الفكرة هي الصوت والنغم اللذان يجوبان الفضاء بكل حرية وانطلاق كأطياف نورانية ويلبسنا الجوارح الحسية من سماع ونظر، فتحدث تجربة التلقي الجمالية…!

  • نقد فلسفة الجمال الفن لدى هيجل

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

كما رأينا لم يهتم هيجل بتأمل جوهر الجمال والفن وحسب، ولكن تأمل تطور الفن في تاريخ البشرية من وجهة نظر الفلسفة الهيجلية، وبخلاف اتفاقنا مع هيجل على تقسيماته تلك التي تبدو لنا في بعض الأحيان متعنتة ومتحاملة لصالح الفن المسيحي الغربي على الفن الشرقي إلا أننا لا نستطيع أن ننكر سعي هيجل في النفاذّ إلى تحليل الفن في الحضارات السابقة بصورة شمولية وكونية لم يسبقه إليها أحد من قبل، وإطلاع هيجل الموسوعي على الفنون في الحضارات الأخرى ساعده على انجاز ذلك.

طبعاً النظريات الحديثة في الفنون لا تتفق مع كثير من أطروحات هيجل، لاسيما حول العلاقة التي تربط المضمون بالشكل، وتشكل المعنى، مثلاً لم يعد اليوم ينظر إلى “المعنى” على أنه جوهر ثابت، وهذا يعلي من شأن الفن الرمزي الذي يعول على ظاهرة المعنى المتعدد الدلالة، وهو أمر لم يرق لهيجل، وظنّ بأنه عيب فني، إلا أن إبراز هيجل لهذين العنصرين المهمين في الفنون في فلسفته، وتمييز أنواعه بهذا الصورة، يعتبر انجازاً من انجازات النظرية الجمالية الفنية لدى هيجل!

كما أن هذا ما جعل هيجل يخلط ما بين “الجليل” و”الجميل” في الفن الرمزي (أقصد هنا الإشاري الدلالة أي الذي يشير إلى “معنى” ولا يعينه في سياق واحد ومعنى واحد) فيقول: “الجليل هو طغيان الفكرة على المادة، حين تعجز ملكة الفن عن التعبير عن الفكرة في إطار مادي مطابق، لذا الفن الرمزي هو أقرب إلى الجليل منه إلى الجميل في كثير منه”

، ولكن الفرق لا يكمن في نقص الدال على المدلول كما يقول هيجل، ولكن في دلالة المعنى ذاته لدى المتلقي.

إن أطروحة هيجل في تاريخ الفنون نزعت الفن من السياق التاريخي، وجعلت من الفن تجريداً حتى لو لم يقرّ هيجل بذلك، كما أن تطور الفن من الرمزي إلى الكلاسيكي، ثم بلوغه مأربه النهائي في الرومانسية هو إعلان عن موت الفن بحكم أنه يرمي إلى أن الفن قد وصل مداه، ولا غرابة أن تلهم فلسفة هيجل أدلوجيات دعتْ إلى نهايات للتاريخ، نجد هذا في الطرح الشيوعي على يد كارل ماركس، وفي الطرح الليبرالي على يد فرنسيس فوكوياما، وقد تأثرا بفلسفة هيجل عن التاريخ.

كما أن ربط هيجل الفن بالروح والفكرة المطلقة من خلال وحدة المضمون والشكل لا يستقيم مع دعوته بأن هدف الفن هو ذاته، وهذا ما تنبه له الدكتور نوكس في قوله: “هذا التصور يلقي ظلاً من الشك على جدية تأكيد هيجل في أن غاية الفن تقوم في ذاته، ولكن الحقيقة هي أن هذا الفصل بين المضمون والشكل إنما يرتب جملة نتائج هامة، هو يستكمل في تحديد هيجل للفن كرمز حسي لمضمون ميتافيزيقي”

فهيجل يعزو إلى الفن هدفاً خارج جماليته، وهو التعبير عن الروح المطلق.

عجزُ المسيحية في الغرب عن تصور الله تصوراً مجرداً هو عجزٌ يمكن نسبته إلى قصور في مَلَكة التصور (وهي ملكة لا تنمو إلا في أطوار متقدمة في عمر الإنسان كما يخطرنا بذلك علم النفس التكويني الحديث) لا في ملكة التمثل الحسي كما يقول هيجل، ، بل التصور المسيحي وفقاً للدراسات الحديثة في الأديان امتزجت بالتصورات الوثنية التي كانت سائدةً آنذاك في ظل الدولة الرومانية، فوجدت نفسها مقلدة لتجسيد الإله في أيقونات، لذا هذا التصور هو انفعال أكثر من كونه فعلاً، أي أنه دخيل على الفن المسيحية، وليس نتاجا واعياً لها وهو ما يخالف خصائص الروح الواعية بذاتها. كما أن تقليل هيجل من أمر الفنون الوثنية الإغريقية، هو كذلك تقليل من شأن الفن المسيحي، فالمثال الفني في كلاهما هو ذات التجسيد الإلهي، أما التمايز فيما بينهما فهو تمايز مفتعل مرده التحامل الديني أكثر من أي شيء آخر!

المراجع:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

أفلاطون، هيبياس الأكبر، ترجمة علي نجيب إبراهيم، دار كنعان، دمشق 2003

أميل برهييه، تاريخ الفلسفة – مجلد القرن التاسع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1997

ثيوكاريس كيسيديس، هيراقليطس، جذور المادية الديالكتيكية، ترجمة حاتم سليمان، دار الفارابي، بيروت 2001

جعفر الشكرجي، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال ، دار حوران، دمشق 2002

عبدالرحمن بدوي، حياة هيجل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980

عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1984

عمانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005

فراس السواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق 2002

موسوعة لالاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت 1996

نوكس، النظريات الجمالية كانط – هيجل – شوبنهاور، ترجمة محمد شفيق شيا، دار منشورات بحسون الثقافية، بيروت 1985

هيجل، الفن الرمزي، الكلاسيكي، الرومانسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1986

هيجل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1988

هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة، د. إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

ولتر ستيس، فلسفة هيجل – فلسفة الروح، المجلد الثاني، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

[1] فراس السواح، دين الإنسان – ص: 141

الميتافيزيقيا عند الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا1632-1677

باروخ سبينوزا
فيلسوف (1632 – 1677)
باروخ اسبينوزا فيلسوف هولندي ، حاول تأسيس عقيدة جديدة ، أراد من خلالها استبدال العقائد المبنية من الخرافة ، وفكرة التدخل الإلهي المباشر في ضبط الذات ، بعقيدة جديدة غير شخصية ، شبه علمية ، ومتوافقة مع الزمن ..
باروخ : كلمة تعني ( مبارك ) باللغة العبرية . وقد ولد في الوسط اليهودي في أمستردام ، بينما انحدر أسلافه من اليهود الشرقيين الذين فروا من شبه الجزيرة الاسبانية 1462.
نبغ هذا الفيلسوف منذ صغره ، حيث كان مولعاً بالمعرفة جداً، وعُرفَ بذكائه الحاد ، وتلقى تعليما دينيا مكثفاً ، حيث اتبع كل الطقوس والعبادات والأعياد الدينية اليهودية المختلفة ، ولكن تدريجياً بدأ يعزل نفسه عن إيمان ذويه ، ويبتعد عن أفكار أسلافه شيئاً فشيئاً .
لكونه شعر بأنه ” قد أصبح مقيداً بوجهات نظر وأفكار الآخرين” .على حد تعبيره.
ثم أخذ يُبين أفكاره الخاصة ،
والتي بدأها في كتابه الهام ” الأخلاق ” الذي ألفه باللاتينة ونشر عام 1677 .
وفيه تحدى اسبينوزا بشكل مباشر أفكار العقيدة اليهودية بخاصة والعقائد الأخرى بعامة .
قائلاً فيه : انّ الله ليس ذاتاً مفارقة، تقع خارج هذا العالم ، وليس هناك من يسمع صلواتنا ، أو يصنع المعجزات لنا ، أو يعاقبنا على آثامنا “.
” ليس هناك حياة أخروية ، والانسان ليس هو المخلوق المفضل على العالمين عند الله ، والكتب السماوية (التوراة وسواها) كتبها أناسٌ قدماء.”.
” والله ليس حرفياً أو محارباً يدعو المؤمنين به لحمل السيف المقدس و راية الجهاد والدفاع عنه . وهو لايطلق الاحكام ، ولا يكافئ الأطهار ولا يعاقب الأشرار .
وكل تصور أو تمثيل عن ذات الله هو مُجرّد خيالات ، وكل الطقوس التقليدية في العبادات له هي أساطير الاولين ومحض خرافة .
لكن و بالرغم من كل مما سبق، لم يعتبر اسبينوزا نفسه ملحداً ، بل كان يُصر بشدة على أنه هو المدافع المخلص والحقيقي عن الله .
لقد أخذ مفهوم ” الله ” دوراً جوهرياً في فلسفة اسبينوزا ، لكن الله لديه لا يشبه بتاتاً ” الله ” المُحدث عنه في التوراة أو الكتب السماوية الأخرى .
اله اسبينوزا هو اله ليس شخصاً ، أو هو ليس ذاتاً مفارقة ، يمكن فصلها عن الطبيعة أو عن الوجود أو روح متعالية بعيدا عن العالم .
الله لديه هو الكون و قوانينه ، هو المُسبب ، وهو الحقيقة ، وهو القوة الفعالة ، في كل موجود وفي كل ما سيوجد .
الله لديه ليس فيما وراء الزمان ، ولا يمكن تجسيده ، ولهذا عبر عن ذلك بقوله :
” أياً ما كان فهو من الله ، و لا وجود أو تصور من دون الله . “
من خلال كتاباته المتعددة حاول اسبينوزا أن يدحض فكرة الصلوات ، ورأى أنه في الصلاة كثيراً ما يدعو الانسان الله كي يُغير له نظام الكون حسب رغباته ومصالحه أو مشاعره، ولكنها طريقة خاطئة تماماً ، لأنه على الانسان انْ يسعى لفهم هذا الكون ونظامه ومن ثم تقبله ، بدلا ً من الاحتجاج عليه والتذمر منه عبر ارسال رسائل متتالية الى السماء.
وقد عبر اسبينوزا عن ذلك بقوله :” لا يجب ان يتوقع من يُحب الله ، أن يُحبه الله بالمقابل ” .
بمعنى انه – فقط – ذاك الشخص المؤمن النرجسي والمشوه، هو الذي يتخيل ان الله سيهتم بتنحية قوانين الكون جانباً لأجله ، أوتعطيلها كلياً من أجل رغبة من رغباته ، أو ليُحسّن من حياته بطريقة ما .
هنا نلاحظ تأثر اسبينوزا البالغ بفلاسفة المذهب الرواقي الاغريقي ، الذين رأوا أيضاً ، أنّ الحكمة، تكون في تقبل الأشياء والخضوع بسلام للضرورة وفهمها ، بدلاً من الاحتجاج على كيفية سيرها .
لكن كيف نظر اسبينوزا للحياة .. ؟ّ!
للحديث بقية ..

أن الطبيعة – التي ساواها مع الله – مثاليه بشكل مطلق، عازمه، لا نهائيه ولا نهاية لها. هذه الطبيعة (أو الله) الغير محدودة تشمل الجميع . ونحن جميعا جزء منها وليس هناك شئ خارجها. ونحن البشر لدينا منفذ على إثنين من سمات هذا الكيان اللانهائي – الإمتداد والفكر- وكلاهما تعبير عن جوهرها الذي لا حصر له ، وهما ينسجمان مع بعضهما البعض ، لأنهما تعبير عن الواقع نفسه. إلى جانب الامتداد والفكر هناك عدد لا نهائي من سمات أخرى لهذا الكيان الغير منتهي، والتي لا منفذ لنا عليها، ولكنها تظل مع ذلك تعبيرا عن نفس الكيانن، الذي هو – علاوه على ذلك – غير مقيد بالزمن.
لكي نُقَدّر كيف كان هذا التفكير جديدا، فمن الجدير بالذكر أنه في أيام سبينوزا كان الرأي السائد عن الكون في أوروبا لا يزال نفس فكرة القرون الوسطى الموروثة من أرسطو وبطليموس بأن الكون محدود. وكما يشير جوزيف راتنر في «فلسفة سبينوزا» (2014)، فإن رؤية سبينوزا للكون لم تتفوق فقط على فكرة الكون في العصور الوسطى، ولكن أيضًا وجهة النظر المعاصرة السائدة عن الكون كنظام مادي بحت. لذا اسمحوا لي أن أوضح قليلا الميتافيزيقا عند سبينوزا، وأقدّم بعض الأمثلة التي توضح لماذا قد تكون ملهمة لأي شخص هو في حيرة من علاقته بهذا الكون.

الواحدية (وحدة الوجود) عند سبينوزا

«الأخلاق» لسبينوزا هو كتاب ينقسم إلى خمسة أجزاء: الأول والثاني يتعلق بالميتافيزيقا، ومناقشة الله، والعلاقة بين العقل والجسم على التوالي. في الجزء الأول، يعادل سبينوزا الله مع جوهر لانهائي وفريد من نوعه يرتكز عليه كل الواقع. يرجى ملاحظة أن المقصود بالمصطلح الفلسفي «الجوهر» هنا هو كل متكامل لا يمكن اختباره مباشرة عن طريقنا.
بعض المعاصرين لسبينوزا والقريبين من المعاصرين اجتمعوا على أن هنالك العديد من الجواهر. أشهرهم رينيه ديكارت (1596-1650) الذي جادل بأن هناك نوعين من الجوهر: العقل والمادة، لديهما الصفات المميزة للفكر والامتداد على التوالي. وادّعى كذلك أن كل فرد بطريقة أو بأخرى هو اتحاد التفاعل بين هاتين المادتين. في المقابل، اعتقد سبينوزا أن هناك جوهرًا واحدًا فقط ، لأنه لانهائي ويشمل الجميع. ولأنه ليس فقط لا حصر له ويشمل الجميع ولكن أيضًا إبداعي، فهو أن تتساوى مع الله.
وفي باقي كتاب «الأخلاق»، كشف سبينوزا الآثار المترتبة على هذا الرأي لفهم العلاقة بين العقل والجسم، ومن ثمّ فهمنا للعواطف والمعرفة والأخلاق. واحد من الأهداف التي حددها سبينوزا في الصفحات الأولى من الأخلاق أن يقدم تفسيرًا لوجود الأشياء. على سبيل المثال، قد يتساءل المرء ما إذا كان سبب من وجود الموجودات داخلها أو خارجها.
يبدأ سبينوزا في الإجابة على هذا السؤال بالقول أن تعريفات الكيانات عادة لا تشمل عددًا محددًا من الأفراد الموجودين من هذا النوع. على سبيل المثال، لا يوجد شيء في الطبيعة البشرية أو في تعريف «الإنسان» يحدد أنه يجب أن يكون هناك سبعة مليارات منا. وهذا يشير إلى أن تعريف «الإنسان»، وكذلك جوهرنا ، لا يحدد كم البشر الذي سيكون موجودًا، لذلك وجودنا ككيانات فردية يتم تحديده من قبل كيان أكبر منا.
ثم يعمم سبينوزا هذه الملاحظة ليفترض أنه إذا وُجِدَ عدة أفراد لنوع ما، إذن فسبب وجودها لا يمكن أن يكون في داخلها، وبالتالي فإن جوهرها لا ينطوي على وجودها. وبعبارة أخرى، فعمومًا ضرورة وجود الموجودات ليست جزءًا من كيانها أو تعريفها. هنا يظهر السؤال: ما هو السبب المطلق في كل هذا التنوع والتعقيد الذي نختبره في الطبيعه إذا لم تكن تلك الأشياء نفسها؟
يرد سبينوزا بأن المصدر المطلق لجميع الأشياء الموجودة – والذي يحتوي على جميع الأشيلء الأخرى الموجودة، والتي بدونه لا وجود لها – يجب أن يكون شيئًا ينطوي جوهره على الوجود. ولأن تعريف هذا الكيان ينطوي على وجود ضروري (لأن من جوهره الوجود)، فهو ليس فقط موجودًا بالضرورة، بل أيضًا لا يمكن أن يتضمن أي انتفاء للوجود. وهنا يعِنّ أن هذا الكيان غير مقيد وشامل ولانهائي وأبدي. هذه هي الخصائص المميزة لسبب كل ما هو موجود.
هذا يقود إلى تعريف الجوهر عند سبينوزا بأنه «الموجود في ذاته المفهوم بذاته» (الأخلاق، الجزء 1، تعريف 3). وبعبارة أخرى، الجوهر هو ذلك الجزء أو الجانب من جوانب الطبيعة ذاتي الخلق (سبينوزا، ستيورت هامبشر، 2005). وهو جوهر الطبيعة النشطة – استخداما لمصطلحات سبينوزا – وهو ما يعادل الله. وعلاوة على ذلك، يشمل تعريفه ضرورة الوجود، فلا يمكننا أن ننكر وجود هذا الكيان، ولأنه لانهائي وشامل، لا يمكن أن يكون هناك سوى جوهر واحد.
فرضية وجود جانب ذاتي الخلق ليست بالغريبة على العقل الحديث المطّلع على نظريه الانفجار العظيم، وكما يمكننا القول: نظرية التطور. ومع ذلك، فإن القبول بأن هناك كيانًا واحدًا ذاتي الخلق (والذي بسبب تفرده يمكننا أن ندعوه الإله) هو أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، لأن هذا الكيان مثالي وفريد من نوعه؛ فإن استخدام تعبير «عملية process» لوصفه هو غير مناسب تمامًا. لأن هذا المصطلح يستتبع شيئا يتطور. لذلك « الجوهر» هو المصطلح الأكثر ملاءمه لوصف كيان لا يفتقر لأي شئ، وبالتالي فطبيعته لا تتغير.
العقل البشري يفهم الجوهر عند سبينوزا من خلال خاصيتي الامتداد والفكر. لذا يمكننا أن نقدر الماده إما عن طريق التأمل في الكون المادي الغير محدود، أو أخذا بعين الإعتبار لا نهائيه الأفكار الممكنه بداخله. الحقيقه عند سبينوزا هي كلاهما (نظام الأشياء ونظام الأفكار أو الصور).
البشر على سبيل المثال ، هناك هيئات تتألف من الأجزاء الماديه ولكن هي أيضا الصور التي تشكل عقول البشر . وكما ذكرت ، فإن الجوهر عند سبينوزا يتضمن عدد لاحصر له من السمات الأخرى التي لايمكن معرفتها بالإضافه إلى الإثنينن الذين يمكننا أن نعرف. بطريقه ما، هذه المحددات هي التي تجعل الأشياء حقيقيه، متميزه، فهي الوسيله التي يمكن من خلالها التمييز بين كيان محدد وآخر. وفي مصطلحات سبينوزا فإن كل فرد في الطبيعه هو شكل من مضمون (جوهر) واحد.
بالنسبه لسبينوزا ، الفكر والامتداد هما من الناحيه النظريه والسببيه مستقلان عن بعضهما البعض، ولكن في الوقت نفسه متوافقان مع بعضهما البعض. وهذه العلاقة بين المحددات النظريه والسببيه تعرف ب «التوازي»، وستكون مهمه عندما نأخذ في الإعتبار العلاقه بين العقل والجسم .
يرجى ملاحظة أن العقل ليس هو السبب للكون المادي بالنسبة لسبينوزا، ولا الكون المادي هو السبب في العقل. بدلا من ذلك، يرى سبينوزا أن القوة الكامنة وراء وجود طبيعة مادية ووراء أعمال العقل هو الجوهر الفريد والشامل نفسه، الذي لديه كل الصفات على حد سواء.

الجوهر والعلم

إذن فالإله هو كيان موجود بالضرورة، أو هو بالتعريف جانب من الطبيعة خُلِق ذاتيًا، وهو السبب لكل شيء موجود. والسؤال التالي: لماذا فكرة الإله/الله/الطبيعة – حسب تعريف سبينوزا – ذات أهمية بالنسبة لنا اليوم؟ والجواب هو أن هذه الفكرة تقدم رؤية للعالم تتفق مع العلوم المعاصرة التي لا تزال تفتقر إلى الميتافيزيقا التي يمكن أن تسع اكتشافاتها المحيرة.
المثال الأول من الإكتشافات المحيره هي ميكانيكا الكم . أصبح شيئا مبتذلا أن لا أحد يفهم السلوك الغريب للجسيمات الأوليه الموضحه في ميكانيكا الكم . على سبيل المثال ، كيف يمكن لإلكترون مخفي أن يكون في عدد لا حصر له من الأماكن في نفس الوقت ؟ أو كيف يمكن لجسيم من جسيمات الضوء – فوتون – «معاينة» كل الفضاء ومن ثم «يختار» المسار الأسرع بين نقطتين في الفضاء، كما يقول تفسير ريتشارد فانيمان في ميكانيكا الكم؟ أحد الموضوعات المشتركة في ميكانيكا الكم هو تحديدا هذا السلوك «غير المقيد» للجسيمات. وهذا يتفق مع الفكره القائله بأن هناك جانبا لا محدود أو لاحصر له في الطبيعه الكامنه وراء الواقع الذي نختبره، وهذا بالظبط هو وجهة نظر سبينوزا تجاه الجوهر.
موضوع آخر في ميكانيكا الكم هو أن الجواب المعطى من تجربة ما غالبا ما يعتمد على السؤال الذي تطرحه تلك التجربة. على سبيل المثال، يمكن رؤيه جسيمات الموجه الإبتدائيه تتصرف كموجات أو جسيمات إعتمادا على كيفيه إعداد التجربه. وعلاوه على ذلك، يبدو أنه لابد من الملاحظه لإعطاء وجود الكم شكل حاسم. وتلك الميزيتين لميكانيكا الكم تشيران إلى أن هناك علاقه وثيقه جدا بين الذكاء والطبيعه الماديه في الكون، تماما كما يفترض سبينوزا. ولروايتها بطريقته: العقل وأحداث الكم الماديه التي تلاحظ بالعقل لا ينفصلان لأنهم جانبين لنفس الجوهر الفريد من نوعه والذي لا حدود له.
المبدأ الأنثروبي في علم الكونيات يشير إلى ملاحظة ملفتة للنظر، هي أن الكون الذي نعيش فيه يبدو وكما لو كان على وجه التحديد مصمّم للسماح بوجود حياة. وهناك عدد من الحقائق عن الكون، مثل قدرة بعض القوى (على سبيل المثال، القوة النووية داخل نواة الذرة)، وكتل وشحنات بعض الجسيمات دون الذرية ذات القيم الدقيقة المطلوبة لتطوّر مراقبين أذكياء مثلنا. كما لخّصه الفيزيائي جون ويلر في عام 1986، يبدو أن: «هناك عامل واهب للحياة يكمن في وسط آلية وتصميم العالم» (انظر: Wheeler’s foreword inThe Anthropic Cosmological Principle by J.D. Barrow and F.J. Tipler, 1986). وهذا الوصف يمكن أن ينطبق بجدارة على تصور سبينوزا عن الطبيعة الراعية Natura naturans.
بإختصار، العلم الحديث يوفر الأساس لواحدية سبينوزا بالإشارة إلى أن هناك جانبًا غير محدود وإبداعيًا في الطبيعة، وأيضا أن العقل والجسد متلازمان ولا ينفصلان.

العلاقة بين العقل والجسد

بعد ذلك دعونا ننتقل إلى واحدة من أهم النتائج المنطقية لواحدية سبينوزا؛ ألا وهي العلاقة بين العقل والجسد.
في الفقرة الأولى من الجزء 2 من «الأخلاق»، التعامل مع العقل، يوضّح سبينوزا أن استنتاجاته حول العقل تنبع من وجهة نظره إلى الله: «أنتقل الآن إلى شرح تلك الأشياء التي تنبع بالضرورة من جوهر الله، أو الكيان الأبدي اللانهائي». كما رأينا، فالله أو الجوهر هو الجانب ذاتي الخلق من الطبيعة، لأنه موجود بالضرورة، ولا يمكن أن يكون محددًا بأي شيء، وهو لذلك لا حصر له.
بالنسبة لسبينوزا، الجسم البشري لديه سمة الامتداد، والعقل البشري لديه سمة الفكر، أو التمثيل. وعلاوة على ذلك، فإن العقل والجسد هما تجليات متوازية للواقع الأساسي، أو يمكن أن نقول أن العقل والجسد هما نفس الشيء (الجوهر) ضمن سمات مختلفة. وفي اللغه التي ورثها سبينوزا من ديكارت: الفكرة هي تعبير عن الشيء الذي هي جزء منه، وهذا يقود سبينوزا إلى استنتاجه الشهير أن «العقل البشري يساوي فكرة الجسم البشري».
التوازي عند سبينوزا يعني أيضًا أن كل تغيير في جسم الإنسان يجب أن يرافقه تغيير في العقل البشري: «أيًا مما يحدث في موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري [الجسد – إض] فإنه يستقَبل من قبل العقل البشري … ذلك أنه، إذا كان موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري هو الجسد، فلا شيء يمكن أن يحدث في تلك الهيئة ولا يدركه العقل» (الجزء 2، المقترح 12).
هذا المعتقد عن العلاقة بين العقل والجسم ذو صلة بالعلوم المعرفية المعاصرة، حيث أن هنالك اعترافًا متزايدًا بأن هنالك ارتباطًا وثيقًا بين الإدراك والتجسيد. يمكننا القول أن فرضية سبينوزا، مصاغة بطريقة علم الأعصاب الحديث، تعني ضمنًا أن التمثيل الكلي [للواقع] الذي منه يتكون العقل البشري الفردي يعادل النشاط الكلي للنظام العصبي للفرد، وكل منهما يعمل بالتوازي مع الآخر. إذن، فالميتافيزيقا عند سبينوزا تبيّن كيف أن العقل والجهاز العصبي مرتبطين. وهذا النهج في معالحة مشكلة العقل والجسد جذّاب أيضا لأنه يدل على أن العقل ليس دخيلا على الطبيعة، ولكن هو جزء واحد من كل متكامل.
بالنسبه لسبينوزا ، فإن الطبيعة المزدوجة للأشياء (أي التوازي) تنطبق على كل شيء في الطبيعة، وبالتالي، فإن كل شيء في الطبيعة لديه عقل من نوع ما. البشر لا يحتلون مكانًا خاصًا غيبيًا إلا بقدر ما أن الجسم البشري هو الشيء الأكثر تعقيدًا فى الطبيعة، وبالتالي فالعقل البشري هو العقل الأكثر تطورًا في الطبيعه كلها، أو كما يقول سبينوزا: «يكون لدى البعض قدرة أكبر من الآخرين على فعل العديد من الأشياء في نفس الوقت بقدر ما يكون عقولهم أكثر قدرة على فهم الأشياء في نفس الوقت» (الجزء 2، افتراض 13). وبعباره أخرى، فإن تطور العقل البشري يتوافق مع الطابع المعقد لجسم الإنسان.

الخلاصة

وفقًا لتحليل عصري لنظريات سبينوزا التي حاولت توضيحها ها هنا، فإن جانب الطبيعة ذاتي الخلق الذي لاحصر له يكمن في (1) السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم، (2) وجود هذا العالم الذي يدعم الذكاء، (3) ظهور أشكال الحياة من خلال التطور.
وعلاوة على ذلك، كل هذه الظواهر التي تنبثق من جوهر واحد هي مترابطة: لا يوجد فهم بدون تجسيد، ولا يوجد تعقيد متزايد للتجسيد بدون تطور، ولا يوجد تطور بدون وجود ذلك الكون الفريد الذي يسمح للحياة بالظهور. وأخيرا، كما تعلمنا ميكانيكا الكم والمبدأ الأنثروبي، لا وجود لكون مادي مشهود من دون ذكاء يحيا داخله. فوجود الكون والذكاء في داخله هو في نهايه المطاف تعبير عن جوهر واحد.
لا يمكن اختزال سمات الفكر والامتداد أحدهما إلى آخر، لكنّ كليهما يشير إلى نفس الجوهر الذي لا حدود له، نفس القدرة غير المحدودة التي أعرب عنها الطابع المعقد لجسم الإنسان، تعبر عنها أيضا قوى العقل البشري. نفس السلطة التي تقف وراء السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم التي أعرب عنها الاتساع الهائل للكون، تكمن وراء التطور المستمر للمعرفة البشرية. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء آخر مبشر أكثر من هذا. وهذا ما يجعل سبينوزا ذا صلة كبيرة بالفكر المعاصر.

النزعة العقلانية عند ديكارت ومنهجا البساطة والوضوح..

يرى ديكارت أن العقل ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون، وهكذا سيعتبر ديكارت أن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ الولادة، وبالتالي هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية، وإذا كان العقل أعدل قسمة بين الناس فإنهم يختلفون فقط في طريقة استخدامه، لذلك فقد وضع ديكارت أربعة قواعد لحسن استخدام العقل، وهي:

§ قاعدة البداهة: وهي تعني أنه لا يجب أن نقبل من الأحكام والأفكار إلا ما يبدو بديهيا، واضحا ومتميزا بحيث لا يرقى إليه الشك أبدا.

§ قاعدة التحليل: يجب علي أن أقسم المسألة إلى أبسط عناصرها وأن أبدأ بمعالجة كل عنصر على حدة حتى يسهل علي حل المسألة ككل.

§ قاعدة التركيب: وهي تعني انه يجب الانطلاق من البسيط إلى المركب بشكل منظم ومرتب يمكنني من حل المسألة بسهولة.

§ قاعدة المراجعة: وهي تعني أنه يجب علي أن أقوم بمراجعات وإحصاءات شاملة للنتائج حتى أتأكد من أنني لم أغفل شيئا.

و يرى ديكارت أن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي، والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.

