تقديـــــــــــــم
لقد جاءت العلوم الإنسانية متأخرة النشأة قياسا بالعلوم الدقيقة، كما جاءت تلك النشأة، كنتيجة لما بدأت المجتمعات الحديثة تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها السريع.. هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية. إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعة جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل إبيستيمولوجية من نوع خاص، ومن ثم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية.
يظهر أن العلوم الاجتماعية عرفت تطورا عميقا و متواصلا سواء في مضمونها المعرفي أو في مناهجها التي تبعها للإجابة عن اشكاليتها التي تطرحها للبحث و للسؤال. هكذا، نلاحظ توسعا لمجال التحليل و التطرق لمواضيع جديدة و بأدوات ووسائل منهجية حديثة، سواء نتيجة اجتهادات الباحثين فيها أو بفعل ما يقومون به من اقتباس من مكتسبات معرفية و منهجية من علوم أخرى قريبة. وقد طرح كثير من فلاسفة العلم مسالة علميتها ، بل تساءل جلنر عالم الانثربلوجبا عن إمكانية دخول العلوم الاجتماعية إلى حظيرة العلوم الطبيعية، كما ناقش البعض منهم حول خصوصيتها المعرفية و المنهجية.
لقد حققت العلوم الطبيعية نجاحا كبيرا بفضل استخدامها المنهج التجريبي و قوانين الحتمية، فهل يمكن أن يتحقق ذلك مع العلوم الإنسانيـــة؟ بمعنى هل يمكن دراسة الظواهر الإنسانية بطريقة تجريبية تماما كما يحدث في العلوم الفيزيائة و الكيميائية؟
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو علم الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما قديما كقدم علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت..
1-مسالة تحديد معنى العلوم الاجتماعية و أسباب تأخرها في تبني المنهج الوضعي
1-1-إشكالية التسمية
لقد اختلف الباحثون في توحيد إطلاق اسم موحد على كل المعارف المرتبطة بالإنسان و المجتمع.
+ إذ نجد تسميات متعددة منها علوم الإنسان Sciences de L’ Homme و العلوم الإنسانية Sci. Humaines و العلوم الاجتماعية. Sci. Sociales
+و تسمى أيضا بالعلوم المعنوية وهي تتخذ من أحوال الناس وسلوكاتهم موضوع الدراسة وفق منهج منظم ،إنها تدرس واقع الإنسان و كل ما يصدر عنه من سلوكات من مختلف أبعاده ، النفسية والاجتماعية و التاريخيــــــة
كما نجد فرقا بينها وبين العلوم المعيارية :
+أن العلوم الإنسانية S.Humaines تدرس الحالة الراهنة للسلوك أي ما هو كائن أما العلوم المعياريةAxiologie فهي تهتم بما يجب أن يكون أي بما تحمله الأماني كعلم االمنطق Logique الذي يبحث في قوانين التفكير الصحيح .وعلم الجمال Esthétique الذي يدرس الفرق بين القبيح و الجميل و أسس التعبير الجمالي وعلم الأخـــــــــلاق Ethique التي تبحث في القواعد و القيم التي ينشأ عليها السلوك الفاضل و على أساسها يتم التمييز بين الخير و الشر.
+ لقد حددها المعجم العربي الأساسي في ” أنها هي العلوم التي تختص بدراسة تصرفات الناس
و سلوكهم أفرادا أو جماعات و تقابلها” العلوم الطبيعية”. و هذا يعني أن العلوم الإنسانية و الاجتماعية شيء واحد.
كلود ليفي شتراوس اقترح التمييز التالي:
–علوم الإنسان أو العلوم الإنسانية تهدف إلى تحليل واقع الإنسان فردا و مجتمعا كالانثربلوجيا و علم النفس و المنطق و اللسانيات و الابستملوجيا…
–العلوم الاجتماعية التي تهتم بقضايا المجتمع تحليلا و موضوعا كالاقتصاد و الاجتماع و الجغرافيا الاجتماعية…
أما قاموس اوكسفورد فيميز بين العلوم الاجتماعية و الإنسانية:
– أن العلوم الاجتماعية هي العلوم التي تهتم بالدراسة العلمية للمجتمع البشري و ما يتعلق به من علاقات و سياسة و اقتصاد و جغرافيا بشرية…
–أما الإنسانيات هي التي يقصد بها الآداب و الفنون و التاريخ و الفلسفة و ما يتعلق بفلسفة الإنسان.
بصفة عامة، العلوم الإنسانية أو علوم الإنسان أو العلوم الاجتماعية هي مجموعة علوم غير محددة من حيث العدد و هي التي تتطرق بشكل مباشر اوغير مباشر الى الإنسان و إلى ثقافته و انجازاته لتشمل علوم الانثربولوجيا و الاقتصاد و السوسيولوجيا و النفس و التاريخ و الجغرافيا والسياسة و الاركيلوجيا و الإدارة…
ولضبط مفهوم العلوم الاجتماعية تطرح الملاحظات الآتية:
– الاصل في ازدواجية الانتماء .سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين موجودين أصلا في الاسم نفسه “علوم / إنسانية“
+”علوم” يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
+ “إنسانية”: يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها
–غموض و عدم دقة المفهوم. إذ أن وفرة ميادين الحقل المعرفي الخاص بهذه العلوم تفرض تحديد المعايير المستعملة لتحديد هذه العلوم فيما بينها و فيما بينها و بين العلوم الدقيقة الطبيعية الأخرى، و بالتالي ، نلاحظ أن مشكل علوم الإنسان أصبح يتحدد في طبيعة المعرفة المستعملة و قيمتها العلمية.
– صعوبة تحديد و استخلاص مميزات مشتركة لكل العلوم الإنسانية. فهناك تخصصات في ميدان معرفي تتطرق لموضوع قريب قد ينتمي للعلوم الطبيعية. فالمناخ تخصص جغرافي له ارتباط بعلم الأرصاد الجوية ، و علم الاجتماع له علاقة بعلم الاجتماع الإحيائيSociobiologie المنتمي لعلم البيولوجيا…
– كما تطرح بنية المجال العقلاني لكل تخصص إنساني خصوصا بنيتها الداخلية و منطقها المعرفي.
بصفة عامة، لم يتفق أقطاب التفكير الابستمولوجي بعد حول اجتماع تام حول الهوية المعرفية للعلوم الإنسانية ، حيث لم يستطيعوا الحسم في مستوى الروح العلمية لفروعها.
1-2- السياق الفكري لمشكلة المنهجية في العلوم الاجتماعية وعوامل تأخرها
1-2-1 –السياق الفكري للمشكلة
الواقع أن الحديث عن إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية له تاريخ طويل في الفكر الأوروبي حيث عاش المجتمع هذه الإشكالية منذ العصور المظلمة (عصر محاربة الكنيسة للعلم ) إلى أن تمكن العلم بمناهجه وتجاربه من إن يثبت جدارته وصدقه ويتغلب بذلك علي الأفكار اللاهوتية و الميتافيزيقية التي جعلت من أوروبا تعيش زمناً طويلاً من الجهل والظلام ،أن الإنسان له عقل وفكر قادر على التفكير بطريقة علمية مكنته من أن يصنع ويخترع ويخطط من خلال ما يستخدم من مناهج تساعده في ذلك (المنهج الكيفية المتمثلة في المنهج الهرمنوطيقي )والمنهج العلمي التجريبي ،وقد ظهرت المدرسة الوضعية(العلمية) على يد أوجست كونت الذي نادي بوحدانية المنهج بمعني دراسة الظواهر الإنسانية مثل دراسة الظواهر الطبيعية(ومن هنا ظهرت أول شرارة للحرب بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وبين المناهج الوضعية التجريبية والمناهج الكيفية ) وقبل ذلك كانت الإشكالية المنهجية –عند المفكرين السابقين –حيث كان ديكارت يرى أن أسس المنهج تكون عقلية ،وعلى النقيض منه يرى بيكون أن أسس المنهج يجب أن تكون تجريبية ، وبعد ما طرح كونت إشكالية المناهج في العلوم الإنسانية وأصبح لدينا فريقين من العلماء والمفكرين فريق يرى أن العلوم الإنسانية يمكن دراستها بالمناهج التي تدرس بها العلوم الطبيعية (المناهج التجريبية ) وفريق على النقيض من ذلك يرون أن المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعية غير صالحة لكي تستخدم مع الظواهر الإنسانية وذلك نظراً لاختلاف الظواهر الطبيعية عن الإنسانية-العلوم الطبيعية تدرس العالم الخارجي والعلوم الإنسانية تدرس العالم الداخلي – حيث ظهرت العديد من الاتجاهات التي نادت برفض الوضعية وتبني الاتجاهات العقلية في دراسة الظواهر الإنسانية وظهرت في كتابات العلماء (دلتاي –هوسرل –فندلباند –وريكرت ) وظهرت العديد من المناهج في هذا المجال مثل المنهج الظاهراتي والهرمنوطيقي والمنهج الابستمولوجي (منهج علم اجتماع المعرفة) والمنهج النقدي الذي ظهر على يد علماء مدرسة فرنكفورت ، وظهرت العديد من الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية منها ما يلى (أنها اختزلت العلم إلي مجرد علم للوقائع –وإنها نفت الأسئلة المتعلقة بالإنسان من قاموسها فهي تشيء الإنسان و تموضعه وتجرده من إنسانيته –كما أنها تحاول تجريد الإنسان من إنسانيته ،). ومن أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية في ثلاثة نقاط رئيسه :
أولاً :موضوع تاريخ العلم :فهي تغيب البعد التاريخي وترفض الجدل فيه ، فهي تميل الى النظر سكونياً إلي النظرية العلمية ،بمعني أنها لا تراها بوصفها عضوية تاريخية متنامية كماً وكيفاً،فهي لاتسأل نفسها كيف تنشأ النظرية العلمية وتزدهر وربما كيف تضمر وتنتهي
ثانياً:: المفهوم النقدي للعلم :تغفل الوضعية نقد الفكر ونقد الواقع أي نقد للمجتمع الرأسمالي البرجوازي
1-أ2-2-أسباب تأخر العلوم الاجتماعية في اكتساب المنهج العلمي
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.
–فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
–غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
– يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة “أحكام القيمة“
– الحادثة التاريخية لها طبيعة معنوية كالحروب الصليبية أو الحرب الباردة ، لا تلاحظ بالعين المجردة أو بالأجهزة كما نلاحظ الظواهر الطبيعية ، و ما يمكن ملاحظته فقط آثارها غير المباشرة و هذا يعني أن الخطوة الأولى في المنهج التجريبي منعدمة.
— انها حادثة من انتاج الإنسان و تخطيطه، لذلك يصعب تحديد أسبابها بدقة ، و نتائجها و أبعادها وقت حدوثها ، فالكثير من الحروب تقع بطريقة غير مفهومة ، يخفي مقرروها أسبابها الحقيقية .
انها ظاهرة بشرية ، من صنع الإنسان و ترتبط بحياته الخاصة و العامة ، و الإنسان كما نعلم يتصرف بحرية له القدرة على إبداع مظاهر سلوكية غير معهودة و غير متوقعة ، كما أنه لا يستقر على حالة واحدة و عليه لا يمكن اخضاعها لقوانين الحتمية ، مثلا اذا وقع الطلاق بين زوجين لأسباب معينة ، فان نفس الأسباب قد نجدها في عائلة أخرى دون ان يحدث الطلاق ، نفس الشيئ بالنسبة لظاهرة الانتحار و العنف و غيرها ، و هذا ما يضيق دائرة التنبؤ بشكل كبير
— عائق الذاتيــــــــــة و هو من أكبر العوائق الابستيمولوجية في العلوم الإنسانية ، لأن المؤرخ لا يواجه في هذه الحالة ظواهر طبيعية مستقلة ، بل سيواجه حقائق تتعلق بكيانه الشخصي و الوطني و الاديولوجي ، فيكون هو الدارس و المدروس في نفس الوقت ، يتأثر حتما بانتمائه السياسي و الديني . إن المؤرخ بصفة عامة بدل أن يلتزم الحياد و الموضوعية و يفسر الحادثة كما وقعت يقوم بتأويلها و يصدر بشأنها أحكاما تقييمية ، فتراه يضخم الوقائع التي تخدم قضيته ، و يتغاضى عن الوقائع التي تسيئ اليها . و في جميع الحالات تزييف للحقيقة .
– انها ظواهر خاصة تنطوي على عوامل و محركات ذاتية ، كعوامل الطلاق و الانتحار و الهجرة ،و ما هو ذاتي لا يكون قابلا للدراسات التجريبية لانعدام الملاحظة الخارجية ، و لايكون قابلا أيضا للتحليل الرياضي الدقيق .
1- انها ظواهر داخلية يدركها صاحبها ، ولا تدرك من الخارج ، فنحن لا نرى الشعور و اللاشعور ، أو الحب و الكراهية و الانانية و غيرها ، لا مكان لها ، و لا حجم . فعندما يتحول الحزن الى فرح لا ندري المكان الذي اختفى فيه الحزن ، و لا المصدر الذي جاء منه الفرح
– إنها ظواهر خاصة تتعلق بمقومات الشخصية ، وما دامت هذه المقومات مختلفة من شخص لآخر يتعذرفيها التعميم ، كل واحد و انفعالاته ، و اهتماماته ، و قناعته ، و لذلك يستحيل تعميم النتائج ، و هذا يعني أن مبدأ الاستقراء المعروف في العلوم التجريبية غير قابل للتطبيق في الدراسات النفسية.
– انها ظواهر كيفية ، تقبل الوصف لا تقبل التقدير الكمي ، فإذا كان العلم قادرا على قياس درجة حرارة الجسم أو ارتفاع ضغط الدم بالوسائل التقنية ،فان هذه الوسائل غير قادرة على قياس درجة القلق أو الحب الإيمان و غيرها..، يقول الكسيس كاريل ان تقنياتنا عاجزة عن تناول ما لا بعد له و لا وزن و عن قياس درجة الغرور و الأنانية ، و الحب و الكراهية .
– إنها ظواهر شديدة التداخل و الاختلاط : أي أنها ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة..
–انها ظواهر متشعبة تتدخل فيها عوامل كثيرة ، اقتصادية و اجتماعية و سياسية و عقائدية و تاريخية ، فقد يقول البعض أن سبب الهجرة إلى الخارج اقتصادي محض ، لكن يمكن أن يكون سياسي أو اديولوجي و بذلك تنعدم الدقة النتائج المتوصل إليها
–غياب وضوح المنهج الذي يقود السبب إلى نتيجة مما يسمح بتأويلات للسببية المقترحة و نفس الشيء يرتبط بتعقد المفاهيم و غموضها التي تدخل في اللعبة .
– القيام بالتجارب المتكررة في ظروف مشابهة غير ممكنة . لهذا وجب تحديد طرق القيام بها لتكون مقبولة. إذ يصعب تطبيق التجريب في العلوم الإنسانية لعدم خضوع الإنسان و المجتمع للتجريب. فالتجريب يقتضي عزل مؤشرات محددة و إخضاعها للتجربة بالملاحظة، وهذا غير ممكن عموما ( عدا في علم النفس بقياس الذاكرة…)
– إن الحادثة االبشرية فريدة من نوعها لا تتكرر فهي غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لندرة الظواهر المماثلة لأن الزمن او المكان الذي حدثت فيه لا يعود من جديد ، و الإطار الاجتماعي الذي اكتنفها يكون قد تغير و لذلك لا يمكن للمؤرخ إخضاعها للتجريب عن طريق اصطناع حرب تجريبية حتى يتحقق من صحة فرضياته ، ثم أنها ظواهر لا تمتثل لقوانين الحتمية ، إن أسباب وقوع حرب ماضية قد تجتمع حاليا ولا تقع الحرب قد تلجأ الأطراف المتنازعة إلى السلم بدل الحرب ، وما دام الإنسان يتصرف عادة بحرية فان التنبؤ بأحواله يكون شبه مستحيل
إنها ظواهر لا تتكرر بنفس الطريقة و نفس الشعور و نفس الأثر ، فلا يمكن للباحث أن يصطنع الحب و الكره أو التفاؤل و التشاؤم حتى يتحقق من صحة فرضياته ، فهي ظواهر تفلت من قبضة الإرادة و المنطق.
–في ميدان الملاحظة، هنا لا يمكن ملاحظة الظواهر في شموليتها إما لان الظاهرة واسعة جدا( كالهجرة في العالم، العائلة…) أو أنها قد تكون خاصة و خفية( ما هي الدوافع التي تكون زوجا بين بني الإنسان) أو أنها غير محسوسة و غير ملموسة ( كيف يتم تدبير المقاولة في قطاع اقتصادي ما).
أمام هذه الصعوبات يمكن عزل بعض المتغيرات و تحديد ميدان البحث لن هذه العملية تقود إلى عدم فهم الظاهرة و إلى تدخل تأويلات موجهة ذات قصد ذاتي. و هنا نسقط في التحليل و ليس في الملاحظة.
– في مسألة التحقق ودحض التجربة أحيانا و لأسباب أخلاقية لا يمكن إن نخضع الإنسان لتجارب في حدود قصوى ( التجريب في الطلاق أو الانتحار….)
–إنها لا تقترح إلا قوانين تقريبية و أحيانا نجد أن التنبؤات غير دقيقة. فالتنبؤات الاقتصادية غير صحيحة دائما.
1-3- صعوبات الخطاب العلمي الاجتماعي
الموقف المعارض يؤكد انه لا يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية للتجريب ، وبالتالي لا يمكن أن تكون موضوعا لمعرفة علمية نظرا للعوائق الابستيمولوجية .
إن الخطاب الذي يهم الأنشطة البشرية لا يدور حول تفسير و فهم الوقائع الاجتماعية، لكن يهدف إلى اقتراح قواعد و معايير normes. بمعنى أن هذه الأنشطة يجب أن تكون منظمة و مرتبة لصالح ولخير الفرد و الجماعة و الدولة. يبحث هذا الخطاب المعياري Discours normatif لاكتشاف ما يمكن أن تصله البشرية إلى مستوى الخير و القيم. ذلك أ ن الظاهرة الاجتماعية تعطى لها قيمة بل حكم قيمة Jugement de valeur، أي الواقعة الاجتماعية تتضمن اتخاذ موقف( الخير و الشر، القبيح و الجميل، الشيء المفيد و المضر…) .إذن ، هذه الواقعة معيارية تتخذ مكانتها ضمن المعايير و القيم.
إن المرور من الخطاب المعياري إلى الخطاب التفسيري المعروف عند العلوم الدقيقة يتميز بصعوبات منهجية كبيرة، إذ أن الطابع التقريبي للقوانين التي تقترحه العلوم الإنسانية مخالف لدقة القوانين التي تبنيها و تهيكلها العلوم الطبيعية و بالخصوص الفيزياء و كذا دقة التفسير التي تتجلى في مؤشر التنبؤ وهي جزء من المنهج العلمي.و في هذا الاتجاه لا يمكن أن تتقدم العلوم الاجتماعية بتفسيرات أدق عدا البعض منها كالديموغرافيا.
لقد تعرض المنهج لتشككات حول مدى قابليته بالنسبة للظواهر التي تهم البشر و سلوكه و تنظيمه.
في كل العلوم الاجتماعية، نرى أن كل مدرسة علمية أو باحث يعمل على أن يؤسس مشروعا علميا خاصا به اعتمادا على صدق و صلاحية النتائج العلمية التي توصل إليها. مع الرغبة في إبراز لاعلمية الاتجاهات الفكرية الأخرى المنافسة. من هنا نرى أ ن هناك مؤشرين أساسين يمكن استخلاصهما و هما مؤشرا السببية و الموضوعية:
+السببية و مشكل الصدفة:السبب كما قلنا سابقا ( انظر الفصل الأول)هو العلة أو الواقعة أو الحدث أو الفعل الذي يقود إلى إحداث تأثيرات تترجم من خلال تغيير و ضع بالإضافة فيه أو بالنقصان منه أو تغيير مساره.
إن العلوم الطبيعية تأخذ بمبدأ السببية المادية أو الواقعية التي تتجلى في أن كل حركة أو تغيير تنتج عنه حركة أو تغيير آخر. بينما تعتمد العلوم الاجتماعية على أسباب متعددة ( صورية وخفية…).
لهذا ، هذه السببية يجب أن ننظر إليها من زاوية النسبية التي تجعل كل الظواهر و تفسيراتها خاضعة لمحدودية الاجتهاد العقلي البشري.
+الموضوعية: إن البحث الاجتماعي يتميز بمرتبة مزدوجة لأنه إنسان و بالتالي يخضع إلى بعد ذاتي ( ثقافته سلوكه و تكوينه) و في نفس الوقت يرغب في القيام بدراسة موضوعية !
إن هذا المشكل هو من أسباب تأخر العلوم الاجتماعية في تبنيها للطابع العلمي. فالإنسان هو معطى و موضوع في نفس الوقت . إذ يصعب القيام بعملية التباعد عن ذاته و ذاتيته في البحث العلمي، ثم إن حدسه لا يسمح بان يوفر له حقائق الأشياء و إن ما يبدو له طبيعي عقلاني و عادي ليس إلا ما يلاحظه و يعيشه عادة فهو يبني المعايير و طرق العيش و التصرفات و التمثلات كأشياء مطلقة وهي فقط من إنتاج المجتمع الذي ينتمي إليه مما يقود إلى إمكانيات الفهم فحسب.
لقد أبدى ماكس فيبر Max Weber المؤرخ و السوسيولوجي شكوكه في الموضوعية العلمية للعلوم الاجتماعية. وأكد على أن معرفة الظواهر الاجتماعية تفرض الوقوف على معناها.و لبلوغ هذا المعنى، يجب محاولة معايشة الواقع بالطريقة التي يعيشها الأفراد، أي أن الباحث يضع نفسه في مكان العناصر التي تهمها الظاهرة مقترحا أن فهم تطور في وقت ما الرأسمالية يكون عوض تفسيرها واضعا السؤال لماذا نشأت الرأسمالية في وقت معين و بين وجود طبقات اجتماعية معينة ،و الإجابة يرى أن القيم البروتستانتية التي انتشرت في أوساط اجتماعية بورجوازية هي التي فرضت سلوكا معينا يرمي إلى محاولة بلوغ النجاة الروحي عن الطريق النجاح المادي. إذن هذا التفسير لا يقترح قانونا عاما صالحا للتعميم الشمولي و لكنه طريقة لفهم و واقع معين و في مكان معين هو أوروبا الشمالية.
يطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الإنسانية، حيث يقر هذا الأخير بعجز العلوم الإنسانية عن التحرر من سيطرة الإرث الفلسفي التأملي نظرا لعدم استيفائها شرط الموضوعية ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الإنسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الإنسانية من املاءات اللاوعي، وقبليات الحس المشترك، كما يتطرق كولدمان إلى بعض العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الإنسانية، ولتدعيم أطروحته هاته يعزز كما يذيل موقفه بالاستناد إلى بعض الحجج التي تصبو إلى إثبات مذكرته، وذلك من خلال إبرازه لمناحي الاختلاف بين شروط عمل الفيزيائي أو الكيميائي يجد منطلقه في اتفاق فعلي أو ضمني بين سائر الطبقات التي تكون المجتمع المعاصر، حول قيمته وطبيعته ومقصده، كما يرى كولدمان أن المعرفة العلمية هي الأكثر مطابقة للواقع الفيزيائي والأكثر فعالية ونجاعة، وفي هذا السياق لا يمكن غزو الشخصية في قبيل غياب روح النسقية، ثم انعدام الرؤية النافذة، وكذا الغرور والانطباع الانفعالي، وفي أقصى الأحوال غياب النزاهة الفكرية، على النقيض من ذلك نجد بأن وضعية العلوم الإنسانية تختلف عن المعرفة التي تشكل أرضية أو أساس العلوم الفيزيائية – الكيميائية، فبدلا من الإجماع الضمني أو الصريح بين أحكام القيمة حول البحث العلمي فإننا نجد في العلوم الإنسانية اختلافات جذرية في المواقف .من هنا يبرز لنا لوسيان غولدمان انعدام الفهم الموضوعي في واقع العلوم الإنسانية ثم استحالة تجرد الباحث في العلوم الإنسانية مما هو قبلي أو تبني المواقف الذاتية، لان الباحث يتصدى في غالب الأحيان للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي، في هذا الإطار نجد بأن إيميل دوركايم يقر بأن الظواهر الاجتماعية في ذاتها هي ظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها وبالتالي يجب دراستها من الخارج، من هنا نستشف أن الإنسان ليس ذاتا للمعرفة وموضوعا لها في الآن نفسه، في هذا النطاق تبرز فكرة جوهرية مفادها أن العلوم الانسانية بالرغم من نشأتها، وإرساء أسسها، في القرن 19، في سياق ابيستمولوجي خاص يصغي إلى الارتقاء إلى مستوى تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي على دراسة الإنسان، فإنها عجزت أن تفي بشرط الموضوعية لأسباب مبدئية تتصل أو رهنية إن صح القول- بطبيعة الظواهر الإنسانية المبحوثة ذاتها، من هنا يتبين لنا جليا أن بعض الباحثين يطرح مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية بين التصور الوضعي والتصور النقدي، حيث يرى أن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، مشبعة بالذاتية، كما أن النظرة التي تشكل علم النفس هي ظاهرة نفسانية، كذا علم الاجتماع هو ظاهرة سوسيولوجية تخص العالم الحديث، وبالتالي يستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من الوصول أو بلوغ الموضوعية المطلقة، أو التخلي عن جزء من أهدافها وغاياتها ثم الاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية.
في هذا الإطار نجد بأن ميشيل فوكو يلتقي مع لوسيان غولدمان، حين يقر بأن مسألة العلوم الإنسانية، في علاقتها بالعلوم الأخرى، سعيا وراء إبراز خصوصية الظاهرة الإنسانية- باعتبارها ظاهرة معقدة وبالتالي متعددة الأبعاد ونقطة لتقاطع مجموعة من العلوم، مما يجعل دراستها أمرا صعبا، كما يعالج ليڤي ستروس فكرة جوهرية في هذا السياق مفادها أن مسألة الظاهرة الإنسانية وكيفية موضعتها أمام الصعوبة التي تطرحها ثنائية الملاحظ والملاحظ،، وكذا كيفية الحفاظ على خصوصية هذه الظاهرة الإنسانية وكيفية تناولها من طرف علوم الإنسان من جهة، ومن طرف الفلسفة من جهة أخرى.
وفي نفس السياق ، يقدم جون پياجي في إبستمولوجية العلوم الإنسانية (1970) تصورا متكاملا عن الإشكالات الإبستمولوجية التي تواجهها العلوم الإنسانية وتحقيق العلمية في دراستها، حيث يرى بأن وضعية العلوم الإنسانية لهي أشد تعقيدا، وذلك لأن الذات هي التي تلاحظ أو تجرب على ذاتها أو على غيرها من الذوات قد تعترضها تحولات أخرى صادرة عن الظواهر الملاحظة يصعب ضبطها، بل وبشأن سياق هذه الظواهر، بل وبشأن طبيعتها تظهر صعوبات إضافية بالقياس إلى وضعية العلوم الطبيعية التي يمكن الفصل فيها، بوجه عام بين الذات والموضوع.
ويقدم “فرنسوا باستيان” تحليلا لرهانات العلوم الاجتماعية أو الإنسانية في ضوء تعقد الموضوع وتداخل المناهج (مفارقة علاقة الذات بالموضوع) حيث تتمثل المفارقة غير القابلة للاختزال لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل علم موضوعي. غير أن هذا التوجه الوضعي الذي استلهم المنهج التجريبي، والذي أثبت نجاحه في العلوم التجريبية بإمكانية بناء الظاهرة الإنسانية، واجه انتقادات تصب كلها في إثارة إشكال التداخل بين الذات والموضوع. وهذا الإشكال هو الذي يجعل كل موضعة الموضوع الانساني، بالمعنى التجريبي، صعبة المنال، إن لم نقل مستحيلة، وفي هذا النطاق تنكشف طبيعة هذا التدخل وما يطرحه يتبين من خلال هذه العناصر أنه لا يمكن الحسم بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية، فالقول بذلك يفيد التماثل بين بنية الذات- الموضوع في العلوم الحقة وبنية علاقة الذات- الموضوع في العلوم الإنسانية، وهو تماثل لا يصمد أمام الانتقادات الموجهة له، وما ينتج عن ذلك من تأثير سلبي على مكانتي كل من التفسير والفهم، الشيء الذي يطرح إشكالية يمكن إدراجها على النحو الآتي: – كيف تتحدد وظيفة النظرية العلمية؟
1-4- العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير
بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد صلابة نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
– العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:
يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولا يلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة “الانتحار” على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .
مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني
–عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:
لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: ” إننا نفسر الطبيعة، لكننا أيضا نفهم ظواهر الروح“
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم – في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا – إدراك الدلالة التي يتخذها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل “التأويل”، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع.
– حدود منهج الفهم وعوائقه:
يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه.
2- البحث عن منهج علمي اجتماعي متميز
لقد حاولت العلوم لاجتماعية أن تتبنى مكتسبات المنهج العلمي المستوحى من العلوم الطبيعية بتوافرها على شروط نظرية مقبولة مما جنبها الوصف المبالغ فيه و غير العلمي. لهذا نجد اجتهادات في هذا الاتجاه.
يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان.
2-1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:
غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي “عدو العلم” كما يقول ليفي شتروس.
2-2- بناء عدة موضوعيات في الظاهرة الإنسانية
يمكن إبراز عدة عقلانيات و تصرفات بشرية بدون إن تكون متعارضة و لان تكون غير منسجمة فيما بينها الإيمان بتعددها ليس رفضا للتقدم العلمي الذي قاد إلى توحيد النظريات. الحال إذا برزت عقلانية العالم الفيزيائي فهذا على حساب واقعتين:
–تطبيقات تنفيذية للعلم لفائدة الجميع باكتشاف العقلانية الكلية للعالم الفيزيائي. وهذا يعني ا ن هناك ظواهر غير مفسر التي يدرسها الفيزيائيون أنفسهم و الذين يعرفون أنهم أنفسهم يجهلون هذه العقلانية.إن كل ثورة علمية- و التي تقوم بتأكيد موضوعية النظريات- تقوم بتعويض عقلانية أخرى، و هذا يعني أن عقلانية الواقع الفيزيائي نسبية و غير مطلقة ووحيدة. و نفس الشيء يمكن قوله في عقلانيات العلوم الاجتماعية.
هذه العقلانيات هي متعددة تهتم بدراسة أنشطة الإنسان و بالتالي تهتم بمختلف المعارف الإنسانية
ويظهر منا إن هناك تعدد في التصرفات و العلاقات و الغايات و بالتالي في العقلانيات و تعددا بالتالي في الموضوعيات في عمالية التطرق إليها في الخطاب العلمي لهذه العلوم.
وهذا يعني أيضا عدم انسجام عقلاني و تمفصلهما غير موجود لتناقض الواقع مما يطرح مشكلة البحث عن توحيد نظري لهذه العقلانيات التي تتطور في كل الاتجاهات الخاصة بها دون إن تلتقي مع بعضها
إذ إن كل فرع علمي يشيد موضوعية و عقلانية خاصة به وهذا يعني تجزؤا للمعارف حول الواقع الإنساني نرى إن التوحيد العلمي للنظريات العلمية في العلوم الاجتماعية غير ممكن و الحل الممكن هو تفضيل احد العقلانيات و التي تقود إلى المعرفة العلمية.غير أن الاحتفاظ و الادعاء بتوحيد النظرية الاجتماعية و بعد احترام المقاربات الأخرى غير منطقي و هو اتجاه لاستبداد المعرفة الوحيدة فالعقلانية الفردية التي اعتبرت هي الصحيحة و الوحيدة مرتكزة على فلسفة ليبرالية و اغتنت بمكتسبات علمية لا تناقش لهذه العقلانية. أما العقلانية الجبرية التي ترتكز على فلسفة حتمية ميكانيكية ترى أنها أن الإنسان ليس إلا لعبة آليات لا يتحكم فيها احد. و بالمقابل، قوت الإسهامات العلمية لهذه المقاربة من نظرة العلم. بذلك ازدهرت فلسفات موت الإنسان. بالفعل تبحث الفلسفة الهادفة إلى شمولية الكون و الباحثة عن وحدة الظاهرة الإنسانية و انطلاقا من معارف متنوعة:
– نوع ينبني على إحدى العقلانيات المذكورة اللبرالية و البنيويات و الماديات و بعض الفلسفات التبسيطية للتاريخ كلها تشترك في فهم الإنسان و الإحاطة بقضاياه المعقدة و لكنها في العمق بسيطة غير تفسيرية مدعية عقلانية تحاول أن تكون موضوعية.
+الجدلية تتطرق للشمولية و التناقضات وكلها تعتمد على الجدلية كمسلسل لفهم الحل الواقعي للتناقضات.
هناك من أكد على أن المنهج الامبريقي يطبق في عدة علوم اجتماعية كعلم النفس التجريبي و اللسانيات و الاقتصاد الانثربلوجيا و الجغرافيا الثقافية و السلوكية، وهي تدرس تصرفات فردية و اجتماعية. فعلم النفس التجريبي يهم بالمؤثر و بالجواب لكن بدون البحث عن معرفة لماذا يظهر هذا الجواب أو ذاك و الملائم لهذا المؤثر.فعلم الاقتصاد يبحث عن آليات النشاط الاقتصادي لكن لا يبحث عن معرفة إذا كانت هذه الآليات تحمل دلالات وقيما تؤطر هذه التصرفات.
من هنا يمكن البحث في هذه الدلالات إزاء هذه التصرفات الفردية و الجماعية،و كذا القيم التي تحملها و الأفعال و المؤسسات و المسلسلات الاجتماعية و الثقافية ، لكن بشرط قبول المعنى الذي أعطاه إياه الفاعل. فعلى سبيل المثال، نجد أن العامل الاقتصادي في المادية التاريخية يقود إلى تفسير الظواهر الواقعية بإبراز دلالاتها العميقة و المخفية من طرف دلالات أخرى و أسباب أخرى التي تظهر آنية. و يمكن أن نطلق على هذه المنهجية بالمنهجية التأويليةMéthode interprétative وهي تعتبر الآثار المرئية كنص يجب تفكيكه و الذي يقود إلى خطاب مستتر ذي نص مقفول codé ، ثم أنها تسمح بربط الظواهر المرئية بمسلسلات غير مرئية غير ملموسة و لكنها مفهومة و تقدم قراءة لها. و هنا يصل المنهج التأويلي درجة تشبع التأويل حينما ينجح في الاندماج في شمولية منسجمة مع النصوص المدروسة كحالة تفكيك تاريخ المجتمع على أساس العامل الاقتصادي. و لكن العيب فيه انه غير مبشر بالتنبؤ المستقبلي.
و من جهة أخرى أكد ماكس فيبر على مشكل القيم في العلوم الاجتماعية مبرزا أن القيم توجد في أصل المنهج العلمي و تحاول أن تهيء موضوعية علمية حقيقية. و بالتالي يمكن معالجة هذه القيم كوقائع بالشروط العلمية.
لقد عملت العلوم الاجتماعية على الاقتراب من العلوم الدقيقة من خلال استغلال تقنيات حديثة كالإعلاميات و الإحصائيات وأساسا الإحصائيات الاستنتاجية les Statistiques différentielles
خاتمة عامة
إن التسليم بعلمية العلوم الاجتماعية، لا يلغي عمليا الإشكالية التي تنتصب أمام الباحث ، ألا وهي إشكالية العلاقة بين الذات والموضوع، أو بتعبير آخر إشكالية الموضوعية في العلوم الاجتماعية والناجمة عن كون هو نفسه جزء من المشهد الاجتماعي الذي يقوم بدراسته، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان، أن يكون المرء باحثا محايدا وبريئا، لأنه يمثل هنا كلا من موضوع و منهج في آن واحد وهو ما ترتب عليه:
– انطباع العلوم الاجتماعية بالطابع الأيديولوجي،
– تباين انعكاس الواقع في الوعي تبعا لتبدل الزمان والمكان،
– التداخل البنيوي بين الذات والموضوع في الظاهرة الاجتماعية،
– الحاجة إلى إجراءات منهجية معينة لمعالجة هذه الإشكالية، والاقتراب – إن لم يكن الوصول – إلى النتيجة العلمية المطلوبة.
لقد حاولت العلوم لاجتماعية أن تكتسب الصفات العلمية بتوافرها على شروط نظرية مقبولة مما جنبها الوصف المبالغ فيه و غير العلمي كدراسة واحة فجيج( بوب و بنشريفة) .
لكنها لم تذهب بعيدا في طابعا العلمي الصارم إسوة بالعلوم الدقيقة الأخرى .إذ أن طرق الوصف الدقيقة من الناحية الكمية لا تكون مصحوبة بنظرية مقنعة مساعدة على التنبؤ، أن النماذج المجردة غير قابلة للتجربة. أيضا نرى أن النماذج و النظريات ليست إجماعية و إنما تحدث في دائرة مجتمعات علمية صغيرة ولا يمكن التيقن من الاستمرار في تقدم البحث فيها و إنما قد يمكن الرجوع إلى الوراء إلى نموذج سابق( جلنر).
لا ينكر احد مدى تعقيد الظواهر الإنسانية سواء كانت تاريخية او اجتماعية أو نفسية و الناتج عن خصوصيتها كظواهر معنوية ، لكن يمكن دراستها بطريقة علمية موضوعية وفق مناهج خاصة تنسجم مع طبيعتها.ويكون التجريب المكيف أفضل طريقة للدراسات الإنسانية.
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن “علوم إنسانية” ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية.
إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية و الذاتية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.