من المباحث الفلسفية ذات الطابع الجدلي التي ثارت حولها نقاشات كثيرة ومازالت إلى يومنا هذا، هي قضية الأخلاق و أصلها وفصلها، ومن بين أكبر الأساطين الذين خاضوا في هذا الجدل وكانت لهم نظريات قوية وذات تأثير واسع وانتشار كبير، هما الفيلسوفان كارل ماركس مؤسس المادية التاريخية وفريدريك نيتشه فيلسوف القوة، وكلاهما عاشا في القرن التاسع عشر وكلاهما كانا من رواد الفلسفة الألمانية الحديثة، ويشكلان حركة متنافرة، فالاتجاه الذي يسير فيه كارل ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه فريدريك نيتشه.
ماركس يقول بأن الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء و المعدومين، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف كارل ماركس ممثل المدرسة الماركسية، فهذه المدرسة ترى أن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصاديا في المجتمع
من المباحث الفلسفية ذات الطابع الجدلي التي ثارت حولها نقاشات كثيرة ومازالت إلى يومنا هذا، هي قضية الأخلاق و أصلها وفصلها، ومن بين أكبر الأساطين الذين خاضوا في هذا الجدل وكانت لهم نظريات قوية وذات تأثير واسع وانتشار كبير، هما الفيلسوفان كارل ماركس مؤسس المادية التاريخية وفريدريك نيتشه فيلسوف القوة، وكلاهما عاشا في القرن التاسع عشر وكلاهما كانا من رواد الفلسفة الألمانية الحديثة، ويشكلان حركة متنافرة، فالاتجاه الذي يسير فيه كارل ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه فريدريك نيتشه.
ماركس يقول بأن الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء و المعدومين، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف كارل ماركس ممثل المدرسة الماركسية، فهذه المدرسة ترى أن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصاديا في المجتمع.
ودائما ما كانوا هم من يصنع الأخلاق التي بها يضمنون بقاء ونماء مصالحهم المادية، فالقيم الأخلاقية انعكاس لعلاقات الإنتاج والطبقة المسيطرة اقتصاديا هي الطبقة المسيطرة أخلاقيا، في كل العصور والمجتمعات، سوءا كان ذلك في النظام الإقطاعي أو الرأسمالي أو الاشتراكي، فالقيم الأخلاقية مصدرها الطبقة المالكة لقوى الإنتاج.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحياة الاقتصادية للشعوب والأمم لها تأثير على ثقافة الناس وأخلاقهم، ولكن ما ينكر على الماركسية هو ذلك الغلو في تفسير نشأة الأخلاق بهذا العنصر وحده، فهناك عوامل أخرى منها الفلسفة نفسها.
فالأيديولوجية الماركسية كان لها تأثير في الأخلاق العالمية ولازال الى يومنا هذا، وفي الزمن القديم كان هناك أنبياء ومصلحون استطاعوا تغير أخلاق الناس منهم النبي محمد عليه السلام مع العرب، حيث ألغى كثير من الأخلاق التي كانت سائدة في عصره، منها وأد البنات و شرب الخمر وأكل الربا، كما لا يستطيع أن ينكر أحد تأثير الفلسفة الزاردشتية والمانوية في فارس.
ويذهب نيتشه إلى أن أخلاق الرحمة والإحسان والصبر هي حيلة ابتكرها الضعفاء لكي يضحكوا بها على الأقوياء، ولكي يأخذوا من منهم مكاسب ومنافع، كانت هذه هي نظرية الفيلسوف نتيشه، حيث يرى أن الأخلاق هي من صنع الفقراء، وقليل الحيلة و من لا قوة لهم، فهم عندما يفقدون كل وسائل الصراع و المقاومة، يلجؤون إلى حيلة الأخلاق لكي يحصلوا بها على المنافع من الأقوياء، وبناء على هذا قسم الأخلاق إلى قسمين هما أخلاق السادة وأخلاق العبيد.
عدُّ فلسفة نيتشه الأخلاقية غائية في التوجه، إذ يُهاجم الأخلاق المُلتزمة بالاعتبارات الميتافيزيقية “ما وراء الطبيعة”، والتجريبية “ما يَنتج عن تجربتها”، وهذا لتأثيرها الضارِّ على ازدهار المجتمع البشري “الإنسان الأعلى لدى نيتشه”، ويتضح في نصوص نيتشه عدم دعمه للمواقف الليبرالية “المساواة بين البشر على سبيل المثال”، ولكنه لم يقدم تصوّراً منهجيّاً سياسيّاً عن طبيعة الدولة، ولم يقدّم فلسفة سياسية ما، بل يهدف نيتشه إلى تحرير الكائنات بشرية المميزة بوعيها من مفهومهم الخاطئ للأخلاق؛ وليس تحويل المجتمع كله.
يُعدُّ نيتشه من أكبر الناقدين للأخلاقيات التقليدية الأوروبية والأسس المسيحية في عصره، ويعدُّ الوعيَ الأخلاقيَّ غيرَ متعلقٍ بجوهرٍ معينٍ، بل الجوهر هو ابتكار تاريخي، ومن هنا يحدد نوعين من الأنماط الأخلاقية التي مرَّ بها التاريخ وهما:
نمط جيد/سيئ good/bad؛ تدل كلمة “جيد” على امتيازات الطبقة الاجتماعية، مثل الشجاعة في مجتمع يمتلك طبقة عسكرية كبيرة، أو الشهامة في مجتمع يمتلك نخبة ثرية، أو الصدق في مجتمع يمتلك طبقة استقراطية عُليا؛ ففي مثل هذا النمط يرتبط الخير بالفضائل الحصرية للنظام من القوة والسلطة والصحّة التي يتميَّز بها النُبلاء من الاستقراطيين، بينما كلمة “سيئ” في هذا النمط تعني أن تكون فقيراً للفضائل العٌليا مثل القوة والسلطة، ويقصد بهذه الفئة طبقة العبيد والفقراء.
ونمط جيد/شرير good/evil؛ وهو النمط الذي تطوّر عن النمط الأصلي “جيد/سيء” بفعل تمرُّد العبيد على مفهوم الأخلاق السائد؛ فالأشخاص الذين عانوا من الاستبداد والتسلُّط المستمر من قِبَلِ الطبقة العليا الاستقراطية، قد صاغوا نمطَهم الأخلاقي العاطفي المتآكل من الكراهية ضد أعدائهم “طبقة النبلاء” وحولوه من الجيدِ/السيئ إلى الجيد/الشرير، المُصمَّمِ لغرض الإدانة الأخلاقية لهؤلاء الأعداء والنزعة الانتقامية ضد استبدادهم.
وأصبح هذا النمط سائداً لدى فئة كبيرة من طبقة العبيد، وتبعاً لعدم قدرتهم أن يكونوا من طبقة الأقوياء “الاستقراطية”، فإنَّهم يستخدمون المساواة المُطلقة للتخفيفِ عن أنفسهم والتعايش مع وضعهم دون أن يتزايد الحقد في نمطهم الأخلاقي ممّا يجعلهم في دائرة الخطر والمواجهة، وبواسطة إنكارهم للتفاوت الطبيعي بين الطبقات الاجتماعية، مثل القوة والذكاء والجمال، صاغ العبيد طريقتهم للهروب من مواجهة ضعفهم والتخلُّص من شعورهم بالدونيَّة أمام أخلاق السَّادة عن طريق قِيَمٍ جديدة.