من المجازفة حصر إسهامات ديكارت المتعددة في الحقل الفلسفي وحده، ذلك أن روحه علمية بالدرجة الأولى. فقد استطاع أن ينتقل من روح سكولائية (تلقينية) وسطوية لاهوتية، إلى فكر عقلاني أسهم في بناء تصورات جديدة، بفضل التحولات العلمية التي عرفتها أوروبا آنذاك، وأساسا الانقلابات (الثورات) العلمية التي أحدثتها فيزياء غاليلي، على التصورات الفيزيائية والفلكية الكوبرنيكية والبطليموسية.
شكلت هجرة ديكارت إلى هولندا، موطن الحريات في أوروبا، آنذاك، محطة هامة دفعته إلى الفكاك من سلطة اليسوعيين، وأتاحت له نافذة جديدة لتأمل العالم. فقد جمعته الصدفة بالطبيب الهولندي إسحاق بيكمن الذي يعود له الفضل في بعث ديكارت إلى درس العلوم الطبيعية والرياضيات للبحث عن الصلات بينهما.
لقد كانت الحاجة إلى ديكارت في زمانه، حاجة إلى أسس جديدة (ميتافيزيقية وفلسفية) للعلم الحديث. ففي الوقت الذي ظلت فيه الميتافيزيقا الأرسطية سائدة بتحجرها وعقم مناهجها وتشعب استدلالاتها وقياساتها المنطقية، سعت العقلانية الديكارتية نحو البساطة والوضوح، نحو رسم منهج وقواعد جديدة لإرشاد العقل، لأن بإمكان هذا العقل أن ينتج المعرفة، وهو الأمر الذي يرفضه السكولائيون اعتقادا منهم بأن كل شيء معطى، وأن الإنسان مجرد متلق سلبي، لا دور له في عملية الإنتاج تلك. هذا التصور اللاهوتي الغارق في القدرية، لن يدوم كثيرا، لأنه سيتعرض لانتقادات ديكارت من أجل تقويضه. وبذلك، فالديكارتية هي بمثابة «بيان من أجل العقلانية»، «بيان من أجل العقل» دشن مرحلة جديدة محورها العقل والذات الإنسانية. بيان يقوم أولا، على الإقرار بالمساواة والعدل في توزع القدرات. فتقريره أن «العقل أعدل قسمة بين الناس»، هو تقرير بأولى مبادئ الديمقراطية أي المساواة، وأمام هذا المبدأ، لم تعد الحاجة إلى تقرير التراتبية أو ما شابه، لأنه حطم وقوض الأساس الذي تقوم عليه المعرفة التقليدية.
الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان
يعود هذا التعبير، إلى العقلاني الفرنسي فردناند ألكيي Ferdinand، Alquié، الذي درس النصوص الديكارتية وفحصها بدقة متناهية.
يشتهر ديكارت بقوله المتداول جدا «أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود». وهو قول يؤسس لفهم جديد للذات الإنسانية، من خلال سعيه نحو قلب النظام المعرفي القديم، لصالح تصور جديد ينبني على الذاتية كمنطلق نحو العالم. والذاتية عند ديكارت، لا ينبغي أن تفهم كمقابل للموضوعية، بل كأساس ومبدأ كل شيء، بإمكانها الوصول إلى اليقين، بدلا من البحث عنه في شيء آخر. والغاية الكبرى لديكارت وراء هذا المفهوم هي التأسيس لميتافيزيقا جديدة تتمحور حول الإنسان كأسمى كائن ميتافيزيقي. فالحقيقة لا تقع خارج الذات الإنسانية بل في جوفها وفي قلبها، وهذا ما تستدعيه العلوم الحديثة التي تنطلق مع ميكانيك غاليلو غاليلي وفلك كوبرنيك، حيث لم يعد الكون فراغا تحكمه قوانين عمياء، كما لم يعد فضاء لا متناهيا. بل إن العلاقة بين الأجسام علاقة ميكانيكية (العلاقة بين السرعة والقوة).
رسم ديكارت تصوره الميتافيزيقي للعالم في كتابين هامين، من ضمن كتبه: كتاب مقال في المنهج، وكتاب التأملات الميتافيزيقية. لذا يصح القول إن فلسفته تنقسم إلى قواعد وتأملات.
يتأسس النظام الديكارتي على التمييز بين نظامين: نظام الأشياء ونظام الحججl’ordre des raisons، فنظام العلل والحجج غير نظام الأشياء، ويهدف إلى هدم النظام القديم، ويتضمن صنفين من الأحكام: النظام التحليلي: analytique والنظام التركيبي: synthétique.
يقر ديكارت بأنه كلما اتجهنا نحو القضايا التحليلية نكون أقرب إلى اليقين، والعكس صحيح، كلما اتجهنا نحو القضايا التركيبية نكون أقرب إلى الظن والشك والريبة. وعلى هذا الأساس، فالقضايا البسيطة أكثر يقينا من المركبة، وهو حال القضايا الرياضية المتميزة بالوضوح: المربع له أربعة أضلاع.
الشك طريق إلى اليقين
العقل «هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس». فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة، تختلف من شخص إلى آخر.
يقودنا الانطلاق من هذه الفكرة، إلى تأكيد مبدأ المساواة، لأن اعتبار العقل ملكة فطرية، أثار أيضا اهتمام التجريبيين الإنجليز، الذين رأوا في ذلك أكبر زلة للعقلانية. فالعقل في نظر هؤلاء، ليس إلا أداة يستخدمها الإنسان لإنتاج المعرفة، ولكنها أداة لا يمتلكها الناس بالفطرة، قدر ما هي مكتسبة ترتبط وترتهن بالتجربة الإنسانية. أي أن العقل مجرد صفحة بيضاء. وسيخترق هذا السجال الفلسفي بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني كل التاريخ المعرفي للبشرية.
دشن ديكارت تفكيرا جديدا، لأن اتباع آراء الآخرين لا يقدم أي جديد بالنسبة له. لقد كان بإمكانه اتباع آراء أفلاطون وأرسطو، إلا أن اقتناعه بأن ذلك الطريق لم يعد مجديا، أفضى به إلى البحث عن طريق جديد. هكذا سار وحيدا في طريق الظلمات، بحثا عن منهج جديد لهدم الآراء القديمة وبناء آراء جديدة. وبهذا سيتوجه بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها منذ طفولته، بل سيطرحها جانبا وسينطلق من الشك.
لاحظ ديكارت أن معظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلق به. وأن معارفنا تتكون من آراء تتعارض فيما بينها. وهذا ما يستوجب أولا الشك فيها، ولو مرة واحدة، بهدف السعي وراء بناء معارف جديدة كل الجدة. فالحواس في نظره مخادعة، بحيث لا يستطيع التمييز بين عالم الحلم وعالم اليقظة. وهذا ما يستوجب ثانيا الشك فيها. لكن السؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن للشك أن يبلغ اليقين؟ هل يمكن الشك في البداهات واليقينات الرياضية (في الأعداد والأشكال) أن يؤدي إلى اليقين؟
يمكن للإنسان أن يخطئ بصدد هذه اليقينات الرياضية، مثلما يخطئ بصدد المحسوسات. وهذا ما يستلزم في نظر ديكارت، وجود إله كامل الضمان «يضمن عدم وقوعي في الخطأ، فالله وحده قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود». ما يبرر الشك إذن، في نظر ديكارت، هو أنه لا يملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي، تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله.
صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل على طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية. وهي العناصر التي يعرضها لنا في الجزء الثاني من مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وإجمالا، فإن الشك الذي يطبقه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج»، يختلف عن الشك الذي يطبقه في كتاب التأملات، ذلك أن الشك في المقال، هو شك معرفي لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له ويضعها للجمه. في حين أن الشك في التأملات، هو شك جذري hyperbolique لا حدود له، يدفعه إلى أبعاده القصوى، لذا من اللازم الوقوف على كتاب التأملات لبيان مدى وجاهة هذا القول.
ب – نحو شك جذري
يحكي ديكارت في التأمل الأول، عن معرفته التي تلقاها والتي انبنت على آراء خاطئة، معلنا عزمه وإصراره الدائم على بلوغ اليقين، وعلى وضع ما تلقاه منذ الطفولة موضع شك. وهكذا يبدأ بالحواس (أهم مصدر للخطأ لأنها مخادعة)، ثم يشك في إن كان في اليقظة أو في النوم، ويدفع به إلى أقصاه عندما يشك في القضايا الرياضية.
يقول في الفقرة الأولى، هناك كثير من الآراء الخاطئة التي نتلقاها منذ الصغر، وينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة. لكن لا ينبغي أن نعمل على هدم كل رأي على حدة، وإنما ينبغي هدم الأسس التي تقوم عليها، وأهم تلك الأسس: الحواس التي إذا خدعتنا فإن معرفتنا ستكون خاطئة.
تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية، يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها. فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين. فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخطأ، وإما أن نصل إلى اليقين. لذلك فالعلوم عنده إما مركبة أو بسيطة. وهناك نظامان كما سبقت الإشارة: نظام الأشياء، ونظام العلل، وهذا الأخير نوعان: نظام تحليلي: تتميز أحكامه بكونها بسيطة، يقينية، بديهية وصادقة، كما هو الحال في الهندسة وفي الحساب. ونظام تركيبي: لأن الأحكام التركيبية غير يقينية وأقل بديهية، كحال الفلك أو الطب.
دشن ديكارت الشك بالحواس، وانتقل إلى النوم واليقظة، وانتهى بالحقائق الرياضية. وكان يعتقد دوما أن هناك إلها كلي القدرة والاستقامة، وهو خالق الإنسان على ما هو عليه.

مأساة الحلاج، هل كان الحلاج وليا من أولياء الله ام كان ٠٠٠٠٠٠

الحلاج قتل وماكان له ان يقتل !!

الحسين بن منصور بن محمى الملقب بالحلاج يعتبر من أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم، وهناك من وافقوه وفسروا مفاهيمه. وهو من أهل البيضاء وهناك خلاف حولها هل هي البلدة التي ببلاد فارس، أم البلدة التي في جنوب العراق وهو ما رجحته الدراسات الأكاديمية، نشأ في مدينة واسط التي تبعد ب180 كيلومترا جنوب بغداد في العراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره يقول الدكتور علي ثويني في الأصل العراقي للحلاج: وبالرغم من اقتران اسم الحلاج ببغداد فإنه لم يولد فيها وإنما ولد في أطراف واسط القريبة من جنوبها عام 858م في منطقة (البيضاء) التي يقال لها (الطور) وربما يكون ذلك الموضع يقع في تخوم (أهوار) العراق التي تدعى (البيضاء) حتى يومنا هذا، ويؤكد مسقط رأسه هذا المؤرخ (الاصطخري) الذي عاصره وذكر ذلك ابن الجوزي في (المنتظم) حيث ذكر(الحسين بن منصور المعروف بالحلاج من أهل البيضاء)، وهكذا فإنه عراقي المولد والمنشأ بالرغم من ادعاء البعض بفارسيته والتي لا يؤيدها منهج البحث التاريخي .ثم انتقل إلى البصرة قبل وروده بغداد وهو في الثامنة عشر من عمره . لم ترض فلسفته التي عبّر عنها بالممارسة الفقيه محمد بن داود قاضي بغداد، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام ، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالبًا محاكمته أمام الناس والفقهاء فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد بن العباس، تنفيذًا لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري بعد أن طال محاكمته سبع سنين واستتابه الخليفة فلم يرجع عن قوله.
نشأ الحسين الحلاج في واسط ثم دخل بغداد وتردّد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة، وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس، من الجوع والتعرض للشمس والبرد. وكان الحلاج يظهر للغوغاء متلونًا لا يثبت على حال، إذ يرونه تارة بزي الفقراء والزهاد وتارة بزي الأغنياء والوزراء وتارة بزي الأجناد والعمال، وقد طاف البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر داعيًا على طريقته، فكان لهُ أتباع في الهند وفي خراسان[ وفي بغداد وفي البصرة، وقد اتهمه مؤرخو أهل السنة بأنه كان مخدومًا من الجن والشياطين ولهُ حيل مشهورة في خداع الناس ذكرها ابن الجوزي وغيره، وكانوا يرون أن الحلاج يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم، وهو مع كل قوم على مذهبهم، إن كانوا أهل سنة أو شيعة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساقًا.

لم يسر المنصور بن حسين الحلاج، الفيلسوف والمتصوف المسلم الشهير، على نهج نظرائه من أعلام الصوفية، فقد كانوا هم يبيتون أمرهم على كتم مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم، وكانوا يؤثرون العزلة على الناس، تاركين أمر تدبير الخلق لله، أما هو فقد تملكته نشوة التعبير، فجهر بأفكاره وإحساساته في الأسواق ولعامة الناس، فقد تملكته نزعةٌ إصلاحية، حملته أخيرًا على أن يطرح خرقة الصوفية، وأن يكثر من التنقل في البلاد، يلقى الناس، ويسمع منهم.

كان الحلاج ممن يرى التصوف جهادًا متواصلاً للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدنيا وتهذيبها بالجوع والسهر، وتحمل عذابات مجاهدة أهل الجور، وبث روح الثورة ضد الظلم والطغيان، فألقي القبض عليه وكانت نفسه قد تاقت للشهادة، ةدامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها في السجن يعظ السجناء، ويحرر بعض كتاباته، وسنة 922، أُخرج الحلاج من محبسه وجلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه إلى بارئها. وفي اليوم التالي قطع رأسه وأحرق جثمانه، ونثر رماده في نهر دجلة، وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه.

فكره

التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط. لقد طور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. عن إبراهيم بن عمران النيلي أنه قال:

« سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئًا إلاّ رأيت الله فيه.»

حقائق سريعة عن الحلاج

قاد الحلاج منهجًا جديدًا في التصوف يرى أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وطور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه.
نشأ الحلاج في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن وولايات، منها الهند، وقضى فترات في مكَّة، معتزلاً في الحرم المكي، حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه في الليل أو في النهار، في الحر والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء، وكان له مريدون يتبعونه، يحفظون عنه.
اصطدم بأحد المشايخ المتمسكين بالنقل والنص، هو الجنيد البغدادي، الذي لم يكن راضيًا عن فكر الحلَّاج، وفلسفته، فكان أن قال له ذات جدال: “أي خشبةٍ ستفسدها”، كناية عن خشب الصليب، لكن الجنيد مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلَّاج.
عرض الحلَّاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه، فتم إعدامه بطريقةٍ دموية، حيث أراد وزير الخليفة، أن يجعل منه عبرةً، لكل الصوفيين.
لاحق الوزير حامد أتباع الحلاج وأصدقاءه، فمن لم يعد عن مذهب الحلاج دُقَّ عنقه، وقد ذكرت هذه التفاصيل في الكامل لابن أثير، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، والتنبيه والإشراف للمسعودي، والمنتظم لابن الجوزي.
للحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي والتصوف، كما للغته مميزاتٌ خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين، كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير، كما عبر في شعره عن فلسفته الوجودية أنَّ الله في كل مكان.
تعتبر قصائد الحلَّاج، من القصائد التي تُطرب سامعها، حاله حال أغلب شعراء الصوفية، ما حدى بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي إلى استخدام كلماته، كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة في قصيدة (يا نسيم الريح)، والموسيقار المصري عمر خيرت في قصيدة (والله ما طلعت شمس ولا غربت)، كما ألهم الحلَّاج الكثيرين بشعره وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلَّاج، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون (Louis Massignon) مؤلف كتاب آلام الحلَّاج، فضلاً عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية والأدبية.

صلب الحلاج

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لم يعرف تاريخ التصوّف الإسلامي شخصيّة مثيرة للجدل مثل شخصيّة الحسين بن منصور الحلاّج. كَفّره البعض فيما قدّسه آخرون ونسبوا إليه الخوارق. نلقي الضوء على شخصيّة فذّة، اختلف حولها أهل الفقه والدين، لكنّها مهمّة بالنسبة إلينا، نظرًا للتشابه القائم بين موت الحلاّج على الصليب وموت المسيح.

وُلد الحسين بن منصور العام 857 م في بلاد فارس، فيما العصر العبّاسي يشهد صراعًا محمومًا بين المذاهب والتيارات الدينيّة والسياسيّة. عاش في خلوات الصوفيّة، ثمّ طاف البلدان داعيًا إلى الزهد، ليعود ويستقرّ في بغداد.

لُقّب بالحلاّج لكشفه أسرار القلوب (حلاّج الأسرار) ومنهم من قال بسبب مهنة أبيه في حَلج القطن. كتب الكثير، وفي شتّى المواضيع، لكنّه لم يبقَ سوى القليل من كتاباته، تمكّن المستشرق الكبير لويس ماسينيون من جمعها، بعد أن كرّس أكثر من خمسين عامًا يبحث في سيرة حياة هذا المتصوّف المميّز، ومقارنًا بينها وبين حياة المسيح يسوع، بخاصّة في موته على الصليب، ومستنتجًا أنّ حياة الحلاّج وأقواله قريبة من المفهوم المسيحي للألم والفداء والحياة والحبّ الإلهي، لذلك قال عنه إنّه «مسيحيّ بالشوق».

حذا آخرون حذو ماسينيون، فسمّاه جان شوفالييه «مسيح الإسلام» 1، وأطلق روجيه أرنالديز على دعوته تسمية «دين الصليب»2 ، وبات من الصعب على كلّ من تأمّل في سيرة حياته ومماته ألا يلاحظ أوجه الشبه بينه وبين المسيح.

لم يتّخذ الحلاّج التقيّة منهجًا له في حياته الروحيّة والسياسيّة، بل تكلّم بكلّ جرأة، وعانى ما لم يعانه أحد من المتصوفة، فاتّهم واضطهد وسُجن، وعُرض مصلوبًا مرّة أولى لمدّة ثلاثة أيّام، ثمّ بقي ثماني سنوات محبوسًا في بغداد، يقودوه من سجن إلى آخر، إلى أن انتهت حياته في 26 آذار العام 922، بعد أن تمّ جلده، وقُطّعت أعضاؤه، ثمّ صُلب وقُطع رأسه وحُرق جسمه كلّه .

لم يهب الحلاّج الموت، وظلّ متماسكًا وقويًا، وبدا كأنّه ينتظره، لا حبًّا بالموت، وإنّما ترسيخًا لدعوته الصوفيّة، ومبدئه القائم على التضحية والمحبّة3. إنّ أساس المحبّة عند الحلاّج هو التضحية، لذلك وجب على الذي يحبّ الآخر أن يضحي من أجله. وكان قد «تنبأ» بموته صلبًا لَمّا قال: «وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطّعت يداي ورجلاي ما رجعتُ عن دعواي»4.

لم يأت الحلاّج ليدين، إنّما ليقدّم نفسه ضحيّة عن الآخرين ومن أجل خلاصهم، كما قال: «تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي»5.

فعلى الصليب أهدى الحلاّج «مهجته ودمه»، وعلى الصليب أيضًا طلب المغفرة لقاتليه، لمّا قال: «قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك، وتقرّبًا إليك، فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لَما فعلوا ما فعلوا»6. وكلام الحلاّج هذا على الصليب يذكّر بما قاله المسيح يسوع على الصليب: «يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون»

كان الحلاّج على قناعة ذاتيّة في أنّ صلبه وعذابه هما من مشيئة ربّه، وقد خاطبه قائلاً: «فاعفُ عن الخلق ولا تعفُ عنّي، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد». ودعاؤه هذا يماثل في جوهره ما قاله المسيح لأبيه السماويّ: «يا أبت، إن أمكن الأمر، فلتبتعد عنّي هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء»

حين جيء بالحلاّج ليصلب، ورأى الخشب والمسامير «ضحك كثيرًا حتّى دمعت عيناه»، ثمّ التفت إلى القوم طالبًا سجادة ليفرشوها له، فصلّى ركعتين وتلا آيات من القرآن. ومع أنّه قال: «ففي دين الصليب يكون موتي، ولا البطحا أريد ولا المدينة»، لكنّ الباحثون في سيرته، بمن فيهم ماسينيون، تبنّوا التأويل الإسلامي لهذا البيت الذي يقول بأنّ مراد الحلاّج هو بأنّه يموت على دين نفسه، فإنّه هو الصليب، وكأنّه قال أنا أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنّه يموت مصلوبًا.

قيل له وهو مصلوب: قل لا إله إلاّ الله. فقال: إنّ بيتًا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج.

هكذا أحبّ الحلاّج ربّه حبًّا صرفًا منزهًا عن أيّة غاية، لا طمعًا في الجنّة ولا خوفًا من الجحيم، ومثله مثل رابعة العدَويّة13 حين قالت: «ربّي، إذا كنتُ أعبدك خوفًا من النار فاحرقني بالجحيم، وإذا كنت أعبدك طمعًا في الجنّة فاحرمنيها، أمّا إذا كنتُ أعبدك من أجلك فحسب، فلا تحرمني يا إلهي وجهك الكريم»14. ولا عجب أن يتبنّى التقليد المسيحي هذا الدعاء، ليستعمله في فعل الندامة بصيغته المختصرة، الذي يقوله التائب بعد استقباله الحلّة من الكاهن المعرّف.

عاش الحلاّج حياة كلّها عذاب وقهر، ولكنّه عاشها بملء إرادته ورضاه، وتوّجها بالموت صلبًا وتقطيعًا وحرقًا، فقال عنه جلال الدين الرومي15: «لقد بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنسر في طرفة عين».

وأهمّ ما في الحلاّج، بالنسبة إلينا، هو ما اكتشفه المستشرق ماسينيون عن وجود بعض ملامح المسيح يسوع، ليس فقط في موته على الصليب، بل في أقواله في التضحية والفداء والمحبّة التي لو لم نعرف صاحبها لكنّا قلنا بأنّها تعود حتمًا إلى أحد الآباء القدّيسين. هذا ما تظهره أيضًا هذه الصلاة التي قالها الحلاّج في سجنه، ليلة إعدامه، ونقلها خادمه الأمين، الذي كان معه في السجن ذاته، والتي تعيد إلى أذهاننا ما قاله المسيح يسوع في صلاته الكهنوتيّة:

نحن شواهدك نلوذ بسنى عزّتك لتبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك،
وأنتَ الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ،
تتجلّى لِما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن الصورة،
والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة،
ثمّ أَوعزتَ إلى شاهدك الآني في ذاتكَ الهوى اليسير،
كيف أنت إذا مثلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي، ودعوتَ إلى ذاتي بذاتي،
وأبديتَ حقائق علومي ومعجزاتي،
صاعدًا في معارجي إلى عروش أزليّاتي، عند القول من برّياتي،
إنّي احتُضرتُ وقُتلتُ وصُلبتُ وأُحرقتُ واحتملتُ سافياتي الذاريات ولججت بي الجاريات،
وإنّ ذرّة مِن يَنجوج مكان هاكول متجلّياتي، لأعظم من الراسيات
أحوال الحلاج قبل موته بأيام وماذا قال فى صلاته الأخيرة

تسميته بالحلاح

هو أبو المغيث الحسين بن منصور.. وكان أبوه يعمل في حلج القطن ونسجه – كان من عظماء الصوفية- وعبر عن مدرسته في التصوف ورؤاه فيها شعراً.. وقد جنى عليه ذلك الابداع بما حمله من الالتباسات وربما الصرخات المدوية حتى ذهبت بروحه شهيداً لعقيدته في الإتحاد التام مع الإرادة الإلهية

مما قال عند موته

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

( يا بني ان بعض الناس يشهدون علي بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولايه ,والذين يشهدون علي بالكفر احب الي و الي الله من الذين يقرون لي بالولايه ,لان الذين يشهدون لي بالولايه من حسن ظنهم بي ,والذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم , و من تعصب لدينه احب الي الله ممن احسن الظن بأحد .)
فلسفه الحلاج التي عبر عنها في حياته عن طريق الممارسه لم ترض الفقيه محمد بن داوود قاضي بغداد , فقد رأها متعارضه مع تعاليم الاسلام , ورأي ان العشق الالهي هرطقه لان الحب في نظره يقتصر علي العلاقه بين الجنسين و غايته ابقاء الجنس البشري .

موته :

فلما اصبح الصباح ,اخرج الحلاج ليقتل في الجانب الغربي من بغداد و قد تجاوز سنه الخامسه والستين, ابيض الشعر واللحيه, فتقدم و صلي الركعتين ,فقرأ في الاولي فاتحه الكتاب ثم بعدها ( و لنبلونكم بشيءمن الخوف والجوع …)ثم قرأ في الثانيه فاتحه الكتاب ثم بعدها ( كل نفس ذائقه الموت …)
ثم تم جلده حوالي الف سوط ,فلما لم يمت قطعت يده ثم رجله ثم رجله الاخري ثم يده ثم ضربت عنقه واحرقت جثته فلما صار رمادا القي في دجله ….كل ذلك دون ان يتأوه , و نصبت رأسه بجوارها يداه ورجلاه للناس علي سور السجن

محاكمته

روى إسماعيل بن علي الخطبي في ” تاريخه ” قال : وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج يقال له : الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت بهِ، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة وسحر وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وانتهى خبره إلى السلطان – يعني الخليفة العباسي المقتدر بالله – فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيًا أيامًا متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة وينادى عليه بما ذكر عنه ثم ينزل به ثم يحبس. فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس حتى سجن في النهاية بدار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيلهِ حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها فاستجابوا لهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية وسعي بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتبا تدل على تصديق ما ذكر عنهُ، وأقر بعضهم بلسانهِ بذلك وانتشر خبره وتكلم الناس في قتلهِ، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إلى حامد بن العباس وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه فجرى في ذلك خطوب طوال؛ ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر له عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه، ويذكر مصطفى جواد أنه بعد حرق جثته تم دفن ما تبقى منها في القبر المعروف في بغداد.

منتقدوه
اكتفى بعضهم بتكفيره بالاعتماد على ما قيل على لسانهِ من أقوال أو أشعار، بينما سعى بعضهم إلى تبرئته بالزعم بأن ما قيل على لسانه لا أساس له من الصحة وأنه كلام مدسوس عليه. أما أتباعه فإنهم يقدسون أقواله ويؤكدون نسبتها إليه، ولكنهم يقولون إن لها معاني باطنة غير المعاني الظاهرة، وأن هذه المعاني لا يفهمها سواهم. بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلًا ثوريًا شبيهًا بأساطير الغربيّين.
وعند الشيعة: ذكره الطوسي في كتاب الغيبة في المذمومين الذين ادعوا النيابة البابية.
وقال ابن تيمية: (مَنِ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنَ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أنا الله. وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ…وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنَ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ، وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ)اهـ
وقال أيضًا: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَأيِخِ ; وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ; لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ).اهـ
وقال عنه عبد القادر الجيلاني حين سُئل عن الحلاج قال: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده.
وقال عنهُ أبو الحسن الشاذلي: أكره من العلماء تكفير الحلاج، ومن فهم مقاصده فهم مقصدي.
قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري وصححوا له حاله ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف : الحسين بن منصور عالم رباني .
قال ابن كثير: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من الأئمة إجماعهم على قتله وأنه كان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وكذلك قول أكثر الصوفية منهم. ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه، وقد كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم يسلك به في عبادته، فدخل عليه الداخل بسبب ذلك، كما قال بعض السلف : من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وعن سفيان بن عيينة أنه قال : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. ولهذا دخل على الحلاج باب الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والإلحاد .
قال الخطيب : وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكويه الشيرازي، سمعت أبا زرعة الطبري يقول : الناس فيه – يعني حسين بن منصور – بين قبول ورد، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي، يقول : سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت : أيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله، فقال : يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به
قال أبو زرعة الطبري : وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر

مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا

لم يكد يجفّ حبر هذه الأشعار، حتى كان صاحبها يكتب بدمه واحدة من أشد الملاحم في تاريخ الإسلام، ليكون علامة على زمن ضاق بالتفكير النقدي والمعارضة السياسية.
وبسبب هذه الأشعار وغيرها من الشطحات الصوفية التي تجلت في “وحدة الوجود” توضأ الحسين بن منصور “الحلاّج” بدمه، بعدما ضرب ألف سوط فما تأوه، ثم جرى قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثم قُتل وأُحرق بالنار، فلما صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل بعدها إلى خراسان، وكان ذلك ذات ثلاثاء في 26 مارس (آذار) من عام 922 ميلادية.

وينتسب الحلاج، المولود في “البيضاء” ببلاد فارس، على ما ترجح بعض الروايات التاريخية، إلى طائفة من المتصوفة الذين لم يكتفوا بتحويل الزهد إلى مجرد عبادات وانعزال عن الناس، بل أحال الطاقة القصوى في التصوف إلى مجاهدة للنفس، وجهاد ضد العسف والطغيان. ويقال إن علاقته بجماعات الزنج والقرامطة أججت هذه المشاعر في قلبه. كما يقال إن صلته وتأثره بالمتصوفة الهنود جعلته ينخرط في الرغبة الحميمة لبلوغ الدرجات العليا من العرفان التي تمكّن صاحبها، كما كان يقال، من إتيان المكرمات و”الخوارق”.
ويُروى عن إبراهيم بن عمران النيلي:”سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد، وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه”.

اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب

وقد جرّ ذلك كله على الحلاج مصاعب كثيرة؛ لأنه كان يوصف بالتغريد خارج سرب السلطتين الدينية والسياسية. وقد نعته الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال بالمفكر المبدع، الذي “حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح”.
وقد كانت قناعة إقبال، كما تروي المستشرقة الألمانية المتخصصة بالتصوف آنا ماري شميل، ثابتة في أن “عالم القرآن” ينفتح لكل إنسان وفي كل عصر بصورة جديدة، وأن الإسلام ليس ديناً متحجراً بعيداً عن الواقع؛ بل إن المفكرين والصوفيين الكبار قد تغلغلوا الى طبقات بعيدة الأعماق من الفهم، بحيث يصبحون بذلك أمثلة عليا يقتدي بها الإنسان العصري أيضاً. وفي نظره كان الحلاج، الذي فهم أعماق الوحي الإلهي بصورة أفضل مما فعل كبار الفقهاء ورجال الدين الذين يعجزون عن التحليق الى الذرى الفكرية، لأن كلاً منهم يجثم “كقارون على المعاجم العربية”، أي أنه لا يستطيع التحليق بسبب عبء معارفه اللغوية الفقهية، بل يُضغط ميتاً تحت الغبار، كما غرق قارون تحت عبء كنوزه.
وفي محاولة لبعض الدارسين من أجل ردّ الاعتبار للحلاج، أنجزت دراسات وأعمال أدبية أكدت أنه قد أُسيء فهم هذا المتصوف، إذ فُسرت كلمته: “أنا الحق”، أي “أنا الحقيقة المطلقة”، أي “الله”، على أنها تعبير عن تعالٍ متعاظمٍ للذات، ما أثار الشكوك في إيمانه بحلول الذات الإلهية في النفس البشرية.
وفضلاً عن ذلك، اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً، بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب، ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره، ودليلاً على إلحاده، رغم أنه ألّف في عمله “كتاب الطواسين” أجمل أنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن كبار المتصوفين في جميع العصور قد أبدوا إعجابهم الشديد بحبه المطلق لله عز وجل.

وفي أدب العصر الوسيط نرى ملامح إعادة الاعتبار للحلاج الذي جرى تقديمه بصفته “ثائراً في وجه ضيق الأفق الفكري لدى المتحجرين من رجال الدين، لأنه شهد خبرة الاتصال بالله، تلك التجربة الروحية الحية عندما تخلى عن وظيفته التعليمية في المدرسة النظامية ببغداد، لأنه وجد أن زملاءه كانوا منغمسين في نزاعات وخلافات لا طائل من ورائها حول مسائل فقهية سطحية، دون أن يتحلّوا بذرّة من الإيمان الحي، أو يمتلكوا بارقة من الاتصال الحي بالذات الإلهية”.
وفي الأدب الأُردي والتركي الحديث يُصوّر الحلاج أحياناً كثائر ضد المجتمع القائم، كما أنه يظهر كذلك في الشعر العربي المعاصر كممثل للأبعاد العميقة للإسلام، كمكافح من أجل العدالة والفهم. وقد سعى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته “مأساة الحلاج” الى إظهار الطابع الاجتماعي لرسالة الحلاج، وأعطى تفسيراً دقيقاً لضرورة موته: “إذ كان موته أمراً محتوماً، لكي يعود أتباعه فيجدوا كلماته في أثلام الحقول، حيث تكمن خفية عن العيون، لكي تحمل على الرياح، التي تهب فوق الأمواج، فما الذي كان سيحدث لرسالته المنادية بحرية الفكر، لو لم يمت مشنوقاً؟”.

المسرحية، التي تتكون من فصلين، تعاين العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة، كما تحدق في محنة العقل في مواجهة التفسير الحرفي الأيديولوجي المتعسف لروح الإسلام. ففلسفة الحلاج، التي عبّر عنها بالممارسة، لم ترض قاضي بغداد الفقيه محمد بن داود، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام، حسب رؤيته لها، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري.

ويبارك ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” ما حاق بالحلاج من مصير، لا بل إنه يرى أن “من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلهاً، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج”.
ورغم المصير المؤلم الذي آل إليه، فإن الحلاج يمثل التضحية الكبرى التي قدَّمها الصوفية، في طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفي الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلي (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لا تقل وُعورة وخطورة عما شطح به الحلاج، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة. وكان يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلَّصني جنوني!

المصادر والمراجع

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف: ابن خلكان، ج2، ص140، دار صادر.

^ دكتور علي ثويني – في الأصل العراقي للحلاج – بغداد – 2000

^ مصطفى جواد ، أصول التاريخ والأدب ، ج22 ، ص 32

^ البداية والنهاية 14/ 829 : 831

الطوسى، اللمع في التصوف، تحقيق: د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقى سرور، دار الكتب الحديثة، مكتبة المثنى، 1960، ص 468.

د. عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، وكالة المطبوعات، الكويت، الطعبة الثانية، 1976م، ص 26.

ابن باكويه، أخبار الحلاج، نشرة ماسينيون وكراوس، باريس، 1936، ص 43.

الحلاج ديوان

أخبار الحلاج

قراءة في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء للمفكر والفيلسوف والعالم: السيد محمد باقر الصدر

الاستقراء أو الاستدلال الاستقرائي أو أحيانا المنطق الاستقرائي (تصميم أسفل أعلى) هو أحد أشكال الاستدلال وبتعبير منطقي هو الاستدلال الذي ينتقل من الجزئي إلى الكلي. أي أنه الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها، وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه أرسطو وحده وسمّاه “القياس المقسّم أو الحكم على الكلي بما يوجد في بعض أجزائه، وهو الاستقراء القائم على التعميم.
ينقسم إلى قسمين استقراء تام واستقراء ناقص. وتبحث مباحث هذا الشكل من الاستدلال في علم المنطق.

مثال بسيط

هذه قطعة معدن (أ) تتمدد بالحرارة.

هذه قطعة معدن (ب) تتمدد بالحرارة.

هذه قطعة معدن (ج) تتمدد بالحرارة.

وهلم جرا إذن المعدن يتمدد بالحرارة. وهذا ما يعرف بالاستقراء الناقص أي عدم تتبع كل الأفراد (ككل أفراد المعدن في المثال المتقدم) أما الاستقراء التام هو عند تتبع كل الأفراد وقد أشكل على كون الاستقراء التام في كونه استقراء أصلا لأن المقدمة فيه تساوي النتيجة.

مشاكل الاستقراء

هناك عدة من الإشكاليات المنطقية-الفلسفية التي وجهت للاستدلال الاستقرائي من قبل بعض المانطقة والفلاسفة والعلماء. وقد تعامل مع هذه الإشكاليات عدد منهم.
ومن أبرز من تكلم عن الاستقراء ومشاكله ديفيد هيوم، كارل بوبر، في كتابه الإسس المنطقية للاستقراء وغيرهم.
ومن الإشكاليات الموجهة للاستقراء:

ما هو سبب تعميم الحكم على باقي الإفراد إن لم أفحص إلا بعضها ؟

ما هو سبب تعميم الحكم على المستقبل مع اننا فحصنا الأفراد في الزمن الحالي أو ما قبل ؟

وغيرها من الإشكاليات

محمد باقر الصدر مؤلف الاسس المنطقية للاستقراء

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

محمد باقر الصدر (1 مارس 1935 الموافق 25 ذو القعدة 1353هـ – 9 أبريل 1980 م الموافق 23 جمادي الأول 1400هـ) هو مرجع ديني شيعي ومفكر وفيلسوف إسلامي عراقي، يعد أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ومنظري أفكاره. مؤلف لمجموعة كتب تعد الأبرز في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي. أُعدمه النظام السابق في عام 1980 أثناء حكم الرئيس الأسبق صدام حسين بتهمة العمالة والتخابر مع إيران.

ولادته
♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولد بمدينة الكاظمية في 1 مارس 1935 الموافق ليوم 25 ذو القعدة عام 1353 هـ. لرجل الدين الشيعي حيدر الصدر. وكانت والدته هي كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين أخت المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين. وينتمي إلى عائلة الصدر العلمية الشيعية التي برز منها عدة شخصيات دينية منهم شقيقته بنت الهدى وابن عمه محمد صادق الصدر والسيد موسى الصدر وإسماعيل الصدر. كما انه والد زوجة مقتدى الصدر.

الاستقراءفي كتاب الاسس المنطقية للاستقراء

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الاستقراء كمنهج معرفي يعتمد على الجمع بين ثلاثة مسائل:

  1. اطراد الطبيعة (أي التفاعالات الطبيعية المتماثلة لها نتائج متماثلة) مثلاً: لو وضعت نار على قطعة خشب ستحترق ولو كررنا هذا الفعل غدًا ستكون النتيجة نفسها.
  2. السببية العامة (أي القاعدة العامة: لكل حادث مُحدِث)
  3. السببية الخاصة (أي السببية بين الأمرين المدروسين تحديدًا => سببية أ إلى ب)

رد أرسطو #1 و #2 إلى أنّهما قضيتان عقليتان موجودتان قُبُلاً ولا يُمكن إثباتهما.

لمعالجة هذه المسألة يقوم السيد محمد باقر الصدر بتصنيف أنواع اليقين إلى ثلاثة: 1) موضوعي 2) نفسي\ذاتي 3) عقلي رياضي

وأيضــًا يقسّم العملية الاستقرائية إلى مرحلتين:

1) مرحلة استنباطية: (مرحلة الاستدلال عن طريق الاحتماليات -والذي لا يفيد اليقين لكن يقرّبنا منه-. بمعنى: المرحلة التي من خلالها يتم افتراض وجود نوع من العلاقة)
2) مرحلة التوالد الذاتي (الانتقال من الاحتمال إلى اليقين. ويحاول المؤلف هنا إثبات وجود ضرورة عقلية للسببية الخاصة في حال تجاوزنا المرحلة الاستنباطية)

ومن خلال هذه المفاهيم يحاول إثبات ضرورة أن (ب) هي سبب (أ). هذا مختصر الكتاب. لكن زبدته هو مرحلة التوالد الذاتي في تصوّري. زبدة مرحلة التوالد الذاتي تتمحور حول فكرة أن أكثر من سياق\دليل “يفشل في نفي” هذه السببية الخاصة. ويسمّي السياقات المختلفة (معرفة إجمالية 1 ، 2، إلخ). ومن ثمّ يقول: إنْ تتطابقَ أكثر من مجال (معرفي إجمالي) على عدم نفي سببية (أ) ل(ب) فإن (أ) و(ب) فعلاً مرتبطين بعلاقة سببية. وتكون هذه الدعوى يقينًا موضوعيًا. إلا أني أرى أن ما تم تقديمه في هذا الفصل بالإمكان إيراد العديد من الإشكالات عليه. فبالتالي لا تزال المشكلة قائمة

إن الفيلسوف طرح في ” الأسس ” نظريتين أساسيتين، تناولت الأولى تفسير الاحتمال وصياغة نظرية جديدة للاحتمال …،

وقد انصبت جهودنا في هذه الدراسة على بيان هذه النظرية وتبسيط عرضها .

أما النظرية الثانية فهي اتجاه جديد في تفسير اليقين الاستقرائي، والمعرفة البشرية بعامة. حيث يمنح الدليل الاستقرائي في مراحل متقدمة يقينا، لكنه غير ضروري، ومن ثم فهو غير منطقي، وفي الوقت ذاته ليس يقينا فوضويا قائما على أساس النزعة السيكولوجية المحضة، بل هو يقين يرتكز على مبررات موضوعية، وله شروطه المنطقية . آمل بإذنه تعــــالى أن أتوفر على فرصة لعرض هذا الاتجاه وتحليله – في دراسة قادمة – .
ولا بد أن أؤكد هنا على أن دراستنا لنظرية الاحتمال وتفسير الدليل الاستقرائي على أساس هذه النظرية انصبت على عرض العمود الفقري والأسس النظرية التي طرحها الأستاذ. أي أن هناك تفصيلات أخرى آثرنا عدم ذكرها في هذه الدراسة، لأن إغفالها لا يؤثر على البناء الأساسي للنظرية، مضافا إلى تيسير البحث أمام القارئ المتعلم، إذ أن الدخول في التفريعات والتفاصيل يراكم مادة البحث، فيعسر هضمها واستيعابها، ويشوش على المتابع الصورة، التي نريد عرضها واضحة جلية).

الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار .
في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف .

ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ …
ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس .
أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم .

وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي .
أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها الصدر في درسه الفلسفي .

وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة ا محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة .
نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك :

الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة .
وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ .

لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل .
مال المذهب ا

لتجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا .
استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء .
لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين .
ورد محمد باقر الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه محمد باقر الصدر :

لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي:

أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما = أَقصى اِعتقادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا

أم الصحيح ما قاله أرسطو :

أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها .

أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال .
من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي .
في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل .
وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها .

نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي .

وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار .

والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال .

والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره محمد باقر الصدر ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته .

يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو .
وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق .
أمّا محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية .

القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين .
إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة

تعريف بالمذهب الذاتي للصدر

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ورد التعريف بالمذهب الذاتي لدى مفكرنا الصدر في مطلع القسم الثالث من كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء)، وذلك تحت عنوان (التعريف بالمذهب الذاتي)
، وهو مذهب جديد يقف في قبال المذهبين الفلسفيين التقليديين:العقلي والتجريبي.
ففي نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) يُبحث عادة في مصدرها الاساسي، وفي كيفية نموها وتوالدها. فهما شيئان مختلفان. وللمذهب الذاتي موقف محدد لكل منهما، الا ان ما يمتاز به هو موقفه من المسألة الثانية المتعلقة بنمو المعرفة وتوالدها. اما موقفه من المصدر الاساسي للمعرفة فهو انه يتفق مع المذهب العقلي قبال المذهب التجريبي في الاعتقاد بوجود قضايا عقلية اولية سابقة على الحس والتجربة، كما يتمثل بالمنطق الارسطي. اي انه ينحاز الى المنطق العقلي الذي يسلّم بوجود معارف عقلية اولية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة، وهي اساس المعارف قاطبة، وبدونها لا يمكن للمعرفة ان تقام لها قائمة. ففي مثل هذه المعارف الاساسية يلتقي المذهب الذاتي مع المذهب العقلي، ومنه المنطق الارسطي، وان اختلف معه في التفصيل.
أما المحور الثاني فهو ما تميز به المذهب الذاتي، وهو العائد الى تفسير نمو المعرفة وتوالدها، اذ كيف يمكن ان تنشأ معارف جديدة طبقاً للمعارف الاساسية الاولية؟ ففي هذه الناحية يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي اختلافاً كبيراً. فالاخير لا يعتقد الا بطريقة واحدة للتوالد المعرفي، وهي ما يسميها المفكر الصدر (التوالد الموضوعي) لقضايا المعرفة، وتنشأ باللزوم عبر القياس المنطقي. ولا يعارض المذهب الذاتي هذا الاسلوب واللزوم للمعرفة، لكنه يضيف اليه لزوماً اخر تتولد من خلاله اغلب معارفنا، ويطلق عليه (التوالد الذاتي). ويختلف الاخير عن اللزوم الموضوعي في كونه لا ينشأ عن ارتباط القضايا، بل ينشأ عن ذات المعرفة او مضمونها.
وفي النتيجة يرى المذهب الذاتي ان الطريقة الصحيحة للتوالد المعرفي لا تتجاوز هذين التوالدين، وكل منهما يتضمن شكل اللزوم او التلازم المعرفي، لذا ساطلق عليهما كلاً من اللزوم الموضوعي واللزوم الذاتي.
وسوف نقوم بتحليل كل نوع من هذين التوالدين او اللزومين على التوالي، وبعدها نعالج قضايا علوم الطبيعة لنرى اين يمكن تصنيفها، فهل تخضع للزوم الموضوعي ام الذاتي ام غيرهما؟
فلدينا – اذاً – ثلاثة محاور سنعالجها على التوالي: الاول يخص اللزوم الموضوعي، والثاني يخص اللزوم الذاتي، ثم سنتطرق الى طبيعة التوالد في القضايا العلمية..
فلنبدأ بمحور اللزوم الموضوعي كما يلي:

1- محور اللزوم الموضوعي

لقد عرّف المفكر الصدر التوالد الموضوعي بأنه معرفة ناشئة عن تلازم للقضايا قائم على القياس المنطقي الارسطي. بمعنى ان المعرفة تتولد منطقياً بالقياس، فهو يشمل كل القضايا الثانوية المستنتجة، فلو استثنينا المعارف العقلية الاولية التي لا يمكن ردها الى ما قبلها من معارف، فان غيرها ستشكل قضايا ثانوية مترتبة عليها، فهي مستنتجة منها، مباشرة وغير مباشرة، عبر سلسلة من القياسات المنطقية. ولا يختلف المفكر الصدر في هذا المحور مع المنطق الارسطي، والذي ضمنه عدداً من الامثلة كما يتضح مما قاله بهذا الصدد:
‹‹إن في كل معرفة جانباً ذاتياً وجانباً موضوعياً. فنحن حين نعرف: أن الشمس طالعة، أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر أيضاً، نميز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضية التي أدركناها، ولها – بحكم تصديقنا بها – واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة. والتوالد الموضوعي يعني: أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا بـ “أن خالداً إنسان، وأن كل إنسان فان” تتوالد منها معرفة بـ “أن خالداً فان”. وهذا التوالد موضوعي، لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأن النتيجة في القياس دائماً ملازمة للمقومات التي يتكون منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي، والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها على البعض

الآخر بصورة قياسية››

وربما يحتاج هذا النص الى شيء من الايضاح عبر النقاط الثلاث التالية:
أولاً: لقد جاء في النص جملة من الامثلة المتعلقة بالقضايا المنطقية، وهي بلا شك تتضمن التوالد المنطقي من قبيل (ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر)، لكن المفكر الصدر استخدم اصطلاح (التوالد الموضوعي)، وقد يتبادر الى الذهن ان هذا الاصطلاح جاء ليشمل القضايا التي لها علاقة بالواقع الموضوعي، ومن ذلك مثاله حول (الشمس طالعة) اذ وصفه بانه يمتلك جانباً موضوعياً وذاتياً للمعرفة بحيث لا يختلف عن المثال المنطقي السابق. فقد يوحي هذا الوصف بانه لا يختلف عنه في تضمنه للتوالد الموضوعي او المنطقي. وفي هذه الحالة قد يتبادر الى الذهن كيف يمكن لهذا المثال ان يتضمن لزوماً كالبقية المذكورة؟ وهي مثال: ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر، كذلك القياس المنطقي المتعلق بفناء خالد. فمثال (الشمس طالعة) ليس فيه لزوم منطقي، اذ يعود الى صنف القضايا الاخبارية الواقعية التي لا تتضمن هذه الصرامة من اللزوم حتى وان كانت صادقة. فالشمس وان كانت طالعة لكن طلوعها ليس امراً ضرورياً، وهي من هذه الناحية ليست لزومية. بمعنى ان القضية الخارجية للشمس يمكن ان تكون طالعة او غائبة خلافاً للزوم المنطقي، وعندما نتأكد من كونها طالعة بالفعل فان معرفتنا سوف تتضمن هذا (الامكان) رغم التأكد من ان الشمس طالعة بالحس، لكن يمكن ان نفترض باننا نتوهم كونها طالعة مثلاً. وقد يُناقش ان كان لهذا المثال لزوم من نوع اخر كاللزوم الواقعي المتعلق بالقضايا السببية، لا سيما ان مفكرنا ذهب الى هذا النوع من اللزوم السببي في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وعليه بنى مذهبه في النتائج الاستقرائية.
ثانياً: سوف لا نتوقف عند المثال المذكور، فوجهة نظر استاذنا الكبير واضحة فيما كشف عنه فيما بعد، فابتداءاً انه يسلم بوجود معارف ثانوية مستنتجة من ‹‹معارف اولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم››. وهذه المعارف الثانوية هي ذاتها نتاج التوالد الموضوعي، ودلل عليها بمثال مستمد من القضايا المنطقية، وهي نظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من جملة من البديهيات بطريقة التوالد الموضوعي. لكنه ذكر فيما بعد بان ‹‹كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين، إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين››

.
مما يعني ان القضايا الواقعية التي يستند اليها الدليل الاستقرائي تتضمن التوالد الموضوعي عند المرحلة الاحتمالية.
ثالثاً: يمكن ان نستنتج – طبقاً لما سبق – ان القضايا الموضوعية الثانوية لدى مفكرنا الصدر هي على صنفين: احداهما القضايا المنطقية المعروفة دون ان يكون لها علاقة بالاستنتاجات الاستقرائية، كقضايا الهندسة الاقليدية والرياضية. أما الثانية فلها علاقة بالدليل الاستقرائي، اذ تتوالد عبر بديهيات الاحتمال ومصادراته، مما يجعل القضية الاستقرائية المحتملة تتصف بالمنطقية، اي ان الدرجة الاحتمالية المعطاة لها هي درجة مبنية على القياس المنطقي وفقاً لحسابات الاحتمال. وهذا ما يمكن ان نأوّل فيه المثال الملتبس الذي ذكره مفكرنا ضمن التوالد الموضوعي، اي مثال (الشمس طالعة). فلولا ذلك لكنّا اعتقدنا بانه يصنف اللزوم في التوالد الموضوعي الى نوعين: احدهما منطقي قائم على مبدأ عدم التناقض، والاخر اخباري واقعي قائم على مبدأ السببية اللزومية، وهما يندرجان وفق ما سماه التوالد الموضوعي من دون تمييز. فكلاهما قائم على اللزوم، فالقضية المنطقية يبررها مبدأ عدم التناقض، في حين ان القضية الواقعية او الاستقرائية يبررها مبدأ السببية اللزومية لا عدم التناقض، وفقاً لما ذهب اليه في (الاسس المنطقية للاستقراء).. فلولا تحليلنا السابق لكنا نرى بان هذه الرؤية هي ما تناسب مذهب مفكرنا في هذا الكتاب. لكن ما طرحه فيما بعد ينفي مثل هذا الاحتمال والتوجيه. اذ قصد بالتوالد الموضوعي نفس التوالد واللزوم المنطقي دون ادنى اختلاف، وان ذكره لمثال (الشمس طالعة) هو ما يثير التوهم واللبس المشار اليه.. فمسألة اللزوم الموضوعي الخاصة بالقضايا الواقعية مرتبطة بحسابات نظرية الاحتمال وفقاً لبديهياتها. فدرجات احتمال القضية الواقعية هي ما تتضمن اللزوم وليس القضية الواقعية ذاتها. لذلك اشار الى ان مذهبه لا يختلف عن المنطق العقلي الارسطي في كون التوالد في مثل هذه القضايا محكوماً بالقياس المنطقي، وان اختلفا من حيث مصاديق القضايا الكبرى التي تتحكم في القياس.

سلطة العقل وحدود الوهم عند الشيخ الاكبر محي الدين بن العربي مفهوم العقل والوهم عند محي الدين بن العربي هل للعقل سلطة مطلقة؟

   يعيش الإنسان مع ذاته صراعات عديدة منها داخلية وأخرى خارجية، تؤثر على باطنه، كي يصبح الصراع فردي وشخصي، مما يطرح صعوبات في تحديد الذات، ومن ثمة الإنسان، إذ كل طرف من أطراف الصراع يحاول أن يأخذ وضع التعريف والتحديد، كتحديد الإنسان بالعقل أو النطق أو الجسد أو بالروح؛ إلا أن هذا الصراع يعمل على تغيير المواقع والأولوية، ويعيد مسألة التحديد إلى عدم التحديد بوجه واحد والارتكاز على معطى دون آخر. ومن بين الأمور التي تؤثر في عملية التحديد وتشوش على إمكانية التعريف مفهوم الوهم، الذي يعطيه ابن عربي أهمية في تصور الوجود والعالم والحقيقة، بل وله  سلطة على العقل والتفكير، مما يهدد الوجود والعالم والحقيقة بدخول الأوهام عليها في تصورنا لها. لذلك يطرح علينا هذا البحث الخروج بمجموعة من الضوابط، تؤطر العقل والتفكير، للوصول والبحث عن الحقيقة، ويجب أن تفضي هذه الآليات إلى نتيجة ممكنة، التي وجب ضبطها وتصنيفها وتمحيصها، حتى لا يزيغ العقل ويحيد عن المطلوب. إذن، ما الوهم في تصور ابن عربي؟ وكيف يشتغل ويؤثر في مصادر المعرفة كالعقل والتفكير؟  وهل يمكن تجاوز الوهم أم أنه من صميم وجودنا وماهيتنا؟ وكيف يمكن توجيه الوهم نحو طريق الحقيقة؟



      1 – تعريف الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

    يعتبر الوهم من المفاهيم المتداولة في كتابات ابن عربي، يعطيه أهمية في تحصيل المعرفة والتأثير في الوصول إليها؛ ولدى الوهم القدرة على التحكم والسيطرة من خلال سلطته التي يفرضها على النتائج المتوصل إليها، وكذا طريقة التفكير التي يتبعها في تحصيل المطلوب. وقد تدخل عدة عوامل في الزيادة من حدة الوهم وقوته أو قد تخفف من سطوته وتحكمه «فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية»

؛ إلا أن الوهم قبل أن يكون له هذه السلطة، هو قوة من قوى الإدراك «غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان»، من هنا جاءت سلطته وقوته وتحكمه، أي أنه لا يمكن الاستغناء عنه أو محاولة تجاوزه لأنه يطال مصادر المعرفة وطرق الوصول إليها، فيؤثر فيها ويتدخل في تشكيل معالمها، كما أنه قد يتحكم في رؤية الإنسان للوجود والعالم ولذاته. مما يعطي انطباعا أوليا بأن الوهم يسري في الإنسان وقدرته على إدراك وتصور كل شيء في الوجود. وبالتالي، قد نقول إن سلطة الوهم آتية من تحكمه في باقي القوى وكيفية انتقال المعرفة فيما بينها خصوصا العقل.

           2- سلطة الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

       يقدم لنا الوهم الأشياء على غير حقيقتها، بحيث يخرج الشيء عما صوره لنا العقل وضبطه الفكر. يطال الوهم الصورة فيحدث فيها تغييرا على حسب استعداد الإنسان. ولا يستطيع العقل مجارات الوهم في توهمه وتعامله مع الأمور والأشياء لأنها «تنفلت من العقل وتثبت في الوهم ويحكم عليها ويؤثر فيها» بحيث ما لا يضبطه العقل وينفلت من حدوده وتحديده يظفر به الوهم ويتحكم فيه، بل يتجاوز حدود التحكم نحو التأثير، وقد يحدث تغييرا في تصورنا للأشياء. وَهْمُ الصورة ليست في تشويه الواقع وتحريفه وإخراجه عن حقيقته وإنما وهم الصورة هنا يطال العقل والكيفية التي يتصور بها الأشياء.

 ما يحاول ابن عربي الوصول إليه هي الحقيقة الخالصة من كل تشويه أو شبهة أو خطأ أو مغالطة. حاول ابن عربي تحديد حدود العقل وتأطير الممارسة العقلية، ولهذا الغرض انصبت معظم كتابات ابن عربي في رسم الحدود للعقل وتحديد دوره في الوجود، حتى لا يحيد عن المقصود.

     ما نتوهم بالوهم لا وجود له في ذاته، أي الوجود العيني، «والمتوهم ما لا وجود له في عينه»، بحيث يعطي الوهم ما لا يعطيه العقل، يصور لنا العدم وجودا، ويمنح المعدوم صورة الوجود. إشكالية الوهم هي في تصويره لنا للموجود على مستوى الوجود، مما يعطي الأمر بخلافه، ويحدث أثرا في النفوس والعقول، من هنا سلطته على الإنسان وليس فقط على العقل، لأن الإنسان هو من يعطي للوهم فرصة بأن يسيطر عليه، من خلال هواجسه ومخاوفه. سلطة الوهم آتية من قدرته على التأثير لأن «أثر الأوهام في النفوس البشرية أظهر وأقوى من أثر العقول»، ما نتوهم وجوده وهو غير موجود قد يحدث أثرا وتغييرا في الذات، سواء في التصور أو على مستوى الآثار النفسية. وبالتالي، من قوة الوهم قدرته على التحكم في العقل، ومن ثمة في المعرفة التي ينتجها، أي أن الإنسان في حد ذاته، بمخاوفه وهواجسه، يعطي لما لا وجود له أن يتحكم فيه.



      3-  أوهام العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      إذا كان العقل حسب ابن عربي قيد «فإن العقل قيد»، يعقل الأمور بحدها وتحديدها ووضع الحدود لها حتى تُعرف بماهيتها وجوهرها، لأن تحرير المعرفة أو العلم من الحدود قد يؤدي إلى التداخل وعدم إمكانية التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الصواب والخطأ، إلا أن الأولى أن يضع العقل حدودا لممارسته،  بأن يمارس على ذاته ما يمارسه على غيره، وأن يضع حدودا لممارسته في تحديد الأشياء، وإلا فإنه قد يسقط في أوهام ميتافيزيقية، وهذا الوهم هو ما يمكن تسميته “بوهم إدراك ما لا يمكن إدراكه” أو “بوهم تصوير ما لا يمكن تصويره”، وذلك بادعاء العقل قدرته على تقييد المطلق، إلا أن المطلق لا يتحدد حسب ابن عربي «فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر، فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما  عندك، ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عز وجل وضبطت ما عندك في علمك أمرا ما، وأعلى أمر ضبطته في علمك به أنه لا ينضبط سبحانه لا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبهه فلا ينضبط مضبوط لتميزه عما ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط»، وهذا ما يحاول العقل فعله، وهو تقييد المطلق بتحديده وتصويره، وهذا محال حسب ابن عربي.

 تتميز الذات بقبولها للتقييد ، لكن ليست “ذات الله” ولولا التقييد لما تميزت الذوات ولما عرفت على حدة، ولطالها النسيان وأخفاها الاشتراك، فتضيع الحدود وتتجاوز القيود، مما يؤدي بالعقل إلى الوقوع في الأوهام والمغالطات، خصوصا تلك التي تطال أحكام العقل «ولولا العين ما ظهر للتقييد حكم في الكون، فلو زالت الحدود لزال التقييد، ولا سبيل إلى زوالها فإن بقاءها عين كمالها بها صنعت المناضلة وبانت المفاضلة». إذن، ما هي حدود العقل؟ وكيف يمكن الالتزام والتقيد بها؟ ومن يضع هذه الحدود؟ هل العقل هو من يضعها أم يضعها غيره؟



     3-1 – حدود العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      تروم محاولة ابن عربي في وضع الحدود من أجل احترام المهام، وعدم التطاول على الغير، وإذا لم يتخل العقل عن أنانيته فإن غيره يثوق إلى تجاوزه وإظهاره بمظهر الجاهل الذي يعول على غيره ولا يعول عليه «فلا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل، فالعقل مستفيد أبدا فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله». ما حاول ابن عربي القيام به هو محاكمة العقل ووضع الحدود له لأن «للعقول حد تقف عنده»، محاكمة العقل هنا في تجاوزه لحدوده، لأنه في ذلك يكون معرضا للخطأ من جهة، ومن جهة أخرى إرادته في السيطرة على غيره لأن «العقول المحجوبة بالهوى وبطلب الرياسة والنفاسة والعلو على أبناء الجنس يمنعهم ذلك من القبول  والانقياد»

  ما يريده ابن عربي من نقده للعقل وموقفه منه، هو منعه من الوقوع في الأوهام أو سقوطه في الأخطاء والمغالطات، لأن ما يعيبه ابن عربي على العقل هو مآل المعرفة التي ينتجها، وكأنه يحاول تقويم العقل حتى لا يقع في هذه الأوهام والأخطاء، وهذا التقويم له ضوابط وقواعد وما على العاقل أو العقل إلا أن يضبطها ويلتزم بها للوصول إلى الصواب من المعرفة

    تأصيل ابن عربي للممارسة العقلية

♧♧♧♧♧♧♧♧ ♧♧♧♧♧♧♧

حتى يكون العقل قادرا على الإدراك الذاتي، يؤدي به إلى الوقوف من العقل موقفا سلبيا، يتجلى في تضييق الحدود عليه، وجعله فقط قابلا يتلقى دون إمكانية الفعل النظري الذي يتميز به «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

 حاول الشيخ الأكبر أن يذهب بالعقل إلى أبعد الحدود الممكنة فيجد دوره يقتصر فقط على القبول، عقل قابل يعني عقل غير قادر على الفعل، ينتظر ما يمكن أن يقدمه الشيء أو يكشف عن خفاياه، لم يضع ابن عربي هنا الحدود للعقل وإنما قام بسجنه، وفي نفس الوقت وسع من أفق رؤيته للوجود والعالم، من خلال قدرته على قبول كل شيء، والأهم من ذلك هو عدم الوقوع في الوهم أو الخطأ الذي يشكل أكبر تهديد للعقل .

   دعوة ابن عربي لوضع الحدود كانت الغاية منه، الحد من فعالية العقل وأن يقتصر دوره على التلقي، أي عقل منفعل ومرتبط بغيره في تحصيله لمطلوبه «فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم»(13). لا يدعو ابن عربي إلى استقلال العقل وإنما إلى تبعته. وبالتالي، على الرغم من بحث ابن عربي عن نجاعة العقل في فعل المعرفة، إلا أنه ضيق من حدود فعله، مما يخدم توجهه وغايته وهي فلسفة التلقي والانتظار «ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا، وثم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عز وجل»(14). بمعنى آخر أن كل ما يتلقاه الصوفي هو من استعداده للقبول والتلقي وليس من استقلاله وإرادته في المعرفة وادعائها لأن «الحق الذي نأخذ العلوم عنه بخلو القلب من الفكر والاستعداد لقبول الواردات هو الذي يعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولا حيرة».إذن، أهم حد يضعه ابن عربي للعقل هو أن يقتصر دوره على القبول والتلقي وأن لا يتعدى ذلك نحو الفعل والنظر «إذ إن علوم النظر أوهام، عند أهل الإلهام القائم عن الإلهام لا تخطيء والحكم به لا يبطئ». لماذا إذن، هذا التضييق على العقل؟

    تضييق ابن عربي على العقل، كان الهدف منه التأسيس لمعرفة لها مصداقية أكبر، ولا يدخل عليها الخطأ والباطل والوهم، إلا أنه «لا بد من سلطان الوهم الذي يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة»، ولأن هذه الأوصاف أي الباطل والخطأ والكذب، يعطيها ابن عربي اسما واحدا هو العدم، وما نحتاج إليه هو عدم العودة إلى العدم والهروب منه، أي الابتعاد عن العدم  والخروج معرفيا إلى الوجود. لذلك فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة صحيحة لا فاسدة، صائبة لا خاطئة، معرفة يمكن نعتها بالوجود؛ ومن ثمة على العقل أن لا ينزلق إلى الأوهام وإنتاج أحكام يطالها الخطأ والغلط، وأن يكون قادرا على إنتاج الجديد ولا يقع في آفة التقليد، الذي يقتل العقل، ويحد من انفتاحه على الوجود.

  موقف ابن عربي من العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

موقف متناقض، يتراوح بين الإيجاب والسلب، يعطي تارة أهمية للعقل وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته، يعطيه أهمية كعارف من حيث هو قابل ومنقاد، وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته ويعتبره جاهلا، تارة مجددا وأخرى مقلدا «فلا شيء أكثر تقليدا من العقل وهو يتخيل أنه صاحب دليل إلهي وإنما هو صاحب دليل فكري، فإن الفكر يمشي به حيث يريد، والعقل كالأعمى بل هو أعمى عن طريق الحق
.

يعد العقل عارفا وجاهلا، وكأنه في ذاته يحتوي على هذا التقابل، والجهل بهذا التقابل إقصاء للعقل وتعسف عليه، أو قد نقول إننا نتطاول على العقل بجهلنا لهذا التقابل، مما يترتب عن ذلك سوء في فهم العقل ودوره. علينا أن نستحضر هذا التقابل حتى لا نقع في المغالطات على مستوى فهمه والحكم عليه.   



   أ – حدود حسية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 يرى الشيخ الأكبر أن بنية العقل هشة، ويعتمد على غيره في بناء الأحكام العقلية، لأن العقل في ذاته مفتقر إليها، أو أنه فارغ إلا من الضروريات أو ما هو فطري مادام «العقل لا علم عنده إلا الضروريات التي فطر عليها»(19). هناك مبادئ، لكنها مبادئ ضرورية وفطرية تحتاج إلى من يحركها نحو تحصيل المعرفة، وهذا التحريك تدخل فيه مجموعة من القوى. لكن في قول آخر يرى أن العقل فارغ من أي محتوى «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

. يركز ابن عربي دائما على القبول والتلقي، هذه هي حدود العقل التي عليه أن لا يتجاوزها، فالعقل فقير بالذات، وافتقاره هذا جعله في حاجة إلى غيره في إصدار أحكامه العقلية «فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بواسطة هذه القوى وفيها من العلل ما فيها»

       تمر المعرفة العقلية حسب ابن عربي عبر سلسلة من النقلات لكي تصل إلى العقل، مرورا من الحس إلى الخيال إلى الفكر، وهذا الأمر يضع مسافة بين الشيء وإدراكه مباشرة من طرف العقل، إلى جانب عيب الوساطة هناك عيوب تنطوي عليها كل قوة، وهي أنها غير قادرة على تجاوز حدود إدراكها، وفيها من العيوب ما فيها، مما يطرح على المعرفة العقلية صعوبات أهمها السقوط في الغلط والخطأ، ومن ثمة إنتاج الأوهام بحيث «ما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت

. يؤدي عيب الوساطة إلى عدم إدراك الشيء مباشرة وفي ذاته.

   نقد ابن عربي للعقل هو نقد للطريقة وادعاءاته النظرية في الممارسة الفعلية لإنتاج معرفة عقلية. من هنا كانت أهمية دعوة ابن عربي لإقامة الحدود حتى لا يسقط العقل في ادعاء ما ليس له، أي ادعاء الاستقلالية والفعالية وهو في ذاته مفتقر ويعتمد على غيره في إصدار الأحكام والتي قد يطالها الوهم.

يحاول ابن عربي أن يتتبع مسار المعرفة، للوقوف على مصادر الوهم والقوى المسؤولة عنه، فيبدأ بالحس أولا في علاقته بالحكم العقلي، وينسب الخطأ للعقل وحده، ويتهمه بالغلط، ولا دخل للحس في ذلك ولا حتى للخيال. لكن الفكر قد يكون له دور كبير في أوهام العقل .

    يعتمد العقل على ما ينقله الحس كشاهد، لأنه ينقل ما يتلقاه دون أن يتدخل في ذلك، كما أن إدراك الحس مباشر وبدون واسطة، لأنه يكون أقرب من الشيء أكثر من غيره. لا يخطئ الحس لأن إدراكه مباشر ولا يتدخل فيما يتلقاه «فما غلط حس قط ولا ما هو إدراكه ضروري، فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك، فأدرك بالبصر التحرك بذاته (….)فبان أن العقل غلط لا الحس، فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم لا للشاهد»

. لذلك لا يخطئ الحس عند ابن عربي، إلا أن الناقل قد يتصرف فيما ينقله، والشاهد قد يتدخل في تغيير معالم الشهادة، إلا أن ابن عربي يؤكد على أن الخطأ ليس من طبيعة الحس وإنما من العقل «فلم يجعل للحس غلطا جملة واحدة. وأن الذي يدركه الحس حق فإنه موصل ما هو حاكم بل شاهد، وإنما العقل هو الحاكم والغلط منسوب إلى الحاكم في الحكم

   يعطي ابن عربي أهمية للحس بعدم وصفه بالغلط أو إمكانية الوقوع في الخطأ ونقل الأوهام، لأن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة أو العلم، أما باقي القوى فإنها تأخذ منه حسب القرب أو البعد منه، «والحس أشرف من العقل لما فيه من الإطلاق فله السراح بالاستحقاق وإنه المحيط بما تعطيه الأوهام وإن أحالته الأحلام، والعقول قاصرة عن نسبة الوجود إلى هذه الأعيان المتخيلة»

   إدراك الحس للأشياء إدراك مباشر وبدون واسطة، لا يقلد غيره وإنما يحاكي الشيء كما هو أو كما يتبدى له، ينقل دون أن يتصرف، يشاهد دون أن يعاند لأنه شاهد، كما أنه لا يدعي ما ليس في قوته وقدرته، لذلك يسلم من الوهم والوقوع في الغلط أو الخطأ، مادامت الأوهام قد تطال الأحكام العقلية، لأنها هي من يدخل عليها الغلط والخطأ «وإنما المذهب الصحيح إنما العين لا تخطيء أبدا لا هي ولا جميع الحواس، فإن إدراك الحواس الأشياء إدراك ذاتي ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات»

لا ندرك الذاتيات إلا ذاتيا، والحس من القوى التي لا تخطيء ذاتيا حتى وإن اعترضتها صعوبات. من هنا أهمية الحس في تشكيل المعرفة وتكوين رؤية صادقة بالعالم والوجود فلا «يعقل بالعقل ولا بالحس إلا الوجود الذي نستند إليه في وجودنا»

. تقدم لنا المعرفة الصادقة رؤية حقة وحقيقية بالوجود، بمساهمة كل من العقل الذي لا يخطئ والحس في تشكيل معالم هذه الرؤية للوجود.

يؤدي الإدراك الذاتي للشيء إلى عدم الوقوع في الغلط، باعتباره إدراكا مباشرا وبدون وساطة؛ من هنا كان شرف الحس على العقل وهو أنه لا ينتج عنه ما ينتج عن العقل «فالحس أشرف من العقل، فإن العقل إليه يسعى»

.

  يأتي الغلط من تعدد الوسائط وكيفية نقلها للمعرفة وللمعطيات، وإدراك الحس إدراك واقعي وواضح ولا يكتنفه الغموض والتعقيد، إدراك بسيط غير مركب، لأن عملية التركيب قد تكون هي الأخرى إحدى العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الغلط والخطأ، ينقل الظاهرة كما هي في بساطتها دون أن يضيف إليها أو يزيد في هذا الإدراك. كما قد يأتي الغلط من حدود كل قوة على حدة. فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها.

 قد يأتي الغلط من الحس حسب ابن عربي، فلماذا يقول بعدم إمكانية وقوع الحس في الغلط؟ إذا كان ابن عربي يؤكد على ضرورة التسليم بعدم وقوع الحس في الغلط  أو أن إدراكاته لا يمكن أن يدخل عليها الغلط، فلماذا يقول بالحدود ومن ثمة محدودية كل قوة بحدودها في عملية الإدراك؟ إذا كانت لكل قوة موانع أغاليط، فما هي هذه الموانع؟ وما هي هذه الأغاليط التي يمكن أن يقع فيها الحس؟ ولماذا هذا التناقض والازدواجية في القول؟

       يأتي الغلط من حدود كل قوة، فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها، بحيث قد تعترض الحواس مجموعة من الموانع، قد تؤدي به إلى الوقوع في مجموعة من المغالطات مادام «الحس له أغاليط كثيرة

، منها العجز عن الإدراك بحصول عاهة على مستوى الحواس، والتي قد تؤدي إلى عدم الإدراك المباشر للشيء، لأن مانعا يحول دون ذلك، ليصبح الإدراك الحسي هو إدراك بواسطة. كما أن هناك مانعا آخر هو المحدودية الذاتية للحواس أي عدم القدرة على التجاوز، وذلك من خلال افتقار كل قوة إلى غيرها وتعويلها عليها في عملية إيصال المعرفة وتناقلها حتى يتم إنتاجها.

 كل قوة لا يمكن أن يكون إدراكها إلا بغيرها أي بواسطة، وهذا ما يؤدي إلى مجموعة من المغالطات أهمها الغلط في الحكم على ما تم نقله وهذا فعل العقل، كما قد يؤدي بنا هذا الإدراك بواسطة إلى الوقوع في التقليد لا التجديد. وهذا ما يرفضه ابن عربي، الابتعاد أكثر فأكثر عن التقليد؛ وهل يمكن اعتبار الوقوع في التقليد والتكرار مغالطة؟

    الحس مشروط بوجود الموضوع الخارجي أو العالم الخارجي، هو إدراك لشيء ما، وبدون وجود الحس لا يمكن نقل معطيات العالم الخارجي إلى قوى أخرى، فالمعرفة مشروطة بوجود الحواس، إلا أن الحس هنا هو في مرتبة المنفعل، والفاعل هو العالم الخارجي، والمنفعل يتلقى الفعل من الفاعل، أي ينقل دون أن يحكم  أو يتصرف فيما ينقله لأنه ليس في قدرته أن يحكم على ما ينقله، من هنا محدودية الحس .لكن، أهم مغالطة يمكن أن تقع فيها كل قوة هي ادعاؤها تجاوز حدودها نحو معرفة ميتافيزيقية، أو أن كل قوة قادرة على أن تصل إلى مستوى تحصيل المطلوب يفوق حدود هذه القوى، خصوصا “معرفة الله”، حسب ابن عربي فإن هذا الادعاء من طرف هذه القوى هو ما يوقعها في أكبر المغالطات وأخطرها، أي الوقوع في ذلك الادعاء الذي يدعي معرفة ما لا يمكن معرفته أو الوصول إليه نظرا لمحدودية وحدود كل قوة. وبالتالي، كل معرفة تدعي تجاوز حدودها الذاتية هي معرفة ميتافيزيقية، وعلى كل قوة أن تلتزم بحدودها وتتقيد بها، وإذا لم تتقيد بهذه الحدود فإنها تؤدي إلى السقوط في الميتافيزيقا.



    ب – حدود فكرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   رغم سيادة العقل وقدرته على السيطرة، إلا أنها سيادة في الظاهر، لكن في تحصيله للمعرفة يرتكز على غيره، أي افتقاره في الباطن، لأن ذلك من طبيعته وماهيته مادام «العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء

، ومن القوى التي يعتمد عليها كثيرا، الفكر، والذي يعتبره ابن عربي شقاء أبدي لازم الإنسان في وجوده، لأن قدر الإنسان هو أن يفكر، وفي تفكيره شقاء في حياته. يرهق الفكر الإنسان، ويقلق وجوده، يجعل حياته هشة، ومؤسسة على أوهام واقعية، لأن الفكر يوصل إلى ذلك في معظم حالاته ووضعياته التأملية «غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحد من خلقه إما لا يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية

إذن، هناك سيادة في الظاهر وأخذ في الباطن. لهذا الغرض يرفض ابن عربي معظم المعارف التي يتم تحصيلها من طريق الفكر ويشكك فيها، مما جعل علاقته مع الفكر متوترة إلى أقصى حد، بل أكثر من ذلك هو أشد الرافضين والمنتقدين له. لماذا هذه العداوة للفكر وهذا الرفض بهذا الشكل؟

    يتوجه ابن عربي بالنقد إلى ما تبنى عليه المعارف، أي أنه لا يتوجه إلى المدلول ولا إلى الدال، وإنما يتوجه إلى الدليل، الذي يبنى عليه المدلول بإدخال الدال في عملية التدليل، والذي يقوم بهذه العملية هو الفكر، لذلك نجد هذا الاهتمام الكبير بالفكر، لأنه الأصل في إيصال العقل إلى تحصيل المدلول. إذن، حتى وإن كان ابن عربي عرفاني في توجهه، إلا أنه منطقي في تعامله مع طرق تحصيل المعرفة، وتعقب مسارها من الأوائل أي تمحيص المعطيات وإدخالها في تركيب الدليل وصولا إلى النتيجة أو المطلوب. ما يهم ابن عربي في هذه العملية هي تلك النقلة من الدال إلى المدلول، والتي ترتبط بالدليل خصوصا.

  تعتمد المعرفة أو العلم أو ما يمكن تسميته بالحكم العقلي أو المدلول، على ما يركبه الفكر من دليل، لهذا يشدد ابن عربي ويركز اهتمامه على الفكر وكذلك العقل. لا يمكن إنكار دورهما، لكن مهمتهما عليها أن تكون على درجة عالية من الدقة والصرامة والتزام الحدود وتقييد الممارسة حتى لا يكون هناك زيغ أو خروج عن المطلوب. ما يرغب فيه ابن عربي من كل هذا، تقويم الأفكار والأحكام وفق ضوابط وقواعد صارمة تؤول بنا إلى معرفة صادقة ناتجة عن فكر صحيح لا فاسد وعن عقل سديد، لأن «علم العقل: وهو علم يحصل لك ضرورة أو عقب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد»

يأخذ الفكر من الحس مجموعة من الانطباعات والإدراكات الحسية، لكي يؤلف بينها، بواسطة تلك الأوليات العقلية أو البديهيات، وهذا الأخذ يؤدي بالفكر إلى السقوط في تعدد الوسائط، لأنه بين طرفين الحس والعقل، يأخذ من الحس كما يأخذ من العقل، إلا أنه لا يقتصر عليهما وإنما يستطيع أن يأخذ حتى من الخيال، وفي هذا المستوى ينتقل من الأخذ عن العقل والحس، إلى تقديم الدليل له، وذلك بتركيبه للصور الخيالية.

 يأخذ الفكر من العقل الأوليات وهي بمثابة مبادئ وقواعد للتفكير، لأنه لا يحتوي على مبادئ قبلية ومنطلقات سابقة بها يعمل ويشتغل، بحيث يعطي للعقل أفكارا في شكل دليل، يأخذ العقل هذا الدليل فيحكم به على المدلول. إذن، «القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما، وبرهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات وهي أمور مركوزة في الجبلة، فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول، وما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط»

  يتموضع الفكر بين وضعيتين مع دورين مختلفين، دور يأخذ فيه من الحس والعقل لكي يجد طريقة في الاشتغال، حتى يعمل على تركيب الدليل للانتقال إلى وضعية من يقدم الدليل العقلي لكي يمارس مهمته وهو الحكم العقلي بناءا على ما ركبه الفكر. لهذا الغرض يذم ابن عربي العقل من جهة الفكر، لأن الدليل من تركيب الفكر وليس العقل. وهذا الأمر سوف يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن «العقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالاتفاق فما تم إلا تقليد»

   وهكذا، يكون الفكر أقرب شيء إلى الإنسان من العقل والخيال والقلب، يعبر عن معاناة الإنسان وقلقه الوجودي والمعرفي، يعبر عن ذلك الجانب السلبي من وجود الإنسان. الفكر لصيق بالإنسان وأكثر تعبيرا عن وجوده الشقي، لأن «أصحاب الأفكار ما برحوا بأفكارهم في الأكوان فلهم أن يحاروا ويعجزوا»

إذن، ما هو مفارق لا يمكن تصوره أو التفكير فيه إلا بعد مروره عبر وسائط أهمها واسطة الحس، ومادام الحس لا يستطيع تجاوز ما هو محسوس، فإن ذلك يؤدي به إلى عدم قدرته على إدراك ما هو مفارق، ومادامت القوى تعتمد على الحس فإنها ترتبط به ولا يمكنها الاستغناء عنه «أما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلى في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحس وأوائل العقل، ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه، فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى»

 لا يستطيع الفكر العلم “بالله” «وهو هنا ما يخطر لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهية حقيقته وهو معرفة ذاته التي ما تعرف، وحجر التفكير فيها لعظيم قدرها، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل

ولكن عليه أن يدافع عنه ويثبت وجوده، ويرد على ما يمكن أن يؤدي إلى الوقوع في الشبهات والتلبيس »ونمنع من الفكر جملة واحدة لأنه يورث التلبيس وعدم الصدق»

. نطالب الفكر بالدفاع عما لا يمكن أن يعلمه أو يتصوره، وما لا يمكن إدراكه. إذن، كيف يمكن أن يدافع الفكر عما لا يدركه؟ ومن يضمن لنا أن دفاع الفكر هذا قد لا يترتب عنه مغالطات وأخطاء؟

للإجابة على هذين السؤالين، يقتضي منا هذا الأمر توضيحا، وهو أن الذات لا تعلم بأي حال من الأحوال، ولا يقتصر هذا الأمر على قوة بعينها وإنما جميع القوى بدون استثناء. وحتى يتحقق “العلم الإلهي” من جهة الفكر، فإن له شروطا من بينها، أن يكون هذا العلم علما برهانيا قائما على فكر صحيح لا فاسد، وهذا البرهان الناتج عن الفكر الصحيح، يقوم بالإثبات والرد، لأن ما ينبغي إثباته بالبرهان هو وجود الحق والدفاع عنه، والرد على من يشكك في ذلك والتبس عليه الأمر بشبهة، سواء كانوا معطلة أو أهل الشرك(…) وهو ما يؤكد عليه ابن عربي بقوله:«وعلم النور على قسمين: علوم كشف، وعلوم برهان بصحيح فكر، فيحصل له من طريق البرهان ما يرد به الشبهة المضلة والقادحة في وجود الحق وتوحيد أسمائه وأفعاله، فالبرهان يرد على المعطلة، ويدل على إثبات وجود الإله وبه يرد على أهل الشرك».

إذا كان الفكر لا يصيب إلا قليلا في مجال “العلم الإلهي”، ورغم أن هامش الصواب على مستوى الفكر أقل من هامش الخطأ، إلا أن ابن عربي يعطي لهذه القلة أهمية، لا يلغيها من إمكانية المعرفة، وتحقيق المطلوب وهو الصواب في العلم الإلهي، بمعنى آخر، حتى وإن كان هامش الصواب أقل، فإن الفكر عليه أن يضبط عمله وينتج معرفة قائمة على البرهان من جهة الفكر الصحيح، إلا أن الفكر في هذه الحالة يقتصر دوره في الدفاع وليس في إنتاج معرفة، أي نطالبه بالرد على الخصوم بالبرهان، لكن بفكر صحيح. إذن، هناك إمكانية “للعلم الإلهي” لكنه علم يقتصر فيه على الرد والإثبات وليس على إنتاج معرفة. لذلك، كل عملية تفكيرية تدعي الإحاطة والتقييد لكيفية من الكيفيات التي يمكن أن يكون عليها “الله”، بمحاولة استيعاب تلك الكيفيات التي هي للأشياء، ولا يمكن أن تعلم هذه الكيفيات لأنه لا مناسبة، والفكر يحاول أن يجد هذه المناسبة.

كل محاولة قياسية توظف الشاهد للاستدلال على ما هو غائب استدلال ناقص، وذلك على اعتبار أن الشاهد يختلف كليا عن الغائب، لذلك يجب إخراج “الله” عن أي محاولة إحاطة تروم تجسيده في مقولات عقلية، وهذا التجسيد تعطيل، وتقييد لما هو مطلق، «ومن هنا يأتي خطأ المفكرين العقلانيين الذين غلطوا في تصوراتهم عن الحق نفسه:” حيث يفكر الإنسان بعقله في الله، يخلق بتفكيره ما يعتقده في نفسه. ومن هنا يفكر في الرب الذي خلقه بفكره

فالمطلق لا يحد ولا يعرف، وأي تعقل “لله” هو منذ البداية تعقل مآله الفشل؛ وذلك لأن “الله” لا يقبل هذا التحديد ولا يمكن وضعه في قوالب فكرية، لذلك «ما أنتجه الفكر من معرفة الله لا يعول عليه

. وبالتالي، نقل كيفيات ما هو معلوم وإسقاطها على ما هو مجهول نقل غير مشروع، ومستحيل في نفس الوقت، في إطار تقييد المطلق، لأن المجهول “الله” يخرج عن أي تصور ولا يعلم له كيفية ولا حيثية إلا ما سمى به نفسه؛ لذلك «يؤكد ابن عربي ـ في رده على الفلاسفة واللاهوتيين – أن الله لا يمكن تصوره ولا يمكن معرفته أبدا، فلا ينطبق عليه أسماء ولا صفات، كما يؤكد أن كل أفكارنا ومفاهيمنا التي نشيدها قياسا على أنفسنا لا تدانيه
، وهذا الأمر سقط فيه “نصر حامد أبو زيد” بقوله:«وحين تعبر اللغة عن المطلق أو المتعالي فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعين والمحسوس. إن الله ـ بعبارة أخرى ـ ليس إلا بشرا نُفيت عنه كل صفات النقص والتحدد، وأكدت فيه كل صفات الكمال والإطلاق، والنفي والإثبات ليسا سوى أدوات لغوية لها طابعها البشري»

وكأن الإنسان بهذا القول هو “الله” لكن بصفات ناقصة ومحدودة. ومن ثمة، «يرى ابن عربي أن أهل النظر جميعهم لا يشيدون أفكارهم عن الله على شيء ليس هو الله على الحقيقة»

وهكذا، يكون ابن عربي قد عدد من زوايا النظر إلى نفس الشيء، حتى يكون موقفه موقفا وسطا، يرفض ولا يرفض الوهم في مستويات معينة من إدراك الأشياء إلى إدراك الحقيقة والوجود، من هنا أهميته كقوة من قوى الإدراك لها دور في تحصيل المعرفة وفهم الإنسان لأمور قد لا تفهم، وقد لا نجد لها تفسيرا. لذلك يؤكد ابن عربي على غرابة المعرفة التي يتم تحصيلها من طريق الوهم. تأتي الأوهام من إدراكنا للتكرار، لكنه تكرار لا يتكرر إلا مرة واحدة. ويعدم التكرار كل إمكانية للتجديد والإبداع، لأنه يحول دون ذلك. فالتكرار لا يعول عليه في إنتاج معرفة صادقة خالية من الأوهام.

         لقد حاول ابن عربي أن يؤسس للمعرفة على مجموعة من الضوابط، يعمل على فحص قوى الإدراك والتحقق من قدرتها على تحصيل المطلوب، حتى يكون لموقفه ما يبرره، وهذه الضوابط كالتالي:1ـ وضع الحدود لكل قوة حتى لا تتجاوزها، وفي تجاوزها سقوط في إنتاج معرفة تتخللها الأوهام والمغالطات والأخطاء. فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة لا كاذبة. ووضع الحدود والقيود، يؤدي إلى إنتاج المطلوب بكيفية صادقة. 2-الإدراك المباشر وبدون وسائط؛ 3ـ إنتاج معرفة تقوم على التجديد وليس على التقليد؛4ـ تحصيل معرفة صادقة وصحيحة مع عدم السقوط في الأخطاء وتجنب الوقوع في المغالطات. فكل قوة تتحقق فيها هذه الضوابط تكون مؤهلة للمعرفة، أما إذا سقطت فيما يتناقض مع هذه الضوابط، كالسقوط في عيب الوساطة، أو إعادة المعرفة بناء على تكرارها، أو إنتاج الأخطاء والمغالطات، وتجاوز الحدود، فإن هذه القوى إما يتم رفضها من طرف ابن عربي وإما يضطر إلى تقسيمها والعمل على تأطيرها بوضع حدود أخرى؛ وبناء على ذلك، قسم ابن عربي العقل إلى قسمين: عقل يدرك بواسطة، وهو ما يرفضه انطلاقا مما يترتب عنه من نتائج، وعقل ذاتي، ينتظر ويقبل دون أن يفعل أو يتعقل؛ وقسم الفكر إلى:فكر فاسد يتم رفضه، وفكر صحيح، يقبل به لكنه يؤطره ويضع له حدودا. لكن، سوف يختلف الأمر مع الخيال والقلب، ولا يقوم بمثل ما قام به مع العقل والفكر، وكأنه يميل في موقفه رغم هذه الضوابط، أو إن موقف ابن عربي من القوى فيه شيء من الانحياز إلى جانب الخيال والقلب.

المصادر والمراجع

ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص167.

ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ج1

، ج1، ص196.

إيان، أموند، التصوف والتفكيك درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، ص47.

ابن عربي، محيي الدين، رسالة لا يعول عليه، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص294.

أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1998، ص363.

ابن عربي، محيي الدين، كتاب الجلال وهو كلمة الله، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص59.

ابن عربي، محيي الدين، التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1998، ص145.
.

القلق الوجودي عند الفيلسوف سورين كيركجارد(1813-1855)م

سورین كيركجارد (1813- 1855 م)

الفيلسوف العملاق، ولد الفيلسوف الدانماركي الذي تنسب إليه مدرسة الفلسفة الوجودية المؤمنة في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، وكان الطفل السابع في أسرة بورجوازية ميسورة الحال.

اشتهر عنه أنه محاور بارع، خفيف الظل له قريحة متوقدة وفي جوانية نفسه كان يعاني اكتئابًا عميقًا، ويحس بحزن خانق.

بدأ بالكتابة الفلسفية تحت أسماء مستعارة ذات طابع رمزي كعادة العصر، وكانت معظم كتاباته تمردا على النزعة الهيجلية السائدة في زمانه، وفي هذه الكتابات العديدة طوّر الكثير من الأفكار التي ارتبطت فيما بعد بالفلسفة الوجودية، من منظور مؤمن، وهذا لتفريقها عن الوجودية الملحدة عند سارتر على سبيل المثال.

تمحورت كتاباته على دراسة الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، مثل: الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية، واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بجوابها، إذ يكتب: “إن مهمته في هذه الدنيا أن يثير الإشكالات في كل مكان، لا أن يجد لها حلًّا”.


  • حصول القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

للقلق كمفهوم فلسفي، مكانة مهمة لدى كيركيغارد، هايدغر، سارتر وبوفوار. مثّل هذا المفهوم محركاً للمعالجة الوجودية للإنسان والكون وعلاقتهما. في كتابه «مفهوم القلق»، جعل كيركيغارد من إحساس ذاتي مِثل القلق موضوعاً لمفهوم فلسفي. بهذا الكتاب، يرى كثيرون أنه أسّس لنظريات هايدغر وسارتر عن الموضوع، وحتى لفرويد.
لدى كيركيغارد، أن الروح هي التوليف بين النهائي واللانهائي، وهذا التوليف/ التركيب يتم فقط عبر القلق. القلق هو دوار الحرية الذي يولد لأنّ الروح تريد التوليف بين النهائي واللانهائي، بين محدودية الإنسان ولامحدودية الممكن. الروح هي «قوة ملتبسة»، فيما القلق هو الرابط بين الإنسان وبين هذه القوة. يشرح كيركيغارد أن القلق هو «واقع الروح» الذي يظهر دائماً كـ«عدم غامض»، لكنه يختفي مذ نحاول الإمساك به، هو «لا شيء» لكنه قادر على إقلاقنا. القلق هو دوار أنطولوجي (مرتبط بالكينونة) في وجه المطلق الذي تولّده الحرية.

رى مونييه أن الفلاسفة المثاليين «هربوا» إلى الأنظمة التي لم تخدم سوى هدف واحد: العثور على السلام. نظام ديكارت، نظام هيغل، وغيرهما ليست سوى «سدود متعجّلة» في وجه المستقبل ومخاطره. هذه الأنظمة المقفلة لا تريد سوى إلغاء القلق «الذي ينفجر من الأعماق المربكة للكائن».
في المقابل، جاءت الفلسفة الوجودية لتجعل الكائن يقظاً دائماً. تأتي كـ«حملة عقابية»، بتعبير مونييه، ضد هروب «السيستام» الذي يميل إلى نزع ثقل المسؤوليات عن الفرد، لرميها على الأجهزة، الأيديولوجيات، أو الأساطير. الوجوديون يعيدون وضع ثقل «القدر» على كتفي الإنسان وحده، حتى لا «نغفو في عالم من الأوغاد»، كما يقول سارتر.

انطلاق مفهوم القلق عند كيركجارد

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

.ينطوي القلق عند كيركيغارد على معنى مزدوج: نفسي وأنطولوجي. أولاً، على الصعيد النفسي، وانطلاقاً من تحليل النصّ نفسه، يرتبط القلق بالإحساس بالذنب. هنا تظهر التوجهات المسيحية لكيركيغارد، كما ينظر لهذا البعد لديه، بارتباطه بالجنسانية التي مثّلت حجر زاوية التحليل النفسي مع فرويد. ثانياً، على الصعيد الأنطولوجي، إن القلق مرتبط بالخلط بين الذعر والدهشة التي يثيرها العدم والموت لدى الإنسان. أما نتيجة الربط بين هذين البعدين (النفسي والأنطولوجي، الذنب والدهشة) فهي الحرية.
أما كيف يتمّ تجاوز هذا القلق بالنسبة إلى الفيلسوف الدانمركي، فإن الإجابة جاءت على مرحلتين. أولاً عبر الاختيار. بالنسبة إلى كيركيغارد إن الاختيار هو «اللحظة المحظية للوجود». يقول مونييه إن الاختيار «طارد فكر كيركيغارد مثلما طارد همّ الكلية فكر هيغل». برغم كل آلام الإنسان ومآسيه، هو يمتلك أن يختار، الأمر الذي يمكنّه من تجاوز القلق. لكنّ هذا «الحلّ» لم يصمد طويلاً لديه، إذ إنه اقتصر على المرحلة الأخلاقية من مراحل الوجود الثلاث في فكره (إلى جانب المرحلتين الجمالية والدينية). ومثلما آمن إبراهيم بمشيئة الإله حين كاد أن يضحّي بابنه، يرى كيركيغارد أن «قفزة الإيمان» هذه هي الحلّ الأخير للإنسان.
كذلك، أشار مونييه في معرض حديثه عن مفهوم القلق لدى كيركيغارد إلى أن الأخير أجاب على الذين عارضوا التشديد على القلق لديه، مشبّهين إياه بالتعبير عن فكرة «الاضطراب» في الفكر البورجوازي. فأوضح أن لا علاقة للأمرين بعضهما ببعض إلا عندما تتقلص فلسفة القلق إلى «شعار سوسيولوجي».

تكمن جدة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (1813 ـ 1855)، في كونه عمل بشكل أو بشكل آخر على عدم حصر الفكر الفلسفي في دائرة المثالية المطلقة التي أوصلت العقل إلى تحقيق المطلق مع هيجل، حيث لا وجود لفكرة كونية يثبتها ويؤسس لها العقل، وإنما على فتح الفلسفة أمام أفق قديم جديد ألا وهو الجانب الوجودي المتمثل في ربط الانسان بمفهوم القلق،

والذي يصيبه فور تفكيره في الحياة والعالم والمآل.. إذ تبقى أسئلة قائمة بذاتها لم ولن يتمكن العقل بأدواته الصارمة من فهمها، فما بالك بتفسيرها. في هذا الصدد يرى الرجل أن الهروب من القلق يتحقق عبر ثلاثة أطوار،

الأول جمالي
والثاني أخلاقي
والثالث ديني.
. والحال أن كيركجارد خصص في كتابه الذي يحمل مفهوم القلق اسما له، خصص حيزا كبيرا يشرح من خلاله كيفية تشكل القلق ومظاهره وعلاقته بالإنسان.. حيث كانت الحاجة ملحة في هذا الصدد لاقتباس جزء صغير عنونه ب:

مفهوم القلق، على الأقل كي نكسب معرفة أولية حول مفهوم يشكل عشب وجودنا دون أن نعيره اهتماما يذكر، إما استسهالا به أو جهلا له..

في اساسيات القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن البراءة جهل، أو قل إن في البراءة لازال الانسان لم يحدَّد بوصفه عقلا، في المقابل نقول أن الروح توجِد الانسان في وحدة آنية ومتزامنة مع كينونته الطبيعية.
وكنتيجة لذلك فالعقل لازال محط حلم من طرف الانسان،
ـ بخصوص سؤال البراءة ـ
أن يملك الانسان تلك الفطنة القادرة على التمييز بين الخير والشر، وأن يدين كل التخيلات الجديرة بالإطراء للايمان
من ثمة نجدنا في هذه الحالة أمام ثنائية الهدوء والراحة، لكن وفي نفس الوقت يوجد شيء آخر لازال مع ذلك لم يصل إلى درجة القلق أو الصراع، بما أنه لا يوجد ما يستحق أن نصارع من أجله. في مقابل ذلك قد نتساءل قائلين:

وماذا بعد ذلك؟
لاشيء. والواقع أن أثر هذا اللاشيء هو الذي يتولد عنه بعدئذ مفهوم القلق.

وهنا نقول أن السر العميق للبراءة سيكون في نفس الوقت هو الوجه الآخر للقلق.
. إنه لحالم ذاك الذي يعتقد أن العقل يسقط على حقيقته الخاصة والتي هي لاشيء في نهاية المطاف، وإن كان هذا اللاشيء يرى نفسه أنه ليس من البراءة بشيء.
إن القلق يشكل من هذا المنطلق عزيمة للعقل الحالم،
والحق أن لهذا العنوان مكانا متميزا في علم النفس، فالليلة السابقة تطرح هذا الاختلاف بين نفسي، وبين هذا الآخر الذي يسكنني، بينما يقوم النوم بتعطيله وإيقافه، في حين أن الحلم يقترحه كموجة معدومة.. ومن هذا المنطلق فحقيقة العقل تتبدى دوما كوجه يختبر إمكانه، لكنها تختفي فور رغبتنا في الإمساك بها، وذلك بوصفها لا شيئا ليس يريد إلا أن يقلقنا، إنه لامتياز بما أنه ليست لها القدرة إلا على أن تظهر لنفسها..

وتأسيسا عليه، فإنه لم يسبق لي على ما اعتقد أن رأيت مفهوم القلق قد تمت معالجته من طرف علم النفس بشكل مهم، من ثمة سأعمل على ملاحظة اختلافه التام مع مفهوم الخوف إضافة إلى مفاهيم أخرى مشابهة له..

لهذا فالقلق هو حقيقة الحرية، لأنه هو عين الإمكان، ولهذا السبب فإننا لا يمكن أن نجده لدى الحيوان، على اعتبار أن الطبيعة بشكل أدق تفتقد للعزيمة العقلية.
والحال أنه عندما نأخذ بعين الاعتبار الصفات الديالكتيكية للقلق، فإننا لا نجد أنفسنا سوى أمام غموض نفسي..

القلق سيعدو بذلك نفورا تودديا، ونفس الأمر بالنسبة للتودد الذي سيصبح نفوريا، لذا فإني لا أعتقد أننا سنعثر على صفة نفسية أكثر غنى وحمولة من هذا المفهوم وما يرافقه من هذه الصفات. اللغة هنا تزخر بشتى أنواع التأكيدات، لكننا لا نقول مثلا: القلق الهادئ أو الخوف الهادئ، وأيضا: القلق الغريب أو القلق العنيف…

إن القلق الموضوع من طرف البراءة ليس في بداية الأمر خطأ، كما أنه ليس ثقلا يريد أن يجثم عليك، زيادة على أنه ليس ألما سبق له وأن حكم وهو في حالة غبطة بريئة، استغرقوا في مفهوم الطفولة، حينها ستلاحظون القلق مرسوما فيها بطريقة دقيقة كأنه بحث عن مغامرة ما، عن جريمة بشعة، وعن غموض معين. وإن كان لا يوجد لدى بعض الأطفال فإن هذا لا يعتبر دالا على شيء يستحق منا كبير اهتمام، لأنه لا يوجد كذلك لدى الحيوان،

على الأقل إذا كانت هناك روح فهذا يعني أنه سيكون القلق أيضا.
إن هذا القلق يرتبط بالضرورة بالطفل الذي لا يريد أن يتجاوز نفسه، وإن كان يزعجه طبعا هذا الأمر، بل إن القلق الذي يسكنه، يسحره في نفس الآن بناء على خوفه الهادئ..

عند جميع الشعوب التي تحافظ على الطفولة كما لو كانت حلم يقظة تبعثه الروح، يتمكن القلق من أن يجد لنفسه موطئ قدم كبير، بل إن عمقه قياس لعمق الشعوب. من ثمة سيكون من الغباء في أبشع صوره أن نرى شعبا يعيش في دائرة الفوضى وهو يسير على هذا الإيقاع. إن القلق في هذه الحالة ، سيتحول إلى مرحلة لاحقة للحزن والكآبة، حيث الحرية وبعد أن تتمكن من قطع الأشكال غير المطلقة لتاريخها، يتوجب عليها أن تستعيد نفسها إلى درجة بلوغ أقصى أعماقها.

وفي نفس السياق، فلا شك أن العلاقة التي تربط بين القلق وموضوعه، هي علاقة لا تزخر إلا بما هو مبهم (تتحدث اللغة أيضا بكرامة قائلة

: إننا نشعر بالقلق إزاء لاشيء) زيادة على أن المرور على مفهوم القلق في هذا الإطار، لن يتخذ بالخصوص سوى صبغة دياليكتيكية محضة، وهو ما يبين أن هذا الشرح هو ما يجب أن نسير على منواله: فعلى المستوى السيكولوجي فإن القفزة النوعية تبقى دوما معفاة من أية ازدواجية، بيد أن الانسان الذي يرجعه قلقه مذنبا، هو بالضرورة بريء (لأن الذنب ليس ذنبه، بقدر ما أن القلق باعتباره قوة خارجة عن إرادته هي التي تستولي عليه، هي قوة لا يحبها لكنها تخيفه طبعا.)
وفي معرض آخر، سيكون مذنبا بشكل كبير من يغرق في القلق، بعدما كان بشكل قطعي يحب من يخاف منه.
لذا فهل يمكن اعتبار القلق أسوأ غموض عرفه العالم؟

والحال أن هذا هو سبب اعتبار هذا التفسير لوحده من يحمل طابعا سيكولوجيا، وبينما نعتبره تفسيرا سديدا، فإني في نفس الآن أؤكد متباهيا بكونه التفسير الذي تمكن من تحقيق قفزة نوعية. إنه يتمثل أن الدفاع الذي يمنحنا إمكانيات المحاولة، أو الفاتن الذي هو من يخوننا، يتمثله بكونه سيعدو دوما تأويلا من خلاله لا يكفي النفاق قيمة سوى أنه مجرد ملاحظة سطحية لا غير:

إنه يُزيّف بذلك سؤال الأخلاق بأن يكتفي فقط بإنتاج تعريف كمي حول نفسه، وعن طريق السيكولوجيا يبحث على إطراء الانسان على حساب الأخلاق، بحيث سيكون من باب الأدب أن كل أولئك الذين لديهم تربية أخلاقية، سينخفض شأنهم كإغراء جديد أكثر مكرا مما سبق.

يعتبر ظهور القلق بمثابة مركز لكل مشكل. إن الانسان تركيب للروح والجسد، لكن هذا التركيب غير معقول ولا يمكن تصديقه، فإذا كان هذان العنصران لا يجتمعان في ثلث آخر، فإن هذا الثلث هو العقل، إذا تكلمنا بطريقة بريئة، نقول ان الانسان ليس فقط ذلك الحيوان البسيط على غرار الباقي،

هذا فلو كان حقا على هذه الشاكلة في أية لحظة من لحظات من لحظات حياته، فإنه ما كان ليتحول قط إلى إنسان.

فالعقل إذن حاضر ولكن في الحالة الفورية للحلم، وقياسا لحضوره هذا، فإنه سيعدو بطريقة أو بأخرى قوة عدوة، لأنه يبعثر أوراق هذه العلاقة الرابطة بين الروح والجسد، والتي تبقى حية دون أن تعيش، بما أنها تربط العيش بالعقل لوحده. وفي معرض آخر يمكن القول أن العقل قوة صديقة متلهفة طبعا لتأسيس العلاقة سابقة الذكر،

فما هي يا ترى العلاقة التي تربط بين الانسان وهذه القوة المبهمة؟

هل تكمن في العقل مع نفسه ثم شروطه المكونة له؟

إن هذه العلاقة هي المؤسسة للقلق، أو قل إنها القلق عينه، مادام عندما يتخلص من نفسه يمنعه العقل عن القيام بذلك،

بيد أن هذا الاستيلاء الذي يمارسه العقل يحصل طالما أن طبيعة هذه الأخير التي توجد خارج نفسه غارقة في الحياة النباتية. من ثمة فالإنسان ليس يُعرّف من هذا المنطلق بوصفه عقلا، مادام لا يستطيع الانفلات من القلق لأنه يحبه، وبما أنه ينفلت منه ـ

القلق ـ فهذا دليل على أنه يحبه. وفي هذه اللحظة تبلغ البراءة أوجها، إنها لجاهلة لكن ليس بحيوانية البهائم، فهي الجهل الذي يحدد العقل، وهذا هو عين القلق على وجه التحديد، لأن جهلها هذا يتمحور على العدم، ليس يهمنا هنا التعرف على وجه الخير من الشر في هذا الأمر. لهذا فحقيقة المعرفة بمجملها تبرز في القلق باعتباره العدم الهائل للجهل

.
وفي نفس الآن أيضا، فالإنسان مفهوم يدخل ضمن باب البراءة، لكن تكفي كلمة واحدة كي يتركز الجهل بالفعل، وإن كانت كلمة غير مفهومة بشكل طبيعي إزاءه ،

بيد أن القلق عندما حصل على فريسته الأولى، تمكن من أن يكتسب صبغة غامضة بدل التي كانت متعلقة بمفهوم العدم.
عندما نُسَلّمُ أن الدفاع يوقظ الرغبة، فإننا نكون أمام مطلب المعرفة بدل السقوط في الجهل، حيث توجب في هذه الحالة أن يكون آدم على معرفة سديدة بمفهوم الحرية، بدل أن يخدم رغبته،

وهذا هو التفسير الذي يمكن أن يأتي بعديا. إن الدفاع أقلق آدم لأنه أيقظ فيه إمكانية الحرية. إن ما يقدم للبراءة كعدم للقلق تداخل الآن مع نفسه، مما يجعله غير متمكن من الانفلات من قبضة العدم.. لهذا فعندما لا نستطيع القيام بشيء، معناه أننا لا نملك فكرة حوله، وإلا فإنه سيفترض ما سيأتي لاحقا، ألا وهو الوقوف عند الفرق بين الخير والشر.. وعليه فإنه ليس لآدم سوى إمكانية السلطة كشكل متفوق للجهل، كتعبير عال للقلق، لأنه انطلاقا من هذه النقطة الأكثر سموا نقول إن القلق موجود وغير موجود أيضا. والذي يتجلى لدى آدم في حبه للرغبة والهروب منها في نفس الوقت.

المراجع

معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي.

كيركجارد، تصوف المعرفة، وليام هبين.

عمل حب مع المحبة، سورین کیركجورد، ترجمة وتقديم فؤاد كامل.

سورين كيركجارد / خوف ورعدة، ترجمة فؤاد كامل.

كيركجارد، فريتيوف برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد