يُعدّ النَّظر في عِبر الماضي بخصوص الأوبئة وتأثيراتها في المجتمعات، والتأمُّل في الكيفيّات التي واجه بها أسلافنا الجوائح، مهمةً نافعةً للبحث الأكاديمي في الظروف الاستثنائية التي يعيشها العالم بسبب الوباء المستشري (مرض فيروس كورونا 2019 المعروف بـ COVID-19)، من أجل دراسة ما وصلنا من أخبار وتآليف وشهادات لاستخلاص دروس بليغة تفيدنا في الحاضر، وربما في المستقبل أيضًا. وهذا ما يحفِّزنا لتخصيص هذا البحث لدراسة الوباء وسبل التّحرز منه في الطبّ العربي وفي تاريخنا الثّقافي والاجتماعي، بالاعتماد على مادّة تراثية، طبيّة وعلميّة وتاريخيّة، تتميّز بالثراء والتنوع.
يتألّف هذا البحث من ثلاثة أقسام:
- مقدّمات تهدف إلى تحديد بعض الألفاظ والمفاهيم والمصطلحات المركزية باستكشاف الحقل الدلالي لمصطلحَي الوباء والجائحة عبر الحَفر في سياقات استعمالهما في التراث العربي الكلاسيكي، وإبراز المجال العلمي الذي تجري فيه المعركة ضد الوباء، وهو البيولوجيا، وتحديد علاقة علوم الحياة بالطب.
- توصيف مختصر للتأليف العربي، الطبي والتاريخي، حول الأوبئة، بالاستناد إلى مقاربة مزدوجة تعتمد منهجية تاريخ العلوم والطب وأسلوب التاريخ الثقافي. وفي هذا السياق، سننظر في كتاب متميّز للطبيب والعالم الفلسطيني محمد التّميمي، من رجالات القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.
- ونتدارس في الأخير في عجالة آثار الخراب الديموغرافي الناتج من طاعون الموت الأسود الذي تَفشّى في منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي في آسيا والعالم الإسلامي وأوروبا، وشكّل عاملًا من عوامل التراجع الحضاري الذي أصاب المنطقة العربية[1].
قبل الانكباب على هذه المواضيع، نثير الانتباه إلى بعض القضايا العملية والنظرية التي تكتسي أهمية بالغة في الوضعية الحالية، آملين أن تكون موضوع اهتمام ونظَر، وهي:
- أمر أساسي يهم مستقبلنا كأمّة عربية، والوضع الحالي يجعله شأنًا مصيريًا أكثر من أيّ وقت مضى، نذكِّر به من ناحية مبدئية رغم انعدام شروطه راهِنًا: ضرورة المبادرة إلى تأسيس منظومتنا القومية المستقلة للعلوم والتكنولوجيا، لمواكبة السعي الدؤوب للشعوب العربية إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي، وإلى بناء تنمية اقتصادية واجتماعية معتمِدة على المعارف العلمية وتجسيداتها التكنولوجية تضمن للإنسان العربي التّحرر من التبعيّة وتحقيق النّمو المنشود.
- الدعوة إلى استحضار المعرفة التاريخية، تلك الحاضرة/ الغائبة في ثقافتنا، لا سيّما في ارتباطها بالمعارف العلمية والطبية. رغم تعدّد الدعوات في ثقافتنا الحديثة للاهتمام بالتاريخ والانتباه لتأثير الزمن، فإن الوعي بفِعل التاريخ – ولا أعني نزعة تاريخانية صارت تثير الشبهات – لا يُبَنْين ولا يُهَيْكِل رؤيتنا للعالم، وفهمنا لوجودنا في الزّمن المتحرّك بما يكفل لنا علاقة سَويّة مع الماضي. إن ضعف الوعي بالتاريخ وبفعل الزمن من أهم عوامل ذهول ثقافتنا عن إدراك أثر الزمن، وأهميّة التفسير التاريخي، وضرورة الأخذ بمسببات الظواهر.
- استشراء الوباء الحالي يذكّر بما حصل في الماضي حين ضرب وباء الطاعون المنطقة العربية، وشكّل عاملًا رئيسًا للانحسار الحضاري الذي نزل بنا في نهاية العصور الوسطى، حين بدأ خروجنا من التاريخ بفعل التأثير الكاسح الذي أحدثه هذا العامل المركزي في تاريخنا الديموغرافي والاجتماعي وتفاعله مع عوامل داخلية وخارجية أخرى، فصار مفتاحًا لفهم الانهيار اللاحق. من هنا، فإن الطاعون، الوباء الأعظم، لا ينتمي إلى الماضي فحسب، بل قد يكون مُحتَفَرًا ومُسَجَّلًا في المستقبل البشري إذا استفاق وعاد إلى مزاولة حصاده الرهيب. يحتِّم علينا ذلك التنبيه إلى الأهمية الكبيرة للبحث المتعدّد الاختصاصات في التاريخ الوبائي للمنطقة العربية؛ ليس لإرساء “تفسير طبي للتاريخ”، بل للحفر في أحد عوامل التراجع التاريخي الذي ألمّ بنا منذ القرن الخامس عشر، ولجَمع المعطيات المفيدة في فهم الطاعون كمعضلة من معضلات الصحة العامّة في الحاضر، وذلك في ضوء العناصر التالية: أ) تفشّي الطاعون من جديد إمكان وارد إذا طَفَر فيروسه الكامن، ب) لا يوجد لِقاح مضادّ لأن اللقاحات لا تُطوَّر لأمراضٍ كامنة، ج) التخوّف من استعماله في حرب بيولوجية محتملة، د) أثبت تحليل الحمض الرِّيبي النَّووي المُستعاد من بقايا فيروس “طاعون الموت الأسود” أن هذا المركّب العائد من زمن مضى مطابق تمامًا للفصيلة الحيّة اليوم. بالجملة، إن دراسة أوبئة الماضي ليست موضوعًا مهمًا للبحث الأكاديمي فحسب، بل تندرج في ترسانة الإجراءات المعتمدة لمواجهة سيناريو الكارثة المحتملة في المستقبل.
1- سنخصّ بالذّكر وباء الطاعون مثالًا لأوبئة المرحلة الوسيطة كالجُدَري والحصبة والسلّ والكوليرا والملاريا وغيرها، نظرًا إلى الحيز الضيق المتاح في الدراسة. يقول في هذا الصدد الأديب والمؤرخ المغربي والأندلسي القاضي عياض (ت. 544هـ/1149م): “الوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونًا لشَبَهِهَا بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا […] ويدلّ على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عِمواس إنما كان طاعونًا” (ذكره محمد زكريا الكاندهلوي في: أوجز المسالك إلى موطأ مالك، تحقيق تقي الدين الندوي (بيروت: دار القلم، 1424/2003)، الجزء 15، ص 667)؛ للاطلاع على دراسات عامة حول الأوبئة في التاريخ العربي، يرجى مراجعة: سلمان قطاية، “الأوبئة في الطب العربي”، التراث العربي (دمشق، اتحاد الكتاب العرب)، السنة الثانية، العدد 7 (نيسان/ أبريل 1982)، ص 54-69؛ سعود محمد العصفور، “الكوارث والأمراض والأوبئة في العصر المملوكي”،
المؤرخ المصري (جامعة القاهرة)، العدد 32 (2008)، ص 269-325؛ محمود الحاج قاسم محمد، البيئة والأوبئة في التراث الطبي العربي الإسلامي (الموصل: دار ماشكي للطباعة والنشر؛ نينوى: رابطة التدريسيين الجامعيين، 2020).
2-يعرف علماء الفيروسات بوجود فيروس الطاعون في حالة كمون في حيوانات تعيش بيننا، وأن إصابات بشرية تحدث من حين إلى آخر. كما يعرفون بشأن استشرائه في الكلاب الأليفة في جنوب غرب الولايات المتحدة الأميركية..
الأستاذ الدكتور محمد أبطوي
خبير مصطلحي بمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، عمل إلى حدود حزيران/ يونيو 2019 أستاذًا لتاريخ وفلسفة العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط. حصل على الإجازة في الفلسفة من جامعة محمد بن عبد الله بفاس، وتابع دراساته العليا بجامعة السوربون بباريس. بعد رسالته للدكتوراه حول مخطوطات جاليليو في الفيزياء (حزيران/ يونيو 1989) في مجال تاريخ وفلسفة العلوم، عمِل أستاذا مساعدا بكلية الآداب بفاس وباحثا مشاركا بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بباريس ونيس. التحق في صيف 1996 بمعهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم ببرلين لثمان سنوات حيث عمل باحثا متخصّصا في تاريخ العلوم العربية. انضم في أكتوبر 2003 إلى الفريق الاستشاري لوزير الأوقاف في الحكومة المغربية لأربع سنوات، كما شغل بين آذار/ مارس 2007 وأيار/ مايو 2014 منصب كبير الباحثين بمؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة بمانشستر، المملكة المتحدة. نشر العديد من الكتب وما يربو عن مئة مقالة بحثية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية…