هل كان الإمام الغزالي(ت. 505ه)عدوا للفلسفة والرياضيات

هناك كذبة ساذجة تشيع في الأوساط العلمية الغربية مفادها أنّ الإمام أبا حامد الغزالي (450-505 هـ) كان صاحب دور كبير في انحطاط الأمة الإسلامية علميّا وفكريّا، والسبب أنّه حارب الفلسفة، هكذا بهذا التعميم!

يخرج علينا عالم الفلك الأمريكي نيل ديجراس تايسون (Neil deGrasse Tyson) ليزعم بأنّ الإمام الغزالي كان يقول إنّ الفلسفة والرياضيات من عمل الشيطان ويحرّمها، ولينسب له سبب انهيار الحضارة الإسلامية! وليزعم في محاضرة أخرى أنّ للغزالي تفسيرا للقرآن (ولا يوجد للغزالي تفسير) وأنه قال في هذا التفسير إنّ التعامل مع الأرقام هو من عمل الشيطان، وأنّ هذا قد قطع الطريق على أي تقدّم في الرياضيات!

وبغضّ النظر عن كون تايسون يسرد الكثير من الأكاذيب؛ كتحريم الغزالي للرياضيات وكلامه عن الأرقام وأنّ له تفسيرا للقرآن وغير ذلك.. بغض النظر عن هذه الأكاذيب التي لا حقيقة لها، فقد كان للإمام أبي حامد الغزالي تعاملٌ علمي جدّا مع الفلسفة، بدأه في كتابه “مقاصد الفلاسفة” والذي حاول فيه عرض مضمون الطرح الفلسفي في عصره بشكل موضوعي قبل نقده، ثم أكمل هذا الجهد العلمي في كتابه “تهافت الفلسفة”، الذي ذكر فيه ما للفلاسفة من علوم: هندسية ومنطقية وطبيعية وإلهية، ثم بيّن أنّ مجال النقد هو علومهم الإلهية حيث قال: “..انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردّا على الفلاسفة القدماء مبيّنا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلّق بالإلهيات”.


بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف

وليتأكد لدينا أنّ الغزالي لم تكن لديه مشكلة مع علوم الفلاسفة الرياضية، بل مشكلته مع الظنّ والخبط في مجال الإلهيات، نجده يقول في كتابه بعد ذلك عنهم: “ويستدلّون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقيّة عن التخمين كعلومهم الحسابية؛ لَما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية”.

لم يكن الغزالي إذن عدوّا للرياضيات، بل واضحٌ ممّا نقلنا عنه أنّه كان يعتبر علوم الفلاسفة الحسابية “متقنة البراهين نقيّة عن التخمين” كما وصفها. ومن يقرأ الغزالي في الحقيقة سيعلم أنّ هذا الاتهام له لا يخرج إلا ممّن لم يقرأ للغزالي ولم يعرف أنّه أحد عباقرة الأمة الإسلامية، فقد كانت له ثقافة علمية ممتازة قياسًا على عصره، ينبئ عنها ما ذكره في كتابه “المنقذ من الضلال” حين كان يحكي تجربته في الشك بالمحسوسات، حيث قال: “وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار، ثم الأدلّة الهندسية تدلّ على أنه أكبر من الأرض في المقدار”.

وقد بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف: الرياضية والمنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية والخُلقية. وقال عن علومهم الرياضية: “وليس يتعلّق شيءٌ منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها”.

بل قدّم لنا درسًا علميّا مهمّا حين تحدّث عن إحدى الآفات المتعلّقة بقسم علومهم الرياضية، والتي وصفها قائلا إنها: “نشأتْ من صديق للإسلام جاهل، ظنّ أنّ الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كلّ علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادّعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أنّ ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشكّ في برهانه، لكن اعتقد أنّ الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبّا وللإسلام بغضًا. ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”. اه.

فكيف يُقال بعد قراءة هذا الكلام للغزالي إنّه كان سببًا في انحطاط العلوم وإنّه كان يحرّم الرياضيات ويقول إنّها من عمل الشيطان كما يزعم تايسون؟! إنّ تايسون وأمثاله يعتمدون على أنّ الناس ينسبون الفلسفة للعقل والتفكير والإبداع، ولذلك يُعتبر كل ناقد للفلسفة في عداد المتخلّفين المتحجّرين من أعداء العقل والتفكير والإبداع! وهي نظرة موغلة في السطحية والتفاهة، لا يحملها إلا أصحاب الثقافة الضحلة.


كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية

لقد كان الغزالي واعيًا بطبيعة الفلسفة في عصره، ولم يكن يناقش كلام الفلاسفة في الإلهيات عن جهل منه، بل بعد دراسة كلامهم وتقسيم علومهم على النحو الذي ذكرناه، وقد أخبر بهذه الدراسة للفلسفة في كتابه “المنقذ من الضلال” قائلا: “فعلمتُ أنّ ردّ المذهب قبل فهمه و الاطلاع على كنهه رميٌ في عماية، فشمّرتُ عن ساق الجدّ في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرّد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنوّ بالتدريس والإفادة لثلاثمئة نفر من الطلبة ببغداد. فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرّد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكّر فيه بعد فهمه قريبًا من سنة، أعاوده وأردّده وأتفقّد غوائله وأغواره، حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل، اطلاعا لم أشك فيه”. اه.

قارن الآن بين كلام الغزالي هذا وكلام تايسون السطحي في محاضراته، لتعلم مقدار الهوّة بين من تكلّم بعلم وعدل وبعد دراسة وتدبّر استمرّت لثلاث سنين، وبين من لم يكلّف نفسه قراءة صفحة واحدة من كتاب للغزالي حتى يعلم أنّ ما يتّهمه به لا حقيقة له!

لقد كان الغزالي في الواقع أكثر علميّة في تعامله مع الفلسفة من الكثير من فلاسفة الإسلام الذين وُصفوا بالعقلانية والإبداع. وإنّها لظاهرة غريبة جدّا أن توصف العقلية العلمية للغزالي، وهي الأقرب لمنهج التفكير العلمي، بالجهل والتخلّف، وأن يُنسب إليها انحطاط العلوم الإسلامية، بينما يوصف بالعقلانية مَن ابتلع كلام الفلاسفة السخيف في الإلهيات، كابن سينا والفارابي وأمثالهم ممّن سُمّوا زورًا “فلاسفة الإسلام”!

سبب ذلك في نظري هو تلك النظرة الساذجة الشائعة بأنّ الاشتغال بالفلسفة دليلٌ على العقلانية، وأنّ معارضتها دليل على التخلّف. ولو اطلع أصحاب هذا التفكير السطحي على ما تابع به الفارابي وابنُ سينا فلاسفةَ الإغريق في نظرية الفيض، وكلامهم عن العقول العشرة، وأنّه قد فاض عن العقل الأول عقلٌ ثان ونفس فلكية وجرم سماوي، وعن العقل الثاني فاض عقلٌ ثالث ونفس فلكية وجرم سماوي.. هكذا وصولا إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال في العالم، وكلامهم عن تسلسل الموجودات، ومحاولاتهم الساذجة في التوفيق بين هذا الهراء كلّه وبين العقائد الإسلامية.. أقول: لو اطلعوا على كتابات هؤلاء الفلاسفة في المسائل الإلهية لهالَهُم مدى السخف المتمثّل في البتّ بأمور غيبية دون دليلٍ من علم أو وحي!


إذا كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات

ولقد درسنا بعض نصوص الفارابي في الجامعة قديمًا، فتعجّبنا ممّا حشا به كتابه من زعمٍ لأمور غيبية حول نشأة الخلق والفيض وتسلسل الموجودات دون أي دليل عليها، فحاصل كلامه فيها أنّه يدّعي هذه الأمور الغيبية ولا يجلب دليلا عليها، لا دليلا علميا ولا دليلا من الوحي، ولا شكّ أنّ هذا الكلام مخالف للمنهج العلمي. ومن هذا المنطلق كان الغزالي معارضًا شديدا للفلاسفة، لا لعلومهم المستندة إلى براهين علمية كالرياضيات، بل لخبطهم وتخليطهم في الإلهيات، ولذلك وجدناه يقول عنهم في “تهافت الفلاسفة” إنّهم “..لا تثبّت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنّهم يحكمون بظنّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين”.

لقد كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية، وما انتهى إليه من يقين.

مع التأكيد على أنّنا وإنْ كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات، ورأيناه يحشو كتبه بالأحاديث الموضوعة والقصص المنكرة، فنتج عن ذلك أنّه استند إلى مصادر غير علمية وبعيدة عن الوحي في بناء فلسفته وتصوّره الإيماني والأخلاقي.

لكنّا نردّد مقولة الإمام الغزالي ردّا على تايسون وأمثاله ممّن يتّهمونه بمحاربة العلوم: “ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”.

الفيلسوف كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة مفاهيم الفلسفة هل تتقاطع مع السياسة عند كارل ياسبرز..

كنت على الدوام أجد في تفكير كارل ياسبرز شيئًا يستفزني ويثير فيَّ «غريزة القتال»، وربما لم يكن في وُسعي أن أصف هذا الشيء على وجه التحديد، ولكني أستطيع أن أعبِّر عنه — على نحوٍ لا يخلو من الغموض — بأنه ذلك التناقض بين نزعة إنسانية يدَّعيها في كتاباته ويحرص على أن يؤكد إيمانه بها، ونزعة غير إنسانية تؤدي إليها هذه الكتابات إذا ما نظر إليها المرء بعين النقد والتحليل، ولم يكتفِ بأخذ أقواله على علاتها، أو قلْ إنه التناقض بين كلماتٍ ظاهرة تفيض اعتزازًا بالعقل، ومعانٍ باطنة تهدم ما يستند إليه العقل من ركائزَ عميقة.

ولقد كان من الطبيعي أن يظل حكمي هذا على ياسبرز غامضًا؛ لأن الأساس الوحيد الذي كان يرتكز عليه هو تلك الكتابات التي تنتمي إلى مرحلته الفلسفية الرئيسية، وهي المرحلة التي توقفت عند أوائل الثلاثينيات، وتتميز هذه المرحلة بأن كتاباته فيها كانت نظرية في الغالب، تنتمي إلى مجال علم النفس أو الفلسفة. ولكن ظهور وانتشار مؤلفات المرحلة الثانية من حياته الفكرية — وهي المرحلة التي بدأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي يعالج جزءٌ غيرُ قليل منها موضوعاتٍ سياسيةً أو حضارية — ساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الاتجاهات الحقيقية لتفكير ياسبرز ولطريقته في النظر إلى المشكلات التي تهدِّد عالمنا المعاصر. وعلى الرغم من أن مؤلفات هذه المرحلة الثانية ليست أهم ما كُتِبَ، فإنها قد كشفت عما كان مستورًا، وأظهرت بصورة صريحة ما لم يكن يتوصل إليه المرء من قبلُ إلا بصورة ضمنية.

•••

في كتاب «الموقف الروحي للعصر» — الذي ألَّفه ياسبرز عام ١٩٣٠م — يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلًا يردِّد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمُّق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله — في رأيه — عصرُ الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيمُ الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدَّد شكل حياته في المستقبل.

وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذرَ في إغفاله كلَّ ما عدا الغرب في الفترة التي ألَّف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحدَه هو المحور الذي تدور حوله كلُّ أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عامًّا بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل — أعني في الصين — وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، رُوح جديدة سَرَت في شعوبٍ ذات حضارات عريقة، وهي رُوح لا يعود من الصعب معها — لكل مفكر فاحص — أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوجَ ازدهارها.

وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدِّد — في مقدمة كتابه هذا — المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيَّأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهْم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقًا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولَّد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمةَ تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.

وحين يحدِّد ياسبرز السمات التي تميِّز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدُّم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمةٌ تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمُّع العفوي العابر المفتقَر إلى التنظيم، الذي يَسهُل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفرادُه ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملَّقها الحكام ويتقرَّب إليها قادة الرأي العام.

ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها — في عصرنا الحاضر — تُنظَّم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتمُّ كلُّ شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباءً، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تَعُد الآلةُ أسلوبًا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضًا أسلوبًا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.

لقد أصبح العمل اليومي رتيبًا متكررًا مملًّا لا هدف له، «أصبح الإنسان محرومًا من العالَم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرَّد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة — مهما اتسع معناها — لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.

إن العصر الحاضر يَرُدُّ الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسانُ لذة الاستمتاع بالتجارِب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تُتاح للإنسان في عالمٍ كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقُبٍ أشبهَ ما يكون بلقطاتٍ متقطعة في شريط سينمائي يُعرض في سرعة لاهثة.

فهل نجد للفرد مكانًا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلًا لأن يُسْتَغْنَى عنه، ويمكن أن يَحُلَّ أي فرد آخرَ محله، ما دامت ماهيته لم تَعُد شخصيته الفريدة المميزة، أو كِيانه الحق الذي لا يُسْتَبْدَل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتَحُل الكفاءة والفعالية — أيْ حُسْن أداء الوظيفة — محلَّ العبقرية.

ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنانَ للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناسَ أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلقٌ ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقًا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهُوَّة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه.

•••

لست أود أن أستطرد طويلًا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز — في أول الثلاثينيات — للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالمٍ لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها — على أية حال — صورةٌ مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرًّا مستطيرًا يهدِّد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آنٍ واحد.

هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهلٍ غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثَّل في التقدُّم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدْرِ الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدُّم التكنولوجي قد وُجِدَ ليبقى، وليس ثمَّة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقًّا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحةِ صخرةٍ نعلم مقدمًا أنها لن تتحطم.

على أن هذا لا يعني أنَّ نقْدَ العصر محرَّمٌ على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدًا لعصره بمعنًى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصبَّ على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدالَ في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيلٌ بأن يوصلنا إلى نتيجةٍ ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.

فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثيرٌ إيجابيٌّ على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالًا تامًّا، ولنضربْ لذلك مثلًا واحدًا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يُدْخِلَ في بيته روائعَ الأعمال الفنية، كالنُّسَخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أُتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصةٌ الاستمتاع بتجارِبَ روحيةٍ عميقة لم تكن متاحة من قبلُ إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مَثَلٌ واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تُحْدِثَه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصوَّر تضادًّا زائفًا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلَّم به — في هذا المجال على الأقل — دون نقد أو تحليل.

على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثَّله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنًا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهدِ ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقْدٍ يوجَّه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي — في جميع عهوده، أو في عهدٍ واحد منه على الأقل — كان يتصف بكلِّ ما يفتقر إليه الحاضر من قدرةٍ على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عنايةٍ بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدِّد فترةً معيَّنةً في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجةٍ تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيًا قاطعًا.

وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبقَ إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذاتُ طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية — بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل — فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصِّص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غيرَ سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك — بلا شك — نظرةٌ رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتمًا إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قُورن بأي عصر سابق.

في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كلَّ ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم — في رأي ياسبرز — لا بُدَّ أن يكون قاصرًا محدودًا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسانُ المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمَد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.

وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبيِّن حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجةٍ دائمةٍ إلى إيمانٍ يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانبَ أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حدٍّ يَحُسُّ معه المرء بأنه يتحول تدريجيًّا إلى شخصٍ معادٍ للعلم، وبأنه يسعى عامدًا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسِّع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا — وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبلُ — بانطباعٍ عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيًّا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملًا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسعُ من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز — في نقده للعقل العلمي — يعطي المرء إحساسًا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.

ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفاتٍ من النوع الذي يعاديه، يوجِّه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهمٍ للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحةً في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيِّب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» — وهو كتيِّب ينتمي إلى فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية — يوجِّه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلًّا منهما مفتقرًا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزًا على إيمانٍ متنكِّر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفةٍ محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.

فكلُّ علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقًا، وتعبير «العلم الشامل» تناقضٌ في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدَها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوينٍ مركَّب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوعٌ من المنهجية المنظَّمة التي تعلِّمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدَّد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدمًا ونوجِّه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلمَ أداةً للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.

على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوُزَ حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائمًا من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلةً لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل — في رأي ياسبرز — أشكالًا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعًا شاعريًّا عند نيتشه أو علميًّا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكِّر أشبهَ بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارًا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدًا كبيرًا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.

ولكن هل يحق لياسبرز — في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم — أن يوجِّه إلى خصومه نقدًا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدمًا إيمانًا بالعلم يتجاوز بكثير نطاقَ الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طَوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءًا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرًا من مظاهر ضَعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصومًا ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذٍ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني — على أية حال — هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز.

•••

مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدُّم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم — في أغلب الأحيان — مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداةً لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجزٌ في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزًا، فلو حكمنا على ياسبرز بناءً على فلسفته النظرية وحدَها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.

على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحوٍ لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهاتٌ تندرج قطعًا ضمن الفئة التي يُطْلَق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.

ولسنا نود أن نتحدَّث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عُولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابًا آخرَ يلقي على آرائه السياسية ضوءًا ساطعًا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يُعَدُّ من أواخر ما كتب.

كان ياسبرز قد أدلى بحديثٍ تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ Thilo Koch»، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرًا إلى ما تضمنه من آراءٍ غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة Die Zeit الألمانية عام ١٩٦٠م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات — بالإضافة إلى الحديث الأصلي — هي التي تؤلِّف مادة هذا الكتاب.
ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسِّم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدِّم إلى الجماهير الغفيرة وعودًا لا تحقِّقها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.

والموضوع المباشر الذي يتصدَّى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلَّى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك — على أية حال — حدودٌ حديثة نسبيًّا، لا ترجع إلى أكثرَ من سبعين عامًا (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركِّزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.

إن ياسبرز ينظر إلى ألمانيا الشرقية لا على أنها دولة، بل على أنها «إقليمٌ اعتدَت على استقلاله سلطةٌ أجنبية»، ثم يتساءل: «كيف يمكن إنقاذ إخواننا في الشرق من العبودية؟ أليس هناك طريق سوى إعادة التوحيد؟» إن هذا الطريق يؤدي إلى ظهور النزعات الوطنية المتطرفة التي عانت منها ألمانيا في أيام هتلر؛ ولذلك يَرُدُّ ياسبرز بقوله: «إن الوحدة التي تهمنا اليوم هي الوحدة الكونفدرالية لأوروبا، ووحدة أوروبا مع أمريكا» (ص٢٥ من الترجمة الفرنسية).

وفي رأي ياسبرز أن الوضع الحالي في ألمانيا، وإن كان قد ترتَّب على الحرب، فإنه لا يمكن أن يتغيَّر بالحرب؛ لأن القنبلة الذرية ستقضي عندئذٍ على الجميع (ومعنى ذلك أنه لو لم تكن هناك قنبلة ذرية، لكان من الجائز أن يدعو ياسبرز إلى تغيُّر هذا الوضع بالحرب!) إن وضع التقسيم هذا هو الجزاء الذي استحقه الألمان نتيجة لتعاونهم مع هتلر، وعلى الألمان أن يتحملوا مسئوليتهم من ذلك، ولا يحاولوا إعادة دولة بسمارك، وإلا تسببوا في فناء البشرية، كما كانوا منذ عام ١٩٣٣م سببًا في تعاستها.

وفي هذا الصَّدد ينبغي أن نعود إلى الرأي الذي عرضه ياسبرز في كتابٍ آخرَ ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هو «الذنب الألماني». في هذا الكتاب يفرِّق ياسبرز بين مفهومين رئيسيين متعلقين بفكرة الذنب؛ فهناك الخطأ الأخلاقي والجريمة من جهة، والمسئولية السياسية من جهةٍ أخرى، أما الخطأ الأخلاقي فلا يمكن أن يُنْسَبَ إلا إلى عدد قليل من الألمان، والجريمة بالذات لم يقترفها إلا عدد قليل جدًّا منهم! وأما المسئولية السياسية فشيء يختلف عن ذلك كلَّ الاختلاف، «فمَنْ كان يعيش في بلد، ولم يهاجر بحيث لا يعود متضامنًا مع الدولة، ومَنْ لم يتصدَّ لمنع الجريمة في هذا البلد مسئولٌ سياسيًّا، ويجب أن يتحمل تبعات مسئوليته مع المذنبين الآخرين.» وإذن فعلى الألمان أن يتحملوا انقسامهم بوصفه نتيجةً ضرورية لمسئوليتهم السياسية عن العهد النازي.

فإعادة التوحيد إذن مطلبٌ ثانوي نسبي، أما الحرية فهي المطلب المطلق، وإذا لم يكن ثمَّة مفر من الاختيار بين الأمرين، فإن للحرية الأولوية دون أدنى شك، ومع ذلك فإن الألمان في رأي ياسبرز يحتاجون إلى مران طويل على الحرية؛ لأنهم اعتادوا الاستبداد وأيدوه طويلًا، وقد أورد ياسبرز في كتابه نصَّ محادثةٍ عجيبة دارت بينه وبين أحد المسئولين الأمريكيين، سأله فيها هذا الأخير عن رأيه في إدخال نظام برلماني في ألمانيا بعد الحرب مباشرة، فكان من رأي ياسبرز أن الحرية ينبغي أن تُمْنَحَ بالتدريج لشعبٍ لا يقدِّرها ولم يعتدْها بعدُ، وأن الحرية المفاجئة قد تؤدي إلى هدم بذور الحرية الأولى في نفس هذا الشعب، بينما كان رد الأمريكي (الذي وجدها فرصةً لا تُعَوَّض) هو أن الأمريكيين لا يستطيعون الانتظار طويلًا في منح الحرية؛ لأن هذا «ضد مبادئهم» (ص١٠٣–١٠٥).

ويلخِّص ياسبرز موقفه في هذا الصدد فيقول: «لو تعاونَّا دون قيد أو شرط مع الغرب بأكمله — تحت السيطرة الفعلية لأمريكا — لأمكننا أن نضمن الحرية السياسية الداخلية، وأن نضمن كذلك أمنًا نسبيًّا، هو الوحيد المتاح لنا في الموقف العالمي الراهن؛ فالحد من سيادتنا هو شرط بقائنا، وهو وحدَه الذي يحمينا من روسيا، وكذلك من القوى التي تفجَّرت داخلنا أيام حكم هتلر» (ص١١١). ومن هنا كان ياسبرز يعارض الأصوات التي دعت — من بين صفوف اليمين ذاته — إلى وقوف أوروبا ضد أمريكا، أو استقلالها عنها مثل ديجول، ويتخذ من أديناور في تهالكه على أمريكا مثلًا أعلى له.

والحق أن الضجة التي أثارتها آراء ياسبرز هذه إنما تدل على أنه برغم خضوعه الذليل للغرب ولأمريكا بالذات، التي يؤكد أنها هي مصدر نعمة ألمانيا الغربية («أننا في ألمانيا الغربية أحرارٌ بفضل كرم المنتصرين لا بفضلنا نحن»)؛ برغم هذا كله، لم يستطِع أن يحظى باحترام مواطنيه أنفسهم، حتى لقد علَّق مراسل إحدى الصحف على آرائه بقوله: «لقد أطلق كارل ياسبرز في مقابلته التليفزيونية قوى المعارضة الساخطة من الأحزاب والمنظمات السياسية والجرائد اليومية في الجمهورية الاتحادية، والواقع أن خروشوف نفسه لم ينجح أبدًا في أن يثير ضده مظاهرة إجماعية كهذه!»

تلك المقارنة بينه وبين خروشوف — الخصم الأكبر لألمانيا الغربية في ذلك الحين — ليست مجرد مبالغة كلامية، بل هي تحمل دلالة ضمنية عميقة، هي الفرق بين الاحترام الذي يلقاه الخصم العنيد المتمسك بموقفه، والازدراء الذي يقابل به النصير حين يكون متهالكًا متداعيًا، «ملكيًّا أكثر من الملك». ألم يصل حقد ياسبرز إلى حد التفكير في أمورٍ لا تجلب عليه سوى السخرية والازدراء؟ لقد أعرب مثلًا عن خوفه من أن تؤدي قلة الأيدي العاملة في ألمانيا الشرقية (التي يسميها دائمًا بالمنطقة المحتلة أو ما شابه ذلك من الأسماء) إلى قيام الروس بجلب عدة ملايين من الصينيين للعمل فيها، فيكون في ذلك أيضًا حلٌّ لمشكلة زيادة السكان في الصين (ص١٢٩).

•••

إن مشكلة ياسبرز الكبرى في هذا الصدد هي أنه — برغم كل قدراته الفكرية التحليلية — لم يحاول لحظة واحدة أن يتوقَّف ليسائل نفسه عن معنى «الحرية» السائدة في العالم الغربي، ولم يبذل أي جهد لتحليل هذا المفهوم، وهو الذي كتب من الصفحات ألوفًا مؤلفة في تحليلِ مفاهيمَ أقلَّ أهميةً بكثير من هذا المفهوم الحيوي. حقًّا إنه حلَّل معنى الحرية في مواضعَ أخرى، ولا سيما في كتابه الأكبر «الفلسفة»، ولكن ما كان يعنيه عندئذٍ كان الحرية الوجودية، التي هي جزءٌ من كِيان الإنسان، لا الحرية السياسية أو الاجتماعية التي يكتسبها بعض الناس ويفقدها البعض الآخر، والتي يحتاج بلوغها إلى جهد وكفاح.

ولم يحاول ياسبرز أن يتجاوز نطاق الحرية الشكلية الظاهرية في العالم الغربي لينفذ إلى العوامل الخفية المعقَّدة التي تتحكم في تشكيل الرأي العام الغربي دون وعي منه، بحيث يبدو هذا الرأي العام معبرًا عن نفسه وهو في حقيقة الأمر يردد آراء القوى الخفية التي تتحكم في الصحافة والإذاعة ووسائط التعبير المختلفة، عن طريق الإعلان والسيطرة المالية والإدارية.

لم يحاول ياسبرز أن يقارن بين حرية الغرب المزعومة داخل بلاده، وبين استعباده للشعوب المستعمرَة، واستنزافه لموارد الشعوب شبه المستعمرة، ولم يرتفع له صوتٌ يندِّد بهذا النوع من العبودية والاسترقاق، بل إن بكاءه كله لم ينصب إلا على «مواطنيه في الشرق»!

لم يحاول ياسبرز أن يفكِّر بعمق في معنى تلك الحرية التي تكون حصيلتها النهائية هي شن الحروب وإحاقة الكوارث بالشعوب. وإنصافًا له أقول إنه تنبَّه في أحد مواضع كتابه إلى الفارق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية، وكان ذلك في صدد الحديث عن تلك الأغلبية التي اقترعت في ألمانيا لصالح هتلر، فقال: «عندما تقوم أغلبية بهدم الحرية ذاتها، وتجعل شخصًا خارجًا عن القانون يفعل ما يحلو له، لا تعود تلك الأغلبية ديمقراطية.» وهذا رأي صحيح كلُّ الصحة، ولو طبقناه على تلك الأغلبية التي اقترعت لصالح جونسون؛ لأصبح الكلام متسقًا كلَّ الاتِّساق، ولانطبق بدقةٍ على موقف الناخب الأمريكي الذي يظن نفسه «حرًّا» إزاء سفاح فيتنام، ومنكر الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكن ياسبرز — للأسف البالغ — لم يقُم بهذا التطبيق.

وعلى أية حال فقد عاش ياسبرز ليشهد أعنفَ مراحل حرب فيتنام وأكثرها وحشية، ولم يرتفع له صوتٌ باستنكارها، وكذلك عاش ياسبرز ليشهد أبشع فصول المأساة الفلسطينية، ولكن هذه — على أية حال — قصة أخرى؛ فقد كانت زوجته يهودية، وكان لها عليه — فيما يبدو — سلطان غير قليل.

•••

إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من قراء هذه المقال سوف يحتجون بصمت لأني حاسبت ياسبرز فيه على آرائه السياسية في الوقت الذي كانت رسالته فيه — طوال الجزء الأكبر من حياته الفكرية — فلسفيةً قبل كل شيء، على أن ياسبرز ذاته كفيلٌ بالرد على هذا الاحتجاج؛ إذ هو يدافع بقوةٍ عن تدخل الفلسفة في السياسة، مؤكدًا أن الفيلسوف قد لا ينجح في أمور السياسة اليومية التفصيلية، ولكنه قادر على أن يلقي ضوءًا ساطعًا على السياسة البعيدة المدى، والاتجاهات العامة لشئون الحكم، وهو يرفض بشدة الرأي الذي يتهم الفلسفة بأنها خيالية واهمة، تشيد قصورًا في الهواء، ويدافع عن حق الفيلسوف في أن يتدخل في الأمور السياسية، بل يؤكد أن من واجب الفلسفة أن تواجه الواقع وتتغلغل في صميم الحياة (ص١٨، ١٩).

ولقد أكد ياسبرز — في مستهل الحديث التليفزيوني الذي أشرت إليه من قبلُ — أن الفلاسفة كانوا على الدوام يُبْدُون آراءهم في السياسة، وأن هذا يَصدُق على أعظم الفلاسفة في التاريخ، مثل «كانْت» وهيجل ونيتشه (ومن قبلهم أفلاطون بالطبع)، ولنستمعْ إليه وهو يقول: «لقد بَدَتْ لي الفلسفة منذ شبابي شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن مجرد قراءة كتب بديعة أو البقاء بمعزل عن العالم؛ فهي — على عكس ذلك — بدت لي شيئًا يرشدني ويبعث فيَّ القوة عن طريق فهْم الواقع الحاضر لعالمي ولذاتي … ففي الوقت الحالي — وبالنسبة لي على الأقل — يبدو لي من الواضح أن الأرستقراطية (الفكرية) أصبحت اليوم عتيقة بالية، وأن الإنسان الذي يفكر ويريد أن يفعل شيئًا ينبغي له أن يسير في الطرقات إن جاز هذا التعبير، وأن الفلسفة يجب أن تُثبِت — من الآن فصاعدًا — أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس» (ص١٩٥-٦).

ذلك هو رأي ياسبرز في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، فهل يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة التي توصَّل إليها فلسفة «تسير في الطرقات» هي أن الغرب — بزعامة أمريكا — هو وحدَه حامي حمى الحرية في العالم المعاصر؟ هل هذه هي الصيغة التي يمكن حقًّا أن «تنتشر بين الناس»؟ ذلك — على أية حال — هو المدى الذي بلغه تفكير ياسبرز السياسي.

مفهوم النفس الإنسانية في الفلسفة الديكارتية

كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز و لكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد.
في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه.
هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة و خاطئة و جب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، و هذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. و هذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول أن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الانقليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية.
الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد و متعالي عليه.
عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، و الامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. و بهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين:
لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده.
و كذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ.
و عندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. و يغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، و ماهية الفكر في التأمل الثاني، و وجود الله في التأمّل الثالث و الرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. و يبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد و التي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد.
و لا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد و ذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد و النفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. و لكن لماذا لم تعتبر “التأمّلات” هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟
إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في “التأمل الأول” هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا” ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، “ثالثا” إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) و بطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم و النفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، و ينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين و لذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات و لكنه يكون مكملا له. و هذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات.
عملية توحيد الجسد و النفس في كتاب “الانفعالات” متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند “سبينوزا” و “لايبسيز” و إنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض و خالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات ؟

عند أرسطو و لتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة و من مادّة و الصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة و ذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل و نقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. و بهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإلاه وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. و هذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. و علاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل و معنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. و لهذا فتكوين جوهر معين يفهم “بالفعل” (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل.
و هذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار و ذلك لعدّة عوامل:
لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل.
لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود و كذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. و من هذه الزاوية لم تعد “الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. و عندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام و يعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط.
لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد و هذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. و بالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر Symétrie بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.

لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في “أي شكل” التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للأنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد. فكيف تتحدّد النفس في التأملات ؟

تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة : على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر و على نطاق الذهن. و هذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت و لأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر و يبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد و هو “الكوجيتو”. يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول و في التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن أن لا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، و لكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. و هذا يمثل نوعا من المفارقة “Paradoxe” لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. و هذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو و كأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله و هي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد.
نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول و التأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. و لكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. و وجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. و ماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر و كذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي Modale، ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية و خاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما و لهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع.
و تتمثل إشكالية هذا النّص في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك و التجربيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم و الرائحة و الحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. و النتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاث مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد :
1) الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية.
2) وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية.
3) إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر.
4) الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور.
أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل و نعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. و لذلك فكلمة “أيسر” تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب.
ذلك “أن الفكر أسبق معرفة من الجسم” هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار و نحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة.
بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي “substra” أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا “المسبب لذاته”. فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة).
و من هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد و النفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنتربولوجية، و نعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة و إنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، و هو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. و لكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا “الموقف الانثربولوجي” ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد و بساطة هذه النّفس و توحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب “الانفعالات” حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق و أيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب “الانفعالات” لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل و جملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب “التأمّلات” وإنما لكتاب “الانفعالات”.
إنّ النظرة الديكارتية للإنسان و التي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنتربولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. و هذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، و عن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة و عقل من جهة أخرى، و لكن لا العقل و لا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف ؟
إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة و تبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة و انفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، و هذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. و النظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل و لو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات و لا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنتربولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت و حدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده و نفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس و الجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، و إنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا و الجسد مجموعة حركات و انفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، و تعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد و الفكر.

نفي الفعل المتبسبب.
علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل.
التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه.
و يظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، و هذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم و بالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. و بصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة و بين الانفعالات المنفعلة ( ليس له نفس المعنى عند سبينوزا و ديكارت، فعند ديكارت ” تختلف جوهريا عن ذلك لأن هي تابعة للروح و تابعة للجسم.

لعل أكبر حدث في تاريخ البحث الفلسفي المتعلق بسبر أغوار النفس الإنسانية منذ عهد سقراط الذي دعا الإنسان إلى معرفة نفسه هو اكتشاف مبدأ الكوجيطو على يد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. يمثل هذا الحدث ثورة حقيقية في حقل الممارسة النظرية التي تجعل من التفكير موضوعا لها. ولفهم هذه الثورة لابد من إلقاء ولو نظرة خاطفة على تاريخ هذه الممارسة قبل مجيء ديكارت ليتسنى لنا إدراك وفهم مدى عمق التغير الذي أحدثه “أب العقلانية الحديثة” في النظرة إلى الذات المفكرة وطريقة التفكير فيها. ولتحقيق هذا الغرض نرى أنه من الضروري التذكير بالخطوط العريضة لنظريات المعرفة لدى أكثر الفلاسفة السابقين شهرة من أجل مقارنتها مع نظرية ديكارت. وسوف يتم التركيز على نظرية المعرفة لدى كل من أفلاطون وأرسطو الذين كان لهما تأثير كبير في تاريخ الفكر على امتداد قرون عديدة. ترتكز نظرية المعرفة الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها أن المعرفة تتحقق من خلال الانتقال والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من كل ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي. وإذا كان أفلاطون قد جعل من العدد والماهيات الرياضية المبدأ الذي يقوم عليه انسجام العالم المعقول، فلأن العلاقات الرياضية في نظره تظل على الدوام ثابتة لا تتغير، وهو ما يفسر خلود العالم. إن فعل المعرفة هنا لا يختلف عن فعل الوجود، إنه فعل المشاركة في الوجود؛ فقد أوضح أفلاطون في كتابه “الجمهورية” كيف ينبغي أن يكون النظام الاجتماعي لكي يتسنى للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوره الحكماء. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا أصبح الأفلاطونيون يولون أهمية قصوى لدور الصورة في عملية المعرفة، وأصبحت معرفة الموجودات عندهم تعني مشاركتها في صورها أو نماذجها المثلى. ولما كانت الصورة هي التي تنقل الشيء من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل، ولما كانت تمثل حقيقة الشيء أو جوهره، أمكن القول بأن فعل المعرفة كفعل الوجود، وهو ما عبر عنه المفكر الأمريكي Pedro Amaral بقوله: To know something is just like being something ويعني ذلك، حسب قوله، أن المعرفة هي المشاركة في الوجود.، وتعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثل فعل المعرفة، إذن، في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، هذا مع العلم أن موضوع الفلسفة اليونانية هو الوجود بما هو موجود حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصور للمعرفة إلى حد ما مع نظرية المعرفة الأرسطية. تتبلور المعرفة في نظر أرسطو من خلال تشكل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأشياء، فإن تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكل العقل. وهكذا يصبح العقل كموضوعه. ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطية على حد سواء هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هو أنه غير هذا التصور للمعرفة وكيفية تحققها رأسا على عقب: أفرغ العقل والعالم من الصور، وألقى بمبدأ التماثل جانبا وعوضه بعملية التمثل الذهني représentation؛ لم تعد المعرفة تتحقق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. وإذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، وبذلك دفع بعملية المعرفية إلى مستوى الميتا méta وهو التفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي conscience. ولأول مرة في تاريخ الفلسفة، ربما بعد ابن سينا (أنظر مقالتنا: “تطور مفهوم النفس من المعلم الأول إلى الشيخ الرئيس”)، أصبحت لهذا المفهوم دلالة تتجاوز معنى الإدراك الباطني الفوري المباشر، إلا أن ديكارت لم يحدد دلالته بشكل صريح، وظل يركز على بيان أهمية الوعي ودوره في حياة الإنسان. الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت يمثل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميزة للإنسان، والعنصر الحاسم في تصوره لمفهوم الشخص، وتكمن وظيفته في كونه يمكننا من الإدراك الفوري للذات المفكرة. يرى ديكارت بأن أكثر الأشياء وضوحا في هذا العالم هي الأفكار، وتنطوي تأملاته على مصادرة صريحة إلى هذا الحد أو ذاك مفادها أن هناك نوعا خاصا من النشاط المعرفي الذي يجعلنا على اتصال بتفكيرنا ويمكننا من التعرف عليه والإحاطة به والتحكم فيه، وبذلك تنكشف لنا طبيعة الفكر وطبيعة الذات المفكرة. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة: يستطيع زيد أن يستوعب ويفهم عملية حسابية كعملية الجمع مثلا: 2+2=4 وهذه العملية الحسابية هي سلسلة من عمليات التفكير، وعندما نتأمل هذه السلسلة تنجلي طبيعة التفكير وطبيعة الذات المفكرة والموضوع المفكَّّر فيه، وهذه الأقانيم الثلاث هي مظاهر تجربتنا الذهنية. ولا يحتاج المرء إلى بذل أي مجهود لمعرفة أصل هذه التجربة المتمثل في الأنا المفكرة، أو الأنا الديكارتي، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، ولا تستمد وجودها إلا من ذاتها باعتبارها ذاتا مفكرة، وهذه الذات مكتفية بذاتها، لا تحتاج في وجودها إلى شيء آخر. ولذلك لزم أن تكون السمة المميزة للشخصية هي الحرية. فالشخص الذي حصل له الوعي بذاته باعتباره ذاتا مفكرة، هو بالضرورة كائن حر. وهكذا أصبح مفهوم الوعي عند ديكارت مرادفا لمفهوم الحرية..ذلك لأن الوعي يوجد في استقلال عن الجسد ولا يتأثر بالعامل البيولوجي ولا بعوامل المحيط الخارجي. ولكي تتضح الفكرة أكثر لابد من استعراض تصور ديكارت للإنسان، وهو ما يستلزم تسليط بعض الأضواء على المبادئ أو المصادرات الأساسية التي تقوم عليها فلسفته(*). ذكرديكارت في رسالتين وجههما للملكة إليزابيت بتاريخ 21 مايو و28 يونيو من عام 1643- واللتان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخص مركزلنتائج “التأملات”- أن فلسفته الميتافيزيقية تقوم على ثلاثة مفاهيم أولية، تمثل في نظره المرتكزات الأساسية لكل معرفة إنسانية، وهي المفاهيم التيلدينا عن الروح، والجسد، والعلاقة بين الروح والجسد: يتعلق المفهوم الأول بتصورناللروح، ويشمل العقل والإدراك الحسي والإرادة ومختلف النوازع الانفعالية؛ ويتعلق المفهوم الثاني بتصورنا للجسم، وهو مفهوم الامتداد الذي تُرَد إليه أشكال الأجسام وهيئاتها وحركاتها؛ ويتعلق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح والبدن، وهو مفهوم الوحدة التي تتجلى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، وقدرة البدن على التأثير في الروح وإثارة انفعالاتها. يقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويشمل الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، وما يميزه هو الامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويشمل الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن

الفيلسوف نيتشه قارئا لكانط ..ملامح النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط !

إذا كان نيتشه يعتمد في نقده لكل التصورات الميتافيزيقيا على المنهج الجينالوجي، باعتباره منهج يمتلك العديد من الأليات القادرة على تدمير أي تصور ميتافيزيقي. وقوة هذا المنهج ستظهر ضد ما يسميهم نيتشه ب” عمال الفلسفة”. وأهم هؤلاء العمال الفيلسوف الألماني إمانويل كانط ما هو النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط؟

إن النقد الذي يوجهه نيتشه لكانط ليس بنقد محدود يكتفي بنقد المعرفة أو الأخلاق فقط، وإنما نقد يتجاوز حدوده لينتقد مشروع كانط بكامله.

يرى نيتشه في كانط أول فيلسوف جاء بفكرة النقد، أي نقد التصورات الميتافيزيقيا التي تدعي معرفة الشيء في الذي يقول عنه كانط عالم يستحيل معرفته، لأن العقل لا يستطيع أن يتجاوز عالم الظواهر الحسية، وهنا نيتشه يقول في كتابه العلم المرح” مع كانط صرنا نشك كألمان في القيمة القطعية للمعارف العلمية، كما صرنا نشك، فضلا عن ذلك في كل ما تسهل معرفته سببا وصار حتى الممكن معرفته ذاته يبدو لنا بما هو كذلك ذا قيمة أقل”.
وإذا كان العقل الكانطي محدود فإن النقد الذي ينتج عنه محدود، لأنه يتخلى عن وظيفته النقدية عندما يتعلق الأمر بالمسائل الأخلاقية والدينية.

وبهذا فالعقل النظري عندما يصل إلى هذا الحد، أي عندما يصل إلى الأمور المتعلقة بحاجتنا الدينية والأخلاقية، يتخلى عن حقه في التحليل والنقد، ويفسح المجال أمام عقل أخر وهو العقل العملي الذي لا يتطلع إلى النقد، بل يسعى إلى طمأنة النفس، لأن عالم النومين غير قابل للبرهنة، وغير قابل للإعتراض عليه ما دام يقع خارج الفهم. وهذا يعني بالنسبة لنيتشه، أن كانط لم يعتمد على النقد لصالح العلم، ولكن، أولا وقبل كل شيء، لصالح الدين والأخلاق. وأن كانط يسترجع في نقد العقل العملي المطلقات التي كنا نعتقد أن العقل الخالص هدمها، وأخيرا جعل العالم الأخلاقي ممتنعا عن النقد يرجع إلى إحساس كانط بقابليته للعطب أمام أي محاولة نقدية جدية.

وعلى هذا الأساس فإن نيتشه لا يعتبر النقد الكانطي نقدا حقيقا على الإطلاق؛ إذ: “لم يحدث كما يقول دولوز أن رأينا من قبل نقدا كليا أكثر تسامحا أو نقدا أكثر احترما، ولم يحدث أن رأينا من قبل نقدا للعقل بواسطة العقل، أي جعل العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته، أو تشكيله كقاض وطرف، حاكم ومحكوم، بل لم يحدث أن رأينا من قبل عقلا عاجزا عن البرهان”.

وكما يرفض نيتشه النقد الكانطي، فإنه يرفض كذلك أخلاقه الميتافيزيقية الكونية، التي تقول ما يكون مقبولا أخلاقيا، هو ما يكون مقبولا للجميع. وهذا في نظر نيتشه زيف وخطأ، لأنه لا يمكن أن توجد أخلاق مطلقة، إلا إذا كان البشر من طبيعة واحدة، وهذا شيء غير صحيح. وينتقد كذلك العمل الأخلاقي، لأنه المسؤول عن الانقلاب الخطير في القيم الأخلاقية، عن طريق تحويله للقيمة الأساسية للعمل من النتائج إلى الأسباب، هنا يقول نيتشه “خلال أطول مرحلة في التاريخ الإنساني، أي مرحلة ما قبل التاريخ، وكانت قيمة – أو عدم قيمة- عمل تأتي من نتائج هذا العمل….وكانت تلك هي الفضيلة، فضيلة النجاح أو الفشل التي تجعل الناس يحكمون على عمل ما بالجودة أو الرداءة…ولكن دفعة واحدة، بدت تباشير سيطرة خرافة جديدة وقاتلة، سيطرة تأويل ضيق تشرق في الأفق: أن أصل العمل نسب إلى النية التي كان ينبثق عنها، واتفق على أن قيمة العمل تكمن في قيمة النية، وهكذا صارت النية تشمل سبب العمل وما قبل تاريخه”.

بالتالي فالأخلاق الكانطية هي أخلاق الإنسان الحديث الذي يدعي معرفة الخير والشر في ذاتهما، ويرفض أوامره كقوانين شاملة. إنها أخلاق القطيع لأنها تعمل باسم العقل والعلم والفضيلة، وعلى ضمان هيمنة وانتصار غريزة القطيع على غيرها من الغرائز. لكن ما يجب معرفته، هو أن هذا النقد الذي يوجهه نيتشه لا يعني أنه يتخلى عنها وإنما يدعو إلى أخلاق طبيعية تقوم بفضح وإدانة للأخلاق المعادية للحياة. وهذا ما جعل نيتشه يضع محل العقل الكانطي إرادة قوة، لأنها تعود بنا إلى التجربة الماقبل-سقراط حيث لا يخضع الفيلسوف إلى القيم السائدة بل يحطمها ويضع مكانها قيما جديدة يقول زرادشت:”إن من يكون مبدعا في الخير والشر، ويجب أن يكون في البدء مدمرا، يمزق القيم تمزيقا” .

والنقد النتشوي لا يتوقف على الجانب الأخلاقي، وإنما يتجاوز ذلك ليتجه إلى نقد تصور كانط للجمال، حيث نجد كانط يؤسس تصوره على صفتين أساسيتين هما التجرد والشمول، ففي الأولى يقول كانط إننا نتأمل الجمال ونتذوقه دون رغبة أو منفعة؛ أي أن العملية الجمالية هي عملية يحكمها تأمل جمالي خالص”.
أما عن الشمول فهو يدافع عن كلية الجمال بعدما دافع من كلية الحكم الأخلاقي، أي أنه يستند إلى كينونة قبلية قائمة في كل الناس. وهذا في نظره خطأ فادح؛ لأن كانط استهدف المتذوق أو المشاهد على غرار المبدع، ذلك أن المشاهد ليس معروفا بما فيه الكفاية من معشر فلاسفة الجمال، وليس واقعة أو تجربة عظيمة، ولا هو نتيجة طائفة من الاختبارات المتينة” وبعبارة أخرى إن مفهوم التجرد في نظر نيتشه قد لطخ به الحكم الجمالي؛ لأن ما ندى به كانط يشبه سداجة أسقف القرية، والمقصود هنا يجب على الفن أن يكون المحرض الكبير للحياة، أو لإرادة القوة المترسبة في اللذة الجنسية؛ فعالة اللذة الجمالية، التي يسميها نيتشه “سكرا”، ترجع إلى الجهاز العصبي المشحون بطاقات جنسية، وإن حاجتنا إلى الفن والجمال هي حاجة إلى اللذائذ الجنسية. إذن فوجهة النظر الجديدة تشدد، على العكس من وجهة نظر كانط، على الأصل الحسي والجنسي، أو الحالة العضوية للفن.
كانت هذه أهم الاعتراضات التي وجهها نيتشه لفلسفة كانط النقدية. لكن نيتشه الجينالوجي لا يكتفي بدحض الآراء بل يتوجه إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتساءل عن السبب الذي يجعل كانط يتوقف بنقده في منتصف الطريق، ودفعه إلى رفع العالم الأخلاقي فوق النقد، واشتراط التجرد في الحكم الجمالي؟

الذي يراه نيتشه هو العلة في ذلك ترجع إلى صلة كانط العميقة بالدين؛ ففلسفة كانط تعد في نظر نيتشه، استمرارا للدين، ونجاح كانط ليس غير نجاح لاهوتي. ولهذا فنقد نيتشه للفلسفة الكانطية يطالها بوصفها، وبالأساس، لاهوتا مخادعا واحتياليا، أي بوصفها انحطاط.
والفكرة التالية التي سينتقدها نيتشه هي فكرة السلم الدائم كبديل للحرب.

ويرى نيتشه أن الحرب هي وحدها القادرة، في نظره على إقامة العدالة، وذلك راجع إلى أن العلاقات بين الدول لا يحكمها قانون العقل بل الاتفاق، والعرضية.
فالحرب بين القوى هو القاعدة، وأما التصالح أو السلم الذي نلحظه بينها، في بعض الأحيان، فليس إلا تصالحا مؤقتا بين إرادات أو قوى متساوية، تظل تترقب وتتربص الثوابت على غيرها عندما تتاح لها أدنى فرصة. وبهذا فالعقود والعهود ليست إلزاما أخلاقيا، وإنما هو إلزام حرص وفطنة. أي مشروط بالضرورة التاريخية أو الوضع القائم. ولهذه الأسباب فإنه يمكن للدولة أن تخرق المعاهدات، بل تغزو الدول الأخرى، دون أن تتوقع عقوبة مبررة، إذ لا توجد سلطة يمكن أن تنفذ هذه العقوبة. ويمكن القول أن هذه الفكرة هي النقطة المحورية التي جعلت نيتشه ينتقد فكرة “السلم الدائم”.
وبهذا يكون النقد النيتشوي يختلف عن النقد الكانطي، ودولوز يلخص الاختلاف الموجود بين التصورين في خمس نقاط:

1- لا مبادئ ضرورية، تكون شروطا بسيطة لوقائع مزعومة، بل مبادئ تعاقبية منطقية ولدائنية تعرض معنى المعتقدات والتفسيرات والتقويمات وقيمتها.
2- عوض الفكر التشريعي الذي يطيع العقل، يدعو نيتشه إلى تفكير بفكر ضد “العقل” غير أن اللاعقلانية هنا ليست ذلك الاتجاه الذي يعارض العقل من منطلقات خارجية: كالوقائع، أو القلب أو الشعور أو النزق أو الهوى، بل هي تقول بفكر متحرر من مبادئ العقل الخالص، والمنطق الصوري، وهذا هو معنى رمية زهور النرد.
3- يعارض نيتشه المشرع على النمط الكانطي لأنه عبارة عن قاضي محكمة يراقب توزيع مجالات النفوذ والقيم القائمة؛ بينما الجينالوجي هو فيلسوف المستقبل يبشرنا بنقد حربي لم يشهد له مثيل حتى الآن.
4- ليس الجينالوجي هو العاقل موظف القيم المتداولة، الكاهن والمؤمن، المشرع والمأمور، والعبد الظافر والعبد المهزوم؛ إنه بكلمة واحدة ليس الإنسان الارتكاسي، ليست الهيئة النقدية للإنسان المتحقق، ولا هي أي شكل مصعد للإنسان، الروح، العقل، وعي الذات، بل إنها إرادة قوة، إرادة إنسان يريد أن يكون متجاوزا، متقلبا عليه…”يمكنكم التحول إلى آباء للإنسان الأسمى وأجداد له: فليكن ذلك أفضل ما في عملكم”.
5- ليس الهدف من النقد هو الإنسان الأخير ولا إقامة ملكوت العقل، بل الشعور بطريقة مختلفة وبحساسية مغايرة، يقول نيتشه” إن عبقريتي تكمن في أنفي إنني أتشمم الأفات”.

المنطق كميتافيزيقا لدى الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل(1770-1831)

لقد بدأ هيجل بالمنطق – ليس بمعناه الذي نعرفه اليوم كقواعد للاستنتاج، وإنما بمعناه القديم والكلاسي كنسبة ratio أو عرض للأسباب والمبادئ أو المعنى الأساسي لأي شيء وما ينطوي عليه من عمليات، وذلك على نحو ما نستخدم مصطلحات مثل الجيولوجيا لنعني بهما معنى الأرض وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح البيولوجيا لنعني به معنى الحياة وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح السيكولوجيا لنعني به معنى العقل أو النفس وما تنطوي عليه من عمليات. وعلى هذا فقد كان المنطق بالنسبة إلى هيجل يدرس معنى أيِّ شيء وما ينطوي عليه من عمليات. وبشكل عام فإنه يترك العمليات للعلم، كما أن العلم يترك المعنى للفلسفة. إنه يقترح أن يحلّل لا الكلمات بطريقة عقلية (للخلوص منها باستنتاجات) وإنما السبب أو العقل أو المنطق في الحقائق وسيعطي لمصدر هذه الأسباب اسم الرب أو الله God وهو في هذا يشبه إلى حد كبير الصوفيين (ذوي الاتجاه الباطني) القدامى الذين يجعلون الرب واللوجوس (الكلمة) شيئاً واحداً – منطق العالم وحكمته.

فالعقل المدرِك (الواعي) يُضفي معنى للأشياء بدراسة أبعادها في المكان والزمان وعلاقاتها بالأشياء الأخرى المُدركة أو المُتذكَّرة. وكان كانط قد أطلق على مثل هذه العلائق اسم المقولات ، وعدَّد منها اثنتي عشرة مقولة رئيسية: الوحدة والتعددّية والكلية وأيضاً الحقيقة والنقيض والقَصْر، والسبب والنتيجة والوجود والعدم، والاحتمال والحتم. وأضاف هيجل مقولات أخرى كثيرة: الموجود المطلق، والانجذاب والتنافر، والتشابه والاختلاف.. فكل شيء في نطاق خبرتنا هو نسيج معقَّد من مثل هذه العلاقات، فهذه المنضدة – على سبيل المثال – لها مكان خاص، وعمر خاص وشكل خاص وتحمُّل خاص ولون خاص ووزن خاص ورائحة خاصة وجمال خاص، وبدون هذه العلاقات الخاصة تصبح المنضدة مجرد فوضى غامضة تُعطى مشاعر متنافرة منفصلة، أمّا إن وجدت هذه العلاقات استطاعت الحواس إدراكها كموجود (مُدْرَك) موحَّد. وهذا الإدراك في ضوء ما تعيه الذاكرة، وفي ضوء فهم الغرض تُصبح هناك فكرة. ومن هنا فإن العالم – بالنسبة إلى كل منا – هو أحاسيسنا (الداخلية والخارجية) حولتها المقولات (بالمعنى الآنف ذكره) التي نسقتها إلى أفكار ومُدركات مختلطة بالذكريات ومتأثرة بإرادتنا.

والمقولات ليست أشياء، وإنما هي طرائق وأدوات للفهم تقدم الشكل والمعنى لأحاسيسنا. إنها المقولات تكون النسق العقلي والمنطق والتكوين والسبب لكل شعور أو فكرة أو شيء. إنها جميعاً تكوِّن المنطق والعقل ولوجوس الكون، على وفق فهم هيجل.

والوجود الخالص هو أبسط أنواع المقولات وأكثرها كونية فعن طريق الوجود الخالص نحاول فهم خبرتنا – أعني الوجود كما ينطبق على كل الأشياء أو الأفكار دون تخصيص. وكونية هذه المقولة الأساسية هي أنها مقدّرة ومحتومة : فبافتقادها أي شكل أو سمة لا تستطيع أن تمثل أي شيء موجود، ومن هنا فإن فكرة الوجود الخالص أو الكينونة الخالصة هي من حيث نتائجها أو من حيث مفعوليتها مساوية للمقولة المناقضة لها – ونعني بها العدم أو عدم الوجود أو عدم الكينونة أو اللاشيء ، ومن هنا فهما بالفعل (الوجود والعدم) ممتزجان، فما كان غير موجود (غير كائن) يُضاف للوجود (لما هو كائن ويجرّده من لا حتميته أو يجرده من كونه محضاً خالصاً، فالوجود والعدم or يصبحان على أىة حال أمراً سالباً على نحو ما أو تحتوي الفكرة على شيء من السَّلب. أما مقولة الصَيرورة الغامضة فهي المقولة الثالثة، وهي أكثر المقولات فائدة، فبدونها لا يمكن إدراك أي شيء وهو يحدث أو يتخذ شكلاً. وتتبع كل المقولات اللاحقة النسق نفسه أي أنها تظهر من المزاوجة بين الفكرة ونقيضها.

من هذا التلفيق الهيجلي نشأ الكون (مثل آدم وحواء) من اتحاد أو اقتران (بين فكرتين) مما يعيد للذاكرة فكرة العصور الوسطى القائلة بأن الله خلق الكون من اللاشيء (من العدم). لكن هيجل حاجّ بأن مقولاته هذه ليست أشياء، وإنما هي طرائق لإدراك الأشياء، ولجعل سلوكها أو تحركها مُدْركاً أو مفهوماً، ويمكن التنبؤ به غالباً، بل ويمكن أحياناً السيطرة عليه.

لقد طلب منا بعض التقييد (التكييف) في معنى الفكرة ونقيضها (تلك الفكرة المقدسة في المنطق القديم) وهو أن A P لا يمكن أن تكون إلا A P أي لا يمكن أن تكون نقيض not A P. حسناً جداً لكن A P قد تصبح لا P أو نقيض P ( – A) فالماء قد يصبح ثلجاً أو بخاراً. فكل حقيقة – كما أدركها هيجل – هي في عملية متطورة من المواءمة أو الملاءمة. إنها – أي الحقيقة ليست في حالة وجود استاتيكي (ثابت) a وإنما هي في حالة سيّالة متحوّلة. فكل شيء ينساب. ففي رأي هيجل أن كل حقيقة وكل فكر وكل شيء وكل تاريخ ودين وفلسفة هي جميعاً في حالة تطور مستمر ليس من قبيل الانتخاب الطبيعي، وإنما من خلال تطور التناقض الداخلي (الفكرة ونقيضها) وما يتمخض عنه من نتائج، ومن ثم التقدم نحو مرحلة أو حالة أكثر تعقيداً.

هذا هو الديالكتيك الهيجلي الشهير (وهو دياليكتيك فيشته سابقاً، وديالكتيك تعني حرفياً الحوار). إنه ديالكتيك الفكرة ونقيضها والجميعة (أي ما يتمخض عن الفكرة ونقيضها من فكرة جديدة): فالفكرة أو الموقف ينطوي في باطنه على نقيضه ويطوّره ويناهضه ثم يتحد معه ليتخذ وَإيَّاه شكلاً جديداً. والمناقشة المنطقية لابد أن تأخذ شكل البناء الديالكتيكي من عرض ومعارضة وتوفيق. والتداول أو التشاور الحسّاس لابد أن يكون على هذا النحو – وزن الأفكار والرغبات بميزان التجربة. والمقاطعة أو التداخلات في أثناء المناقشة هي كما أصرّت مدام دي ستيل هي حياة الحوار، لكنها تصبح موتاً له (للحوار) إذا لم نجد للتناقض حلا توفيقيا، أو كانت الفكرة النقيضة غير وثيقة بالموضوع، فالجميعة الحقيقية Synthesis (أي الفكرة الناتجة عن الفكرة ونقيضها) ترفض الإثبات والنفي، وتتيح مكاناً لعناصر من الموقفين (الفكرتين) المثبتة والنافية. وكارل ماركس – تلميذ هيجل – كان يرى أنَّ الرأسمالية تحوي في طياتها بذور الاشتراكية، بمعنى أن الشكلين الاقتصاديين المتنافسين لا بد أن يتصارعا حتى الموت، وأن الاشتراكية لابد أن تسود، وتنبأ الهيجليون الأكثر تمسكاً بفكر هيجل أن الرأسمالية والاشتراكية سيتحدان معاً كما نرى في أوروبا الغربية الآن. وكان هيجل أكثر الهيجليين تطرفاً. لقد راح يتتبع المقولات – ليُظهر كيف أن كلا منها – بالضرورة – ناتج عن فكرة ونقيضها. ونظم حججه وبراهينه، وحاول أن يقسم كل عمل من أعماله في شكل ثلاثي (الفكرة ونقيضها والجميعة) وطبق ديالكتيكه على الحقائق كما طبقه على الأفكار. فأظهر أن التناقض والصراع والجميعة تظهر في السياسة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ.

لقد كان محققا أو واقعيا l بالمعنى الوسيط (المعنى الذي كان سائدا في العصور الوسطى): فالكون أكثر حقيقة من أي من أجزائه (ذراته) التي ينطوي عليها: فالإنسان يشمل كان البشر من كان منهم حيا أو من أغرق في الموت، والدولة أكثر حقيقة أو أعمق وجودا ، وأكثر أهمية وأطول عمرا من أي مواطن من مواطنيها وللجمال قوة خالدة يبقي حتى ما مات، فتظل بولين بونابرت ويبقى الجمال حتى لو أن أفروديت لم تكن قد وجدت في يوم من الأيام. وأخيرا وجدنا الفيلسوف الملزم (بكسر الزاي) يحمل كوكبة مقولاته على المقولة الأقوى والأشمل والأبقى. إنها الفكرة المجردة التي تتمثل فيها كونية كل شيء أو فكر أو عقل أو تكوين أو قانون، إنها الفكرة التي تمسك بالكون، إنها اللوجوس Logos أو الكلمة التي تجلل الجميع وتحكمه.

من هم الحكماء السبع؟

لابد من الإشارة إلى اختلاف الذي وقع في تصنيف الحكماء السبع، حيث قيل هم كل من طاليس، إنكسمانس، هيراقليطس، أنبوذقليدس، ديموقليدس، أنكساكوراس، فيثاغورث.

وقيل أيضا إن الحكماء الإغريق السبعة هم:

  • سولون من أثينا – “لا تكثر من شيء”.
  • خيلون الاسبرطي – “اعرف نفسك”.
  • طاليس – “التأكد يجلب الخراب”.
  • بياس من برييني – “كثرة العمال تفسد العمل”.
  • كليوبولوس من لندوس – “كل اعتدال محمود”.
  • بيتاكوس من ميتيليني – “اعرف فرصتك”.
  • بيرياندر من كورنث – “التفكير المسبق في كل شيء”.

أهم و أشهر عشرة(10) من الفلاسفة الإغريق و أكثرهم تأثيرا

1

أدخل الفلاسفة الإغريق مقارباتٍ مبدعةً إلى النَسَق الفلسفي السائد قديماً، ونأَوا بملاحظاتهم عن الشروحات التقليدية الأسطورية مُتبنّين بدلاً عن ذلك تفسيراتٍ تعتمد الاستدلال والبراهين. وشهدت اليونان القديمة صعود نجم العديد من الفلاسفة، ولكن من بين هؤلاءِ تميّز بعض الفلاسفة بأعمالهم وأفكارهم المُبتكرة في الفلسفة. فأفكارهم الفلسفية العميقة بخصوص العلوم الطبيعية البدائية والتطبيقات الأخلاقية لِقيَمهم الفلسفية في المجتمع وضعَتهم في منزلةٍ رفيعة إلى يومنا هذا. سنتعرف في مقالنا عن أهم الفلاسفة الإغريق وأكثرهم تأثيراً

10- بارمينيدس، 510 ق.م. – 560 ق.م.

الفلسلفة

كان بارمينيدس مُريدًا لفيثاجورس الذي كان شخصية معروفةً داخل النسق الفلسفي لليونان القديمة.

وكان لقصائده وأفكاره أثرًا عميقًا في الفيلسوف كزينوفانيس، ما دفع بأغلب المؤرّخين للجزم بأنه تتلمذ على يديه.
ويُعتبر بارمينيدس من أهمّ فلاسفة عصر ما قبل سقراط.

في عمله الوحيد الذي وصلَنا، والمُسمّى على نحو مناسب “في الطبيعة”، يحاول بارمينيدس أن يطرقَ أعقد سؤال على الإطلاق: “هل ثمّة وجودٌ أم عدم؟”

بصراحة، فمحاولتُه سبرَ أغوار هذه المعضلة الفلسفية (المجازيّة، بالنسبة للبعض) تقود إلى عبارةٍ متناقضةٍ بدلاً من إجابةٍ شافية. يقرّر بارمينيدس أنّ أيّما شيءٍ “موجود” فلا بدّ أنّه قد وُجِدَ على الدوام، حيث أنه لا شيء يتأتّى من “العدم”.

وبالتالي، يُصبح الأمر برمّته متناقضةً لِاستحالة التفكير بطبيعة الـلاشيء، واستحالة التفكير بشيءٍ لا يُمكِن تخيّله. على كل حال، قام الفلاسفة الذين جاؤوا بعده بتبسيط هذه المستحيلات الفلسفية.

9- أناكساجوراس 500 ق.م.– 428 ق.م.

أشهر الفلاسفة

شخصيٌة مهمّةٌ أخرى من عصر ما قبل سقراط، كان أناكساجوراس المولود في كلازومينيا (قرب إزمير، تركيا) عالماً وفيلسوفًا مؤثّرًا عاش في أثينا لما يقارب الثلاثين عامًا. وتمحورت آراؤه الفلسفية حول الطبيعة نفسها. وكما كان الحال عليه مع مُعظم فلاسفة الإغريق، فقد تعارضت أفكاره مع واصطدمت بالأيديولوجيات والعقائد السائدة في عصره، ما اضطرّه لمواجهة عواقبَ وخِيمةٍ كادت تكلّفه حياتَه.
ويُحسب لأناكساجوراس كونه أوّل مَن أسّس مذهبًا فلسفيًا بأكمله في أثينا، المدينة التي ستصل لذروة مجدها فيما بعد لتكون مركز ثقلٍ مجتمعيّ لمئات السنين اللاحقة.

كرّس أناكساجوراس معظم وقته لشرح الطبيعة على ماهيّتها، مفترضًا أن الكون ظلّ كتلةً غير متمايزة حتّى تدخّلت قوّةٌ محرّكةٌ بثّت النظام في الكون، وهو يُطلق عليها اسم “النوكس” (العقل الكلي).
آمن أناكساجوراس أنه في العالم المادي يحتوي كلُّ شيء جزءًا من كل شيء آخر. في البدء لم يكُن أي شيء على ماهيّته الحالية؛ بل كانت كل الأشياء ممتزجةً ببعضٍ بشكلٍ فوضوي، فجاء “النوكس” وبثّ حركةً ومنح معنىً للكيانات في هذه الفوضى..

8- أناكسيماندر 610 ق.م – 546 ق.م.

الفلسفة الإغريقية

يُعتبر أناكسيماندر الذي وُلد وعاش في ميليتوس (في مقاطعة “أيدين” التركية المعاصرة) يُعتبر أحد أشهر تلامذة طاليس، بل ومن نواحي متعدّدة خليفته الفلسفي. ويُعرف كأول الفلاسفة الذين كتبوا في الفلسفة كونه الكاتب الوحيد الذي وصلَنا ما دوّنه في بدايات تاريخ الفلسفة الغربية. وهو معروفٌ كأول العلماء المشتغلين بالعلوم الطبيعية والجغرافيا. وكذلك كان أول من أسّس لصورة عالم الكون المفتوح، مُبتعدًا بذلك عن فكرة الكون المغلق التقليدية. وبذلك يكون أوّل عالم فلك في تاريخ البشرية، رغم أنه بنى ملاحظاته على التخمين لا التجريب.

وقام بتوسيع نطاق الآراء الفلسفية لأستاذه طاليس، حيث طرح فكرة العنصر الأصيل “Arche” الذي يُردّ إليه أصل الكون. ولكن خلافاً لأستاذه، آمن أناكسيماندر أن هذا العنصر ذا كتلةٍ غير محدودة وهو أصل الأشياء. وعمل هذا العنصر الأصيل كنقطة مرجعية لتمايز المتضادّات كالحرّ والبرد، والنور والظلام… إلخ.

ورغم شحّة ما وصلنا من أعماله، بسبب الأجيال اللاحقة من الفلاسفة، يبقى أناكسيماندر أحد أهمّ العقول الفلسفية في اليونان القديمة.

7- إيمبيدوكليس 490 ق.م إلى 430 ق.م.

الفلاسفة الإغريق

كان إيمبيدوكليس من أبرز فلاسفة الإغريق في فترة ما قبل سقراط، ولقصائده تأثيرٌ كبيرٌ على شعراء لاحقين من أمثال لوكريتيوس.

وأحد أبرز معالم فلسفته هي نظرية العناصر الأربعة للمادة، القائلة بأن المادة تتكوّن من أربعة عناصر أساسية: التراب، الهواء، النار، والماء.

أصبحت هذه واحدةً مِن أقدم النظريات التي افتُرضت في فيزياء الجُسيمات، رغم أن بعض المؤرخين يعتبرونها جهدًا مبذولاً لنفي نظرية اللا-ثنائية عند بارمينيدس (الذي أنكر ثنائية التغيير والحركة للكون، مُنتصرًا لرأي ثبات الكون).

بكل بساطة رفض إيمبيدوكليس وجود الفراغ، معارضًا بذلك فلسفة بارمينيدس بالكامل. واقترح أن العالم يتألف من قوى محرّكة متعارضة، بمعنى: الحبّ كمسبّب للاجتماع، والخلاف كمسبّب للانفصال. وهو أول من وضع وصفًا تطوّريًا عن نشوء الكائنات.

6- زينون الإيلي 490 ق.م – 430 ق.م.

أهم الفلاسفة

في الوقت الذي كان فيه معظم فلاسفة الإغريق مشغولون بفحص أدلّتهم ومعارفهم لتفسير الطبيعة على ما هي عليه، كرّس زينون وقته لتوضيح المعضلات والمتناقضات التي زخرت بها الحركة والكثرة. والجدير بالإشارة أنه حاول وضع شروحات مفصّلة للمقدّمات المنطقية المتناقضة الموجودة في العالم المادي قبل نشوء علم المنطق كما نعرفه.

كما بنى زينون على أفكار بارمينيدس الفلسفية وذبّ عنها أمام المعارضة السائدة التي وُوجِهت بها في عصره.

وأثار زينون عدّة متناقضات تلقّتها أجيالٌ لاحقة من الفلاسفة بالنقاش والجدل. والكثير من الجدل القائم في عصره بخصوص متناقضاته أدّى إلى تقسيم الزمان والمكان إلى ما لا نهاية. مثلاً وجود المسافة، يعني بالضرورة وجود نصف المسافة… وهلمّ جرّا. كان زينون الأول في تاريخ الفلسفة الذي يثبت وجود مفهوم اللا-نهائية.

5- فيثاغورس 570 ق.م – 495 ق.م.

فيثاغورث

فيثاغورس هو فيلسوف من عصر ما قبل سقراط، ولكنه اشتُهر بنظرياته وأفكاره في الرياضيات أكثر من الفلسفة. في الواقع فإن أشهرَ ما عُرِف به فيثاغورس هو نظرية تحمل اسمه: مبرهنة فيثاغورس. ورغم كونه أحد أكثر الأسماء المألوفة من بين شخصيات عصر ما قبل سقراط، إلا أن المفاجأة تكمن في أن ما نعرفه عنه هو أقلّ القليل.

يُنسب إليه فضل إنشاء مدرسة ٍفلسفية اجتذبت نحوه العديد من المُريدين.

ومن خلال هذه المدرسة حاول فيثاغورس أن يجدَ تناغمًا متبادلاً بين حياة الواقع والوجوه العملية للفلسفة. ومع هذا لم تنحصر تعاليمه في مجال الفلسفة كما نعرفها، بل تجاوزتها إلى مسائل حياتيّة كـ”قواعد السلوك” و “الطعام اليومي” وغيرها.

رأى في العالم التناغمَ الأسمى وصبا في تعاليمه لوصف الكيفيّة الأمثل لحياةٍ مُتناسقة.

4- سقراط 469 ق.م – 399 ق.م.

الفسلفة والعلوم

اجترحَ سقراط منظورًا جديدًا كليًا بتحقيقه نتائجَ عمليّة من خلال تطبيق الفلسفة في حياتنا اليومية، وهو الأمر الذي كان غائبًا إلى حدّ كبير في نهج فلاسفة ما قبل سقراط.

كما نأى سقراط بنفسه بعيدًا عن التخمينات المادية المتواصلة التي أشغل بها الفلاسفة السابقون أنفسهم تحليلاً واستيعابًا. وحاول إرساءَ نظامٍ أخلاقيّ يقوم على إعمال العقل البشري بدلاً من التسليم للعقائد الدينية المتنوعة والمتنافرة بطبعها.

وبدلاً من إطلاقه أفكار مبنية على تفسيراته الخاصة، اعتاد سقراط مساءلة الناس بلا هوادة عمّا يؤمنون به، محاولاً إيجاد تعريفاتٍ للفضائل من خلال حواراته مع أولئكَ الذين يدّعون الفضيلة.
تبوّأ سقراط مكانةً رفيعة والتفّ حوله العديد من الأتباع، ولكن أصبح له أعداءٌ كثيرون.

وفي نهاية المطاف قادته معتقداته ومنهج فلسفته الواقعي إلى الإعدام. ولكن يُمكن القولُ بأنّ استشهادَه الفلسفي -بالدرجة الأولى- هو ما جعله الشخصية الأيقونية التي نعرفها.

3- أفلاطون 427 ق.م – 347 ق.م.

فلسفة

كان أفلاطون تلميذًا لسقراط ويبدو تأثّره واضحًا بالنهج الفلسفي لأستاذه. ولكن في حين كان سقراط مشغولاً للغاية بتفسير الفلسفة حصرًا من خلال الاستدلال البشري، استرسل أفلاطون في الدمج بين المنهجين الفلسفيين الرئيسين: ما-ورائيات فلاسفة فترة ما قبل سقراط ومعتقداتهم بخصوص الطبيعة مع المعتقدات الأخلاقية السقراطية.

وقطب الرحى في فلسفة أفلاطون هو منهجٌ بثلاثة تفريعات أساسية: الديالكتيك، الأخلاق، الفيزياء. ونقطة التلاقي بينهن كانت نطرية المُثُل. فبالنسبة لأفلاطون كان أرقى أشكال المُثل هو “الخير” والذي اعتبره مصدر الوجود والمعرفة. أما في الفيزياء اتفق أفلاطون مع معظم الأفكار الفيثاغورسية.

وتقدِّم غالب أعماله، وبالأخص عمله الأهم “الجمهورية”، مزيجاً لأوجه متعددة من علم الأخلاق، الفلسفة السياسية، والما-ورائيات وغيرها مسكوبةً جميعها في قالبِ فلسفةٍ عمليّة، منهجية، وذات معنى.

2- أرسطو 384 ق.م – 322 ق.م.

الفلاسفة الإغريق

كان أرسطو أكثر تلاميذ أفلاطون تأثيرًا. وبنى أرسطو تفسيراته على الحقائق المكتسبة من التجربة الحياتية، وهذا اتجاه يختلف عن أسلوب أستاذه الذي فضّل منهجًا متجاوزًا للمحسوسات. أثبت أرسطو مقدرةً كتابيةً خصبة ولغوية مبدعةً، إذ قام بإعادة صياغة وهيكلة المفاهيم السائدة في معظم مجالات المعرفة التي اشتغل بها.

في الوقت الذي كانت فيه الخبرة بالمعارف البشرية تسبح في العموميات، قام أرسطو بترتيبها في أصنافَ مستقلّة كالأخلاقيات، علم الأحياء، الرياضيات، والفيزياء -وهو التقسيم الذي ما يزال متَّبعًا ليومنا هذا.

يُعتبر أرسطو رمزًا هامًا من فلاسفة اليونان القديمة، وانتشر تأثيره خارج حدودها مكانًا وزمانًا.

1- طاليس الملطي 620 ق.م – 546 ق.م.

الفلسفة الإغريقية

يتربع طاليس على رأس القائمة لدوره المحوري في تخصيب تربة الفلسفة الإغريقية التي انبثقت منها الأجيال اللاحقة من مشاهير المفكّرين، المنظّرين، المناطِقة، الفلاسفة، والمشتغلين بالما-ورائيات. ويُعرف لدى المؤرخين على أنه أبو الفلسفة الإغريقية.

والكثير من أيديولوجية طاليس وصلت إلينا عبر وصف أرسطو الذي أشار أن طاليس كان أول مَن بحث في المبادئ الأساسية لنشوء المادة. كما يُعتبر طاليس مؤسس فلسفة المذهب الطبيعي.

كفيلسوف، لم يقصُر طاليس نطاق بحثه في مجال معرفيّ محدّد، بل كان منهمكًا في محاولة فهم الجوانب المتعدّدة للمعرفة: كالفلسفة، الرياضيات، العلوم، الجغرافيا وما إلى هنالك. ويُذكر أنه طوّر معيارًا دقيقًا لتفسير حدوث التغيير في الأشياء. وقدّم الماء على أنه المادة الأولى التي انبثق منها العالم.

حظي طاليس بتقدير الإغريق القدماء، وعادةً ما أضفَت فرضيّاته معنىً وثقِلاً للأفكار الموجودة عن الطبيعة.

مفهوم الدولة عند الفيلسوف اسبينوزا

إن سبينوزا، بعد أن كان قد انتهى من كتاب “الأخلاق” ربما أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان “حيواناً سياسياً”، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات “الرسالة السياسية”، موطداً العزم، كما فعل في تحليل الانفعالات، على أن يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أو الفيزياء:

رغبة في بحث مادة هذا العلم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أو أرثى لها، بل على أن أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو(162). ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة علم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي أن تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا أن نتصور الإنسان قبل أن يعدل التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر أن تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في “حالة الطبيعة” إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في “اللواياثان” تقريباً. وفي “جنة الشر” هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أو ظلم، صواب أو خطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا “كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً.. ولا تقاوم الصراع أو الكراهية أو الغضب أو الخيانة أو بصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة(163)”. وبمقتضى “حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أو الاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أو لغذائه(165).

ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، ربما كان يعيش بالفعل في جماعات اجتماعية. ومن حيث أن الخوف من الوحدة كان في كل الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي(166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما حدث هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أو قوتها من “الحق الطبيعي” للفرد أو من قوته. ولا ريب في أن الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل “النزوع للمحافظة على الذات(167)”- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليشمل أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. أن التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، كل هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها. ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:

دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، فعلى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه… والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون(168).

ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم “لا قانون”-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:

إن العقل يستطيع حقاً أن يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا…. أن الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً أن يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة الذهبية الوارد ذكرها في الأشعار، أو برواية مسرحية(169).

وينبغي أن يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من أن يحيوا حياة العقل:

ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه…. أن غاية الدولة حقاً هي الحرية(170).

ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أو على الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل أن تحدد الدولة أي المذهب الدينية يلقن للناس. وينتقل سبينوزا إلى بحث الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزو لويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:

المظنون أن التجارب تعلمنا أن وضع السلطة في يد رجل واحد مدعاة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يكتب له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام التركي، على حين أن أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أو الديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة… إن الاسترقاق. لا السلام، هو الذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها(171).

وقد تكون الأرستقراطية “حكومة الصفوة” ممتازة، لو لم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أو الأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أو الأشراف من كل الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن أن تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تعلمنا علم اليقين أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي أن الأمور تجري على عكس ما نريد(172).

وهكذا شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهو على سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. أن الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أو أولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على كل شيء، وما أيسر أن يفسدها الجشع والترف(173). ومع ذلك “أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية(174)” واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم(175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا “أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح(176)”. وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره(177). وما ينبغي أن يكون هناك إلا ضريبة واحدة:

الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها أن تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين مقابل إيجار سنوي… وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم(178).

وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.

سلسلة من التأثيرات
في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا أن ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بن جرسون وأورييل أكوستا. ولا بد أن دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة “الأخلاق” معبداً ممتازاً للعقل. قال سبينوزا “أن بعض الناس” يبدءون فلسفتهم من الأشياء المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله(179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.

إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التقاليد على أشد الاعجاب بهم ولو أنه في تمييزه بين عالم الأشياء العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو “الأخلاق” عند نيقوماخوس(180). ولكنه قال لأحد أصدقائه “لم يكن أفلاطون وأرسطو وسقراط كبيرون عندي(181)”. أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً كل الإنسجام مع أبيقور. أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في “الرسالة الجامعة” الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. أن قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما قال به هو تعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.

وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو (كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانو بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير والفكرة عن كتاب برونو “المحافظة على الذات(182)” وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم المعرفة الأسمى، بمعنى رؤية كل الأشياء في الله-ولو أن المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.

وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت أن يجعل الفلسفة تتمشى مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في أن أية فكرة لا بد أن تكون صادقة، إذا كانت “واضحة متميزة”. وقبل وعمم رأي ديكارت في أن العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات(183).

وواضح أن “لواياثان” هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. أن الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهو قابل لمجرد خلود غير ذاتي، أو لا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في “لواياثان” تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشتركة “للحالة الطبيعية” و “الميثاق الاجتماعي” انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من “دوائره الملكية” إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هو الذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه “الفلورنسي البالغ الذكاء”، ومرة أخرى بأنه “أعظم عبقري… بعيد النظر(184)” ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في “حالة طبيعية” وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.

وخفف سبينوزا من كل هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق(185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مفصل يتسم بالدقة الألمانية(186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولو أنه مبني على خبرة شخصية، عبارة عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إن وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التوقع الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أو الحقيقة الأساسية أو القانون الكوني، وكم من مرة أعلن عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق كل شك أو جدل أو غموض أو لبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان كل المنطلق وسيلة عقلية أو آلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم؟ وهكذا يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أو آلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يبدو حقيقياً، أو شيء يبدو مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد أن قال المنطق كلمته.

وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من كل معنى ورحمة وأمل، بل أن المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في أن كل الأشياء وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أو العلة الواحدة أو الله، وحينئذ-كما قال بيل-فإن الله هو العامل الحقيقي في كل الأفعال، والعلة الحقيقية في كل الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هو الذي قتل نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على أن هذا “أسخف وأبشع فرضية(187)” وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676-1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. أن نظرية “الجواهر الروحية المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية)” قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعلن لبينتز يوماً أن شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أو تدابير العناية الإلهية في عملية الكون(188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد “الحاد” سبينوزا انضم إليها ليبنتز “حماية لشخصه”. أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكاد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بمذهب الجبرية عنده، “وبأخلاقه” القائمة على المذهب الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أو المذهب الباطني البارز في كتاب “الأخلاق”، وقد نتخيل رد الفعل في فولتير أو ديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هو لباخ، لعبارات مثل “أن الحب الروحي العقلي لله هو نفس الحب الذي يحب به الله نفسه(189)”.

وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه “لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا(190)” أن التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على مذهب وحدة الوجود، هو بالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد أن جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل “فلسفة الوجدان” الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هو نوفاليس، أطلق على سبينوزا “الثمل بحب الله”. وقال هردر بأنه “وجد في رسالة الأخلاق” التوفيق بين الدين والفلسفة. وكتب شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن “سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس(191)” و “وارتد” جيته الشاب عندما قرأ “الأخلاق” لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جو الهدوء في كتاب “الأخلاق”، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه “لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول أن تكون سبينوزياً”، وعبر من جديد عن إله سبينوزا بأنه “العقل المطلق” وربما تسرب شيء من “نزعة المحافظة على الذات” عند سبينوزا إلى “إرادة الحياة” عند شوبنهور، و “إرادة القوة” عند نيتشه.

ولمدة قرن من الزمان عرفت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة “مؤلفاً متأخراً أسمع منه أن تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد”. وكتب الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن “حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة”. وتحدث سيرجون ايفليف عن “الرسالة اللاهوتية السياسية” بأنها “كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة” أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، قال أنه “زعيم كبير للكفرة الحديثين(192)”. وفي 1739 ارتاع هيوم-وهو من أتباع مذهب اللاأدرية-في حذر من “الفرضية البشعة” التي جاء بها “ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في كل الأنحاء(193)”. ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من “الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في “ملكة الأحلام كوين ساب” وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. ووقع جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فقال عنها “تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً”. وترجم جورج اليوت “الأخلاق” بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيو آرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدو أن الدين والفلسفة أثبت كل نتاج الإنسان على مر الزمان. أن بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.

أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما كتبها. أن الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته كل الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة أن يصور الله على أسس يمكن أن يسيغها العلم. أن نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على أن نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في كل جيل، وفي كل مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في مقابل هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال العلم والفلاسفة والقديسين. أن ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هو الذي كتب روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون “وقواعد” نيوتن. و “أخلاق” سبينوزا، وهو الذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهو الذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولو أنه صلبه، أن الإنسان فعل كل هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.

العدل والجور والمعاد عند الفيلسوف ابن رشد رحمه الله(ت. 595ه)

العدل والجور

هذه مسألة من المسائل الهامَّة التي ثار من أجلها الخلاف واشتدَّ النِّزاع بين الأشاعرة وبين المعتزلة والفلاسفة، ومن ثَمَّ نرى ابن رشد في بحثه لها لا يذكر المعتزلة في نقده، على حين ينال الأشاعرة بفيض من نقده اللاذع الشديد.

وهي مسألة تقوم في أساسها على مسألة الحُسْنِ والقُبْح في الأفعال، أذلك يرجع إلى العقل، كما يرى المعتزلة والفلاسفة، أم إلى الشرع كما يرى الأشاعرة؟ ولذلك سنرى كل فريق يبني رأيه في مسألة العدل والجور على رأيه في مُشْكِلَة الحُسن والقبح.

ويبدأ فيلسوف الأندلس البحث بقوله: «قد ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جدًّا في العقل والشرع، أعني أنَّها صرَّحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع بل صرح بضده.»٥٢
ثم يُلَخِّص ابن رشد هذا الرَّأي بأنَّ الإنسان يُوصف بالعدل تارة، وبالجور أُخرى؛ لأنَّ الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رَضِيه الشَّرع كان عادلًا، ومن أتى ما نهاه عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائرًا، أمَّا الله سبحانه وتعالى وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعلٌ هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدلٌ، وكان مِنْ هذا أن قالوا ليس شيء في نفسه عدلًا، ولا شيء في نفسه جورًا، بل كل ذلك يرجع إلى الشرع الذي أمر بأي معصية لكان ذلك عدلًا، وهذا في غاية الشناعة وخلاف المسموع والمعقول!٥٣
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ موقف الأشاعرة في هذه المَسألة «خلاف المسموع والمعقول»؛ وذلك لأنَّ الله وصف نفسه بأنَّه القائم بالقسط، وبأنَّه لا يظلم، وهذا إذ يقول (سورة آل عمران: ١٨): شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وإذ يقول (سورة فصلت: ٤٦): وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وإذ يقول أيضًا (سورة يونس: ٤٤): إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا. يُريد فيلسوفنا بهذا أنْ يُقَرِّر على ما نعتقده، بأنَّ هذه الآيات — وأمثالها في القرآن — تشهد بأنَّ منَ الأفعال ما هو في نفسه عدل كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم كتعذيب البريء الذي لم يجترح إثمًا.

ولكن الغزالي مَثَلُه في هذا مثل سائر الأشاعرة، يرى هنا أنَّ لله ألَّا يُثيب المُطيع كما له أن يعذب الحيوان والطفل البريء بما يشاء، وأنه بهذا وذاك لا يكون ظالمًا؛ لأنَّه يتصرف في ملكه بما يُريد، وكما يَرَى هو لا يرى غيره، فلا يُتَصور في حقه الوصف بالظلم، ما دام شرط هذا الوصف غيرَ موجود في حَقِّه، وهو التصرف في غير الملك أو مخالفة أمر من له عليه حق الأمر.٥٤
على أنَّ لنا أن نقول بأنَّ الأشاعرة حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنَّه تعالى وإن كان لا يَجِبُ عليه إثابة المطيع إلا أنه سيفعل هذا حتمًا تحقيقًا لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنه حين تُحل هذه المشكلة هذا الحل الذي يحقق لله العدالة والإرادة والقدرة بإطلاق، يشعر الإنسان أنَّه تحت حكم إله ليس عادلًا كل العدل فحسب، بل ورحيمًا أيضًا إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العُصَاة، وأنَّه لن يضيع أجر من أحسن عملًا.٥٥
ومع هذا فإنَّ ابن رشد لم يَسلَم له رأيه حتى الآن، بل عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن لا تدلُّ بظاهرها لرأيه، وأنْ يُفسر آيات أُخرى تشهد لرأيه، مثلًا جاء في سورة المدثر: (آية ٣١): كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي سورة السجدة: (آية ١٣): وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، إلى آيات أخرى تدلُّ — إذا أخذت حرفيًّا ومُستلقة عن غيرها — على أنَّ الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جورًا طبعًا.

وهنا نرى ابن رشد لا يعيا بالجواب عن هذه المشكلة، إنه يرى بحق أنَّ هذه الآيات ظاهرها لا يَتَّفِقُ وآيات أُخرى تدلُّ على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى (سورة الزمر: ٧): وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ إذ منَ البيِّن بنفسه أنَّه متى كان الله لا يَرضى الكُفر لأحد من عباده، فإنَّه لا يرضى طبعًا أن يوقع أحدًا في الضلال المؤدي إليه.٥٦ والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب منعًا للتعارض بين آيات القرآن تأويلُ آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأُخرى، فهذا هو اللازم عقلًا، وما يتفق وعدْلَ الله الشامل العام.
ولكنْ كيف يؤوِّل هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما آنفًا؟ إنه يرى في الآية الأولى التي تقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، إشارة إلى أنَّ مشيئة الله الأزلية اقتضت أن يكون في بعض الناس خلق مُهَيَّئون للضلال بطباعهم وبأسباب أُخرى عرضت لهم، لا أن الله تعالى هو الذي يضلهم.٥٧ ولكن لنا أن نتساءل: وهذه الطباع التي هيأتهم للضلال، مَن الذي خلقها فيهم؟ وهذه الأسباب التي قادتهم إليه، من الذي كان السبب الأول فيها؟
على أنَّ فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأُخرى التي تقول: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. إنه يَرَى أنَّ ما يكون خيرًا للأكثر من الناس قد يكون سببًا لشر — هو هنا الضلال مثلًا — يُصيب الأقل، فليس من الحِكْمَة أَلَّا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خَلْقه والأمر هكذا يكون عدلًا كل العدل،٥٨ ولهذا جاء في آية أخرى (سورة البقرة: ٢٦) قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.
وفي الحق لو لم يجئ الإسلام وينزل الله القرآن على محمد، ﷺ؛ ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لما صار من كفر به إلى الضلال الأبدي والخلود في النار، ولكنه كان من أعظم الخير والعدل للبشرية جميعًا أنْ جَاءَ هذا القرآن الذي هُدي به أضعاف أضعاف من كان سببًا عارضًا لإمعانهم في الضلال والكُفر، فالله إذن لم يقصد قصدًا أوَّليًّا أولئك الذين كفروا به، ولكن أراد الخير الكامل والسعادة التامة لأُمَّة رسوله المصطفى، وإن كان سببًا لشقاء من كفروا به.

ومن الواضِحِ بَعْدَ هذا كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور «كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنَّه إنما خلق أسباب الضلال؛ لأنه يُوجد عنها غالبًا الهداية أكثر من الضلال.»٥٩
أمَّا لماذا جاءت في هذا المعنى تلك الآيات المُتَعَارضة بظاهرها؛ حتى احتاج الأمر إلى التأويل، فإنَّ فيلسوف الأندلس يجيب بأنه كان ضروريًّا أن يفهم الجمهور أنَّ الله مع عدالته المُطْلَقة هو خالق كل شيء: الخير والشر؛ وذلك بسبب ما كان معروفًا — قريب عهد بالرسالة — من القول لدى بعض الأمم من وجود إلهين: واحد للخير وآخر للشر، فكان من الضروري تقرير أنه لا خالق لشيء ما إلا الله وحده، ولكن على معنى أنَّ خلقه للشر من أجل ما يكون سببًا للخير لأكثر الناس؛ فيكون خلقه للشر إذن عدلًا وخيرًا حقًّا.٦٠
ومهما يكن من شيء، فإنَّ هذا القدر من التأويل ليست معرفته واجبة على جميع الناس في رأي ابن رشد، ولكنَّ هذا واجب لمن عرض لهم فقط الشك في هذا المعنى؛ وذلك لأنَّه «ليس كل أحد من الجمهور يشعر بالمعارضات التي في تلك العمومات، فمن لم يشعر بذلك فغرضُه اعتقاد تلك العمومات على ظاهرها.»٦١ حتى لا يكون البحث في هذا سببًا لدخول الشك في قلبه.
هكذا سَلِم لابن رشد التدليل على أن الفعل يصح أن يوصف لنفسه بالحسن والعدل أو بالقُبح والجور، وعلى أنَّ أفعال الله تعالى تُوصف لذلك بالعدل دائمًا، كما سَلِم له أيضًا الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ إذا أُخذت بظاهرها أنها مُتعارضة في هذا المعنى، وذلك دون أن ينزل إلى رأي الأشاعرة الذي يراه شنيعًا وضد الشرع والنظر العقلي الصحيح.

(٩) المعاد وأحواله

■●■●■●■●■●■●■●■■●■■●■

كون الإنسان يُبعث بعد موته ليُجزى عَمَّا عَمِل في الدار الدنيا، وليحيا حياة أخرى سعيدة أو شقية، هو كما يقول ابن رشد «مما اتفقت عليه الشَّرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء.»٦٢ ولا نِزَاع فيه بين الفَلاسِفَة وبين رجال علم الكلام.
وذلك لأنَّ الإنسان لم يُخلق عبثًا، بل خُلِقَ لِغَايَةٍ جَليلة يُعتبر تحقيقها بأفعاله ثمرة وجوده في الدَّار الدنيا، فلا بدَّ إذن من أن يؤدي حِسَابًا عَمَّا عمل في سبيل هذه الغاية.

وكذلك؛ من الناس من يحيا في هذه الدار الدنيا حياة لا يجد فيها من السعادة ما يُكافئ فضيلته وأَعماله الخيِّرة، ومِنَ النَّاس من هم في مُتعة من اللذات والخيرات مع بُعدهم عن الفضيلة، فلا بدَّ إذن من حياة أخرى، بعد هذه الحياة التي يشقى فيها الفاضل وينعم الرذْل الشرير، يجد فيها كل إنسان من الجزاء ما يكون كِفاء ما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الحاضرة.

ولهذا وذاك كان الاتفاق في هذه المسألة، مسألة المعاد والجزاء، يرتكز على ما جاء به الوحي وقامت عليه البراهين الضرورية عند الجميع، وفي ذلك يقول الله تعالى (سورة المؤمنون: ١١٥): أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ويقول (سورة النجم: ٣٩–٤١): وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.

لم يجد ابن رشد إذن أي عناء في التدليل على مبدأ المعاد، وإنما الذي بذل فيه جهده هُنا هو بيان أنَّ هذا المعاد وما يتبعه من ثواب أو عقاب سيكون روحانيًّا لا جُسمانيًّا أيضًا كما يرى المتكلمون، وإثبات هذا بطريق يناسب الخاصة والعامَّة حسب المبدأ الذي أخذه على نفسه في كتابه «كشف الأدلة».

وهذا المجهود الذي بذله ابن رشد في بيان رأيه ورأي أسلافه فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، وفي التدليل عليه سيكون الحكمُ له أو عليه في الفصل التالي الخاص بالخصومة بينه وبين الغزالي، وإنما طريقتنا هنا كما في سائر المسائل التي تقدمت في هذا الفصل، هي عرض رأي فيلسوف الأندلس وتدليله عليه كما أراد، ومُقارنته برأي بعض أعيان المُتكلمين وبالأخص إمام الحرمين وخريجه أبو حامد الغزالي.

•••

ذهب المتكلمون إلى أنَّ بعث الأجسام ثابت بالسمع وجائز عقلًا مع هذا، أمَّا السمع ففي القرآن كثير من الآيات التي تثبته، ومنها قوله تعالى (سورة يس: ٧٨-٧٩): وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.

والعقل يُجيز البعث الجسماني أيضًا، فهذا هو إمام الحرمين الجويني يقول مستدلًّا بالعقل على جوازه: «ووجه تحرير الدليل أننا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدَّرناها مثلًا لها لقضي العقل بتجويزها، فإنَّ ما جاز وجوده جاز مثله؛ إذ من حُكْم المثْلين أن يتساويا في الواجب والجائز.»٦٣
ولا يختلف الغزالي في هذا عن شيخه الجُويني، فهو يقرر أنَّ المعاد (يريد الروحاني والجسماني معًا) دلت عليه الأدلة القاطعة الشرعية، وأنَّه ممكن عقلًا بدليل الابتداء؛ فإنَّ الإعادة خلْق ثانٍ، ولا فرق بينه وبين الابتداء.

ولسنا الآن بسبيل استلهام الغزالي لشيخه إمام الحرمين في هذه المسألة وفي أكثر آرائه الكلامية، وإنَّما الغرضُ بيان أنَّ رجال علم الكلام مُجْمِعُون على أنَّ المَعَاد الجسمي لا الروحي فقط سيكون في الدار الأُخرى.٦٤ علينا إذن بعد هذا أن نعرف ماذا يرى ابن رشد في كيفية المعاد، وكيف يثبت رأيه في هذه العقيدة الأساسية في كل الأديان.
إنه يقرر أنَّ الشرائع وإن اتفقت على مبدأ المعاد، فإنها اختلفت في كيفيته، بل «في الشاهدات التي مثَّلَت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أنَّ من الشرائع من جعله روحانيًّا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معًا.»٦٥
وذلك بأنَّ مما لا شك فيه أن للنفس بعد الموت إن كانت فاضلة حالًا تُسَمَّى سعادة، وإلا فحال أُخرى تُسَمَّى شقاء، والوحي الذي جاء في بيان هذا الحال يختلفُ باختلاف الأنبياء، ومن ثم كان اختلاف الشرائع في تمثيلها.٦٦
وفيلسوفنا يذكر سببين لاختلاف الشرائع في التمثيل لتلك الحال:٦٧
اختلاف ما أدركه الأنبياء من الوحي من هذه الأحوال، أو لأنَّ الذين مثلوا هذه الأحوال بمُثُل مادية قد «رأوا أنَّ التمثيل بالمحسوسات هو أشدَّ تفهيمًا للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركًا … وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام.»

إنه إذن يذهب كما هو واضح من هذا إلى أنَّ المعاد سيكون روحانيًّا فقط، إلا أنه لا يُعنى هنا بإبراز هذا الرأي ولا بالتدليل عليه؛ وذلك لأنَّ المقام مقام توفيق بين الحكمة والشريعة بالتدليل على العقائد الدينية الأساسية تدليلًا يُوافق الخاصة والجمهور.

بل إنَّه يكتفي هنا بعد أن استدلَّ لأصل البعث من القرآن بأنْ يقول بأنَّ التمثيل الذي في شريعتنا يُشبه أن يكون أتم إفهامًا لأكثر الناس، وأكثر تحريكًا لنفوسهم إلى ما هنالك، والأكثر هم المقصود الأول من الشرائع، وذلك بخلاف التمثيل الروحاني، فهو أشد قبولًا عند غير الجمهور، وإنه لهذا المعنى نجد المسلمين فرقًا مختلفة في فهم التمثيل الذي جاء في الشريعة للمعاد وأحواله.٦٨
وتدليل ابن رشد لما ذهب إليه نجده في كتابه «تهافت التهافت»، وسنعرض له في الفصل التالي، وسنرى إنْ كان يُمكنه تأويل كل الآيات القرآنية التي تُؤَكِّد المعاد الجسماني والسعادة والشقاء الجسمانيين، أو إنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا، ولكنه ينتهي من هذه المسألة هنا بقوله: «والحق في هذه المسألة أنَّ فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظرًا يُفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة؛ فإنَّ هذا النَّحو من الاعتقاد يُوجِبُ تكفير صاحبه؛ لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلومًا للناس بالشرائع والعقول.»٦٩
•••

هذا، وإلى هنا انتهى ابن رُشد من التدليل على ما رأى التدليل عليه من العقائد الدينية الأساسية، تدليلًا يُنَاسِبُ الخَاصَّة والعامة من الناس، وإلى هنا أتمَّ في رأيه عملًا كبيرًا في سبيل الجمع أو التوفيق بين الشريعة والحكمة، فقد بيَّن أنَّ عقائد الدين يمكن أن يستدل عليها من الشرع ومن العقل معًا، وأنَّه لا يُوجد بين هذين المعنيين خلاف في شيء ما.

وإنَّ عليه بعد ذلك كله ليتم له ما أراد، أن يهدم تهافت الغزالي، وهذا ما سنراه في الفصل التالي الذي سيعالج فيه — ضمن ما سيعالجه من مسائل — بالبحث الطويل العميق بعض ما تناوله بإيجاز في كتابه «كشف الأدلة عن عقائد الملة» كما رأينا في هذا الفصل الذي انتهينا منه، نعني بذلك مثلًا مسائل: قدم العالم، وعلم الله، والحياة الأُخرى وما سيكون فيها من ثواب وعقاب.

السلطة عند الفيلسوف شوبنهاور – الفيلسوف شوبنهاور وإرادة السلطة..

شوبنهاور وإرادة السلطة

معظم الفلاسفة ذهبوا للبحث في الأنظمة السياسية وتشكلاتها، تبعاً لسياقات محددة، فبين نزعة الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز لتأييد الحكومة المطلقة، ونزعة سبينوزا لتأييد النظم الديمقراطية، ثمة بون شاسع بين التوجهين، غير أن ما يسترعي الانتباه ذاك التحليل المعمّق من قبل الفيلسوف الألماني شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة والإرادة، حيث يمكن أن نختبر من خلاله فهم نموذج التفكير السلطوي، إذ تمكن هذا الفيلسوف من سبر أغوار الإنسان، واكتشاف ما بداخله من إرادة السلطة؛ ما ينتج نوعاً من التعارض بين هذه الرغبة، وكل ما يخالفها.
إن قراءة في أحوال المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو في مرحلة الاستقلال، يحمل الكثير مما يمكن أن نعدّه وصفاً لعالم عميق من التكريس لنموذج النفي للمختلف، وقمع كل ما يمكن أن يؤدّي إلى نموذج عادل. هذا المخاض الذي يختبره العالم العربي لا يمكن أن يؤرّخ مع انطلاق شرارة الربيع العربي، إنما هو ممتد من لحظة جلاء الاستعمار إلى يومنا هذا، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ، ثمة الكثير من التأملات التي تشي بأسباب هذا الإصرار على تبني الديكتاتورية، أو السلطة المطلقة.
إن ما نشهده الآن في قطاعات كثيرة من العالم العربي (دول الربيع العربي) يحمل معه وعياً لا يمكن أن نصفه إلا بأنه حلقة من حلقات التطور الحتمي للتخلص من النظم الديكتاتورية، على الرغم من عمق تأصلّها في وعي الإنسان العربي وثقافته، بوصفها قدراً لا يمكن الانفكاك منه، نتيجة سيطرة العقلية الحاكمة التي تسوغ وجودها تبعاً لعوامل؛ تنهض على استغلال ما يوجد لدى البعض من نزعة لتبني بعض الأيديولوجيات، أو النظم العصبية، أو أي وسيلة تستغلها السلطة لتمكين وجودها، ومن ذلك ابتكار الخوف من المجهول الخارجي، أو الاضطراب الداخلي، وهي أدوات تتيح للسلطة البقاء لأطول وقت ممكن. وهذا ربما يدفعا إلى تحليل تأمل سلوك السلطة المطلقة، أو دواخلها النفسية من منظور تأصل هذه النزعة القائمة على الرغبة الجائعة لدى الديكتاتور، قياسا بآراء شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة.
وهنا يبدو السّؤال الأكثر إثارة للجدل، لماذا يصرّ الديكتاتور على البقاء في السلطة، مع الرغبة بنفي الجميع من أجل أن يستمر في ممارسة وجوده؟ مع أن التاريخ ينقل لنا حتمية زوال الديكتاتور مهما طال وجوده… غير أن عقله الباطن يتجاهل هذه الحقيقة المطلقة، كما ثمة نوع من الإنكار العميق لدى هذا الديكتاتور، بحيث يكون منفصلا ًعن الواقع ليرى في وجوده جزءاً من كيان وجود أمة ما؟ وبأنه لا يمكن أن تستمر هذه الأمة إلا بوجوده، وبذلك فقد أضحى الأمر وجودياً بالنسبة إليه. ولعل هذا يفسر بداعي الرغبــــة العميقة القائمة على البقـــاء، على الرغم من كل المخاطر، والكلفة العالية، إذ يضطر الديكتاتور من أجل السلطة للتضحية بنصف شعبه، حيث يقتنع بأن وجـــوده أهم من وجود الشـــعب، وعلى الشعب أن يرحل، أو أن يباد كي يبقى.
هذا الأمر يعيدنا مرة أخرى إلى تحليل شوبنهاور الشّديد التبصر في ما يتعلق بفهم نزعة الإرادة التي تتولد عن الرغبة في السلطة، ففيلسوف التشاؤم يبدو في هذا التوجه على قدر كبير من الذكاء، حيث استطاع فهم الطبيعة البشرية العميقة التي تتعلق بالأشياء، بما فيها السلطة، من منطلق الرغبة التي لا يمكن أن تنتهي، أو تنضب.

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة، بما في ذلك رغبة الحكم، فالإرادة الديكتاتورية – إن صح هذا التعبير- تنطلق من ذلك العماء الذي يتجاهل كل ما هو حوله، فشوبنهاور يرى أننا لا نريد شيئاً إذا وجدنا أسباباً له، ولكننا نبحث عن أسباب له لأننا نريده، وبهذا ينتفي العقل، وتصبح الرغبة هي المسيطرة، وهكذا نرى بكل وضوح، كيف يمكن لديكتاتور أن يحطم وجود أمة ما؛ لا لشيء إلا لأنه يعتقد أن وجوده ينتمي إلى أسباب معقولة، أو موجبة؟ لقد أصبح الديكتاتور غير متصل بالعقل، إنما بالرغبة التي تجعله يخوض حروباً أو يعتقل معارضيه، أو يتحالف مع الشيطان للمحافظة على البقاء الذاتي، فالمنطق العقلاني – في هذا السياق – يصبح غير فاعل؛ لأننا مهما حاولنا إقناع الديكتاتور بخطأ سلوكه فإنه لا يستجيب، ومن هنا تنشأ قيم التدمير، التي يمكن أن تقضي على كل شيء من أجل ذات تحكمها الرغبة، أو إرادة البقاء في السلطة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه قيم (التدمير الذاتي) الذي تمارسه السلطة قبل رحيلها، حيث تسعى لتدمير كل شيء.
يرى شوبنهاور أن الإنسان في طبعه محكوم برغبته في البقاء، وهو غالباً ما يتناسى هزائمه، وينظر إلى مكاسبه أو انتصاراته، وهذا يتصل برغبته في البقاء، وتوفير كافة السّبل التي تجعله على اقتناع بأن وجوده مبرر، ومن هنا يسارع الديكتاتور إلى سرد كافة تفاصيل ما أنجزه من إنجازات وهمية، على الرغم من أنه أفسد أكثر مما أصلح، وعليه فإنه لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة، ونقصد بها الإرادة (الرغبة) المحكومة بذاتها، وهي ما يطلق عليها شوبنهاور إرادة الحياة – على الرغم من الاختلاف في تفسير (الحياة) – التي تصبح جزءاً بنيوياً من وجود الديكتاتور، فهذه الصّورة من الحياة لا تعني نموذجا معاشاً أو طبيعياً، إنما تعني الحياة في السلطة، وبذلك فهو لا يمكن أن يتخيل نفسه خارج السلطة، ولا سيما بعد أن يكون قد استحوذ عليها.
ثمة إشكالية عميقة تتصل بقيم التعليم التي تنشأ عليها الأجيال، كونها تقوم على ثقافة منتشرة، بأن وجود السلطة أزلي، وبأن الآخر ينبغي أن يكون خاضعاً، وألا يتمكن من سلب هذه الأفضلية، مع رفض الإيمان بتداولها، وبذلك لن نتمكن من الوصول إلى نموذج الحرية والديمقراطية الحقّة، ما لم ننزع عنها الرغبة بالتفوق، ونفي الآخر، وهي ثقافة مجتمعية غالباً ما تنشأ في المجتمعات التي تنهض على تكريس سلطة القيم العسكرية أو العصبية، أو في المجتمعات التي لم تتمكن من تطوير نظم حضارية مدنية، مع أن ثمة الكثير من الدول ذات القدرات أو النزعات العسكرية، غير أنها غالباً ما تخضع هذه المنظومة العسكرية لمنظور مدني مؤسسي صارم، ينهض على فلسفة الدولة المدنية، ولهذا يجب أن تُغذّى المؤسسة العسكرية على احترام النموذج المدني. يرى البعض أن هذه الرغبة (المدمرة) ربما تتسلل إلى بعض الأنظمة الديمقراطية لتجلب بعض الحمقى إلى الحكم، ولعل هذا ما دفع سبينوزا إلى القول بضرورة منع هؤلاء الحمقى، وغير المتعلمين من الوصول إلى السلطة – على الرغم مما يحمله هذا الرأي من تناقض- غير أن البناء المؤسسي للدولة يحول دون وجود سلطة مطلقة، يتحكم بها الطرف (المشّوه) الذي وصل عن الديمقراطية، وهنا تختلق وسائل منع التفرد في الحكم، وبذلك نذهب إلى أن النموذج الأنسب يتمثل بالتفكير الحضاري القائم على نفي الذات من أن تكون مصدر كل شيء؛ بعبارة أخرى محاربة ثقافة (الاستحواذ) التي تعمقت في العقلية، التي خرجت من رحم الاستعمار، كون الأخير هو المسؤول عن إيجاد هذه النماذج؛ إذ كان على الدوام محكوماً بالحاجة للتعامل مع تابع، أو ما يمكن أن نطلق عليه «وكلاء الاستعمار» الذين يكفلون بقاء الهيمنة. وكم تبدو عبارات شوبنهاور شديدة الصدق في التعبير عن الكثير من قيمنا التي يبدو فيها العقل في مجال من الضيق، كون إرادة السلطة، والتعطش لها لا تتعب، فالعقل يتعب، بيد أن الإرادة لا تتعب، كما يقول شوبنهاور.
وفي الختام ربما يكون العالم كله شر، وربما لن يتوقف الشر، لأننا مسكونون بمخاوفنا وهواجسنا من الآخر، وعندما يأتي الديكتاتور فإنه يأتي محمولاً على أكتاف الشر، فيخشى الرحيل لاعتقاده بأن وجوده بات محكوما بالنهاية، ومن هنا، فهو يسعى للبقاء إلى النهاية، فالرغبة تعيش على ذاتها، وهي جائعة دوماً؛ ما يعني أننا أمام معضلة تحتاج إلى تكريس أنماط ثقافية، تبدأ من التعليم للتخلص من نير مفاهيم السلطة المطلقة، أو وعي الديكتاتور، ولكن كل حركة في هذا الاتجاه لا بد لها من ثمن باهظ.