في معالجته للمشكلة الأخلاقية، يكتشف نيتشه من خلال منهجه الجينيالوجي أن ظهور التقييم الكهنوتي في مجال الأخلاق هو ما أدى إلى قلب القيم التي كان قد وضعها في الأصل السادة النبلاء (أي الطبقة الأرستقراطية المهيمنة)، هذا التقييم الأرستقراطي وهو التقييم الأصلي كما كشف عنه نيتشه في أعمق الطبقات التاريخية، تكمن ميزته في أنه تقييم اجتماعي خالص وليس أخلاقيا أو حتى دينيا.
لقد كان التقييم الأرستقراطي وليد شعور طبيعي بالقوة والحيوية من لدن السادة الأقوياء تجاه العبيد الضعفاء، هذا الإحساس العارم بالفارق في القوة لدى السادة هو ما جعلهم يستأثرون بحق ابتكار القيم وتسميتها، أي تسمية صفاتهم (القوية والنشطة والحيوية) بأنها “حسنة” و “خيرة”، في مقابل صفات الشعب أو العامة، التي تتسم بالضعف والعجز والهوان، فهؤلاء العامة أو الضعفاء، لم يكونوا في نظر التقييم الأرستقراطي أشرارا ولا حتى مذنبين، إنهم يتصرفون فحسب وفقا لطبيعتهم الضعيفة التي تجعلهم عبيدا بالطبع، فنيتشه لا يعتقد أن الإنسان يمتلك حرية الاختيار في تحديد ما إذا كان بوسعه أن يكون سيدا أو عبدا، فالقوي (السيد) مجبول بطبيعته على ممارسة قوته، كما أن الضعيف (العبد) مجبول هو أيضا بطبيعته على التصرف بضعف، فحرية الإرادة ليست في نظر نيتشه سوى وهم توارثه الفلاسفة عبر التاريخ، وذلك سيرا على خطى التقليد اليهودي-المسيحي لجعل السادة-الأقوياء يشعرون بالذنب وتبكيت الضمير على سلوكهم الطبيعي المفعم بالقوة والقسوة أيضا.
يقول نيتشه في هذا الصدد : “إن كراهية الحملان (العبيد الضعفاء) للطيور الجارحة (السادة الأقوياء) يبدو أنه لا يثير دهشة، لكنه لا يشكل سببا للحقد على الطيور الجارحة الكبيرة لترويعها الحملان الصغيرة، وإذا قالت الحملان فيما بينها إن تلك الطيور الجارحة شريرة، وأن الطير الجارح الذي تتوافر فيه أقل صفات الطيور الجارحة، أو حتى نقيضها، أي صفات تجعل منه حملا، أفلا يكون خيرا حينئذ ؟ فلن يكون ثمة ما يعترض به على هذه الطريقة في الاستنباط، اللهم ما ترد به الطيور الجارحة على نفسها، فتقول فيما بينها ساخرة؛ أما نحن فلسنا نحقد تماما على الحملان الخيرة، بل على العكس، نحبها، فلا شيء أشهى من لحومها.”
تبدأ المشكلة في نظر نيتشه عند بروز التقييم الكهنوتي على الساحة التاريخية من خلال قيام الكاهن بتغيير وجهة الحقد نحو الإنتقام من قيم السادة عن طريق قلبها رأسا على عقب، هذا التقييم الذي سيعتبر أن الأقوياء أشرارا ومذنبين لأنهم قساة، في حين أنهم يتصرفون وفق طبيعتهم القوية فقط، هكذا يوظف الكاهن اليهودي مبتكر التقييم الكهنوتي الماوراء، عن طريق وعد الأخيار الذين هم ليسوا سوى الضعفاء والمرضى والعاجزين والمنبوذين وفقا للتقييم الكهنوتي بالعالم الآخر، واصفا بالمقابل، الأقوياء والنبلاء والفرسان والشجعان والمتفوقين بأنهم أشرارا وطغاة، ليس لهم حظ في العالم الآخر، ذلك العالم الذي ابتكره بالضبط الكاهن اليهودي انطلاقا من شعوره المتنامي بالكراهية والحقد تجاه الأرستقراطيات المجاورة (الإغريق والرومان)، ذلك الشعور الذي ولد لديه غريزة انتقام فظيعة تجاه كل ما هو دنيوي عامر بالحياة ومثبت لها، وبالتالي القيام بانقلابه التاريخي الأعظم في مجال الأخلاق.
إذن مع اليهود، هذا الشعب الكهنوتي بامتياز، بدأت حسب نيتشه ثورة العبيد في الأخلاق، هذه الثورة التي تجر وراءها تاريخا يمتد عمره لأكثر من ألفي سنة، طبعا فقد نجحت الثورة وتم إسقاط النظام القيمي القديم (القيم الأرستقراطية) وسنت الدهماء قيمها الخاصة المتمثلة في الإحتفاء بأخلاق العبيد، لقد انتصرت القيم اليهودية ومن بعدها المسيحية في كل أنحاء أوروبا من خلال سيكولوجية الخطيئة الأصلية التي سممت صحة الإنسان الأوروربي سيكولوجيا وفيزيولوجيا، وجعلت الأقوياء ضعفاء يشعرون بالذنب وتبكيت الضمير، ما جعلهم يستسلمون نهائيا للسم الكهنوتي التي أعدته الكنيسة أو المؤسسة الكهنوتية الرسمية لهؤلاء الأقوياء والموهوبين والمتفوقين من كل نوع، وبذلك تم إضعاف وتدجين الحيوان الأشقر أو الفارس النبيل الذي كان من الممكن أن يصبح مثال نيتشه المنشود لو نشأ في بيئة صحية وقوية، حيث يتم صقل مواهبه ودعم قدراته، وهكذا تم القضاء على فصيلة النوع الأقوى الذي كان السوبرمان النيتشوي سينبثق منها.
وبالتالي فإن تاريخ الأخلاق في أوروبا -خلال الألفي سنة أو يزيد- كما حفر عنه نيتشه باستخدام مطرقته الجينيالوجية هو تاريخ مقلوب (أو محرف) مس -عن حقد- قلب القيم الأخلاقية(التي كان قد وضعها في الأصل السادة-النبلاء) رأسا على عقب، محركه الأساس “إرادة قوة كهنوتية” غذتها سيكولوجية الحقد اليهودية، نتيجة رد فعل كهنوتي ضد “إرادة قوة دنيوية” امتلكتها شعوب أخرى أكثر حضارة وتقدما (الشعوب المجاورة أساسا)، رد الفعل الكهنوتي هذا، تمثل في انتقام ميتافزيقي دبره الكهنة اليهود باسم القداسة الدينية ضد كل ما هو دنيوي، أي ضد الأرستقراطيات النبيلة المجاورة (لاسيما الإغريق والرومان). وهو صراع قيمي عظيم ظل مكتوبا بحروف بارزة على جبين التاريخ (لاسيما الأوروبي منه) شعاره الكبير “روما ضد يهودا” أو “روما ضد اليهودية”.
وهكذا كانت القيم الأخلاقية السائدة خلال الألفي سنة -حسب نيتشه- قيما عدمية ومنحطة لا تحتفي ب “الفارس النبيل” في صورته البطولية المثلى “الإنسان الأعلى”، كونها صدرت عن العبيد الذين حقدوا على السادة-النبلاء وقاموا بانقلابهم التاريخي الأعظم في مجال الأخلاق.
الكلمة المفتاح في فلسفة سارتر هي كلمة “وجود” ، لكن هذا المصطلح لا يعكس فقط فعل الوجود. فالنباتات و الحيوانات موجودة ، هي أيضاً تعيش ، مع فارق أنها لا تهتم بما يعنيه ذلك. أما الإنسان فهو الكائن الحي الوحيد الذي يعي وجوده. فأن تكون إنساناً ، لَشيء مختلف عن أن تكون شيئاً.
هذا معروف و حتمي.
وبالطريقة نفسها يرى سارتر أن الوجود يسبق كل تفسير نحاول إعطاءه له. فواقع أو فعل أنني موجود يسبق السؤال : ما أنا ؟. الوجود يسبق الجوهر. يقول سارتر.
أف هذه جملة معقَّدة.
نقصد بالجوهر : ماهية الشيء ، ما يتشكَّل منه ، أي طبيعته ، أو كيانه. لكن سارتر لا يعتقد بأن للإنسان طبيعة فطرية من هذا النوع ، لذلك عليه أن يخلق نفسه ، يخلق طبيعته ، جوهره ، لأنها لا تكون معطاة منذ البداية.
أعتقد أنني أفهم ما تقصد.
طوال تاريخ الفلسفة ، تساءل الفلاسفة عن جوهر الإنسان ، عن طبيعته. لكن سارتر يعتقد بأن الإنسان لا يملك طبيعة أبدية من هذا النوع. لذلك لا معنى لطرح أسئلة عن معنى الحياة بشكل عام. بعبارة أخرى : نحن محكومون بالارتجال ، فنحن أولئك الممثلون الذين دفع بهم المسرح ، دون إعطائهم دوراً محدداً ، دون مخطوطة في اليد ، ودون ملقِّن يهمس لهم بما عليهم أن يفعلوا. إن علينا وحدنا أن نختار كيف نعيش حياتنا.
في الواقع هذا صحيح. إذ سنكون خائفين لو اكتفينا بفتح الكتاب المقدَّس ، أو أحد كتب الفلسفة لنعرف كيف يتوجب علينا أن نعيش.
لقد فهمت كل شيء ، ولكن عندما يعي الإنسان وجوده ، و الموت الذي ينتظره يوماً ، وعندما لا يجد تفسيراً يتعلق به ، يتملَّكهُ القلق على حد قول سارتر.
نعم.
يضيف سارتر أن الإنسان يشعر بنفسه غريباً جداً في عالم يفتقر إلى المعنى ، وعندما يصف هذه الغربة عن العالم يلتقي مع طروحات هيغل و ماركس. فهذا الإحساس بالغربة على الأرض ، يخلق إحساساً باليأس ، بالضجر ، بالقرف ، بالعبثية.
لايزال هناك كثيرون ممن يعتقدون بأن كل شيء فاسد وبأن العالم تافه.
تذكرين أن عصر النهضة قد أبرز بطريقة احتفالية حرية الإنسان واستقلاليته ، في حين يرى سارتر أن الحرية ثقل مرعب.
الإنسان محكوم بأن يكون حراً. ذلك أنه ما إن يُرمى في العالم حتى يصبح مسؤولاً عن كل ما يفعل.
لا يخفى على كل باحث منصف أن الأدلة على وجود الله عز وجل كثيرة ومتنوعة، بل إن كل إنسان يشعر بهذه الحقيقة شعورا فطريا يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته، وتزداد هذه المعرفة قوة وضعفا بحسب حالات الإنسان النفسية وأطوار حياته. لكن الذي أريد أن أقف عنده في هذا المقال هو دليل العناية ودليل الاختراع، لأن هذين النمطين من الأدلة نافعان جدا في مجال التدليل على وجود الخالق سبحانه، وهما ينتميان منهجيا لحقل الدراسات الفلسفية الإسلامية، بل إن اعتمادهما من لدن الفلاسفة المسلمين كان المقصود منه معارضة أدلة المتكلمين في إثبات وجود الله عز وجل، بما تنطوي عليه من صعوبات وتعقيدات أحيانا كثيرة. فما هو المقصود من دليل العناية ودليل الاختراع ؟ كيف طبق الفلاسفة المسلمون هذا النوع من الاستدلال في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي؟
أولا: دليل العناية: يحدد ابن سينا طبيعة العناية التي تشكل مادة هذا الدليل بقوله: “إن العلل العالية لا يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية لأجلنا، أو تكون بالجملة يهمها شيء، ويدعوها داع، ويعرض عليها إيثار، ولا لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماويات ، وأجزاء النبات والحيوان، مما يصدر اتفاقا، بل يقتضي تدبيرا ما. فيجب أن تعلم أن العناية، هي كون الأول عالما بما عليه الوجود من نظام الخير، وعلة لذاته للخير والكمال حسب الإمكان، وراضيا به على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان. فهذا هو منى العناية”.( ) وانطلاقا من هذا النص فإن مدلول العناية الإلهية في الفكر السنوي ترتبط ارتباطا وثيقا بموضوعات العلم الإلهي، كما تتصل اتصالا مباشرا بموضوع صفات الله تعالى وعلمه. وعلى هذا الأساس فالعناية الإلهية عند ابن سينا “هي علم الله الأزلي القديم السابق بترتب الموجودات على أحسن نظام، بدون أي اعتراض أو قصد أو غير ذلك، وهذه الإحاطة من أجل هذا النظام واجب عنه، وله علم به، حتى يكون الموجود وفق المعلوم”( ) وإذا كان ابن سينا يربط بين العناية الإلهية وبين التوحيد بين الذات والصفات، فهو كذلك يربط ” بين عناية الله بالعالم، وبين دليل العناية لإثبات وجود الله تعالى، وذلك لأن الناظر في هذا الكون وما فيه من آيات عجيبة، وحكم باهرة، وهذه كلها تدل دلالة عظيمة على أن هناك مدبرا ونظم لهذا العالم يرعاه ويحفظه، وهي لا يمكن أن تصدر اتفاقا وبمحض الصدفة، وإنما جاءت وليدة تدبير محكم ونظام دقيق، موافقة كل الموافقة لوجود الإنسان وغيره، وهذا مما يدخل موضوع العناية الإلهية التي هي علم اله الأزلي بنظام الخير والكمال.”( ) وهذه النظرة إلى العناية الإلهية تسير وفق المذهب الفلسفي السنوي العام في العلية، وفي التلازم الضروري بين السبب والمسبب. وإذا كان ابن سينا يعرض دليل العناية عرضا فلسفيا ينتهي إلى اعتبار العناية الإلهية مجرد علمه تعالى بما ينبغي أن يكون عليه الوجود، فإن هذا القول قد يؤدي إلى اعتبار الذات الإلهية متأثرة بالعلة الغائية ” والله تعالى أجل من أن يكون متأثرا بشيء من أنواع التأثير الناشئ من جهة الممكنات التي من جملتها الإعراض والمصالح أو مستكملا بشيء منها”. ومن هنا يظهر المقاصد العقدية العالية التي رامها بناة الخطاب الأشعري في رفضهم تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض والعلل الغائية، وإن كانوا يقرون هم أيضا بما تنطوي عليه أفعاله تعالى من حكم، ولكن أفعاله تعالى ” لا تتصور أن تكون دافعيتَه إليه بل تابعة له، وهكذا كما نقول: إن الله تعالى لا تتخلف الحكمة عن أفعاله، ولا نقول: إن فعله لا يتخلف عن الحكمة تنزيها له عن شائبة الإيجاب والاضطرار … فتبين أن أفعاله لا تتبع الحكمة، بل الحكمة تتبع أفعاله، وكيف لا وهو خالق الحكمة والمصلحة، فكل ما يفعله تكون الحكمة والمصلحة فيه، وحسبه حكمة أن يكون مفعوله”.( ) ولعل ابن رشد كان أكثر وضوحا في التعامل مع دليل العناية والمقاصد العقدية التي يحققها، ومن ثم حاول أن يصبغه بصبغة شرعية، ويقابل بينه وبين دليل الحدوث الذي توسل به كثير من المتكلمين في مجال التدليل على إثبات وجوده تعالى، على الرغم من كونه من الطرق غير الشرعية. ويحدد ابن رشد طبيعة دليل العناية من خلال اعتبار جميع الموجودات تسير في اتجاه العناية بالإنسان. وهي موافقة لطبيعة وجوده الإنساني.( ) وينبني هذا النمط من الاستدلال عند ابن رشد على أصلين هما:
الأصل الأول: أن جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان، فإذا نظرنا إلى أنواع الموجودات كالليل والنهار والشمس والقمر وجدناها موافقة لوجود الإنسان، وكذلك الفصول الأربعة والمكان الذي يعيش فيه وهو الأرض، وكثير من أنواع الحيوانات والنباتات … كل ذلك موافقة لوجود الإنسان وحياته. وبالجملة فمعرفة هذه الأشياء والوقوف على منافع الموجودات داخلة في هذا النمط من الأدلة. ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص منافع الموجودات.( ) الأصل الثاني: أن موافقة الموجودات لوجود الإنسان وحياته ليست من قبل المصادفة بل هي مقصودة لفاعل قاصد لذلك ومريد له. ( ) وهذا الأصل يبين ثمرة الاشتغال بدليل العناية، في مجال إثبات وجود الخالق عز وجل إثباتا يقينيا. كما تصبح جميع الموجودات أدلة ينتفع بها في مجال تقرير مختلف قضايا الاعتقاد. ثانيا: دليل الاختراع: ومعناه النظر في اختراع جواهر الأشياء الموجودة مثل: اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل. وينبني هذا النمط من الأدلة على أصلين موجودين بالقوة في فطر الناس وهما: أ – أن هذه الموجودات مخترعة: وهذه حقيقة مسلم بها. إذ ليس ثمة خالق غير الله تعالى، وتتقرر هذه الحقيقة من خلال النظر إلى الموجودات، سواء تعلق الأمر بحيوان أو نبات… كما قال تعالى: {يَأَ يُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ, إِنَّ اَلذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَنْ يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اِجْتَمَعُواْ لَهُ, وَإِنْ يَّسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [سورة الحج الآية 71]. “فإننا نرى أجساما تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن هاهنا مُوجِداً للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى. وأما السموات فنعلم من قِبَلِ حركاتنا التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا. والمسخر المأمور مختَرع من قبل غيره ضرورة”. ب – أن كل مخترع فله مخترع: وينتج عن هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا له. ويمكن أن يتولد عن هذين الأصلين أدلة طبيعية كثيرة، تقدر بعدد الأشياء المخترعة. ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله تعالى حق المعرفة أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، وإلى هذا الإشارة بقول تعالى: {اَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ اِلسَّمَوَتِ وَالاَرْضِ وَمَا خَلَقَ اَللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَّكُونُواْ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُومِنُونَ} [الأعراف الآية 185].( ) ويلاحظ أن الخطاب الفلسفي يرجع كلا من دليل العناية ودليل الاختراع إلى أصول شرعية، ويحاول أن يكشف عن موادهما البرهانية استنادا إلى نصوص القرآن الكريم، الذي تقرر آياته هذين الدليلين أبدع تقرير، وهي تنتظم في ثلاثة أنواع: النوع الأول: آيات تتضمن دليل العناية فقط مثل قوله تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ اِلاَرْضَ مِهَداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَكُمُ, أَزْوَجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمُ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَتِ مَآءً ثَجَّاجاً لّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّتٍ اَلْفَافاً} [سورة النبأ الآيتان 6 -16]. ومثل قوله تعالى: {تَبَرَكَ اَلذِي جَعَلَ فِي اِلسَّمآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَجاً وَقَمَراً مُّنِيراً . وَهُوَ اَلذِي جَعَلَ اَليْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنَ اَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوَ اَرادَ شُكُوراً} [سورة الفرقان الآية 61-62] النوع الثاني: آيات تضمنت دليل الاختراع فقط: مثل قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الاِنْسَنُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَآءٍ دَافِقٍ} [سورة الطارق الآيتان 5-6]. ومثل قوله تعالى {اَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى اَلاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى اَلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى اَلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى اَلاَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [سورة الغاشية الآيات . النوع الثالث: آيات تضمنت الدليلين معا. وهي التي تشكل القسم الأكبر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {يأََ يُّهَا اَلنَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اَلذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ فِرشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة الآيتان . وقوله تعالى: {الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ…} إشارة إلى دليل الاختراع وقوله جل شأنه: {اَلذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ فِرشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} تنبيه على دليل العناية.( ) أما حدود الانتفاع بهذين الدليلين فهي تخضع لمقصود المستدل ومستواه المعرفي ويكون ذلك على مستويين: مستوى الجمهور: وهؤلاء يقتصرون في معرفة مضامين دليل العناية والاختراع على معطيات الحس التي تشكل المعرفة الأولية. مستوى العلماء: وهؤلاء يفضلون الجمهور بتوليد أدلة برهانية أخرى انطلاقا من تعمقهم في معرفة الشيء الواحد. فمثلا النظر في المصنوعات، بالنسبة للجمهور ينتهي بهم إلى الإقرار بشيئين اثنين هما: أ – أنها مصنوعات فقط. ب- أن لها صانعا موجودا. في حين تتسم معرفة العلماء بالعمق لأن أصحابها وقفوا على وجه الحكمة من خلقها. ( ) بقي أن نشير إلى أن هذه الأنماط من الأدلة التي تعتبر أدلة شرعية لاستنادها إلى القرآن الكريم تتسم من وجهة الخطاب السلفي ببعض القصور ذلك أن كلا من دليل العناية والاختراع اللذين يطلق عليهما أصحاب هذا الخطاب اسم دليل الإحداث والحكمة ينتهيان بالمستدل إلى الإقرار بحقيقتين: الحقيقة الأولى: الإقرار بتوحيد الربوبية الذي يفيده دليل الاختراع والإحداث. الحقيقة الثانية: الإقرار بصفة الرحمة، ويحقق هذا المقصد دليل العناية والرحمة. وهذه الطرق وإن كانت أجود من طرق المتكلمين المبنية على مقولة الأعراض فإنها ليست هي الطرق الوحيدة لإثبات وجود الخالق تعالى، لأن طرق معرفة الخالق عز وجل تتم بواسطة النظر والاستدلال بنفس الذوات وصفاتها، وهذا باب واسع لا يمكن حصره في هذين النمطين.( ) ومن أوجه النقص التي ينطوي الخطاب الفلسفي في إقرار كل من دليل العناية والاختراع هو أنه يفرق كعادته بين ما يدركه الجمهور وما يدركه العلماء، مع أن الطرق الشرعية تجعل المخاطبين في مستوى واحد، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقضية الإلوهية التي هي مطلب لا تفاضل في إدراكه، نشير في الأخير إلى أن استعمال مصطلح الاختراع لا ينتمي لحق الدراسات الشرعية. ومن ثم لا نقول عن الخالق عز وجل: إنه مخترع، بل نقول: إنه بديع، خالق … ولا ندري كيف غاب هذا الأمر عن ابن رشد، فهل مرد ذلك لفرط إعجاب ابن بالتراث الفلسفي اليوناني؟
ودليل الاختراع والعناية من الأدلة التي قررها المتكلمون في أصول الدين ، كابن رشد الحفيد ، رحمه الله ، وهو دليل عقلي صريح تشهد له كثرة متكاثرة من نصوص التنزيل فمن ذلك : قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) ، فقوله تعالى : (فاطر السماوات والأرض) : دليل الاختراع والإيجاد من عدم والإبداع على غير مثال سابق ، على حد أثر ابن عباس رضي الله عنهما : “كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها” .
فهو ، جل وعلا ، بديع السماوات والأرض ، وتلك من أخص أوصاف ربوبيته ، عز وجل ، وإن لم تكن أخصها ، فتفرده بالخلق من العدم والإبداع على غير مثال سابق من أخص أوصاف ربوبيته ، وتفرده بالتدبير الكوني لخلقه من أخص أوصاف ربوبيته ، فلم يترك الخلق هملا ، وإنما قدر لهم ما يصلح أديانهم وأبدانهم ، كما تقدم ، وتفرده بمعاني الكمال المطلق من الغنى والقدرة النافذة والعلم المحيط ……… إلخ من أخص أوصاف ربوبيته .
يقول ابن تيمية رحمه الله : “ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا …………. وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة بل علمه بكل شيء من خصائصه وقدرته على كل شيء من خصائصه وخلقه لكل شيء من خصائصه” . اهـــ بتصرف من : “الرد على البكري” ، ص126_130 . وأما قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) : فهو دليل العناية : عناية الغني ، جل وعلا ، الذي لا يفتقر إلى سواه ، بالفقير الذي يحتاج من يطعمه ، فامتن الغني ، جل وعلا ، على الفقير ، بأسباب الحياة ، فقدر له ، كما تقدم في أكثر من موضع ، قوت الأبدان وقوت القلوب ، فذلك أمر يتكرر التنويه به بتكرار صور العناية الربانية بالعباد ، فثنائية الرب الغني والمربوب الفقير مظنة الإطناب في بيان صور ربوبية العناية في معرض بيان المنة الربانية السابغة ، وطباق السلب بين : “يُطْعِمُ” ، و : “وَلَا يُطْعَمُ” آكد في تقرير المعنى ، إذ الإثبات في معرض الوصف الفعلي المتعدي ، والنفي في معرض الوصف الذاتي اللازم ، فهو الذي يُطْعِم لكمال عنايته بخلقه ، ولا يُطْعَم لكمال غناه عنهم ، فلا يبلغ أحد نفعه ، تبارك وتعالى لينفعه ، فضلا عن دلالة الجناس الاشتقاقي بين صورتي الفعل : المبني لما سمي فاعله : “يُطْعِم” ، والمبني لما لم يسم فاعله “يُطْعَم” ، إمعانا في إثبات الوصف له على وجه التعيين والانفراد ، ففاعل الإطعام المثبت معلوم ، لا شريك له ، في أفعال ربوبيته : جلالا بمعاني العزة والقهر ، أو : جمالا بمعاني التدبير والرزق ، وفاعل الإطعام المنفي مجهول ، إرادة العموم ، فلا يطعمه أحد ، أيا كان ، ولا يمده أحد بأسباب البقاء والغنى والعزة ……… إلخ ، فغناه عن خلقه : مطلق ، فهو ذاتي لازم باعتبار الوصف ، بل فعلي متعد إليهم ، فهو المغني لغيره ، الممد له بأسباب البقاء ، فكل أوصاف الكمال في عباده منه على جهة الإيجاد والإمداد ، فأوجد الحياة فيهم وأمدهم بأسبابها ، وأوجد البقاء الأبدي فيهم في دار القرار وأمدهم بأسبابه ……….. إلخ ، وفي المقابل : كل أوصاف الكمال الثابتة له : ذاتية لا تفتقر إلى سبب يوجدها من العدم ، فهي أزلية بأزلية الذات القدسية ، ولا إلى سبب يمدها بمعاني الكمال فله منها منتهى الكمال الذي لا يعتريه النقص بأي حال من الأحوال . وإنما خص الإطعام بالذكر لكونه من آكد صور الافتقار ، فنفيه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، فلا يفتقر إلى خلقه في شيء من وصف كماله الذاتي اللازم أو وصف كماله الفعلي المتعدي إلى غيره الذي به يدبر كونه على سبيل الانفراد فلا شريك له في وصف كماله ، ولا شريك له في أمره الكوني النافذ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : فنفى استقلالهم بملك مثقال ذرة من الكون ، ونفى شركتهم ، بل ومظاهرتهم ، ففي السياق تدرج من نفي الأعلى إلى نفي الأدنى . فكل مسخر بأمره الكوني : تسخير المربوب المقهور لربه القاه
ومن أدلة الاختراع والعناية : قوله تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
فأعطى كل شيء من خلقه : الخلق الملائم له ، فالخلق هنا بمعنى المصدر .
وقد يخرج على معنى المخلوق إذا نظر إلى آحاد المخلوقات على جهة التناسب والملائمة فيؤول المعنى إلى : أعطى كل مخلوق المخلوق الملائم له ، وذلك ينصرف ابتداء إلى معنى الزوجية ، فأعطى كل زوج نظيره الملائم ، فلذكر الإنسان أنثاه ، ولذكر الفرس أنثاه …………… إلخ . وقد يخرج على الصورة المخلوقة لكل شيء ، فأعطى كل شيء صورة مخلوقة تلائم ما خلق من أجله ، فأعطى العين صورتها الملائمة للإبصار ، وأعطى القدم صورتها الملائمة للمشي ………….. إلخ ، فلا تستعمل العين محل القدم ، ولا تستعمل القدم محل العين
المراجع: ( )
بيان تلبس الجهمية 1 /172. .
درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 9 / 172
. (2) كتاب النجاة لابن سينا ص: 320. (3) الجانب الإلهي عند ابن سينا، د. سالم مرشان، ص271 (4) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، للشيخ مصطفى صبري، 3/4 (6) الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، لابن رشد، ص: 118.
علم الإنسان أوالأنثروبولوجيا: Anthropology من أصل يوناني “Anthropos”. الحداثة: modernité التفكيك: démantèlement الفينومينولوجيا:phénoménologie ~~_~~~~ الاخلاق:Moral، تشير الى مجموع قواعد السلوك داخل مجتمع ما وبشكل خاص التفكير المعقلن حول غايات الفعل الانساني.
استطيقيEsthétique كل ما يتعلق بالإحساس الجمالي. ونستطيع ان نقول عنه انه تخصص مفكر في شروط الجمال في الفن خاصة. الاستنتاج:Déduction استدلال ينطلق من فكرة عامة ليستخلص منها نتيجة خاصة (كل انسان فان ،سقراط انسان ، سقراط فان ) الأسطورة :Mythe تعني في الاستعمال الدارج تصوراً خيالياً وخاطئاً. قصة خيالية تصف اصل الكون. وتعني في الفلسفة عرضاً سردياً لنظرية (مثلاً أسطورة الكهف عند أفلاطون ترمز الى حلاة الجهل عند الانسان والى ولوجه عالم االحقيقة ). الأنطولوجيا :Ontologie اسم أطلق في القرن السابع عشر الميلادي على مبحث فلسفي متميز هو “علم الوجود بما هو موجود”. ويشمل هذا الاسم كل تناول فلسفي ينصب على مفاهيم عامة مثل : الوجود – الماهية – الجوهر … الازدواجية: وجود اكثر من معيار او معدل محدد في التعامل مع قضية ما. الإستقراء :Induction: هو الإنتقال من الجزئيات إلى الكليات . الإنعتاق : هو التحرر الكلي من اي قيد. الإلهيات :Theologie البحث الفلسفي المتعلّق بواجب الوجود وصفاته . الإنحطاط : حالات التخلف والجهل التي يمكن أن تصيب المجتمع. الامبريالية: الافكار المحدثة عن الامبريالية مدينة بالكثير للينين، الذي عرف الظاهرة بانها تشتمل توكيدًا على تصدير رأس المال، تصاعد مركزية الانتاج والتوزيع، دمج رؤوس الاموال المصرفية والصناعية، وتقسيم العالم الى مناطق نفوذ بين القوى الرأسمالية التي تتصارع بعد ذلك على نصيبها من السلب، كما حدث في الحرب العالمية الاولى. في عقود احدث، تعتبر الامبريالية العلاقة بين الدول النامية والمتقدمة وتجادل بان الصراع بين الدول المتقدمة سوف يتلاشى….تختلف تفسيرات الامبريالية باختلاف نظريات الطبيعة البشرية، كما ان العديد من صيغ الامبريالية، تجد صعوبة في تعليل ظواهر معاصرة من قبيل الدول الصناعية الجديدة. غير انها تظل المفهوم المركزي في التفكير في العلاقات الدولية.(اوكسفورد) أطروحة:Thèse دعوة أو مسألة عامة، أو نظرية تطرح للبحث والمناقشة، ويلتزم صاحبها إثباتها بالبرهان. ومن هنا سميت دعوة الطالب الذي يحضر للدكنوراه بأنها أطروحة لانها تطرح للنظر والبحث. الأرسـتـقــراطـيــة Aristocracy : الـطبـقـة الاجـتـمـاعـية ذات المـنـزلة العـالية والـتـي تعـرف عـادة بـأنهـا تـضـم (( أحسن العائلات )) وتـتـمـيـز بـكـونهـا مـوضـع اعـتـبـار الـمـجتـمع لسـلوكـهـا الـمهـذب وسيـادتـهـا في الـمسـائل الاجتـمـاعيـة والسيـاسيـة. وتتـكـون من الأعـيـان الـذين وصـلوا إلى مـرتـبـتـهـم ودورهـم في المـجتـمع عـن طـريق الـوراثـة ، ثـم استـقـرت هـذه المـراتب والأدوار فـوق مـراتب وأدوار الطـبقات الاجتـمـاعيـة الأخـرى. آحادي: اسم جامع للمذاهب الفلسفية التي ترد جميع الموجودات إلى مبدأ واحد سواء كان مادياً أو غير مادي. الاغـتــراب Aliénation : يـعـني حــالة انفـصـال واسـتـلاب ، وهـو إحسـاس الإنسـان بــأنـه ليس في بـيـتـه ومـوطنـه أو مـكــانـه . وفي الطب يعـني: الاضـطراب الـعـقلي الـذي يـجعـل الإنســان غـريبـا عـن ذاته ومـجتـمعـه. وفي الفلسفة يعني : غـربـة الإنـسـان عـن جــوهــره وتـنـزلـه عـن الـمـقـام الـذي يـنـبـغـي أن يـكون فيـه . أو عـدم التـوافق بـيـن الـمـاهـية والـوجـود . الاتجاه المادي في الفلسفة: الاتجاه الذي يؤكد على اسبقية العالم المادي، الوجود، الطبيعة، على الفكر، الروح، الوعي، باعتبار ان العالم المادي معطى اولي والفكر او الوعي معطى ثانٍ وهو في نهاية المطاف نتاج الدماغ وانعكاس العالم المادي الموضوعي.(الدفاتر الفلسفية). الايمان والايمانية: إدراك شيء ما على أنه صادق دون برهان. وهناك من الفلاسفة المثاليين من حاول التوفيق بين الإيمان والمعرفة على فرض أن الإيمان جزء من هذه المعرفة. نظرية تستعيض عن المعرفة بالايمان أو هي بوجه عام تعطي أهمية أكيدة للإيمان. والنزعة الإيمانية كامنة – إلى حد ما – في كل النظريات المثالية وتعبر عن اخضاع العلم للدين.(اوكسفورد) الايديولوجيا: نسق من الآراء والأفكار، يدعي القدرة على التفسير الشامل للحياة و الكون و الوجود من جميع الجوانب و النواحي : السياسية والقانونية والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية. وقد تكون الايديولوجيا علمية، وقد تكون غير علمية: أي قد تكون انعكاساً صادقاً أو زائفاً للواقع. و للايديولوجيا استقلال نسبي عن الواقع. والتطور الايديولوجي يتأثر بطريقة غير مباشرة بعدد من العوامل التي تتجاوز النطاق الاقتصادي والمادي والاجتماعي البداهة : EVIDENCE ما لا يمكن عموماً ان يكون موضوع شك . هو ما يفرض نفسه على الذهن ويدفعه الى الأخذ به وقبوله بصورة مباشرة . البديهيات : هي الأفكار الواضحة التي لا تحتاج إلى دليل على صحتها . البراغماتية : PRAGMATISMEتشير هذه الكلمة بشكل شائع الى الموقف يقوم على التصرف وتغيير الفعل وفقاً للظروف وبدون افكار مسبقة . والبراغماتية هي مذهب فلسفي يرى بأن الحقيقة لا تكمن في المبادئ والنظريات بل في الفعل والممارسة وتقوم البراغماتية على نوع من التجريبية. و يذهب الى ان الحقيقة هي علاقة ملازمة كليًا للاختبار البشري؛ وان المعرفة اداة في خدمة الفعالية، وان للفكر طابعًا غائيًا في الاساس، فحقيقة قضية تكمن اذًا في كونها “مفيدة”، “ناجحة”، “مُرضية”.(لالاند) و البراغماتية هي اتـجـاه واسع الانـتشــار في الفلسفة الحـديثـة، و في أميركا على الخصوص، ويسـمى بـمـبدأ الـذرائعـية هـو محـور الفلسفـة الـذرائـعـية . وهـو يـحـدد قـيمـة الصـدق بـفـائـدتـه الـعـمليـة، وقـد أسسـه ( بيـرس ووليـم جيمس وديوي)، وصـيـغـت الـذرائـعـية كـمنـهـج لحـل الـمنـازعـات الفلسفية بـوساطة مقـارنة النتائج العملية، النـاتجـة عـن نـظريـة مــا، كنـظرية للصـدق: والصدق هـو ما يـنـفع عـلى أفضل وجـه بـحيث يـقودنا إلى قصدنا . وهـو مـا يلائـم كـل جـزء من الحيـاة عـلى أفضل نـحـو ، ويجمع محصل مطالب الخبرة. البنية: Structure هي كل متكون من ظواهر متضامنة، بحيث ان كلاً منها يتوقف على الاخرى، ولا يمكنه ان يكون ما هو عليه الا في علاقته معها، وبهذه العلاقة.(لالاند) البنيوية: Structuralisme حركة فكرية حظيت برواج كبير في الستينات والسبعينات و اكتسبت شعبية رائجة آنذاك. لكنها اثرت اكثر ما اثرت في حقول علم الدلالة والنظرية الادبية. ما يوحد البنيويين في هذه الحقول المختلفة هو المبدأ المشتق من فرديناند دي سوسير، الذي يقر ان الاشكال الثقافية، الأنساق و المعتقدات، و”خطابات” كل نوع يمكن فهمها افضل ما يكون الفهم عبر مناظرتها باللغة، او بالخصائص المتجلية في اللغة حيث تتناول من رؤية متزامنة تروم تحليل بناها المتأصلة خاصة بالصوت والمعنى.(أوكسفورد) بنيوية: اتجاه أدبي وفلسفي ولغوي شاع في نهاية القرن العشرين يعتبر أن الأشياء تتألف من بنى ثابتة تشكل الاساس الذي يتألف منه الكل. التجريد: عملية ذهنية تقوم على عزل فكري لبعض العناصر من تمثل ما . التجربة: معرفة الواقع مباشرة بواسطة الحواس التجريبي : نسبة الى المعرفة العلمية التي تتحقق من فرضياتها بواسطة التجريب والملاحظة (الفيزياء علم تجريبي مقابيل الرياضيات ) النزعة التجريبية: مذهب فلسفي يمثله بشكل خاص كل من جون لوك و ديفيد هيوم ، ويرى ان كل معرفة تصدر عن التتجربة الحسية وحدها ، اي انها تصدر عن اتصال حواسنا بالعالم الخارجي. التقدم :Progrès تعني الكلمة في معنى اول كل تطور كمي سواء كان ايجابياً او سلبياً (تقدم الوباء مثلاً) وفي معنى ثانٍٍ ، تشير الى نمو في اتجاه الايجاب والتحسن (التقدم الاجتماعي). ومعزولة ، تعني الكلمة التطور الايجابي للإنسانية. التراث: هو كل ما تركه الابآء والاجداد من قيم مادية ومعنوية .( معارف وعلوم وعادات وتقاليد وفنون عيش…) تكافؤ:تتساوي الحدود أو القضايا منطقيا. التصوّر:representation حصول صورة الشيء في العقل. التصوف : هي تجربة خاصة يعيشها شخص يسمى الصوفي , تعتمد منهج المعرفة القلبية. التأريخ : إعادة دراسة التاريخ للتحقق منه أو تحليله ونقده . التحليل :Analyse هو تجزيئ المشكلة أو القضية إلى عناصرها البسيطة المكونة التبعية :وهي الارتباط بمنظومة سياسية او ثقافية او فكرية وهي عكس الإستقلالية . التقليد : هو الأخذ عن الآخرين بوعي أو بدونه. التفاعل : هو التبادل والمشاركة والتلاقح الفكري والعلمي والتكنولوجي. التاريخية: وجهة نظر تقوم على اعتبار موضوع معرفي بصفته نتيجة حالية لتطور يمكن تتبعه في التاريخ.(لالاند) الثقافة: Culture :مجموع المعارف الذهنية المكتسبة بواسطة التربية . مجموع الإنتاجات الثقافية الخاصة بحضارة ما في الفلسفة ، تشير الى كل ما ينتجه الانسان في مجتمع معين (التقنية ، الفن، المؤسسات ، العادات …) في مقابل كلمة الطبيعة التي تعني ما يوجد في استقلال عن التدخل الإنساني الحضارة:Civilization ضد البداوة وثقابل الهمجية والوحشية وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني. هي جملة مظاهر الرقيّ العلمي والفني والأدبي التي تنتقل من جيل الى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة ، وهناك حضارات قديمة وأخرى حديثة، شرقية وأخرى غربية، والحضارات متفاوتة فيما بينها ، وكلّ حضارة لها نطاقها وطبقاتها ولغاتها. حكم: أ – نفسيا : قرار ذهني برأي معين وهو الحال الأساسية للتفكير، وعليه يبنى الإستدلال والبرهنة. ب – منطقيا: إقامة علاقة بين حدين أو أكثر. والعلاقات أنواع، ومن أخصّ خصائص الحكم المنطقيّ إحتماله للصدق والكذب. مذهب: مجموعة مبادىء وآراء متصلة ومنسقة لفكر أو لمدرسة ومنه المذاهب الفقهية والأدبية والعلمية والفلسفية. الحداثة: Modernité: النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية:السيادة على الطبيعة ، والسيادة على المجتمع ، والسيادة على الذات. قطع الصلة بالتراث او طلب الجديد او محو القدسية من العالم او العقلنة او الديمقراطية او حقوق الإنسان او قطع الصلة بالدين او العلمانية مشروع غير مكتمل (الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس) الحتمية :Detrminisme: مبدأ علمي مفاده أن الظواهر الطبيعية مشروطة بأسباب ضرورية وثابتة ، ومن ثمة إمكان التنبؤ بها عند معرفة القوانين المتحكمة فيها . (ويتعارض هذا المبدأ عند الانسان مع فكرة الإرادة الحرة ) الحدس:Intuition: رؤية مباشرة لموضوع حاضر أمام الذهن ، أي معرفة مباشرة بذلك الموضوع لا تتخللها وسائط .(ويأتي عادة في مقابل الإستدلال كمعرفة غير مباشرة ). الحق الطبيعي :Droit naturel: تشير هذه الكلمة عند بعض المفكرين (ق17) الى حق مستقل عن قوانين المجتمع الوضعية ، ومنتم الى طبيعة الكائن الإنساني ذاته . الأخلاق : هي نظام قيمي قائم على دين او فلسفة ما. الخطابLe Discours:جملة من المنطوقات او الملفوظات المتسلسلة والمترابطة ترابطاً عضوياً ، والتي ترتبط بحقل ثقافي معين ديموقراطية: نظام سياسي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين، لا لفرد ولا لطبقة. ويقوم على ثلاثة أسس: الحرية والمساواة والعدل، وهي متكاملة ومتضامنة، والديموقراطية في الحقيقة نظام مثالي يتعذّدر تطبيقه تطبيقا تاما. هذه هي الديموقراطية السياسية أما الديموقراطية الإجتماعية فهي أسلوب حياة يقوم على حرية حرية الرأي والفكر وينشد العدالة الإجتماعية دين (الدين):مجموعة معتقدات وعبادات مقدسة تؤمن بها جماعة معينة يسد حاجة الفرد والمجتمع على السواء، أساسه الوجدان، وللعقل مجال فيه. دوغماطيقية: الدوغما او العقيدة هي مصطلح يطبّق بوجع عام على التعاليم الدينية التي تقبل بصرف النظر عن الاسباب او الشواهد، عادة بالركون الى سلطة كتاب مقدس او سلطة كهنوتية. اما الآن فانه يستخدم بطريقة ذمية لانه لا يقر فحسب معتقدات غير مبررة من قبل العقل، بل يقر ايضًا مبأ عدم التسامح، اي عقاب المعتقد الباطل.(موسوعة اوكسفورد الفلسفية). الديمقراطية:Democratie اولاً: هي طريق للعبور الى الحرية والمشاركة ثانياً: هي مطلب عدالة يقتضي الإعتراف بمساواة الجميع امام القانون ثالثاً: هي رقابة المجتمع على كافة القطاعات السياسية ولا سيما القطاع الإقتصادي ، بوسائل مختلفة الذاتية: هي الرؤية الخاصة والشخصية حول موضوع معين والتمسك بها وتغليبها على وجهات النظر الاخرى. الشمولية: الشمولية هي صفة تطلق على اتجاه في التفكير يقوم على اعتماد الفكر الرأئ الاحادي، ويناقض تفكير الاخرين ولا يتعرف به، كما يرفضه ايضا. الشخصانية: مذهب الفيلسوف الفرنسي رينوفييه القائم على جعل الشخصية هي المقولة العليا ومركز تصور للعالم. والشخصانية ايضًا هي مذهب اخلاقي واجتماعي قائم على القيمة المطلقة للشخص، معروض في كتاب عمانوئيل مونييه بيان لاجل الشخصانية.(لالاند) النزعة الشكية :Scepticisme :مذهب فلسفي اسسه بيرون (حوالي 365-275ق.م.)يقول بأنه لا يمكن بلوغ أي حقيقة وأنه يجب الشك بكل شيء ،وتؤكد إحدى الحجج الشكية ان بلوغ الحقيقة مستحيل لأن كل معرفة تستند الى منطلقات تحتاج الى منطلقات اخرى ، الشيء الذي يفرض الرجوع الى الوراء بشكل لا متناه ، وذلك مستحيل . (في مقابل الدوغماتية=الوثوقية الصوفية: تسمية تطلق على اشخاص يمضون حياتهم في عبادة الله ويتخلون عن مباهج الدنيا ومتاعها ويؤثرون الله على كل شيء. سيرورة: التحول والتبدل الشامل في الطبيعة وهي ضد السكون والجمود *العقل النظري:هو العقل الذي ينطلق من مقدمات تستند الى المنطق وقضاياه الكلية الخالصة. العقلانية:Rationalisme)أ-بالمعنى الميتافيزيقي، مذهب يقول بعدم وجود اي شيء بلا موجب، بحيث انه لا يوجد شيء لا يكون معقولاً، قانون ان لم يكن واقعًا. ب-مذهب يرى ان كل معرفة يقينية تصدر عن مبادىء لا تقبل الدحض، قبلية، بيّنة، تكون حصيلتها اللازمة، ولا يمكن للحواس ان تقدم عنها سوى نظرة ملتبسة وظرفية، نظرة عابرة الى الحقيقة.ج-من زاوية المنحى العقلي: ايمان بالعقل في البيّنة والبرهان، اعتقاد بفاعلية النور الطبيعي، بهذا المعنى يتعارض مع لاعقلانية، بكل صورها (صوفية-باطنية-فلسفة الشعور-سلفية)(لالاند) في الدين،العقلانية اتجاه يذهب إلى أن العقائد الدينية المقبولة هي تلك التي يعتبرها العقل متفقة مع المنطق ومع “النور الطبيعي” للعقل. العقلاني (Rationalité):سمة ما هو عقلي بالمعاني التقريظية لكلمة عقل. في اللاهوت، العلل الأولى : وهي الموجودات الاول التي صدرت عن واجب الوجود. العدالة : مفهوم اخلاقي يفترض الوسط بين حالتين متطرفتين , اما العدالة في القانون فهي اعطاء كل انسان ما يستحق , ام في المفهوم الديني فهي, المجازات حسب العمل . العرق : الانتماء الى اصل واحد من خلال اللغة او الجنس الـعـقــلانـيـة Rationalism: هــي مذهب فلسفي يؤمن بــأن العـقــل قـادر عـلى إدراك الحـقيقة بـمفـرده دون مسـاعـدة من عـاطفـة أو إلهـام أو وحـي وبــأن الـحـقيقة هـي الحقيقة المـادية الـمـحضـة التي يتـلقـاهـا العـقل من خـلال الحـواس وحـدهـا . وبــأن العـقل إن هـو إلا جـزء من هـذه الحـقـيقـة الـمـاديـة فهـو يـوجـد داخـل حيـز التـجـربـة الـمـادية مـحـدودا بـحـدودهـا ( لا يمـكنه تـجـاوزهـا ) ، وأنـه بـسـبب مـاديـتـه هـذه قـادر عـلى التـفـاعـل مـع ( الطـبيـعـة / المـادة ) ويـمكنـه انـطلاقـا منـهـا ( ومنها وحـدها ) أن يـؤسس منـظومـات مـعـرفيـة وأخـلاقية ودلاليـة وجـمـاليـة تـهـديه في حـيـاته ويـمـكنـه عـلى أسـاسـهـا أن يـفـهـم الـمـاضي والـحـاضـر ويـفـسـرهـمـا ويـرشـد حـاضـره وواقـعـه ويـخـطط مـستـقـبـلـه. الـعـدمـيـة Nihilism : مــذهـب ينـكـر القـيـم الأخـلاقـيـة ، ويـعـدهـا مـجـرد وهـم وخـيــال مع تحـرير الفـرد من كـل سـلطة مـهـمـا يـكـن نـوعـهـا . ويـقـول بــأنه لا يـمـكن تـحـقيق التـقدم إلا بتـحـطيـم الـنـظم السياسية والاجتـمـاعيـة التي تسلب الفرد حريتـه. علماني: اتجاه فلسفي وسياسي واجتماعي يرى ضرورة الفصل والتمييز بين كل ما هو ديني ودنيوي. الـعـنـصــريــة Racialism : نـظـريـة تبــرر التـفــاوت الاجـتـمـاعي والاسـتـغـلال والحـروب بـحـجـة انـتـمـاء الشـعـوب لأجـنـاس مـخـتـلفـة . وهـي تـرد الـطـبــائــع الاجتـمـاعيـة الإنسـانية إلى سـمـاتهـا البـيـولـوجيـة العـنصـرية ، وتـقسم الأجـناس بـطـريـقـة تـعـسفـية إلى أجـنـاس ( عـليـا ) و ( دنـيـا ) ، وقـد كـانت العـنـصرية النـظريـة الـرسـميـة في ألـمـانيـا الـنـازيـة. واستـخـدمـت لتـبريـر الـحـروب العـدوانيـة وعـمـليـات الإبـادة الـجـمـاعـيـة . العقد الإجتماعي :Contrat social: نظرية تقول بأن النظام الإجتماعي يقوم على اتفاق إرادي بين الأفراد المكونين له ، وهو اتفاق يخرجون بمقتضاه من حالة الطبيعة الى حلاة المدنية التي تحقق السلم والأمن للجميع .(نجد هذه النظرية روسو). العقلانية:Rationalisme:مذهب فلسفي يمثله ديكارت بالأساس (1596-1650) ، مفاده أن مصدر المعرفة هو نشاط العقل الذي يشكل ملكة كونية حاضرة في كل إنسان وغير قابلة لأن تجلب من التجربة (في مقابل التجريبية). العولمة :Mondialisation: هي إلغاء لكل الخصوصيات ، ولكل ثقافات الشعوب ، وجعل العالم كله قرية كونية واحدة اللغة: هي مجموعة من الاصوات يعبر بها كل قوم عن اغراضهم وتطلعاتهم. كما هي عبارة عن الفاظ الموضوعة للمعاني. الغائية: الهدف الارقى الذي يسعى اليه الانسان (لك لموضوع غاية). الفلسفة الوضعية: الفلسفة الوضعية هي الفلسفة المؤمنة بالعلم وحده، تعتبر ان العقل البشري بعد ان استحال عليه الوصول الى مفايم مطلقة،بات يتخلى عن البحث في اصل الكون وعن معرفة الاسباب الكامنة وراء الظواهر وعليه فقط ان يبحث في اكتشاف القوانين الفعلية التي تحكم هذه الظواهر. الفكر الاسطوري:اشبه ما يكون بالفكر الديني لا يستند الى وقائع مادية تحاكي موضوعات تتجاوز الواقع. الافلاطونية المحدثة:رائدها افلوطين، صاحب نظرية الفيض، وهي مذهب توليفي تتداخل فيه عناصر ثقافية يونانية (افلاطون)وشرقية (المسيحية واليهودية والغنوصية…) الفرضيات : هي تفسيرات اولية تحتاج الى تأكيد عبر البرهنة. الفلسفة العملية : تتعلق بالمواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية . الفلسفة الوضعية:يطلق بالتوسع على المذاهب المتعلقة بعقيدة اوغست كونت او المشابهة لها، ولو بكيفية بعيدة جدًا، احيانًا، والتي تجمعها اطروحات مشتركة تقول ان معرفة الوقائع هي المثمرة وحدها؛ وان العلوم الاختبارية هي التي تمدنا بنموذج اليقين، وان العقل البشري لا يجانب، في الفلسفة كما في العلم، اللفظية او الضلال الا بشرط الاتصال الدائم بالاختبار، والاقلاع عن كل ما هو قبلي؛ وتقول اخيرًا ان مجال “الشيء بذاته” غير قابل للتناول، وان الفكرة لا يمكنها سوى بلوغ العلاقات والقوانين.(لالاند) الـفــاشـيــة Fascism : مــذهب سيـاسي اقتـصـادي نـشــأ بـإيـطـاليـا واشـتـق اسـم الـفـاشيـة وشـعـارهـا من حـزمـة العـصي والمـطرقـة وهـي شعـار الدولـة في رومـا الـقـديمـة. ونـظـرية الفـاشيـة السيـاسيـة تـقـوم عـلى سيـادة الـدولة الـمـطلقة ، فـالدولة أعـظم من الفـرد ، وحـقها يفوق حـقوق الأفـراد ويـسمـو عـلـيـهـا ، وواجـب الإفـراد مـعـاونـتهـا عـلى أداء تـلك الـغـايـة. ونـظرية الفـاشيـة الاقتـصـادية تـقـوم عـلى تـدخـل الـدولة في كـل مـظـاهـر النـشـاط الاقـتـصـادي دون إلغـاء رأس المـال أو الـمـلكية الشـخصيـة . الفرضية :Hypothese: تعني في الرياضيات قضية تؤخذ بوصفها نقطة انطلاق عملية البرهنة ، اما في العلوم التجريبية (كالفيزياء مثلاً) ، فتشير الى قضية مؤقتة تقترح لتفسير ظاهرة ما وتنتظر التحقق بواسطة التجريب . الفطري :l’inné:ما يوجد بيولوجياً منذ الولادة ،وما هو مودود بشكل طبيعي ، في مقابل المكتسب الذي تجلبه التربية والثقافة . الفوضوية:Anarchisme:مذهب سياسي يدعو الى إلغاء الدولة والتخلص من كل إكراه جماعي ، إما دفعة وإما خطوة خطوة بحسب تطور الشعوب وإشتراكية وسائل الإنتاج والحاجات الاستهلاكية (ونجد الفكرة العامة للفوضوية عند ابن باجة في “كتابه تدبير المتوحد”- حيث وصف فيه مجتمعاً من الحكماء “لا حاجة فيه لا قضاة ولا اطباء… القبلي :A priori: يشير الى معرفة مستقلة عن التجربة ، في مقابل المعرفة البعدية a posterioriالتي تستند على التجربة اي على واقعة ملاحظة. اللاهوتي(صفة): بنحو خاص عند اوغسطت كونت، الحالة اللاهوتية هي الحالة الاولية من تظوّر الفكر البشري الذي من خلاله “يتمثّل الظواهر بوصفها من نتاج الفعل المباشر والمتواصل لعوامل خارقة، كثيرة نسبيًا، يُـفسِّر تدخلها العشوائي كل شواذات العالم الظاهرة”.(لالاند) الماهيات:الاشياء القائمة في ذاتها التي تحدد طبيعة الشيء. الموضوعية:هي صفة تطلق على معالجة الشخص لامر ما بطريقة بعيدة عن الاهواء والرغبات الخاصة، بل معالجتها بطريقة عقلية ومنطقية تأخذ بعين الاعتبار مختلف المقاربات. ما بعد الطبيعة: التسمية من كتاب لارسطو، يتحدث فيه عن الله( المحرك الاول)، وهي كل ما يتجاوز الوسط الفيزيائي ويبحث في عالم المجردات. المنطق : الة سماها ارسطو بالاورجانون يعصم مراعاته الذهن من الخطأ، علم يستند إلى قواعد منهجية ويعتمد الاستدلال والبرهان. الميتافيزيقيا : وتعني دراسة كل قضايا ما بعد الطبيعة. المنهج العلمي : هو الخطوات التي يجب اتباعها للوصول إلى الحقائق.
منهج : بوجه عام ، وسيلة محددة توصل الى غاية معينة.
موقف: تهيّؤ عقلي لمعالجة تجربة أو موقف من المواقف تصحبه عادة إستجابة خاصة. مسلمة (مسلمات):قضية ليست بديهية ولايستطاع البرهنة عليها، ومع ذلك يسلم بها، ويمكن أن تستخلص منها نتائج لا يرفضها العقل. مطلق :أ – من الناحية الإصطلاحية : ما كان بلا قيد أو بلا وثاق. ب – في المنطق: م لا يتوقف إدراكه على غيره ويقابل المضاف. ج – في الأخلاق والسياسة: ما لا يحده حدّ ولا يقيده قيد ومنه الخير المطلق والسلطة المطلقة. مادية: أ – بوجه عام : مذهب يرد كل شيىء إلى المادة، فهي أصل ومبدأ أوّل وعرف من قديم وبدت آثاره من نزعات فلسفية وسياسية مختلفة، ويقابل الروحية والمثالية. ب – سيكولوجيا: مذهب يردّ أحوال الشعور الى الظواهر الفيزيولوجية. ج – أخلاقيا: نزعة إلى أن الخيرات المادية وحدها هي التي يجدر بالإنسان أن يسعى وراءها. – علم التاريخ: مصطلح وضعه إنجلز للدلالة على مذهب كارل ماركس ويتلخص في أن الوقائع الإقتصادية هب أساس كل الظواهر الإجتماعية وتقابل المثالية التاريخية.
الماركيوزية: نسبة الى هربرت ماركيوز هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse) فيلسوف ألماني، فرّ من البطش النازي وعاش في أمريكا بعد عام 1934. كان ماركيوز عضواً في مدرسة فرانكفورت (Frankfurt School) وقد تبنى فكرة التغيير الاجتماعي ودافع عنها دفاعاً كبيرا،ً ولهذا كان في الستينات رمزاً لليسار الجديد، وللعديد من الثوريين في ألمانيا وأوروبا. لقد شكل كتابه “الأيروس والحضارة” (Eros and Civilization )، الذي نشر في عام 1955، محاولة واضحة من قبله للدمج بين أفكار فرويد وماركس. وقد أشتهر ماركيوز بشكل خاص بسبب تحليله لطبيعة طغيان المجتمع الحديث، حين يكون رأسماليا، كما هو ظاهر في كتابه “الرجل ذو البعد الواحد” (One-Dimensional Man)، الذي صدر في العام 1964، أو شيوعياً كما ظهر في كتابه “الماركسية السوفيتية ( Soviet .Marxism 1958 ) الماهية :Essence:طبيعة الشيء الخاصة اي ما ينتمي لزوماً الى تعريف ذلك الشيء .(ضدها العرض اي ما لا يشكل جزءاً من ماهية او تعريفاً بشيء ما ) مطلق:Absolu: ينعت به الشيء الذي لا يتعلق في وجوده بشيء آخر غير ذاته .(يقابله النسبي :الذي يشار به الى ما ليست له دلالة الا في علاقته بشيء آخر غيره ). المعيار :Norme:نموذج متحقق أو صياغة مجردة لما ينبغي ان يكون عليه الشيء .وقد يتخذ ذلك النموذج او تلك الصياغة كسند لاصدار حكم قيمة على ذلك الشيء. المفهوم :Concept: فكرة مجردة وعامة : مجردة لأنها تتجاوز واقعاً ملموساً وخاصاً، وعامة لأنها تغطي كل الوقائع التي تملك نفس الخصائص.(حين نفكر في مفهوم الحرية مثلاً لا يعني ذلك التفكير في فعل حر خاص ، وإنما نعني التساؤل حول مدلول فكرة تستعمل بالنسبة لوضعيات مختلفة ومتعددة ) منطقي – منطق:Logique: ما يحترم قواعد الإستدلال . مجال معرفي يهتم بشروط صلاحية الإستدلال بشكل مستقل عن مضمون قضايا هذا الإستدلال .(مثال :اذا كانت أ=ب، فمن المستحيل منطقياً ان تكون أ # ب ). الميتافيزيقا:Metaphisique: النعت ميتافيزيقي يخص كل تفكير يتجاوز التجربة والمعرفة العلمية ، وبشكل أدق تعني مجالاً من مجالات الفلسفة ، يتساءل عن أسس الوجود او المعرفة وذلك في استقلال عن اي شيء موجود او عن اي معرفة خاصين .إنها تفكير بالعلل والمبادئ الاولى .
نسق:لغة، ما كان على نظام واحد في كلّ شيىء، في الفلسفة والعلوم النظرية، جملة أفكار متآرزة ومرتبطة بدعم بعضها بعضا مثل نسق أرسطو ونسق ديكارت والنسقيّ هو الذهين النسقيّ والذهن النسقاني هو التشبث بفكرة سابقة.وفي علم الإجتماع هو الطريقة التي تنتظم بها مجموعة من الخيارات. نشأة الكون cosmogonie : عرض لأصل العالم…واستمرت البحوث حتى نظرية الانفجار العظيم النظرية: نسق من المعرفة المعممة وتفسير للجوانب المختلفة للواقع . وللاصطلاح “نظرية” تضمينات مختلفة كنقيض للممارسة أو للغرض (أي المعرفة الافتراضية غير المحققة) تختلف عن الممارسة. ما دامت تعكس الواقع روحيا أو عقليا وتردده. وهى في الوقت نفسه ترتبط إرتباطا لا ينفصم بالممارسة الي تضع مشكلات ملحة أمام المعرفة وتتطلب أن نحلها. ولهذا السبب فإن الممارسة جزء لا يتجزأ من كل نظرية. وكل نظرية مركبة في بنائها. فمثلا يمكن التمييز في النظريات الفيزيقية بين جزأين: الحسابات الصورية والمعادلات الرياضية والرموز المنطقية والقواعد ، الخ. والتفسير الموضوعي (المقولات والقوانين والمبادئ). وبناء ومعالجة هذا الجزء “الموضوعي” من النظرية يرتبطان بفلسفة العلم وبمبادئ منهجية معينة في تناول الواقع. وتتحدد النظريات العلمية الطبيعية والاجتماعية على السواء بالظروف التاريخية الي تنشأ فيها، وبالمستوى المعين تاريخيا للانتاج والتكنولوجيا والتجربة والنظام الاجتماعي السائد الذي قد يحبذ – أو على العكس قد يعوق – خلق النظريات العلمية. ومن ثم فإنه بينما تظهر النظرية كتعميم للنشاط المعرفي ونتائج الممارسة، فإنها تفضي إلى تحويل الطبيعة والحياة الاجتماعية. ومعيار قيمة صدق النظرية هو الممارسة .
نهضة: انبعاث أدبي أو فني أو فكري يحمل طابع الأصالة والتجديد. النزعة النسبيةRelativisme:مذهب فلسفي يؤكد على نسبية المعرفة وعلى طابعها غير الإطلاقي في مقابل الوثوقية او الدوغمائية ، والنزعة الشكية . النفعية :Utilitarisme:مذهب فلسفي اقترحه الانكليزيان بنثام(1748-1832) وستيوارت مل (1806-1873)ومفاده ان القيمة الأساسية هي النافع ، اي ان الانسان لا يتصرف الا وفقاً لما هو الأكثر نفعاً بالنسبة له . الوثوقية :Dogmatisme: تشير بشكل شائع الى موقف يقوم على : – إثبات رأي دون تبرير – رفض كل نقاش – تأكيد إمكانية الحصول على معرفة مطلقة . – الوجودية :Existentialisme مذهب فلسفي يجعل من الوجود الانساني مركز تفكيره. تنطلق الوجودية من مسلمة حرية الانسان المطلقة ، وترفض القول بالحتمية .(بالنسبة لرائده الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980)، ليست للإنسان طبيعة او ماهية خاصة، “فالإنسان ليس شيئاً آخر غير ما يصنعه بنفسه”. – الوضعية :Positivisme مذهب فلسفي مؤسس من قبل أوغست كونت (1798-1857) ، يقوم على اقتراح التخلي عن كل مقاربة ميتافيزيقية للواقع ، والإقتصار على الدراسة العلمية للظواهر وفق القوانين التي تتحكم بها.
جمع الإمام الغزالي بين الريادة الفلسفية والموسوعية الفقهية والنزعة الصوفية الروحية، اتسم بالذكاء وسعة الأفق وقوة الحجة وإعمال العقل وشدة التبصر، مع شجاعة الرأي وحضور الذهن، كل ذلك أهّله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة والفنون المتباينة؛ فكان الغزالي فيلسوفا وفقيها وصوفيا وأصوليا، يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم من العلم الوافر والعقل الناضج والبصيرة الواعية والفكر الراشد، فصارت له الريادة فيها جميعا، وأصبح واحدا من أعلام العرب الموسوعيين المعدودين.
الميلاد والنشأة
ولد أبو حامد الغزالي بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي بقرية “غزالة” القريبة من طوس من إقليم خراسان عام (450هـ = 1058م)، وإليها نسب الغزالي. ونشأ الغزالي في بيت فقير لأب صوفي لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد وأحمد، وحينما حضرته الوفاة عهد إلى صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما.
اجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها.
ودرس الغزالي في صباه على عدد من العلماء والأعلام، أخذ الفقه على الإمام أحمد الرازكاني في طوس، ثم سافر إلى جرحان فأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وعاد بعد ذلك إلى طوس حيث بقي بها ثلاث سنين، ثم انتقل إلى نيسابور والتحق بالمدرسة النظامية، حيث تلقى فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ولازمه فترة ينهل من علمه ويأخذ عنه حتى برع في الفقه وأصوله، وأصول الدين والمنطق والفلسفة وصار على علم واسع بالخلاف والجدل.
وكان الجويني لا يخفي إعجابه به، بل كان دائم الثناء عليه والمفاخرة به حتى إنه وصفه بأنه “بحر مغرق”.
بزوغ شمس الغزالي
استقر المقام بالغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام (478هـ = 1085م) فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره.
خرج الغزالي إلى “المعسكر” فقصد الوزير السلجوقي “نظام الملك” الذي كان معروفا بتقديره العلم ورعايته العلماء.
واستطاع الغزالي أن يحقق شهرة واسعة بعد أن ناظر عددا من الأئمة والعلماء وأفحم الخصوم والمنافسين حتى اعترفوا له بالعلم والفضل، فارتفع بذلك ذكره وذاع صيته، وطار اسمه في الآفاق.
واختاره نظام الملك للتدريس بالمدرسة النظامية في بغداد فقصدها في سنة (484هـ = 1091م) وكان قد بلغ الرابعة والثلاثين من عمره، وقد استُقبل فيها استقبالا حافلا، وكانت له مهابة وجلال في نفوس العامة والخاصة، حتى غلبت حشمته الأمراء والملوك والوزراء.
وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: “الفلاسفة” الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و”المتكلمون” الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و”الباطنية” الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و”الصوفية” الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
رحلة البحث عن الحقيقة
غلاف كتاب إحياء علوم الدين
وسعى الغزالي جاهدا ليتقصى الحقيقة بين تلك الفرق الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه القيم “المنقذ من الضلال”، ولكنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، فلم تعد لديه الرغبة في أي شيء من ذلك.
وظل الغزالي على تلك الحال من التردد نحو ستة أشهر حتى قرر مغادرة بغداد، وفرّق ما كان معه من مال ولم يدخر منه إلا قدر الكفاف وقوت الأبناء.
واتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى.
ثم انتقل من دمشق إلى بيت المقدس فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته.
وهناك بدأ في تصنيف كتابه الشهير إحياء علوم الدين، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي، حتى إذا ما دعاه داعي الحج اتجه إلى مكة ليؤدي فريضة الحج سنة (489هـ = 1096م) ثم زار المدينة المنورة.
وعاد الغزالي من الحج إلى دمشق مرة أخرى حيث عكف على إنجاز كتاب الإحياء، وفي العام التالي رحل إلى بغداد، لكنه لم يستأنف العمل بالتدريس بها، وما لبث أن ذهب إلى خراسان وظل حريصا على الخلوة، مواظبا على حياة الزهد والتأمل وتصفية القلب لذكر الله، واستمر على تلك الحال نحو عشر سنوات، يجمع بين التمتع بالخلوة والذكر والتأمل، والأخذ بأسباب الحياة والتغلب على عوائقها، واستطاع خلالها الوصول إلى تلك الحقيقة التي راح يبحث عنها، والاهتداء إلى ذلك اليقين الذي راح يبثه في تلاميذه ومريديه: يقين الصوفية الحقة الذي استمد دعائمه من مشكاة النبوة الصافية وجوهر الإسلام الخالص.
وعندما تولى “فخر الملك علي بن نظام الملك” الوزارة في نيسابور سنة (498هـ = 1104م) عقب اغتيال أبيه على يد بعض الباطنية، ألح على الغزالي في العودة إلى التدريس في نظامية نيسابور، واستجاب له الغزالي إلا أنه لم يستمر بها أكثر من عامين؛ إذ سرعان ما ترك التدريس ثانية بعد اغتيال فخر الملك على يد أحد الباطنية في المحرم (500هـ = 1106م).
وعاد الغزالي إلى مسقط رأسه في طوس فبنى بها مأوى للطلاب والصوفية ممن يقصدونه، وظل بها فلم يبرحها حتى توفي.
صاحب رسالة
كان الغزالي منذ حداثة سنه يشعر أنه صاحب رسالة، وقد أدرك منذ صباه ذلك الصراع الدائر بين الفرق الدينية المختلفة والتيارات الفكرية المتناحرة، وهو ما حظي بقدر كبير من الاهتمام والجدل في عصره؛ ولعل ذلك ما أغراه بدراسة تلك الفرق والطوائف والتصدي لها في العديد من مؤلفاته ومناظراته.
وبالرغم من النزعة الصوفية التي سيطرت عليه طوال حياته، والتي كان لنشأته وبيئته الأولى أثر كبير في ترسيخها في عقله ووجدانه، فإنه لم ينعزل عن قضايا مجتمعه ومشكلات أمته، وإنما اهتم برصد ما يدور حوله من تيارات فكرية ومذاهب دينية واتجاهات فلسفية، وتصدى لها بالنقد والتحليل، فجمع بين روحانية الصوفية في صفاء العبادة وشفافية الوجدان وعمق الإيمان والزهد في الدنيا، وبين النزعة العقلية العلمية في النظر إلى الأمور الدنيا والدين على حد سواء، وحرية الفكر وشجاعة الرأي.
وكان الغزالي معنيًا بأمر الدين، مهتمًا بالذبّ عن العقيدة الخالصة والإسلام الصحيح، وقد تجلى ذلك في العديد من مؤلفاته مثل: المنقذ من الضلال، وفضائح الباطنية، وتهافت الفلاسفة، بل إنه في كتابه الضخم وموسوعته الكبرى “إحياء علوم الدين” يستشعر هدفا أسمى ودورا أعظم ويضع نصب عينيه غاية أبعد بأنه مجدد الدين في القرن الخامس الهجري، ويتجلى ذلك بوضوح في العنوان الذي اختاره لدرته الرائعة وكتابه الفريد “الإحياء”.
من الشك إلى اليقين
تميز الغزالي الفيلسوف بالجرأة والشجاعة والذكاء؛ فقد واجه الاتجاهات الفكرية المختلفة التي سادت في عصره بذكاء وشجاعة نادرين، وكان نقده مركزا على نقد الفرق المتطرفة من منطلق إخلاصه للإسلام، وكان في نقده لها يتسم بالنزاهة والموضوعية، وأثبت الغزالي في رده على الفلاسفة مخالفتهم للإسلام في بعض الجوانب، وحذر الناس من اتباع طريقتهم من غير مناقشة أو تمحيص، كما كشف عن أباطيل الباطنية، وفضح ضلالاتهم بعد أن درس أسرار مذهبهم وعرف حقيقة أفكارهم، وكان أمر تلك الفرقة قد استشرى واستفحل خطرهم سياسيا ودينيا، وقد أراد الغزالي من رده عليهم تحجيم خطرهم والتقليل من نفوذهم الديني والسياسي بعد تعريتهم والكشف عن زيفهم وضلالهم وتوضيح أهدافهم.
وكان الغزالي في فلسفته يعبر عن شغفه بالعلم والبحث عن الحقيقة، وقد اتبع منهجا عقليا يقوم على فكرتين أساسيتين هما: الشك، والحدس الذهني.
وقد عبر عن ذلك بوضوح في قوله: “إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم”.
ويعبر عن تجربة البحث عن الحقيقة التي تبدأ عنده بالشك فيقول: “فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا”.
وهو يفسر ذلك بأنه “من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال”.
وهذا المنهج الذي اتبعه الغزالي منذ أكثر من تسعة قرون شديد التشابه بما قدمه الفيلسوف الفرنسي ديكارت وهو ما يؤكد تأثره بالفيلسوف الإسلامي الكبير وأخذه عنه؛ فقد عاش الفيلسوفان التجربة المعرفية ذاتها، وإن كان فضل السبق والأصالة يظل الغزالي، فعبارة الغزالي الشهير “الشك أول مراتب اليقين” التي أوردها في كتابه “المنقذ من الضلال” هي التي بنى عليها ديكارت مذهبه، وقد أثبت ذلك الباحث التونسي “العكاك” حينما عثر بين محتويات مكتبة ديكارت الخاصة بباريس على ترجمة كتاب المنقذ من الضلال، ووجد أن ديكارت قد وضع خطًا أحمر تحت تلك العبارة، ثم كتب في الهامش: “يضاف ذلك إلى منهجنا”.
موقفه من العقل
تحول الغزالي من الفلسفة إلى التصوف بعد أن استقر في وعيه ووجدانه أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، خاصة أن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.
ورأى أن التصوف هو المنهج الأفضل في تلقي المعرفة اليقينية الملائمة، وهو في تصوفه لا يهمّش العقل، ولا يقلل من دوره، بل على العكس من ذلك؛ فإن للعقل عنده دورا أساسيا في سلوك طريق التصوف؛ إذ إن العلم اللدني عنده لا يتأتى إلا بعد استيفاء تحصيل جميع العلوم، وأخذ الحظ الأوفر منها والرياضة الصادقة للنفس والمراقبة الصحيحة لله مثل التفكر الذي يفتح للمتفكر أبواب العلم ويصير به من ذوي الألباب.
والغزالي يحتج بالعقل على غلاة الصوفية القائلين بالفناء والاتحاد، ويرى أنه قد ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، ولكن ليس من الممكن أن ينكشف له شيء يحكم العقل باستحالته، فالعقل عنده هو الميزان الذي قيضه الله للإنسان لقياس مدى صدق معارفه ووضع الحدود لها، ومن ثم فإنه ليس ثمة تعارض بين مقتضيات التعقل، وشئون الإيمان الديني. ويرى أن من لم تكن بصيرته الباطنية ثاقبة فلن يعلق به من الدين إلا قشوره. أما في مسائل الإلهيات والغيب فيقرر أنه ليس للعقل دور أكثر من تقبلها والتسليم بصدقها.
ومما لا شك فيه أن الغزالي قد ساهم بتلك العقلية الواعية في تنقية التصوف من كثير من البدع والانحرافات، وأعطى التصوف والحياة الروحية بعدا عقليا جديدا، وإذا كان الإمام الأشعري قد خلّص علم الكلام من السفسطة الساذجة للمتكلمين القدامى المقتدين بالجدل اليوناني، فإن الإمام الغزالي قد أكد للإسلام قوة الحياة الدينية بتقرير الاعتراف بما نبت فيها من تصوف، وأسسه تأسيسا فلسفيا.
الغزالي والتربية الخلقية
تهدف التربية الخلقية عند الإمام الغزالي إلى تحقيق بعض الغايات والأهداف التي تؤدي إلى رفع المستوى الروحي والخلقي والفكري والاجتماعي والسياسي للفرد والمجتمع، ومن تلك الأهداف التي حرص الغزالي على تحقيقها.
1- الكمال الإنساني: وذلك بارتقاء النفس الإنسانية من مجال الحس إلى مجال التفكير، والارتقاء بالإنسان من مستوى الخضوع للأهواء والشهوات إلى مقام العبودية لله، حتى تصل إلى حالة تطل بها على عالم الغيب، فتطّلع على الحقيقة، وتصل إلى أقصى مراتب الكمال الإنساني باقترابها من الخالق سبحانه وتعالى.
2- تربية النفس على الفضيلة: فقد ركز الإمام الغزالي على أساسيات الفضائل، واعتبرها أربعة هي: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
ويرى أن تحقيق الفضيلة إنما يكون من خلال تصفية القلب لذكر الله تعالى، والعمل على تزكية النفس وتهذيب الأخلاق.
ويؤكد الغزالي على أهمية الفضائل ودورها في ضبط قوى النفس الإنسانية، وتنمية الاستعدادات الفطرية الخيرة فيها.
3- تهذيب قوى النفس الإنسانية: وهو يرى أن ذلك لا يعني قمع نزعاتها وغرائزها واستئصالها تماما، فإن ذلك مخالف لفطرة الإنسان وطبيعته؛ لأن الشهوة إنما خلقت لفائدة، ولها وظيفة لا غنى للإنسان عنها، ولا بقاء له من دونها، فشهوة الطعام ضرورية لحياته ونموه، وشهوة الجنس تحفظ النسل وتساهم في بقاء النوع الإنساني، ولكنه يربط هذه الشهوات بالاعتدال والعفة والعقل.
4- حسن توجيه طاقات الأمة: فالغزالي يؤكد على أهمية حفظ طاقات النفس وتوجيهها للإفادة منها على النحو الأمثل، كما دعا إلى ضرورة تخليص الأمة من الشهوات المفسدة للروح الإسلامية، وأكد على الأثر التهذيبي للشريعة الإسلامية في كل من الفرد والمجتمع.
5- تكوين الشخصية المتوازنة: ويركز الغزالي في التربية الخلقية على المكونات الرئيسية للنفس الإنسانية وهي: العقل والروح والجسم، وينظر إليها باعتبارها كيانا واحدا متكاملا، ومن ثم جاء تأكيد الغزالي على بعض الأساليب والطرائق التربوية التي تتناول تلك المكونات بشكل متكامل ومتوازن، كالمجاهدة والرياضة لتزكية القلب والروح، والتفكر لتربية العقل، وترقية النفس الإنسانية في مجالات الإدراك، واللعب لتربية الجسم وتنشيط العقل والحواس.
6- إرضاء الله سبحانه وتعالى: دعا الغزالي إلى توخي إرضاء الله تعالى، وحذر من مطامع الدنيا الفانية، وحث على إحياء الشريعة الإسلامية والتماس رضوان الله تعالى، ولذلك فهو يرى أن من أهداف التربية الخلقية إعداد الإنسان في هذه الحياة الفانية للدار الآخرة الباقية؛ لأن الغاية المثلى للإنسان في هذه الدنيا هي حسن العبودية لله وتمام الطاعة والخضوع له.
الغزالي فقيها أصوليا
كان الغزالي فقيها أصوليا بارعا، وقد ترك تراثا فقهيا كبيرا يدل على مدى تمكنه من هذا العلم وعلو منزلته فيه، ومن أهم مؤلفاته في أصول الفقه:
-“المنحول في علم الأصول”، وكان قد صنفه في مطلع شبابه وكان شافعيا متحمسا، وتناول فيه الأحكام الشرعية والأحكام التكليفية، وبيّن الواجب والمندوب والمحظور والمكروه، كما تحدث عن الإجماع والقياس والترجيح، وتناول الفتوى والاجتهاد وأحكامه، والتقليد وأحكامه، ثم ذكر سبب تقديمه مذهب الشافعي على بقية المذاهب.
-“البسيط في الفروع”: وهو كتاب في الفقه الشافعي، وصفه ابن خلكان بقوله: “ما صُنّف في الإسلام مثله”، وقد تحدث فيه عن القصاص والجنايات التي تستوجب الحد، كما تناول السبق والرمي، والنذور والشهادات والدعاوى والعتق، واختصره الغزالي مرتين بعنوان: الوسيط والوجيز.
-“شفاء العليل في القياس والتعليل”: وتناول فيه مسائل القياس والعلة والدلالة، كما ذكر شروط القياس وكيفيته، وذكر بعض المسائل التي توضح ذلك.
-“إحياء علوم الدين”: وقد اشتمل على أبواب من العقائد والعبادات والمعاملات، وجمع فيه بين العقل والنقل، وبين الفقه والتصوف، وبين النص والاستدلال.
-“تهذيب الأصول”: وهو كتاب ضخم في علم الأصول، يميل إلى الاستقصاء، والاستكثار يفوق كتابيه: المستصفى والمنخول.
-“المستصفى من علم الأصول”: وهو اختصار لكتابه تهذيب الأصول الذي يميل إلى الاستقصاء، ويفوق كتاب المنخول الذي يميل إلى الاختصار.
وقد أفاد الغزالي كثيرا من دراسته للفقه وتمكنه منه في مناقشته أفكار ودعاوى الفرق المنحرفة وغلاة الصوفية، وإبطال عقائد الباطنية وغيرهم والرد على مزاعمهم وافتراءاتهم، وكان له أكبر الأثر في تشكيل عقله ووعيه، وتوجيه تصوفه ليقترب كثيرا من المنهج السلفي، ويبتعد عن الوقوع في دائرة الغلو والشطط والإغراق في المبالغة التي وقع فيها كثير من الصوفية.
الوفاة
وتوفي الإمام الغزالي في (14 من جمادى الآخرة 505هـ = 19 من ديسمبر 1111م) عن عمر بلغ خمسا وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا، بلغ 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود.
أهم مصادر الدراسة:
الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل: د.محمد إبراهيم الفيومي-دار الفكر العربي-القاهرة 1406هـ = 1986م.
البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي-الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1417هـ = 1997م.
تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان القسم الرابع 7-8، أشرف على الترجمة أ.د محمود فهمي حجازي- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1413هـ = 1993م.
سير أعلام النبلاء شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي-أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط- مؤسسة الرسالة- بيروت 1410هـ = 1990م.
الغزالي ولمحات عن الحياة الفكرية الإسلامية: د.بهي الدين زيان- مكتبة نهضة مصر- القاهرة 1378هـ = 1958م.
مؤلفات الغزالي: عبد الرحمن بدوي- المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب- القاهرة 1380هـ = 1961م.
نظرية التربية الخلقية عند الإمام الغزالي- عبد الحفيظ أحمد علاوي البريزات- منشورات دار الفرقان- عمان 1404هـ = 1984م.
الوافي بالوفيات: صلاح الدين جليل بن أيبك الصفدي- تحقيق: هلموت ديتر- دار النشر فرانز شتايز فيسبادن 1381هـ = 1962م.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو عباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان- تحقيق: د.إحسان عباس- دار الثقافة- بيروت د.ت
حظي ابن العربي بحيّز كبير من اهتمامات الدارسين للتراث العربي الإسلامي، سواء من العرب أومن الغرب، بحكم أن أعماله تمثل بوابة كبرى لمن أراد الدخول إلى عالم التصوف الإسلامي ومعرفة كيف يتطور وينتقل من الزهد إلى مرحلة الكشف، وخلال هذا الارتقاء يعمد الصوفي إلى الربط بين النظر والعمل، والعقل، والكشف، بغية إصابة الحق وبلوغ أعلى المقامات ونيل درجة الكمال. ويكمن سر قوة الفكر الصوفي الأكبري في رمزيته ومجالات التأويل الواسعة التي فتحها على العقل والقلب والغوص في عالم مطلق، سعيا وراء الكمال وبلوغ المقام الذي لا يضاهيه مقام. فأسلوب ابن العربي سمح لكل صاحب خيال أن يقرأ من الزاوية التي يشعر أنه يتعمق فيها، هذا ما أهّل الفكر الصوفي الأكبري أن يذاع وينتشر وينزل ضيفا مشرّفا على كل القطاعات الأدبية، والدينية، والعلمية، هذه الأخيرة التي لا يمكن أن ننكر دور العقل فيها لأن الإنسان بالعقل تميز عن سائر الكائنات.
لقد كان ابن العربي من الصوفيين الذين برهنوا برهنة قوية على أن العقل له مجالات رحبة في المعرفة الإلهية، كما أن له حدودا لا يمكنه تخطيها، لأنه يعجز عن ذلك عجزا ذاتيا، ولأنه يوجد من المعارف ما يتجاوز طاقته وقدراته، ويبرر ابن العربي كل هذا بتبريرات شرعية وعقلية قاصدا منها جعل العقل في خدمة الحقيقة الدينية الإلهية. وبهذا لا يمكننا أن نتخذ موقفا من الصوفية على أنهم لا عقلانيون.
إن هذا العمل رغم بساطته، يعتبر بوابة صغيرة من خلالها يستطيع المتطلع عليها معرفة كيف كان ابن العربي الاسم الديناميكي والفكر الفعال المحرك لعقول أعلام الفكر العربي الإسلامي وغيرهم، فهو من الشخصيات القلقة في الإسلام نظرا لما أحدثته آثاره فلأجله أنقسم المفكرون بين مؤيد مثل “حافظ السيوطي” فأبدع كتابه ” تنبيه الغبي على تنزيه ابن العربي” ومعادي مثل “ابن تيمية” الذي رماه في فتاواه بالكفر والزندقة وبالقول بالوحدة والحلول، وبشتى عبارات المروق عن الدين.
وتكمن أهمية الموضوع المعالج في تسليط الضوء على مفكر صوفي بارز في مشارق الأرض ومغاربها، بحكم الأثر البالغ الذي تركه في الأوساط المسلمة وغير المسلمة، ناهيك عن امتداد هذا الأثر حتى الفترة الراهنة، بسبب ما تقدمه تجربة ابن العربي المجملة لانشغالات فكرية عظمى منها: وحدة الإنسان ووحدة المذاهب والأديان، وفكرة الكمال الإنساني، ومنزلة العقل وهو محور بحثنا هذا، وهي كلها من المواضيع الحية الراهنة ضمن اهتمام الفلسفة المعاصرة.
يعتبر ابن العربي من السباقين للحديث بإسهاب عن عجز العقل وأن هناك حدودا يجب أن يقف عندها، ففي الوقت الذي كانت فيه الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة إلى غاية منتصف القرن العشرين تعطي للعقل وللعلم السلطة المطلقة حتى نجم عن ذلك الإيمان بمبدأ الآلية أو الحتمية المطلقة فظهرت نتائج علمية مذهلة منها المفيدة النافعة ومنها الضارة المدمرة، ولم تتفطن الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية للتفكير في كبح جماح العلم، ومن ثم سقوط مبدأ الحتمية وظهور مبدأ اللاحتمية مع الفيزيائيين المعاصرين أمثال “هيزنبورغ”(1901م–1976م) في حين أن ابن العربي وضع حدا لسلطة العقل تتمة لفكرة عقدية أشعرية. وعليه فإن مبدأ اللاحتمية لم يكن وليد الفيزياء المعاصرة بل كان ابن العربي ومن قبله “الغزالي” ومن كان على مذهب الأشعري السباقين إليه مادام للعقل حدود عندهم.
جعل ابن العربي من العقل وسيلة لا غاية، انطلاقا من أنه أداة يراد بها معرفة العبادات وكذا العلوم الكونية، الأمر الذي وضحه في مؤلفات عدة منها: “رسالة إلى الإمام الرازي”، وفكرة أن العقل وسيلة ليست غاية حقيقة لم تتفطن لها الفلسفة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية حين أيقنت أنه يجب ألا تكون الاكتشافات العلمية غاية في حد ذاتها بل وسائل، فكان ابن العربي السباق إلى ربط العقل وما يؤديه من وظائف بالأخلاق، لهذا وجب أن لا يكون إلا إذا كان ساعيا لخدمة الإنسان وعقيدته، وهذا ما تم توضيحه خلال البحث من خلال معرفة الشروط أو الآداب التي سنها حتى يؤدي العقل الوظيفة التي من أجلها كانت النفس الناطقة.
تعتبر نصوص ابن العربي ومؤلفاته فضاء واسعا لإبداعات فنية وأدبية مميزة، لهذا كانت منزلة العقل عنده إشكالية فرضها الاهتمام العالمي بشخصه ومؤلفاته والأيام الدراسية والملتقيات والندوات التي تقام على مدار السنة في مختلف أنحاء العالم الغربي والمسلم بشقيه الأفريقي والآسيوي، وما يذاع عن التصوف بشتى القنوات ومختلف اللغات بينة قاطعة على ما سبق التصريح به.
بالرغم من أن الفلسفة تبدو للبعض أنها ممنوعة في فكر ابن العربي الصوفي إلا أنه أبى إلا أن يهتم ويغوص فيها من أجل محاولة الالتقاء بين الفلسفة والتصوف في ظل الشريعة الإسلامية، ووفق ترتيب تفاضلي كشفت عنه أثناء البحث وعرفت دوافع هذا التفاضل، ويهدف البحث في منزلة العقل عند ابن العربي إلى الكشف عن الرواسب التي التصقت بشخصية ابن العربي وفكره والتي خلفها سوء تأويل دارسيه إذ يحكم أغلبهم أنه الصوفي الرافض للعقل وهذا ما حاولنا تفنيده وإبطاله وجعل المفاهيم التي كانت تبدو للبعض قديمة أنها معاصرة حديثة تندمج في واقعنا، ثم نبرز من خلالها أن أفكار ابن العربي لم تمت بموت صاحبها، كيف لا وهو من السباقين إلى القول بمبدأ اللاحتمية وأن العالم خاضع لمبدأ عدم التعاين مادامت المعارف الكونية تستند إلى العقل الذي هو في الواقع محدود عنده، داعيا إثره للقول أن القطيعة شرط الموضوعية من خلال تفضيله للنفس الناطقة على بقية القوى الأخرى الشهوانية والغضبية وكذا من خلال تركيزه على محورين أساسين هما القرآن والسنة، وعدم الاكتفاء بنقل الأفكار بالتواتر، بل الواجب أخذها من ينبوعها الأم، إذ يقول ابن العربي في الفتوحات الجزء الثالث: لا تسمع مقالة من جاهل[1] مؤكدا أن أمهات المطالب العلمية و حملها على الحق أربعة: « سؤال عن الوجود…سؤال عن الحقيقة التي يعبر عنها بالماهية…سؤال عن الحال…وسؤال عن العلة والسبب»[2] سعيا منه إلى النظر في لب الأمور لا في قشورها. وعليه فإن الدعوة إلى إبطال المعارف التي تأخذ بالتسليم وضرورة التجرد من الذاتية أثناء جمع الخبرات لم يكن الفيلسوف الفرنسي “غاستون بشلار” (1884م–1964م) مبدعها لأننا وجدنا من خلال البحث أن اللبنة الأولى للفكرة كانت على يد ابن العربي.
إن ابن العربي من الفلاسفة المتصوفة الذين لهم راهنية وحضور في الفكر ما بعد الحداثة، لأنه وضع للعقل حدود وصنفه في المرتبة الثالثة بعد النقل والكشف في تحصيل المعرفة الكونية، لذا وجدنا أسلوبه وفكره يخرجان عن المألوف، كيف لا وهو يبحث في المتناقضات حاله كحال من يحاول الجمع بين الممكن والمحال، بين المادة والروح، الدنيا والآخرة، الشريعة والفلسفة وبين العقل والخيال، إن تجربة ابن العربي الفكرية الجامحة يلتقي فيها الاستدلال بالجدل، تتراوح بين الظاهر والباطن، ويتداخل فيها الشعر بالنثر، والفلسفة بالأساطير والعلم بالطلسمات.
إن دراسة إشكالية منزلة العقل سمحت باكتشاف أن فكر ابن العربي تعدى مجال المعرفة الذوقية ليبدع في الأخلاق، الوجود، ودراسة النفس الإنسانية، لأجل هذا يمكننا أن نشاطر أحد الباحثين رأيه عندما حكم على ابن العربي بأنه علامة فارقة ومعجزة صوفية في محاولة فهمه خير كثير لفكرنا العربي وتراثنا الوجداني والعقلي معا، لأجل كل هذا حاولنا البحث بخطى متحفظة في منزلة العقل عند ابن العربي، وسعينا الإشكالية الآتية: ما هي منزلة العقل في الفكر الصوفي الأكبري المعروف عنه اعتماده الكشف لا العقل؟.
و الإجابة على ما يتفرع منها من أسئلة، منها ما موقف ابن العربي من العقل أداة وعلما؟ وما مفهومه لديه؟ هل يتفق أم يختلف في ضبطه لمفهوم العقل مع مفكري الإسلام من فلاسفة وعلماء كلام ومع الفقهاء والمفسرين والأدباء؟ وهل تسمح لنا هذه الموازنة من معرفة وظيفة العقل الجوهرية عند ابن العربي ودعائمها ومن أين تبدأ وأين تنتهي؟ وما هي أنواع العقل عنده؟ وما هي شروط العقل السليم عند ابن العربي؟ وما هي دواعي ربط العقل بضوابط أخلاقية لديه؟ وما هي المرتبة التي يحتلها العقل عند ابن العربي؟ ولماذا؟ وعلى ماذا اعتمد في تبريره في أن يضع للعقل مجالات وحدود؟ وما هي علاقة العقل بالكشف عنده؟ وما هو موقف ابن العربي من الفلسفة وعلم الكلام بحكم أنهما من المجالات التي يعتمد فيها بشكل مباشر على العقل؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتفرعة عن طريق موضوع قيمة العقل في فكر يتداول أنه لا عقلاني. مع الأمل أننا قد وفقنا في إعطاء هذا الموضوع حقه ولو –نسبيا- من التحليل والفحص والدرس.
الفصل الأول الفصل الثاني الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 مبادئ التفكير الفلسفي 1 الكوسمولوجيا القديمة 2 مفاهيم ونصوص فلسفية 2 المنطق وآليات الاستدلال 3 أسس علم الاجتماع 3 الميتافيزيقا 4 ميادين علم الاجتماع 4 العلم الطبيعي 5 مدخل إلى تاريخ علم النفس 5 الفلسفة وأنماط التعبير 6 ميادين واتجاهات علم النفس 6 حكمة الشرق 7 اللغة الفرنسية 7 اللغة الفرنسية
الفصل الثالث الفصل الرابع الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 الفلسفة في العالم العربي الإسلامي 1 الفلسفة الحديثة 2 الفلسفة الغربية في العصر الوسيط 2 الفلسفة السياسية 3 علم الكلام 3 فلسفة الأنوار 4 مقاربات فلسفية في الدين 4 نشأة العلم الحديث 5 التصوف 5 المنطق المعاصر 6 العلوم العربية 6 الجماليات
الفصل الخامس الفصل السادس الرقم عنوان الوحدة الرقم عنوان الوحدة 1 التيارات التأويلية 1 فلسفة الحق 2 الإيديولوجيا 2 فلسفة الأخلاق 3 نقد الميتافيزيقا 3 إشكاليات في الفكر المغربي المعاصر 4 الفلسفة الوضعية والتحليلية 4 الإبستيمولوجيا 5 فلسفة التاريخ 5 المشروع المؤطر 6 مدخل إلى الفكر العربي المعاصر 6 المشروع المؤطر
الله متصف بكل صفات الكمال، هذا حقٌّ لا رَيبَ فيه، والقرآن يُرَدِّد الكثير منها في كثير من آياته، وسنتكلم عن سبع منها أجمع عليها رجال علم الكلام وسائر رجال الدين والمفكرون والفلاسفة المسلمون، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه هي الصفات التي جاء في القرآنُ وصف الله الخالق بها، وقد تناولها ابن رشد بالتدليل عليها على هذا النحو:١٧
(أ)نَبَّه الكتاب على وجه الدِّلالة على العلم بقوله تعالى (سورة الملك: ١٣، ١٤): وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، والدلالة نجدها هنا في الآية الثانية، وذلك بأنَّ المصنوع بترتيب أجزائه وموافقة جميعها للمنفعة المقصودة منه، يدلُّ على أنَّه حدث عن صانع يجعل ما يصنع على ترتيب ونظام يُؤدي إلى الغاية المقصودة منه؛ فوَجَب أن يكون عالمًا ضرورةً به. يجب لهذا؛ أن يكون خالق هذا العالم المحكم في ترتيبه ونظامه مُتَّصِفًا بصفة العلم اتصافًا دائمًا لا في حال دون حال.
هكذا ينبغي في رأي ابن رشد أن يكون الاستدلال على إثبات صفة العلم لله تعالى، استدلالًا ينفع للناس جميعًا عامَّتهم وخاصتهم، وإن كان هؤلاء الخاصَّة يمتازون بمعرفة أتمَّ بما في العالم من ترتيب ونظام، وبأنَّ كل شيء خُلق موافقًا للغاية المقصودة منه.
وأمَّا ما يقوله المُتكلمون من أنَّ الله يعلم حدوث الأشياء بعلم قديم؛ فإنَّه:
أولًا: لم يصرح به الشرع، بل صرح بخلافه وهو أنَّ الله يعلم المحدثات حين حدوثها، وفي هذا جاء في القرآن (سورة الأنعام: ٥٩): وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وثانيًا: إنَّ قول المُتكلمين هذا يلزمه «أن يكون العلم بالمحدَث في وقت عدمه ووقت وجوده علمًا واحدًا، وهذا أَمرٌ غير معقول؛ إذ كان العلم واجبًا أن يكون تابعًا للموجود، ولمَّا كان الموجود تارة يُوجد فعلًا وتارة يُوجد قوَّة، وَجَبَ أن يكون العلم بالموجودين مختلفًا؛ إذ كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.» إلى آخر ما قال.١٨
والنَّتيجة لهذا وذاك كله أن نكتفي بهذا في إثبات العلم لله في رأي ابن رشد، ولا نقول إنه يعلم ما يكون وما يفسد من الموجودات لا بعلم قديم ولا بعلم مُحْدَثٍ، فإنَّ هذا ما تقتضيه أصول الشرع، والقول بخلافه بدعة في الإسلام، والجمهور لا يفهمون من العالَم في الواقع المشاهد إلا هذا المعنى.
(ب)وإذا كان من المشاهد أنَّ من شرط العلم في العالِم أن يكون حيًّا، وإذا كان من شرط من يصدر عنه شيء من الأشياء أن يكون مُريدًا له وقادرًا عليه، كان من الطبيعي أن تثبت لله تعالى صفات الحياة والإرادة والقدرة. وكذلك لما كان من شرط الصانع الحريِّ بهذا الوصف أن يكون مُدركًا لما يصنعه بكل نوع من الإدراك، وجب أن يكون الخالق، جل وعلا، سميعًا بصيرًا، وإلا لما كان أكملَ الخالقين، ولما استحق أن يكون معبودًا، ومن ثم جاء في القرآن حكاية لقول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه (سورة مريم: ٤٢): يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. وينبغي أن نُلَاحِظَ أنَّ كل ذلك يتفق فيه فيلسوف قرطبة وعلماء الكلام، إلَّا أنَّه فيما يختص بصفة الإرادة يجبُ الاكتفاء بأن نقول فضلًا عَمَّا تقدم، بأنها صفةٌ قديمةٌ ككل الصفات التي يتصف بها الله؛ إذ لا يجوزُ أن يتصف بها وقتًا دون وقت، وحالًا دون حال، وليس لنا بعد هذا وذاك أن نبحث كما فعل رجال علم الكلام، هل يُريد الله وجود الأشياء المُحدثة بإرادة قديمة أو بإرادة محدثة؟
إنَّ هذا، كما يقول ابن رشد، بدعة في الدين، وشيء لا يعقله العلماء أنفسهم، ثم هو لا يُقنع الجمهور حتى من بلغ منهم رُتبة الجَدَل، بل ينبغي أن يُقال بأنَّ الله مُريدٌ لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى (سورة النحل: ٤٠): إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وفي الحقِّ كما يقول ابن رُشد أنَّه ليس في الشرع وصف لإرادة الله بالقِدَم أو الحدوث، فالمتكلمون حين أثاروا هذا البحث قد انحرفوا عما أراد الشارع نفسه، وأتوا في الشرع بما لم يأذن به الله، وذلك فضلًا عن أنَّ دليلهم على ما زعموه من أنَّ الله أوجد ما أوجد من الأشياء بإرادة قديمة لم يسلم لهم، بل ثارت من أجله اعتراضات لم يُمكنهم دفعها، وليس أهونَها شأنًا ما يُقال لهم: إذا كان الله يُريد إيجاد شيء في وقتٍ ما بإرادة قديمة، فإذا جاء هذا الوقت فوجد، هل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث؟ إنه إن قالوا إنه وُجد بفعل قديم فقد جوَّزوا إذن وجود المحدث بفعل قديم، وهو أمرٌ غير معقول، وإن قالوا إنه وجد بفعل مُحدث لزمهم أن يكون هناك إرادة محدثة وهو غير مذهبهم.
هذا، وسيجيء لذلك تحقيق وبحث في الفصل الآتي الخاص بالمعركة بين ابن رشد والغزالي، ولكن لنا أن نقول الآن إنه قد يجيب المتكلمون عن هذا الاعتراض بأنَّ الإرادة صفة لله، عملها أن تخصص في الأزل الشيء الذي يوجد في الزمان بأن يوجد في وقت معين لا غيره، وعلى شكل خاص لا غيره، ويكون الله دائمًا هو الفاعل والموجد للشيء، وتكون النتيجة أن يوجد الشيء دائمًا عن فاعل هو الله الذي أراد في القدم أن يوجد في زمن معين وعلى شكل خاص معين.
(جـ)وأخيرًا فيما يختص بالاستدلال على ثبوت هذا النوع من الصفات لله تعالى، نعني صفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، يجيء الحديث عن صفة الكلام، ويبدأ فيلسوفنا فيعرف الكلام بأنه فعل يَدُلُّ المتكلم به المخاطَب على ما في نفسه، وهذا الفعل في الإنسان يكون بواسطة اللفظ، ثم يقول: «وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالمٌ قادر، فكم بالحريِّ أن يكون ذلك واجبًا في الفاعل الحقيقي.»١٩ يُريد الله تعالى. ولكن كما يذكر ابن رشد أيضًا بعد ذلك، فرقٌ بين الإنسان والله، إنَّ كلام الإنسان يكون باللفظ يتلفظ به كما هو المعروف المشاهد، ولكن كلام الله قد يكون بواسطة ملك، أو قد يكون وحيًا وإلهامًا، كما قد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع من يصطفيه بالتكليم، وإلى هذا كله أشار الله بقوله (سورة الشورى: ٥١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقوله (سورة النحل: ١٧): وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، ويُريد بقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، الكلام الذي يكون بواسطة الألفاظ يخلقها في نفس كليمه، وتلك هي الحالة التي خص بها موسى عليه السلام.
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ الله متكلم بهذا المعنى، وبإحدى هذه الطرق الثلاث، ولكن لنا أن نقول: هل يُعتبر الله مُتكلمًا حقًّا برسول يرسله إلى من يصطفيه من خلقه، أو بإلهام يُلقيه في ذهنه فينكشف له به المعاني التي يُريدها الله تعالى، أو بألفاظ يخلقها في سمعه؟ أو أنَّ الأولى أن نقول بأنَّ هذا الرسول عندما ينطق بألفاظ تعبِّر عن مراد الله — الذي عرَّفه بحالة من تلك الحالات — يكون هو المتكلم؛ لأنه فعل فعلًا قام بذاته ونفسه، لا الله الذي لم يقم بذاته شيء من الألفاظ التي نطق بها الرسول.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نجدُ فيلسوفنا يلمِس لمسًا رفيقًا، إلا أنه واضح سديد، مشكلة خطيرة كانت فترة من الزمن من سياسة الدولة العُليا، نعني بها مشكلة القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق، هذه المشكلة التي أثارها المعتزلة والمأمون في عنفوان الدولة العباسية في أوائل القرن الثالث الهجري، كما نجده يقف من هذه المشكلة موقفًا وسطًا بين المعتزلة والأشاعرة.
وذلك بأنَّ ابن رُشد يرى أنَّ الله يعتبر مُتكلمًا على وجهين: الكلام الأزلي الذي في نفسه،٢٠ والألفاظ التي تدل على هذا الكلام النفسي كالقرآن والتي هي مخلوقة لله نفسه لا لبشر من خلقه؛ ولذلك يكون القرآن إذا أُريد به الكلام النفسي قديمًا غير مخلوق كما يقول الأشاعرة، وإذا أُريد به الألفاظ التي نقرؤها ونسمعها كان حادثًا مخلوقًا كما يقول المعتزلة. هذا؛ والذي دعا الأشاعرة إلى موقفهم هذا هو اعتقادهم أن المُتكلم هو من يقوم الكلام بذاته، فإذا كان الله متكلمًا بالقرآن الذي نقرؤه ونسمعه، والذي ألفاظه مَخْلُوقة حَادِثَة مِنَّا بإذنه تعالى، كانت ذاته محلًّا للحوادث؛ ولهذا لم يثبتوا لله إلا الكلام النفسي القديم فقط، والمعتزلة يرون أنَّ الكلام ليس إلا ما فعله المتكلم، أو بعبارة أُخرى يشترطون في المتكلم أن يكون فاعلًا للكلام؛ ولهذا أنكروا الكلام النفسي، وقالوا بأنَّ الكلام هو اللفظ فقط، فكان القرآن عندهم مخلوقًا، ولكن لا يلزمهم مع هذا أن تكون ذات الله محلًّا للحوادث؛ لأنَّ اللفظ من حيث هو فِعْل ليس من شرطه أن يقوم بفاعله.
وهكذا، كما يقول ابن رشد نجد في قول كلٍّ من هاتين الفرقتين جزءًا من الحق وآخر من الباطل، وأنَّ الحق هو الجمع بينهما كما رأينا.
(د)وأخيرًا فيما يتعلق ببحث صفات الكمال الواجبة لله والاستدلال عليها، يرى ابن رشد أنَّه لا يجوز البحث في أنَّها زائدة أو غير زائدة على ذاته تعالى كما فعل المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، فإنَّ الكلام في ذلك بدعة وبعيد عن مدارك الجمهور وأفهامهم، وقد يُضلهم بدل أن يرشدهم. وذلك بأنَّ الأَشَاعِرَة يرون أنَّ هذه الصفات صفات زائدة على الذات، فالله عالمٌ بعلم زائد على ذاته، ومريد بإرادة زائدة على ذاته، وهكذا، ويلزمهم على هذا أن الخالق جسم؛ لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم، أو يلزمهم إن قالوا بأنَّ الصفات قائمة بنفسها لا بالذات، القول بآلهة متعددة، كالنَّصارى الذين زعموا أنَّ الأقانيم ثلاثة. أمَّا ما يقوله المعتزلة من أنَّ الذات والصفات شيء واحد، فهو قول بعيد عن المعارف الأولى، فإنه يظن أن العلم مثلًا غير العالم، وهكذا باقي الصفات.
وإذا كان الكلام في الصفات على نحوِ ما فعل الأشاعرة والمعتزلة بدعةً وبعيدًا عن مقصد الشرع، وقد يُؤدي إلى إضلال الجمهور، فينبغي إذن أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات ما صَرَّح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها وثبوتها لله دون تفصيل الأمر فيها ذلك التفصيل، فإنه ليس يُمكن أن يحصل عند الجمهور في هذا يقين أصلًا.
هكذا يقول فيلسوف الأندلس في آخر بحث الصفات الواجبة لله تعالى، والجمهور في رأيه — كما عرفنا من قبل — هم من لم يكونوا من أهل البرهان وإن كانوا من رجال علم الكلام.
(٥) نفي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
عُني فيلسوف الأندلس بالكلام عن ثلاث صفات يتنزه الله عنها، وهي: المماثلة أو المشابهة لشيء من المخلوقات، الجسمية، الكون في جهة:٢١
(أ)ليس لنا أن نتوهَّم من كون الله حيًّا، عالمًا، مُريدًا، قادرًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا، ومن أنَّ الإنسان نفسه له حظ من كلٍّ من هذه الصفات، أنَّ بين الخالق والمخلوق مماثلة أو مشابهة ما، فإنه لا مماثلة أو مشابهة بين الخالق وأحد من خلقه، وإنه منزه عن جميع صفات النقص.
والقرآن نفسه اشتمل على آيات كثيرة جدًّا فيها دلالات على ذلك بصفة عامة، ولكن أبْينها في نفي المماثلة قوله تعالى (سورة الشورى: ١١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله (سورة النحل: ١٧): أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهذه الآية هي برهان ما جاء في الأولى من نفي المُمَاثلة، وإلا كان الخالق لكل شيء كمن لا يخلق شيئًا ما.
وإذن، فالله تعالى منزه عن كل صفة من صفات النقص التي نراها تعتري الإنسان، وذلك كالموت، والنوم، والنسيان والغفلة، والخطأ. فكل هذا وما إليه بسبيل منفيٌّ عن الخالق جلا وعلا، وقد صَرَّحَ القرآنُ بذلك في أكثر من آية: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، إلى غير ذلك كله مما هو معروف.٢٢
وإنَّ العقل نفسه كما يذكر فيلسوفنا يقضي بنفي صفات النَّقص هذه وأمثالها عن الخالق، وإلا لما بقي العالم حتى الآن موجودًا لا يعتريه فساد أو اختلال،٢٣ على أنَّ الله قد أشار إلى هذا أيضًا في القرآن إذ يقول (سورة فاطر: ٤١): إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
(ب)وإذا كان الأمر صار سهلًا بالنِّسبة إلى نفس المسائلة، أي: بلا خلاف من أحد من رجال علم الكلام، فإنه ليس كذلك في صفة الجسمية بالنسبة لله تعالى، وهنا يبدأ ابن رشد الحديث عن هذه المشكلة بقوله: «إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها (أي: صفة الجسمية) من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أنَّ الشرع قد صَرَّح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد تُوهم أنَّ الجسمية هي له من الصفات التي فضَل فيها الخالق المخلوق، كما فضَله في صفة القُدْرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتمُّ وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.»٢٤ ولكن فيلسوف الأندلس أبعدُ بفلسفته من أن يذهب إلى أن الله تعالى جسم على أي وجه كان، غير أنه يرى — كما ذكر بعد ما تقدم نقله عنه آنفًا — أنَّ الواجب في هذه الصفة أن يُجرى فيها على منهاج الشرع؛ فلا يُصَرَّح فيها بنفي أو إثبات، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ويُنهى عن هذا السؤال. وفيلسوفنا حين يُوجِبُ السكوت عن نفي صفة الجسمية وإثباتها، يصدُر في رأيه هذا عن أسباب لها تقديرها، إنَّه يرى أنَّ إدراك هذا المعنى ليس في طاقة الجمهور، بدليل الطريق التي سلكها المُتكلمون في نفيها، وهي مع هذا ليست بُرهانية، ولأنَّ الجمهور يرون أنَّ الموجود هو المتخيَّل والمحسوس وأنَّ ما ليس كذلك فهو عدم، فإذا قيل لهم بأنَّ الله ليس جسمًا لم يستطيعوا تصوره وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولأنَّه لما صُرِّح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شبهات وشكوك كثيرة فيما جاء في القرآن والحديث خاصًّا برؤية الله، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، ومجيئه يوم الحشر بين الملائكة، ونزول الوحي عنه من السماء، وصعود الملائكة والروح إليه، إلى كثير من نحو هذا.٢٥ وفي رأيه أنه حينئذ، أي إذا صُرِّح بنفي الجسمية عن الله تعالى، كان لا بد من أحد أمرين: إما تأويل هذه النصوص كلها، فتتمزق الشريعة وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإمَّا أن يُقال إنَّ هذه النصوص من المتشابهات التي استأثرَ اللهُ بعلمها، وهذا إبطال للشريعة ومحوٌ لها من النفوس، هذا إلى أنَّ الدَّلائل التي احتج بها المؤوِّلون لهذه الأشياء كلها ليست بُرهَانِيَّة، وإلى أنَّ الناس أميل إلى التصديق بظواهر النصوص.
هذا هو رأي ابن رشد في المشكلة، وفي أنه لا يجوز أن نؤوِّل كل تلك النصوص للأسباب التي أشرنا إليها، وهنا نرى من اللازم أن نُشير إلى رأي إمام كبير من الأشاعرة يُشير إلى ابن رشد نفسه كثيرًا، نعني إمام الحرمين الجويني من أعيان المتكلمين في القرن الخامس الهجري.
يقول إمام الحرمين ما نصه: ذهب بعض أئمتنا إلى أنَّ اليدين والعينين والوجه صفات زائدة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمعُ دون قضية العقل، والذي يَصِحُّ عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى (سورة ص: ٧٥) في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله (سورة القمر: ١٤) متحدثًا عن سفينة نوح عليه السلام: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، وقوله (سورة الرحمن: ٢٧) متحدثًا عن بقائه وحده بعد عدم العالم يوم القيامة: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.٢٧ وفي كل هذه الآيات يؤوِّل إمام الحرمين هذه الألفاظ بما لا يجعلها تدلُّ على إثبات صفة جسمية لله تعالى، كما يؤوِّل ما يُؤدي بظاهره إلى ذلك من الآيات والأحاديث الأُخرى، ومن هذا الآية رقم ٢٢ من سورة الفجر التي تقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، ويرى أن المجيء هنا معناه مجيء أمر الله وحكمه. ومِن هذا أيضًا حديث النزول المشهور الذي جاء فيه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول: هل من تائب فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من داعٍ فأستجيبَ له؟»٢٨ فإنه يؤوِّل في هذا الحديث «نزول الله» بجعل المراد منه نزول ملائكته المقربين.٢٩
إننا نَرى بعد ذلك أنَّ من السهل تأويل تلك النصوص ونحوها بما يبعدها عن إيهام الجسمية لله سبحانه وتعالى دون أي عناء، وأنه في طاقة من ليس من أهل البُرهان إدراك هذه التآويل والاقتناع بها؛ ولهذا لا نَدري كيف لم يرضَ ابن رشد هذه التآويل التي يعرفها والتي تنفي عن الله تعالى توهم اتصافه بالجسمية، وبخاصَّة أنه باعتباره فيلسوفًا يبعد الله تمامًا عن كل ما يُوهم الجسمية.
ومهما يكن فإنَّ فيلسوف الأندلس يعرف أن الجمهور لن ينتهي عن التساؤل عما هو الله، ولن يقنعهم أن يُقال إنه موجود وليس كمثله شيء؛ ولهذا يرى «أن يُجابوا بجواب الشَّرع فيُقال: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف به الله نفسه في كتابه العزيز، فقال تعالى (سورة النور: ٣٥): اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وبهذا وصفه النبي ﷺ في الحديث الثابت، فإنَّه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنى أراه!»٣٠ وبخاصة كما يذكر أيضًا ابن رشد بعد ما تقدم، والنور يجتمع فيه أنه محسوسٌ تعجز الأبصار والأفهام عن إدراكه مع أنَّه ليس جسمًا، والجمهور يفهم من الموجود أنَّه المحسوس، وأيضًا فالنور أشرف المحسوسات؛ فوجَبَ أن يُمثل به أشرف الموجودات وهو الله تعالى. هكذا يرى ابن رشد أنه بما ذهب إليه في صفة الجسمية صان الشرع عن الشكوك، وجمع بين الآيات والأحاديث، وجعل إيمان الجمهور في أمن من الشبهات. على أنَّ إمام الحرمين يؤوِّل آية النور بأنَّ المُراد منها هو أنَّ الله هادي أهل السماوات والأرض، ثم يقول: ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القولَ بأنَّ نور السماوات والأرض هو الإله.٣١
وأخيرًا من الإنصاف لابن رشد أن نُؤكد هنا أنَّه لا ينبغي أن نفهم مما تَقَدَّم أنه يعتقد أنَّ الله تعالى نور، ولكنَّه فقط يرى أنَّ ذلك أنسب وأصلح ما يُجَاب به الجمهور حين يسألون عن الله ما هو؟ وأنَّه من الخير عدم البحث في صفة الجسمية إثباتًا أو نفيًا، فإنَّ هذا يُؤدي إلى البحث فيما تعجز العقولُ عن فهمه، أي: عن طبيعة الله مثلًا.
(جـ)وإذا كانت صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع؛ فلم يثبتها أو ينفِها كما رأينا، وإن كان — كما يقول ابن رشد — أقرب إلى إثباتها من نفيها، فهل الأمر كذلك عند فيلسوف الأندلس في هذه الصفة الأُخرى، أي: كون الله تعالى في جهة، أم ماذا يرى؟
هنا نجد ابن رُشد يُؤَكِّد لنا «أنَّ هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أوَّل الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتْها المُعتزلة، ثم تبعهم على نفيها مُتأخرو الأشعرية كأبي المعالي «الجويني» ومن اقتدى بقوله.» ولا عجب في هذا كما يقول، فإنَّ ظواهر الشرع كلها من القرآن والحديث تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى (سورة السجدة: ٥): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وقوله (سورة المعارج: ٤): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وقوله (سورة الملك: ١٦): أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ومثل حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليلة كل جمعة.
إلى غير ذلك كله من الآيات والأحاديث «التي إنْ سُلِّط التأويلُ عليها عاد الشرع كله مؤوَّلًا، وإن قيل إنها من المتشابهات عاد الشرع كله مُتشابهًا؛ وذلك لأنَّ الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأنَّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنَّبِي ﷺ حتى قرب من سِدْرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أنَّ الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع.»٣٢
وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ إذن نفى المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة الكون في جهة عن الله سبحانه؟ إنهم صاروا إلى هذا لأنَّ الكل متفق على أنَّ الله ليس بجسم، وإن كان ابن رشد لا يرى التصريح بذلك للجمهور كما عرفنا، واعتقد نُفاة الجهة أنَّ إثباتها يُوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يُوجب إثبات الجسمية، فلذلك اشتدوا في التدليل على نفي الجهة عن الله سبحانه وتعالى.٣٣
ولكنَّ فيلسوف قُرطبة لا يَرَى في إثبات الجهة هذا الخطر؛ لأنَّ الجهة كما يقولُ غير المكان،٣٤ إنه يرى أنَّ الجهة لا تكون غير واحد من أمرين: سطوح الجسم الستِّ المُحيطة به، وهي ليست مكانًا للجسم أصلًا، أو سطوح الأجسام المُحيطة به التي تعتبر مكانًا له، مثل سطوح الهواء المُحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بالهواء والتي هي مكان له، وهكذا كل الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
وقد قام البُرهان أنَّه لا يُوجد خارجَ سطح الفلك الخارج جسمٌ آخر، وإلا لكان خارجَ هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر هكذا إلى غير نهاية؛ فإذا قام البرهان بعد ذلك على وجود موجود في هذه الجهة التي لا يمكن أن يكون فيها الجسم، فواجب أن يكون غير جسم، وليس للخصوم أن يقولوا إنَّ خارج العالم خلاء، فإنه قد تبين في العلوم النظرية امتناع الخلاء.٣٥ وهذا الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وقد قيل في الآراء القديمة والشرائع الغابرة إنه مسكن الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة، فإن كان ها هنا — كما يقول ابن رشد — موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن يُنسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.٣٦ ويختم ابن رُشد كلامه في هذا بقوله بعد ما تقدم: «فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنَّه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنَّ وجه العُسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له.»
هذا، وقد رأى فيلسوفنا هنا أن يُصرح بإثبات الجهة، على حين أنَّه أَوجَبَ في صفة الجسمية عدم التصريح بإثباتها أو نفيها؛ لأنَّ الشبهة التي أوجبت على نُفاة الجهة لا يتفطن الجمهور لها، فلا ضرر إذن في إثباتها بل الضرر في نفيها وتأويل كل النصوص الدالة عليها
علم الكلام كما قال بعض الشّيوخ: علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة على الغير، وإلزامها إياه؛ بإيراد الحجج وردّ الشّبه . قال الإمام العضد الدين الإيجي في المواقف:” الكلام علمٌ يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى اللـه عليه وسلم” قال ابن خلدون في مقدمة هو “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين فى الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة. و سر هذه العقائد هو التوحيد.” وعرّفه الجرجانيّ بأنّه: “علمٌ يُبحث فيه عن ذات الله تعالى، وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام” و نفهم من هذه التعريفات أن موضوع علم الكلام هو دراسة عقائد الإسلامية الحقة و الدفاع عنها ضد آراء البدع و الشبهات. و منهجه استند إلى المنهج الجدلي. يستخدم أسلوب المحاجة الكلاميّة، التي تعتمد على الأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة من أجل الكشف عن الواقع وإثباته. :غاية و فوائد علم الكلام غاية علم الكلام هو تثبيت و معرفة الإيمان و تحصينه من شبه المبطلين. يقال أن علم الكلام يوصّل إلى العلم اليقيني القطعي مقابل آراء البدع و الشبهات و أنهى أن يكون علمنا بالإسلام ضعيفا و متلجلجا. كثير من الناس منتسبون إلى الإسلام لمسايرة لأهلهم. و لا يهتمون بتقوية الإيمان و حينما يواجهون بأفكار بدعة لا يستطيعون حماية إيمانهم. علم الكلام اشترك و تدخّل هنا في الأمر و يقوّي الإيمان بالنسبة لابن خلدون غاية من غيات هذا العلم هي “تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود.” إنّ الاطلاع على علم الكلام والتعرّف إلى أدلّته تعطي الإنسان – لا سيما- المسلم فهماً إيمانيّاً عميقاً :زبدة الكلام فوائد علم الكلام في التالي معرفة أصول الدين- القدرة على إثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة- القدرة على ابطال الشبهات التي تثار حول قواعد العقائد- :أسباب رفض علم الكلام لما ظهرت المبتدعة في أواخر القرن الثاني، والقرن الثالث، نشأت فرق مختلفة من طوائف المبتدعة، وأظهروا أقوالاً شاذّة رديئة، وخصوصاً في العقائد _ كقول أبو داود الجواربي في دعواه: أن معبوده لحم ودم، على صورة الآدمي!! ودعوى الكرّاميّة: أن معبودهم ذو نهاية من الجهة التي يُلاقي منها العرشَ!! إلى غير ذلك من مقالاتٍ فاسدةٍ، وأقوالٍ باطلة، تجد نماذجَ منها في كتاب [ أصول الدين، للإمام الأستاذعبد القاهر البغدادي : ص 335 – 338 ] _، فسَمّى علماء الإسلام هؤلاء المبتدعة: أصحاب الكلام، أي: الذين تكلموا في أمور باطلة فاسدة، زعموا أنها هي علم التوحيد الحق، فقام الأئمة بالرّدّ عليهم: إما بالكلام الشفهي في المناظرات التي عقدوها بينهم وبين أولئك المبتدعة، أو بالتصنيف والتأليف :يذكر البعض أسباب ذمهم لعلم الكلام كما تلي – تحذير السلف من الكلام وأهله إنما كان خوف الفتنة، ولإيمام بأن الكتاب والسنة كافيان بما يحتاجـه الناس من العقائد الصحيحة، ودفع الشكوك والشبهات -علم الكلام يفضي بأهله إلى الشك والحيرة والاضطراب. ولهذا قال أبو حامد الغزالي: (أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام) -المتكلمون في عرض مسائل العقيدة يخالف منهجهم منهج الكتاب والسنة، حيث عرضوا مسـائلهم في قالب فلسفي جدلي يحوطه التعقيد والجفاف والتخليط. – علم الكلام سبب الفرقة والاختلاف، فالمتكلمون أعظم الناس اختلافًا وافتراقًا – المتكلمون ركزوا مباحثهم وكتبهم وأفنوا أعمارهم في البحث في توحيد الربوبية وإثبات دلالته، مع أنه أمر فطري يقر به المشركون، وفي مقابل ذلك أغفل المتكلمون البحث في توحيد العبادة الذي هو أسـاس دعـوة الرسل تناقش العلماء في وجوب علم الكلام موقف أبو حامد الغزالي من علم الكلام كما في النص “ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي، إنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة أهل الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة، فلهجوا بها، وكادوا يوشوشون عقيدة الحق على أهلها، فانشأ الله تعالى طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله… فلم يكن الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا. نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة” و موقف ابن خلدون” هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارىء عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص؟ فقال: “نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب” مر الرازي يوما على إمرأة عجوز وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبوها ، فتعجبت العجوز من هذا الذي وصل إلي هذا المستوي ، فنادت العجوز على واحد من التلاميذ وقالت ” يا بني من هذا؟ ” فغضب الطالب غضبا وقال: “أ ما عرفته هذا الإمام الرازي الذي عنده ألف وألف دليل على وجود الله تعالى” . هنا قالت العجوز قولتها العجيبة والشهيرة ” يا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما أحتاج لألف دليل ودليل ، “أفي الله شك ” ؟! ” فلما بلغ هذا الإمام الرازي فقال ” اللهم إيمانا كإيمان العجائز “
أما رأيي في علم الكلام فهو أن علم الكلام علم ضروري تارة و غير ضروري تارة يتغير حسب الناس و حسب العصر و حسب الظروف المتعددة. ينقسم علم الكلام إلى ثلاث فترات الفترة الأولى هي فترة كلام السلف و الثاني كلام القدماء و الثالث كلام المتأخرين. لما كلام السلف ركز على محافظة الإيمان و الرد البدع و الضلال , في العصر الثالث بعد الهجرة خرج ابن كلاب و فعل شيئا لم يفعله من قبله و بدأ يدافع عقيدة أهل السنة بطريقة أهل البدعة و التحق البقلاني و أبو المعالي بهذا المنهج الذي اشترك فيه إمام الأشعري. و مع ظهور إمام الغزالي انتهت فترة كلام القدماء و بدأ فترة كلام المتأخرين. و تم تضمين علم المنطق في علم الكلام و بدأ يثبت المتكلمون العقائد الإسلامية بدلائل فلسفية
في الواقع تغير علم الكلام في التاريخ كثيرا. و هذه التغيرات أفسد أهداف علم الكلام. بالنسبة لي إذا نريد أن نستفيد من علم الكلام أولا يجب تجديد أو تحويله إلى كلام السلف
وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلًا في باب الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلًا في مجال المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلَّما تعرَّض له شُرَّاح اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرَّض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛ فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة رقم ٥٤: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفًا، لبدت لنا الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أنَّ أَجْمل الأيدي تبدو شنيعة إذا ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلًا عن بُعد، حتى إذا ما اقتربنا منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلًا، أن يعترف ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميًّا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما يلائمنا نحن فحسب، بغضِّ النظر تمامًا عن طبيعته الواقعية فيقول: «… إذا كانت الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة …
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتًا أو انسجامًا. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام — وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقًا لحالة ذهنه، أو على الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.» مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشُّراح إلى أن يصدروا عليه أحكامًا من النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك Pollock» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضًا. ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط (وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه). هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحًا في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائمًا بين من يتحدث عن الفن بوصفه عالمًا أو فيلسوفًا نظريًّا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانًا أو متذوقًا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدَّث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدًا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدَّها جميلة أو قبيحة؛ لأن هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا يملُّ ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تمامًا، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أيَّ تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى مجرد أرقام تعبِّر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائمًا أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدًى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسًا على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ كان دائمًا يؤثِر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائمًا معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طُبِّقت على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام — وهذه كلها من القضايا التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن. أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا صحيحًا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتمًّا بالتصوير. وقد اتصل بفنان هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصَّدَّر كثيرًا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلًا عن ذلك فقد عُرف عنه أنه كان يرسم في أوقات فراغه صورًا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر الإيطالي الشهير «مازانيلو Masanillo»، ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر، ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي. وأخيرًا، فهناك في رأيي دليل آخر واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن يعدَّ تعبيرًا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن اسپينوزا كان دائمًا يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معًا ويصدر عليها نفس الحكم. ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النَّهائي كان أخلاقيًّا قبل كل شيء، وأنه كرَّس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقًا رائعًا متسقًا لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية أخلاقية كالخير، حائلًا دون إيمانه بالأخلاق — على المستوى الإنساني — وممارسته لها بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم الجمالية بطبيعة الحال.