ولذلك يربط فريدرك نيتشه النمطَ الأخلاقي الثاني “الجيد/الشرير” مع الأديان المسيحية واليهودية والمطالبة المساواة الاجتماعية أو الاقتصادية منها مثل الشيوعية والاشتراكية، وينتقد نيتشه مبدأ المسامحة في منظومة أخلاق العبيد؛ إذ يعدُّ ذلك ضعفاً وتهويناً على أنفسهم لأنهم لا يمتلكون المخالب “القوّة”، ولهذا ظنُّوا أنفسهم أنهم أخلاقيُّون، وروَّجَ الكهنة لهذه الأفكار في أوروبا ليخلِّصوا الضعفاء من شعورهم بالضعف واستبداله بالقِيَم الأخلاقية، وبشَّروا بالزُّهد في الحياة على الدوام لتعويضها بالوعود الماورائية مثل الفردوس الأعلى، إضافةً لتمثيلهم أن الخير والجيّد يكمن في الفقراء؛ وحسب رأي نيتشه فإنَّ هذا ترخيص واضح للدعوةِ إلى العدمية النيتشوية ” وهي تسخيف الحياة وإسقاط القِيَم العُليا” التي تُنهك أوروبا والتسمم بأخلاق العبيد بدلاً من الحثّ على امتلاك القوّة للوصول إلى الإنسان الأعلى والمجتمع الأسمى.
ومن الخطابات التي واجه بها نيتشه القِيَم الدينية في النمط الثاني “أخلاق العبيد”؛ رفضه لكلِّ القِيَم التي تُبنى على الوعود الميتافيزيقيا “يقصد الحياة الأخرى في الاعتقاد الديني”، بل يرى أن القِيَم تكمن في الحياة المادية لا غيرها وهي المكان الوحيد الذي يحتويها ويُحافظ عليها ويسمح لها بالازدهار عن طريق القوّة؛ وهنا يُطرح السؤال “ما القوّة؟ ومن يجب أن يمتلكها؟” وحسب القُرّاء النيتشويُّون وتحليل نصوصه تتمثل القوّة في الحياة بذاتها “حياة البشرية” ولا سيما حياة “أعلى الرجال”.
ما قدَّمه نيتشه في إطروحاته عن جينالوجيا الأخلاق هو تحليل وتنقيح يمتدّ إلى مفاصل الأخلاق التقليدية والدينية كلها دون توضيحٍ منه على نحوٍ صريحٍ لقِيَم أخلاقية مُعيَّنة يجب أن تُتَّبع، لكن مع ذلك يُؤَوّلُ نيتشه بجهاتٍ مُتعدِّدة من قبل الباحثين في فلسفته، ومع صعوبة استبدال قِيَم الأخلاق الدينية المُمتدة في تفاصيل الفكر البشري، يعتقد نيتشه أنَّ مهمة الفلاسفة هي إيجاد قِيَم جديدة على الدوام.
يقول فتحي المسكين وهو مترجم كتاب “جينالوجيا الأخلاق”، وأستاذٌ للفلسفة الحديثة والمعاصرة في الجامعة التونسية:
“يجب علينا أن نحترس من أيّ فهم “أخلاقويّ” لكتابات نيتشه: مثلاً أن نعدّه معارضاً يائساً من الأنوار الحديثة أو داعياً خطيراً إلى البربرية، أو قومياً متعصباً ضد المكاسب الحقوقية للدولة الليبرالية، تلك أفكار مسبقة أو ضروب مريضة من الفضول، إنه يمارس أنواراً جديدة ويدفع بها بعيداً عن أي أنوار سابقة
إذا كان النقد هو الفعل الأصيل للعقل الإنسانيِّ فإنَّ عودتنا للحظة هيوم التاريخيَّة تجعلنا ندرك شروط إمكان قوله وتوجُّهه الفلسفيِّ، ومدى صواب هذا التوجُّه لأنَّ فلسفته تبقى بالضرورة رهينة واقعها التاريخيِّ. فالفيلسوف لا يغادر عصره رغم أنَّه يصبو إلى مطلق ما يتجاوز من خلاله ضرورة الزمان والمكان اللَّذين أنتجاه.
قد تبدو محاولة الريبيِّين تقويض العقل بالحجاج والعقلنة هوسًا مفرطًا على الرغم من أن هذا التقويض هو المرمى الأكبر لكلِّ مباحثهم ومنازعاتهم. فهم يجهدون للعثور على الاعتراضات ضدَّ تعليلاتنا التجريديَّة كما ضدّ تلك التي تعود إلى الوقائع والوجود» فما هي طبيعة ريبيَّة هيوم وإلى أيِّ حدٍّ يمكن اعتبارها أحد عناصر البناء الغربيِّ للفكر الحديث؟ إذ لا أحد ينكر دور فلسفته النقديَّة في بناء العقل الحديث وما توصَّل إليه من نتائج نظريَّة وعمليَّة. وهل يمكن أن نعتبر هذه الريبيَّة مؤشرًا نفهم من خلاله طبيعة الحداثة الغربيَّة التي جعلت من نفسها نموذجًا مُعولَمًا فكرًا وسياسة وأخلاقًا.
ما هي ملامح ريبيَّة هيوم وشكوكه؟
تقوم فلسفة هيوم على فكرة كثيرة التكرار في مؤلَّفاته ألا وهي فكرة الطبيعة الإنسانيَّة، ويربط هذه الطبيعة بفكرة الاعتقاد والإدراك والتفكير وغيرها من المفاهيم التي يحاول تفكيكها دومًا من خلال العودة إلى فكرة الطبيعة الإنسانيَّة. كما نلاحظ أنه يقيم دومًا مقارنة بين حياة الإنسان العاديَّة أو الطبيعيَّة والاعتقادات التي يحملها في حياته اليوميَّة والعمليَّة وحياة الفيلسوف الفكريَّة التي تتجاوز اعتقادات الإنسان اليوميَّة لبناء الأنساق الفلسفيَّة التي تريد احتلال مكان الاعتقادات القائمة فعلًا في الممارسة والحياة.
ونلاحظ تهكُّم هيوم من هذه الفلسفات التي يراها غريبة الأطوار غير مجدية وغير نافعة لأنَّها منحت العقل مقامًا لا ينسجم مع طبيعته، وسمحت له بنسج عوالم خياليَّة فكريَّة لا واقع لها ولا حجَّة.
«ماذا نعني بريبيِّ؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن ندفع مبادئ الشكِّ والحيرة الفلسفيَّة؟»[2]. بهذا السؤال يوجِّه هيوم بحثه في معنى الريبيِّ وينتهي بنا إلى أهميَّة الاعتدال في الريبيَّة ضدَّ الريبيَّة المغالية المتطرِّفة التي تؤدِّي إلى استحالة النظر والعمل وضدَّ الدوغمائيَّات الفلسفيَّة التي تبني أنظمة فكريَّة وتعتبرها يقينيَّات حقيقيَّة لا يمكن أن ينال منها ريب الريبيِّين. ولا شكَّ في أنَّه لا يوافق على هذين التصوُّرين للفلسفة الريبيَّة من جهة والفلسفة الدوغمائيَّة من جهة أخرى. إنَّه إذن ينادي بضرورة ممارسة ريبيَّة معتدلة تسمح للعقل بالنقد ومراجعة أفكاره باستمرار.
«يجب الإقرار بأنَّ هذا النوع من الريبيَّة حين يكون أكثر اعتدالًا يمكن أن يفهم بمعنى معقول جدًا»[3]. وهذه الريبيَّة التي يسمِّيها معندلة تقف وسطًا بين دوغمائية الفلاسفة وريبيَّة القدامى. ريبيَّة معتدلة يشرَّع لها ليجعل من مشروعه الفلسفيِّ مشروعًا معتدلًا رغم ريبيَّته التي سمَّاها ريبيَّة معندلة أيضًا. وليؤكِّد صدق توجُهه هذا يستدعي هيوم ثلاثة أنواع من التيَّارات القائمة:
التيَّار الأوَّل يمثِّله الإنسان العاميُّ الحامل لاعتقاداته الحسيَّة والفكريَّة في رؤيته للعالم وعدم التشكُّك فيه.
التيَّار الثَّاني يمثِّله الفلاسفة الذين ينقدون التصوُّر العاميُّ ويبيِّنون تهافته باعتبار أنَّ الحواسَّ لا تعطينا إلَّا تمظهُرات خاطئة لا يمكن الثقة فيه. ومن ثمَّ فإنَّ الحقيقة الفعليَّة هي التي يبنيها العقل إذ ليس العالم في حقيقته إلَّا ما استطاع العقل أن يتمثَّله ويتصوَّره.
التيَّار الثالث هو تيَّارٌ ريبيٌّ قديمٌ وعميقٌ ينتسب إلى البيرونيَّة أي المدرسة الريبيَّة الأولى التي عرفها اليونان. يقدم إلينا جميع الحجج للتشكيك في قدرات الحسِّ والعقل معًا، وأنَّ المعرفة غير ممكنة مطلقًا.»لا يكن لأيِّ بيرونيٍّ أن يتوقَّع لفلسفته أيَّ تأثير على الذِّهن أو يكون تأثيرها إن وُجد مفيدًا للمجتمع، ويجب عليه على العكس أن يُقرَّ بأنَّ كلَّ الحياة البشريَّة ستفنى إن سارت مبادئه بصورة كليَّة وثابتة.
وسيتوقف كلُّ حوار وكلُّ فعل على الفور، وسيبقى الناس في سبات كامل إلى حين يضع عدم إشباع الحاجات الطبيعيَّة نهاية لحياتهم البائسة «
بهذا تتأكَّد نزعة هيوم الرافضة للريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة، ومعياره في هذا الرفض هو النفع الواقعيُّ والحياتيّْ. وهو معيار لا ندري من أين استقاه إذا استبعدنا طبيعة الحياة الإنسانيَّة الواقعيَّة التي يعتبرها مرجعًا مهمًّا في تقرير كل شيء. يمكن من خلال ما تقدَّم من تعبير عن موقف هيوم من الريبيَّة نفسها أن نتصوَّر قناعاته التي انطلق منها ليبرِّر ريبيَّته المتعدلة كما أراد أن يسمِّيها. إنَّه يرى نفسه ريبيًّا يواجه دوغمائيَّة الأنساق الفلسفيَّة من جهة، ويرى نفسه في الوقت نفسه حاملًا لمشروع في المعرفة أو نظريَّة خاصة في المعرفة. والحامل لنظريَّة في المعرفة لا يكون ريبيًّا فكيف يسمِّيها ريبيَّة إذن؟
«هناك حقًّا ريبيَّة أكثر اعتدالًا، فلسفة أكاديميَّة يمكن أن تدوم وأن تكون مفيدة في الوقت عينه، ويمكن أن تتحصَّل جزئيًّا عن البيرونيَّة أو الريبيَّة المتطرِّفة عندما نجري فيها بواسطة الحسِّ العامِّ والتفكير بعض التصحيح في شكوكها غير المتمايزة»
ينطلق هيوم إذن من مسلَّمة الريبيِّين ويكلِّف نفسه تعديلها لتجني تطرُّفها تحقيقًا للفائدة والمنفعة الطبيعيَّة والإنسانيَّة لمواجهة كلِّ أشكال الوثوقيَّة التي بَنَتها الفلسفات قديمًا وحديثًا وبمختلف مدارسها
. ويضع لنفسه معيارًا مهمًّا هو الحياة الطبيعيَّة والنفع:» فالطبيعة هي أبدًا فائقة القوَّة من أجل مبادئها».
الفائدة والمنفعة مبدآن مهمَّان عند هيوم ينطلق منهما لتقرير موافقته لأمر أو رفضه. وإلى جانب هذه القيمة يضع لنا مرجع نظر للتحقُّق من صدق تفكيرنا.
إنَّه الوجود الخارجيُّ والواقع على الرغم من وعيه بالشكوك العديدة والاعتراضات الكثيرة التي قدَّمها الفلاسفة قبلَه والذي شكَّك طويلًا في مدى موضوعيَّة الواقع الخارجيِّ واستقلاله عن إدراكاتنا، فلعلَّ العالم الخارجيَّ ليس له إلَّا وجود في الذِّهن الَّذي لولاه لما كان للعالم الخارجيِّ وجود. ويمكن أن نؤكِّد هذا التصوُّر حين نعرف أنَّ هيوم استفاد كثيرًا من أعمال فيلسوفين مهمَّين هما جون لوك والأب بركلي. أمَّا لوك فلا شكَّ في أنَّه الأب الأوَّل للتوجُّه التجريبيِّ في نظريَّة المعرفة الغربيَّة الحديثة. ولا شكَّ في أنَّه في اتِّجاهه إلى ديكارت أب الحداثة الغربيَّة والعقلانيَّة القائمة على الكوجيتو يحاول التخلُّص من وطأة الكوجيتو المتعالي ليُرجع العقل إلى فضائه الأول الأصليِّ أي الواقع الحسِّيِّ الحاضر أمام أدواتنا الإدراكيَّة الظاهرة أي الحواسَّ محاورًا ديكارت ومن سار سيره في تشكيكهم في قدرات الحسِّ المخادع حسب تصوُّرهم، وأنَّ وهم الخداع هذا هو الذي أوقعنا في وهم العقلانيَّة المتعالية التي وضعها الكوجيتو فما كان على لوك إلَّا أن يعيد للتجربة الحسِّيَّة مكانتها الأصليَّة وفاعليَّتها الحقيقيَّة في بناء المعرفة.
ولا شكَّ أيضًا في أنَّ تجريبيَّة لوك الفلسفيَّة التي استعاد فيها منزلة الإدراكات الحسِّيَّة مخلِّصًا العقل من أوهام الكوجيتو الفطريَّة[8]، لم يتوقَّف عند حدود التجربة الحسِّيَّة، ولم يحبس الفكر في دائرة هذه التجربة وإنَّما وسَّع أفقها لأنه اعترف بالدين والمسيحيَّة والإيمان متحرِّرًا في الوقت نفسه من سلطة رجال الدين الكاثوليك ليبني رسالة في التسامح يفصل فيها بين الأمر الإلهيِّ والسلطة البشريَّة باعتبار مدنيَّة سلطة الإنسان التي لا تستطيع أن تتحوَّل إلى سلطة إلهيَّة مطلقة لا يستأثر بها إلَّا الله نفسه الذي لم يكلِّف أحدًا أو جهة لمثل سلطانه على الأرض.»لو أنَّ ممارسة الدين تُترك بسلام للاختيار الشخصيِّ ولو يسمح لكلِّ فرد أن يمارس العبادة الدينيَّة بطريقته الخاصَّة فلا يتظاهر بدافع الزهو الشديد بذاته بأنَّه أكثر معرفة وأكثر اهتمامًا بروح غيره من البشر وخلاصهم الأبديِّ أكثر من اهتمامه بنفسه فهذا من شأنه حقًّا أن يهدِّد السلام في العالم»[9]. ومؤرِّخو الفلسفة يعلمون جيَّدًا أنَّ لوك لم يوضح لنا في فلسفته كيف يمكن أن نحقِّق هذا الإيمان إذا سلَّمنا بنظريَّته في المعرفة القائمة على أساسٍ تجريبيٍّ خالص.
والمعروف أنَّ لوك كان محافظًا على عقيدته الإيمانيَّة رغم خصامه الصريح مع السلطات الكنسيَّة ودعوته لمقاومة الإكراه الدينيِّ وإزالة السلطة الدينيَّة. ففي أوائل 1596 قبل أن يشرع في كتابة أيٍّ من مؤلَّفاته الرسميَّة، وضع بحماسة وتخيُّل تصوُّرًا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي ينظر فيها إلى العقل بوضوح بوصفه عبدًا للعواطف، فبدلًا من أن يسيطر العقل ببساطة على أفعال الإنسان وتصرُّفاته فإنَّه لا يعدو أن يكون مجرَّد وسيلة لتبرير رغباته.[10]. ومع ذلك فإنَّ لوك يعتقد أنَّ «تصوُّرَه لنطاق الفهم البشريِّ وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشريِّ» هو المفهومَ الذي أقرَّ هو نفسه بأنَّه رائعته الفكريَّة؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي عَلِقَ في مخيِّلة الأجيال القادمة.[11]وبهذا استطاع وضع تجربة فلسفيَّة جديدة في أوروبا الأنكليزيَّة تقوم أولًا على تجريبيَّة المعرفة وحدودها، وذاتيَّة الإيمان وخصوصيَّته، وتسامح السياسة ومدنيَّتها، وسلطان الإله المطلَق الذي لا يمثِّله أحد في الأرض إلا حالة المؤمن به الذي اختاره طوعًا وتعبُّدًا. وأما بركلي فقد سار في اتِّجاه آخر رغم أنه دعَّم الموقف التجريبيَّ، اتِّجاه يهدف إلى إثبات وجود الله بصورة مغايِرة لما هو سائد عند من سبقه من رجال الدين والفلاسفة. ورغم أنَّ مهمَّته القصوى ترمي إلى هذه الغاية أي إثبات وجود الله إلَّا أنَّه أكَّد على الطابع الحسِّيِّ للمعرفة بشكل مغاير لمذهب الحسِّيين والتجريبيِّين قبله الأمر الذي جعل بركلي متميِّزًا ومختلفًا عمَّن جاء قبله من أصحاب نظريَّات المعرفة العقليَّة والمثاليَّة والمادِّيَّة والحسِّيَّة وغيرهم. وقد انطلق مذهبه في المعرفة من فرضيَّة أولى مهمَّة هي أنَّ الإدراك لا يكون إلَّا حسِّيًّا لأنه الوسيلة الوحيدة التي تطلعنا على العالم الخارجيِّ إلَّا أنَّه يجب أن نميِّز «بين ما تدركه الحواسُّ وبين ما نستدلُّه من ذلك الإدراك بالعقل والذاكرة ما يعني في النهاية أنَّنا ندرك فحسب أفكارنا وتصوُّراتنا. ففي البدء كانت الفكرة أو الصورة وفي النهاية أيضًا كانت الفكرة أو الصورة»[12]، وأساس هذا التصوُّر وضامنه هو الوجود الإلهيّْ، فكلُّ شيء ندركه إنَّما يأتي من قِبَل الله وليس من مصدر آخر.
وإذا ما أقدم امرؤ ووضع هذه البديهيَّة موضع تساؤل فإنَّه ينزلق مباشرة إلى النزعة الشكِّيَّة التي اعتبرها بركلي المأزق الكبير الذي يواجه المادِّيَّة. فالأشياء عنده لا تتمتَّع بوجود حقيقيٍّ دائم إلَّا من حيث أنَّها قائمة في عقل الله، أو في العقل الَّلامتناهي. وهذه النقطة تمثِّل حجر الزاوية في فلسفة بركلي كلِّها» [13]. فالمعرفة بهذا المعنى حسِّيَّة وحقِّيَّة ما نعرفه لا يعود إلى عقلنا أو ما وصلنا من محسوسات خالصة لأنَّ المادة في آخر الأمر ليست إلَّا مجموعة من الصفات الحسِّيَّة التي يرجعها بركلي إلى مجرَّد تأثيرات ذاتيَّة غير مفرِّق في ذلك بين الصفات الثانويَّة والصفات الأوَّليَّة، وينتهي من هذا كلِّه إلى أنَّ الجوهر الماديَّ لا وجود له [14]. وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنَّه ينتهي بالضرورة إلى التسليم بروحانيَّة النفس لأنَّ روحانيَّتها شرط وجود لمحات العقل وحدوساته، والتسليم ضرورة الإلهيَّة لكونها شرط وجود إدراكتنا نفسها لأن ما يصلنا من الحواسِّ لا يكفي لبناء فكرتنا عنها.
فالله ضامنٌ للحقيقة ولكن بمعنى مغاير للمعنى الديكارتيّْ. وهو الضامن الذي يقي العقل من الوقوع في الرَّيب. وبالتالي لا يمكن للماديِّ إلَّا أن يكون ريبيًّا بالضرورة لأنه يكتفي بإدراكاته الحسِّيَّة ولا يمنح للوجود الإلهيِّ أيَّ قيمة معرفيَّة أو وجوديَّة. وبالعودة إلى فلسفة لوك وبركلي يتبيَّن لنا بوضوح الأسباب الفعليَّة التي وجَّهت فلسفة هيوم هذا التوجُّه. فهو من جهة يذهب مذهب الحسِّيين الذي أسَّسه لوك قبله لما اعتبر العقل صفحة بيضاء، وأنَّ كلَّ ما في العقل ليس له من مصدر إلَّا الواقع المحسوس. غير أنَّ لوك لم يصل به القول والاستننتاج إلى أبعاد الدين والإيمان بالله في نظامه الفلسفيِّ علمًا وأخلاقًا وسياسة. وهذه النقطة الأخيرة ستكون محلَّ نقد هيوم الذي يقرُّ بأنَّنا لا نستطيع التسليم بمثل هذا الأمر لأنَّ المدركات الحسِّيَّة لا توصلنا إلى ذلك بقدر نستطيع فيه أن نثق في استنتاجاتنا الثقة التامَّة. ولكنَّ هيوم من جهة أخرى كان عارفًا بالنقد الذي قام به بركلي للردِّ على المذهب الحسِّيِّ الذي أقامه لوك وعارفًا بالموقف الذي قدَّمه في خصوص طبيعة الإدراك والعقل والحقيقة، وكذلك منزلة الله ودوره في بناء اليقين والحصول عليه. بل كان عارفًا تمامًا بخطورة التنبيه الشديد الذي صرَّح به في أنَّ الماديَّ لا يمكن أن يكون إلَّا ريبًّا. هذه المعرفة اجتمعت جميعها عند هيوم ليُقدِم على بناء تصوُّر ريبيٍّ اعتبره معتدلًا ضدَّ الريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة من خلال تأكيده على الإدراك الحسِّيِّ والاكتفاء به في جميع تصوُّراته المعرفيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة وغيرها.
إنَّه واعٍ تمام الوعي لقيمة مشروعه الفلسفيِّ المبنيِّ على الإدراك الحسِّيِّ والمعترف بالريبيَّة وإن كانت معتدلة، والمقبلة على موقف سلبيٍّ من المسألة الدينيَّة والإلهيَّة لكونها تخرج ضرورة من دائرة الإدراك الحسِّيِّ الذي يمثِّل منطلق هذه الفلسفة.
ما هي الطبيعة البشريَّة عند هيوم؟
أقام هيوم بناءه الفلسفيَّ على فكرة الطبيعة البشريَّة بل جعلها عنوانًا لكتابه الأشهر «رسالة في الطبيعة البشريَّة». ولتحليل هذه الطبيعة تناول المسائل التالية: تحليل الإدراك العقليِّ وتحليل العواطف وتحليل الأخلاق. ولتعريفها يقول: «يمكن للفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة أن تُعالج بحسب كيفيَّتين مختلفتين لكلٍّ منهما مزيَّتها»
، وهذا يعني أن علم الطبيعة البشريَّة هو الفلسفة الخلقيَّة، فقد ساوى بينهما أي الفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة. والجواب عن هذه المسألة موجود في نوعين من الفلسفات قال عنها هيوم فلسفات الفعل وفلسفات العقل. أي أنَّ فلسفة الفعل تنظر إلى الإنسان من جهة كونه إنسانًا فاعلًا أي أنَّه مولود للفعل أساسًا. وفلسفة العقل تراه عاقلًا أكثر من كونه فاعلًا. وهم يجتهدون في تربية ذهنه أكثر من تهذيب أخلاقه، إذ «يعتبرون الطبيعة الإنسانيَّة موضوعًا للتأمُّل النظريَّ ويفحصونها فحصًا دقيقًا سعيًا لإدراك تلك المبادئ التي تسيِّر أذهاننا وتثير أحاسيسنا، وتجعلنا نقبل أو ننكر موضوعًا بعينه أو فعلًا بعينه أو سلوكا بعينه»
. وبهذا التمييز يريد هيوم أن يبيِّن موقفه الصريح والواضح من الفلسفة الميتافيزيقيَّة التي يعتبرها وهمًا وشعوذة مقابل الفلسفة الأخرى التي يقول عنها إنَّها علم، وأن الميتافيزيقا تنتشر دومًا في المواقع التي لم يدخل إليها العلم والتفكير الحقيقيّْ. «إن المنهج الوحيد الذي نقدر به على تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة هو أن نجدّ في تقصِّي طبيعة الذِّهن البشريِّ وأن نبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته أنه ليس مُعدًّا بأيِّ وجه من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيَّة والمستغلَقة»
. إن معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم الميتافيزيقيِّ، وهم القدرة على النفاذ إلى موضوعات مستغلَقة على الذهن استغلاقًا فضلًا عن وهم العلميَّة
. فإذا كانت معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم أي الميتافيزيقا فإنَّه بالضرورة لا بد من أن يكشف لنا هيوم كيف نخرج من الوهم إلى الحقيقة، ومغادرة الميتافيزيقا إلى العلم سيكون من خلال «معرفة الطبيعة الإنسانيَّة أي إنشاء علم الطبيعة البشريَّة هو قبل كلِّ شيء وعلى نحو رئيسيٍّ نقد لا يمكن أن يقوم به إلَّا على تحليل قوى الذِّهن وامتدادها الطبيعيّْ»
وهو تحليل فعليٌّ وواقعيٌّ لأنه يقوم على وقائع أثبتت جدواها في العلوم التي نعرفها والتي لا يخفي هيوم إعجابه بها، ونعني بهذا الفيزياء التي أرساها نيوتن ومن معه من العلماء. «وهكذا، فإنَّ مجرَّد معرفة مختلف عمليَّات الذِّهن وفصل بعضها عن البعض الأخر إلى ما يناسبها من الأبواب، وإصلاح كلِّ تلك الفوضى الظاهريَّة التي تتغشَّاها كلَّما جعلناها موضوعًا للتفكير والبحث إنما هو إقامة لجزء غير هيِّن من العلم»
يشهد هيوم بصدق العلم ويقينه منهجًا وحقائق، ويرى أنَّ هذا الصدق يمكن استعماله لفهم جغرافيا الذِّهن ومعرفة طبيعته لإبعاد أوهامه، وبهذا ينفي هيوم إمكان الشكِّ في هذه المجالات، وهو ما يؤكِّد رفضه للريبيَّة المطلَقة والمغالية واكتفائه بريبيَّة معتدلة. فما دام يحمل إمكان اليقين فهذا يخرجه ضرورة من دائرة الريبيِّين ونجاح العلوم دليل قويٌّ عنده على نجاح الذِّهن في هذا المجال وما عليه إلَّا أن ينسجم مع نفسه ولا يغادر قواه هذه نحو مبادئ عقليَّة وهميَّة من إنشاء الفلاسفة الذين يصنعون الوهم ويصدِّقونه ويروِّجونه.
«لقد ظلَّ الفلكيُّون طويلًا يكتفون بالاستدلال انطلاقًا من ملاحظة الظواهر على الحركات الحقيقيَّة التي للأجسام السماويَّة وعلى نظامها ومقاديرها حتى طلع عليهم أخيرًا فيلسوف بدا أنَّه توصَّل بأوفق البراهين إلى تحديد القوانين والقوى التي تسيِّر دورات الأفلاك وتوجِّهها»
. يتبيَّن إذن ممَّا تقدَّم أنَّ هيوم مؤمن بقيمة ما انتجه العلماء من قوانين تفسِّر حركة الطبيعة، ومؤمن أيضًا بأنَّ منهجهم هذا هو الذي يجب اعتماده لفهم الطبيعة البشريَّة، ويعني بالطبيعة البشريَّة ذهن الإنسان في كيفيَّة عمله واشتغاله قصد القطع كليًّا مع الفلسفات الميتافيزيقيَّة التأمُّليَّة التي يراها وهميَّة. وبما أنَّ الأمر بيَّن على هذا النحو فإن َّهيوم يوجزه بقوله: «إنَّ كلِ موادِّ التفكير مشتقَّة إمَّا من إحساسنا الداخليِّ أو من إحساسنا الخارجيِّ وإنَّما إلى الذِّهن والإرادة وحدهما يرجع مزج هذه وتركيبها, وبعبارة فلسفيَّة ساقول إنَّ كلَّ أفكارنا، وهي أضعف إدراكاتنا ونسخ من انطباعاتنا، هي أقوى تلك الإدراكات»
. وبناء عليه، فإنَّ المرجعيَّة الواقعيَّة الحسِّيَّة تبقى المحكَّ الأخير للحكم على القضايا والأفكار وأنَّ أيَّ لفظ مستعمل بغير مدلول أو فكرة يتعيَّن علينا أن نتحقَّق من صدقه من خلال التحقُّق من مدى انطباقه على انطباع حسِّيٍّ ما لأنه لا بد للفكرة، أيِّ فكرة كانت، من أن تكون مشتقَّة من انطباعٍ حسِّيٍّ فإذا امتنع تعيين أيٍّ من الانطباعات مصدرًا لهذه الفكرة يحقُّ لنا أن نرتاب في صدقها ووجاهتها. وبهذا يقرُّ هيوم بأنَّ بإمكاننا التخلُّص من جميع الأفكار التي لا تعود لأيِّ انطباع حسِّيٍّ وتنتهي الخصومة نهائيًّا بين الأفكار لأنَّ المعيار صار جليَّا وواضحًا.
فلا يمكن التسليم بوجود الأفكار الفطريَّة أو الأفكار التأمُليَّة التي لا أساس حسِّيًّا لها، وفي هذا ضرب جذريٌّ لجميع النظريَّات الفلسفيَّة التي بنت نظريَّاتها في المعرفة على أساس العقل الخالص المؤمن بفطريَّة الأفكار أو بعضها، والمؤمن بأنَّ العقل هو الأداة الوحيدة القادرة على بناء المعرفة الحقَّة التي صارت في نظر هيوم معرفة وهميَّة زائفة سبب كلِّ ميتافيزيقا.
إذا كان الأمر كما بيَّنا فكيف يقرُّ هيوم بصدقيَّة المعارف العلميَّة بنوعيها: الفيزيائيِّ والرياضيِّ، خاصَّة أنَّها لا تعود جميعها إلى الانطباع الحسِّيِّ أو الوقائع الحسِّيَّة؟ يرى هيوم أنَّ الوقائع نوعان والعلاقات نوعان: علاقات الأفكار وعلاقات الوقائع. أمَّا علاقات الأفكار فتنسب إليها العلوم الرياضيَّة عمومًا من أرثمطيقا وهندسة وجبر… «، وأنَّ قضايا من هذا النوع تُكشف بالعمل البسيط للفكر من غير ما تبعيَّة لأيٍّ ممَّا يوجد في الكون. ورغم أنَّه لم يوجد قط دائرة ولا مثلَّث في الطبيعة فإنَّ الحقائق التي برهن عليها إقليدس ستظلُّ إلى الأبد حافظة على يقينها وبداهتها»
فالرياضيَّات يقينيَّة يقينًا ثابتًا دائمًا رغم أنَّها لا تعود إلى أصل حسِّيٍّ أو واقعة فعليًّا.
أما الوقائع أو علاقات الوقائع فيتسرَّب إليها الشكُّ بصورة أسهل، وقد توقعنا في أوهام ولذلك وجب الانتباه إليها أكثر وتحليلها بشكل أدقَّ وأعمق. وبما أنَّ أغلب الوقائع تعود في النهاية إلى استدلال سببيٍّ يربط بين السبب والنتيجة، فإنَّه من الضروريِّ أن ننظر في طبيعة هذا الاستدلال للتأكُّد من مدى صدقه وقوَّته حتى نتأكَّد من سلامة استنتاجاتنا العقليَّة المتَّصلة بالوقائع الفعليَّة.
وبما أنَّه لا يمكن لنا تجاوُز ما تمنحه لنا حواسُّنا أو ذاكرتنا عن حواسِّنا فإنَّ تحليلنا يجب ألَّا يتجاوز هذا المُعطى لأنَّه الأساس الذي لا يطاله ريب.
يتجلَّى إيمان هيوم والتزامه بالحسِّ كأداة واحدة فاعلة في عمليَّة الإدراك في تصوُّره للسببيَّة ونقده للمقاربات الفلسفيَّة التي سبقته في تاريخ الفلسفة الغربيَّة. ولعلَّ اهتمامه الشديد بنقد السببيَّة يعكس لنا شدَّة تمسُّكه بموقفه في نظريَّة المعرفة الحسِّيَّة، فلا شيء خارج الإدراك الحسِّيّْ. ولأنَّ الأمر على هذه الشاكلة يجب الاكتفاء بما تقدِّمه لنا الحواسُّ في هذا الأمر وعدم إضافة أيِّ أمر آخر لأنَّ أيَّ إضافة مهما كان مصدرها لا ثقة فيها إن لم نقل إنَّها وهميَّة لا قيمة علميَّة لها بل ومشوَّهة لواقعيَّة الحدث والواقعة الطبيعيَّة.
وبالنَّظر العميق والدقيق لما يحدث في الطبيعة، وملاحظة كيفيَّة ظهور الوقائع والأحداث، نرى تعاقُبًا بينها فهمه أنصار الميتافيزيقا بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وهو فهم لا يستقيم حسِّيًّا لأنَّه لا أساس له أي لا يوجد ما يؤكِّده. فما نلاحظه أمامنا لا يتجاوز حدَّ تعاقُب الأحداث واقترانها من دون أن نستطيع تجاوُز ملاحظة الاقتران والتعاقُب إلى القول بأنَّ أحدهما سبب والآخر نتيجة فضلًا عن قولنا بأنَّ الأسباب نفسها يجب أن تؤدِّي إلى النتائج نفسها، وهو المبدأ الأهمُّ في التفكير العلميِّ المعروف بمبدأ الحتميَّة.
فكلُّ ما نلاحظه في عمليَّة الاحتراق مثلًا هو اقتران النار بالاحتراق من دون أن نجد ما يؤكِّد حسِّيًّا أنَّ النار هي سبب الاحتراق، وبما أنَّ الأحداث تتكرَّر فإنَّها ترسخ عادة في أذهاننا أنه كلَّما لاحظنا النار قلنا بوجود الاحتراق، وهي إضافة ذهنيَّة لا أساس حسيًّا لها، ومن هنا يتسرَّب الوهم إلى الذِّهن حسب هيوم، لأننا نضيف إلى الوقائع ما ليس فيها. «إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكتشف بالعقل وإنَّما بالتجربة»
وأنَّ الاقتران والتكرار يصنعان العادة التي تمنح فكرنا معرفة النتيجة من السبب لا لأنَّ السبب فاعل وإنما لتكرار اقترانهما. «إنَّ كل الاستنتاجات المأخوذة من التجربة إذًا هي من أثر العادة لا من أثر الاستدلال»
. وهذا يعني أنَّ العادة هي المفهوم الجديد الذي سيأخذ محلَّ الاستدلال عند هيوم لأنَّ مفهوم العادة عنده قرين التجربة وتكرارها بينما الاستدلال قرين العقل المجرَّد، وبالتالي فالاستدلال وهميٌّ بينما العادة واقعيَّة تعبِّر عن واقع فعليّْ.ويلخِّص هيوم هذا المعنى في قول واحد: «إنَّ كلَّ مفعول هو حدث مختلف عن سببه. ولا يمكننا بالنتيجة أن نكشف عنه ضمن السبب.
وعندما يعمد الذِّهن أول أمره إلى تصوُّره أو استنباطه قبليًّا فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا تحكُّمًا»
. ويتأكَّد إيمان هيوم بفاعليَّة التجربة كأصل أول لجميع تفسيراتنا والقوانين التي ننتهي إليها باستبعاده الصريح لفاعليَّة الرياضيَّات أيضًا رغم إيمانه بيقينها، فالهندسة نفسها رغم دقَّة استدلالاتها تبقى عاجزة عن معالجة هذا الوضع وكليلة عن أن توصلنا إلى معرفة العلل القصوى».
وأنَّ الاستدلالات المجرَّدة تستعمل إمَّا لمساعدة التجربة في الكشف عن هذه القوانين، أو لتحديد تأثيرها في بعض الحالات الخاصَّة حيث يتوقَّف ذلك التأثير عن مدى تدقيق المسافة أو الكمِّيَّة»
جديربالذكر هنا أنَّ هذا المنهج في النظر إلى الواقع الحسِّيِّ يعمِّمه هيوم ليستعمله في المسألة الأخلاقيَّة والمسألة الدينيَّة ليؤكِّد سلامة توجُّهه وصدق اتصاله بالواقع الحسِّيِّ تحصينا للنفس من أيِّ وهم يمكن أن يتسلَّل إليها مثلما هو حاصل عند جميع الفلاسفة الذين يؤلِّفون الكلام والمجلَّدات ويبنون فلسفات ميتافيزيقيَّة لا تتجاوز صحَّتها صحة معاني الكلمات التي لا تحيل إلى أيِّ واقع وهي التي كانت سببًا في تعميق الوهم الفكريِّ الذي ساد قرونًا ولا يزال.
وأنَّ الموقف الريبيَّ المعتدل الذي وضعه هيوم يراه الحلَّ الأمثل لبناء نظريَّة في المعرفة قائمة على أساس متين لا يمكن أن يتسلَّل إليه الوهم. «وأنَّ العادة هي الدليل الأكبر للحياة الإنسانيَّة إذا. فهذا المبدأ وحده هو الذي يجعل تجربتنا مفيدة لنا ويجعلنا نتوقع في المستقبل نسقا من الأحداث مماثلا لتلك التي كانت ظهرت في الماضي أما بدون تأثير العادة فإنَّنا سنكون جاهلين تمامًا لكلِّ واقعة تتجاوز ما هو حاضر مباشرة للذاكرة والحواسّْ»
الواقع الحسِّيِّ ومجالا الأخلاق والدين:
يعمِّم هيوم تحليلاته في مجال الطبيعة الإنسانيَّة وسيكولوجيَّة المعرفة التي لخَّصها في مفهوم الواقع والعادة وينقلها إلى مجالَيْ الأخلاق والدين. ولا شكَّ في أنَّ تخصيصه لمجال الأخلاق مبحثًا خاصًا وكذلك للدين دليل واضح على ذلك.
إذ يبدو كما يقول «أنَّ شغفنا بالفلسفة كشغفنا بالدين معرَّض للمؤاخذة بهذه النقيصة»
وأنَّ النقد الذي وجَّهه إلى نظريَّة المعرفة هو نفسه الذي وجَّهه للأخلاق والدين. ولهذا يطرح السؤال التالي: على أيِّ أساس نقيم أحكامنا الخلقيَّة، أنُقيمها على أساس المنطق العقليِّ أم على أساس الميول الوجدانيَّة؟ هل يكون الحكم على شيء بأنه فضيلة وعلى آخر بأنه رذيلة من قبيل الحكم على شيء بأنَّه مُثبث الأضلاع، أو يكون من قبيل تأمُّلنا للشيء الجميل نختلف في الحكم على جماله باختلاف أذواقنا وطرائق النشأة التي نشأناها؟
وعلى هذا الأساس، يذهب هيوم إلى أن الحكم الأخلاقيَّ لا أساس عقليًّا له وإنما يعود إلى الذوق والعاطفة وذلك لأنَّ الجانب الأخلاقيَّ في الإنسانيِّ قوامه الإرادة والعمل «، ومعنى هذا أنَّ الخير والشر يصحبان مقولتين أساسيَّتين في الطبيعة البشريَّة مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواسِّ الأخرى من رؤية وسمع ولمس» مقولتان مرتبطتان بحالة الشعور بالرضا إزاء الأفعال. والأمر نفسه في الدين والمسألة الإلهيَّة يرجعها هيوم إلى القاعدة نفسها الخبرة الحسِّيَّة والطبيعة الإنسانيَّة التي لخَّصها في قوله بالعادة.
وعلى أساس هذه القاعدة ناقش الَّلاهوت المسيحيَّ في الأدلَّة التي يقدِّمونها على وجود الله، كما ناقش الفلاسفة أيضًا في المسألة نفسها ليؤكد أمرًا واحدًا هو أنَّه لا يمكن إثبات أيِّ قضيَّة بمثل هذا المنهج وأن استعمال هذه الحجج تسير ضدَّ إثبات الدين ووجود الله لأن لا قدرة للإدراك البشريِّ على فعل ذلك. «لأن الكم والعدد هما الموضوعان الوحيدان للمعرفة والبرهان «
، وإثبات حقيقة الدين أو إثبات وجود الله ليس من القضايا الرياضيَّة أي ليس من القضايا العقليَّة البرهانيَّة. ولعلَّ في محاولة هيوم الدفاع على أبيقور في المدينة الذي ثار على معتقداتها ومن ثم الأخلاقيَّات التي تقوم عليها إثبات من قبله بأنَّ الدين والاعتقاد مرتبطان بالواقع والسياسة أيضًا، وأنَّ الدفاع عن موقف أبيقور للتأكيد على أنَّ عدم اعتقاده بالاعتقادات المدينة ذاتها ليس له من غاية إلَّا سلامة المدينة وأمنها أيضًا عكس ما يدَّعيه أعداؤه، بل ربما الحجج التي يقدِّمها أبيقور أقوى من حجج أعدائه، وكأنَّ هيوم يقحم المسألة الدينيَّة فلسفيًّا في سياقَيْ المعرفة البشريَّة من جهة، والأخلاق والسياسة من جهة أخرى، وينتهي دفاعه عن أبيقور إلى إثبات خطورة حجج الخصوم على الاعتقاد بالوجود الإلهيِّ واليوم الآَّخر.وهي نتيجة مربكة لأنَّ الفلاسفة الذين يسعون لإثبات وجود الله، ويقدِّمون الحجج والبراهين على ذلك، إنَّما يفعلون ذلك دفاعًا عن الدين وتأكيدًا لفكرة وجود الله، بينما يرى هيوم أنَّهم في الحقيقة يثبتون العكس وهم لا يدركون ذلك:
«إن الفلاسفة الدينيِين، إذ لا يعتقدون بتراث أجدادكم ولا بمذهب كهنتكم يطلقون العنان لفضول متسرِّع محاولين أن يروا إلى أيِّ حدٍّ يمكنهم أن يقيموا الدين على مبادئ العقل، وهم بذلك يثيرون الشكوك التي تتولَّد طبيعيًّا من تقصٍّ فطن نفّاذ بدلًا من أن يخمدوها»
إنَّ الذين يثبتون وجود الله حسب هيوم إنما يوقعون الناس في ريبيَّة خطرة، ولتأكيد نظرته يذكِّرنا باعتماد الفلاسفة العقلانيِّين إلى نظريَّتهم العقليَّة في المعرفة والتي أثبت تهافتها، ويذكِّرنا باستعمال هؤلاء الفلاسفة الحجَّة الطبيعيَّة التي تدعونا إلى النظر في الطبيعة ودقَّة صنعتها لينتهي إلى السبب الأول أي وجود الله ويرى اعتمادا على نظريَّته في المعرفة الحسية القائمة على فهم الطبيعة البشريَّة التي تتأسَّس على الخبرة الحسِّيَّة والعادة إلى أنَّ أساس حجج الفلاسفة الدينيِّين خاطئ بالضرورة لأنَّهم يحملون العقل ما لا طاقة له به. وحريٌّ الول أنَّ قوانين الطبيعة تعود إلى أصل تجريبيٍّ خالص، واعتماد البرهان على العلم الطبيعيِّ إضعاف لفكرة وجود الله وليس تأكيدًا لها. وبهذا، فإنَّ الموقف الريبيَّ من وجود الله واليوم الآخر يصير أقوى في هذه الحالة. إذا كان الأمر على هذا النحو، فإلى أيِّ مجال تنتمي مسألة الوجود الإلهيِّ واليوم الآخر وغيرها من المسائل المتصلة بالدين والكهنوت المسيحي الكاثوليكي الذي كان مسيطرا في ذلك العصر وما هو البديل المناسب لتعويض ضعف حجج الفلاسفة الدينيين.
فما دام الفلاسفة يعتمدون على الحجج العقليَّة النظريَّة أو التأمُّليَّة، أو الحجج القائمة على أساس النظر في النظام الطبيعيِّ فإنَّ حججهم موصلة للريبيَّة ولا تثبت شيئًا، ولهذ يصرُّ هيوم على قوله: «فمن النظام في الصنعة تستدلُّون على أنه يجب أن يوجد تخطيط وتدبير في الصانع. فإن كان لا يمكنكم إسقاط هذه النقطة يتعيّن عليكم أن تسقطوا الخلاصة. وأنتم تدَّعون أنَّكم لا تقيمون الخلاصة على مجال أوسع مما تسوِّغه ظاهرات الطبيعة. تلك هي حقوقكم وآمل أن تسجلوا النتائج» يحاول هيوم تعميق ما ذهب إليه بمعالجته مسألة أصل الشر في العالم، وما علاقتها بصفات الكمال التي ينسبها الفلاسفة إلى الآلهة، ويرى أنَّ السبب يجب أن يكون دومًا من جنس الأثر، وإذا سلَّمنا بوجود الألهة فكيف نفسِّر وجود الشرِّ اعتمادا على المنهج نفسه والحجة نفسها، أي السبب والمفعول؟. يلخِّص هيوم موقفه على النحو التالي: إنه يصنِّف المعارف والمجالات والقدرات الطبيعيَّة في الإنسان. أنَّ الخبرة وحدها هي التي تعلِّمنا طبيعة السبب والأثر وحدودهما، وتجعلنا قادرين على ان نستدلَّ على وجود شيء من وجود آخر. وفي هذا السياق نجد التاريخ والجغرافيا والفلك السياسة والفلسفة الطبيعيَّة والفيزياء والكيمياء هي العلوم التي تعالج الوقائع العامة.
الإهيَّات أو الَّلاهوت الذي يثبت وجود الله والنفس تتقاسمه مجالات أهمَّها تحليلات الوقائع الجزئيَّة وتحليلات الوقائع العامَّة وتتأسَّس على العقل بقدر ما تستند إلى الخبرة. «ولكن أفضل قاعدة وأصلبها توجد في الإيمان والوحي الإلهيّْ»
الجمال الخلقيُّ والطبيعيُّ من مجالات الذوق والشعور. ويمكن نختم تحليلنا لفلسفة هيوم المعرفيَّة وما يتَّصل بها من مجالات السياسة والأخلاق والدين، بقول الأخير نفسه: «حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أن نتلف؟ إذا أخذنا بيدنا أيّ مجلّد بيدنا أي مجلّد في اللَّاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلًا، هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ كلَّا. إذن إرمِه في النار لأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن سوى سفسطات وأوهام»
رؤية نقديَّة لفلسفة هيوم:
هيوم ناقدًا لهيوم:
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
يبدو مشروع هيوم الفلسفيِّ موجَّهًا نحو هدف واحد ووحيد ألا وهو نقد الميتافيزيقا، وسايره الفيلسوف الألماني كانط بعد ذلك في مشروعه النقديّْ. ورغم الاختلاف بين الفلسفتين هيوم وكانط إلَّا أنَّنا يمكن أن نقرَّ بتشابُه في الموقف والاتِّجاه. فالعقلانيَّة النقديَّة الكانطيَّة قامت على أساس الريبيَّة اللطيفة التي أنشأها هيوم وحاول غيجاد حلول للمشاكل والصعوبات التي أثارها نقده لنظريَّة المعرفة العقليَّة والتجريبيَّة معًا من خلال دعوة لمعرفة جغرافيا الذِّهن البشريِّ ومعرفة الطبيعة البشريَّة. وقد استفادت الفلسفة الغربيَّة كثيرًا من هذا المشروع النقديِّ، وواصلت النظر في المسألة لإيجاد حلٍّ لمسألة الاستقراء، وعلاقة الاستنباط بالاستقراء، والعقل الصوريِّ رياضيًّا ومنطقيًّا بالعقل التجريبيِّ في العلوم الطبيعيَّة بمختلف أنواعها. وبقطع النظر عن الحلول التي ساقها الفلاسفة الغربيُّون بعد هيوم، فإنَّ مقاربة هيوم النقديَّة تحمل تناقضًا داخليًا لا يستطيع هيوم تجاوزه أو الخروج عنه. ويتمثل هذا التناقض في طبيعة خطابه الداخليِّ نفسه فهو يصنع خطابًا للإقناع بقوَّة موقفه ووجاهته بمنهج مغاير للمنهج الذي يدافع عنه. ولتحليل هذا الموقف علينا أن نوضح أمرين: أولهما أنَّ هيوم يرى أن َّالعقل لا يفكّر إلَّا من خلال التجربة والحسِّ، وأنَّه لا حجَّة لمن يطلق العنان للعقل لينتج سفسطة ووهمًا وخداعًا ويعني الميتافيزيقا. فالحجَّة الحسِّيَّة هي اقوى الحجج ولا يوجد سواها. وثانيًا يقرُّ هيوم بصدق العقل الرياضيِّ في منهجه الاستنباطيِّ ويرى أنَّه لا صلة له بالعالم الطبيعيَّة وبالعمليَّات الذهنيَّة التي تريد فهم هذا العالم. ونستنتج من خلال هذين الأمرين أنَّ المنهج إمَّا حسيٌّ تجريبيٍّ أو رياضيٍّ ليكون مقبولًا بعيدًا عن كلِّ وهم وسفسطة. إذا سلَّمنا بأطروحة هيوم هذه وذهبنا معه هذا المذهب لنستتخدمه في تفكيرنا ونطبِّقه في فهمنا للمسائل التي تعترضنا، فإنَّنا سنُضطرُّ إلى نفي الصدق عن مشروع هيوم نفسه. فما كتبه وما تركه لنا من مؤلَّفات في الطبيعة البشريَّة والفاهمة والعواطف والأخلاق والدين والسياسة وغيرها فإنَّنا نجده لا يستعمل منهجه هذا. أي لا نجده يستعمل منهجه التجريبيَّ الذي لا يتجاوز العالم المحسوس ولا يستعمل أيضًا المنهج الرياضيّْ. وإذا كانت الحقيقة تسكن العالم الحسِّيَّ، حسب قوله، وإذا كان المنهج الحقيقيُّ هو المنهج الحسِّيُّ، حسب رأيه، فإنَّ منهج هيوم في جميع كتاباته ومحتواها خالية من جميع شروط الصدق التي عرضها ودافع عنها. فكلُّ قارئ لإنتاجه لا يجد الشرط الحسِّيَّ ولا التجريبيَّ ولا الرياضيَّ وإنَّما يجد تأمُّلات واستنتاجات منطقيَّة ينتقل فيها من فكرة إلى أخرى من دون أن تكون أيُّ فكرة من هذه الأفكار فكرة حسِّيَّة بل جميعها تأمُّلات عقليَّة خالصة لا واقع لها. إنَّ هذا التناقض والتعارض الذي وقع فيه هيوم طبيعيٌّ جدًا بل ضروريٌّ ولا يستطيع تجاوُزه لأنَّ العبارة القائلة إنَّ الحقيقة تجريبيَّة ليست في الواقع تجريبيَّة وإنَّما هي عقلية مجرَّدة خالصة، ويكون مثَلُه كمَثَل من يقول إن الحقيقة لا تكون إلَّا علميَّة، فنستنتج من هذا أنَّ قوله خطأ إذن لأنه ليس قولًا علميًّا. بهذا تكون العبارة ناسفة لنفسها لما تناقض محتواها. أو من يكتب لنا بأنَّ العبارة الرياضيَّة هي العبارة الصادقة، فنستنتج من هذا أنَّ عبارته هذه ليست صادقة بالضرورة لأنَّها ليست رياضيَّة ومن ثم لا يمكن قبولها. إن استعمالنا لمحتوى فلسفة هيوم لنقد فلسفته وكتاباته تفضي في النهاية إلى نسف فلسفته من الأساس، فلا أساسَ تجريبيًّا لكلِّ كتاباته، ولا أساسَ رياضيًّا لها أيضا، أي لا يوجد أيُّ مظهر من مظاهر الصدق التي اشترطها في كتابته نفسها. إن هذا المفكر الكاتب المتأمِّل ينسف محتوى فلسفته بنفسه وممارسته لأنَّ منهج كتابته وشروطها تناقض المنهج الذي يدعو إليه وشروطه.
نقديَّة هيوم وريبيَّته:
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
أكَّد هيوم على الطبيعة البشريَّة، وحاول تعيين جغرافيا الذِّهن البشريِّ لتطهيره من الميتافيزيقا والأوهام، كما يزعم، واطمأنَّ موقفه إلى الحواسِّ والخبرة الحسِّيَّة والتجريبيَّة، وشكَّك في فكرة السببيَّة وفي العلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، مؤكِّدًا في الوقت نفسه على فكرة العادة، وجعل هذا الأساس هو المرجع الذي يفصل في المسائل إن كانت المسألة قابلة للمعالجة الفعليَّة أم من المسائل الوهميَّة التي لا تحتاج إلى نظر لأنَّ العقل غير مؤهَّل للنظر فيها، وذهبت به قناعته التجريبيَّة إلى التشكيك في الدين والمسائل المتعلِّقة بالألوهيَّة وغيرها. وقد اعتبر الريبيَّ هذا فتحًا جديدًا في الفلسفة الغربيَّة أثَّر على جميع التيَّارات التي أتت بعده بجميع صورها، واستوى في ذلك من ينتمي إلى المدارس العقليَّة أو التجريبيَّة، وعرفت أقصى تأثيراتها في الفلسفات الوضعيَّة وغيرها. إنَّ هذا التوجُّه الجديد في الفلسفة الغربيَّة المتأثِّر بنقديَّة هيوم وريبَّيته جديد فعلًا في الفكر الغربيِّ ولكنه ليس غريبًا في تاريخ الفلسفة. إنَّ جلَّ ما ذهب إليه هيوم تمَّت معالجته في مدارس فلسفيَّة قديمة منذ أرسطو الذي آمن بأنه من فقد حسًّا فقد علمًا، وقال بالاستقراء، وبنى الأرغانون وقواعده، وتحدَّث عن صعوبات المقدِّمات التي يقوم عليها القياس نفسه بما في ذلك القياس البرهانيّْ. ولكنَّ الأهمَّ من كلِّ هذا، أنَّ ما ذهب إليه الإمام الغزاليُّ بنقده للاستقراء في كتابه «معيار العلم» من جهة، وفي نقده لفكرة السببية من جهة أخرى، ونقده لفطريَّة المبادئ العقليَّة من جهة ثالثة، جعله بالفعل يثير المسائل نفسها التي أثارتها ريبيَّة هيوم، إلَّا أنَّه رفض القول بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وقال بالاقتران بينهما وفسَّره بالعادة أيضًا، كما فسَّره هيوم، وهو انتهى في محطة أولى إلى ما انتهى إليه الأخير، وهو نقد الحجج التي تقوم على هذه المبادئ، واعتبرها متهافتة، وبيَّن تهافتها فعلًا في كتابه «تهافت الفلاسفة». إلَّا أن ما قام به الغزالي لم يستطع هيوم إنجازه وهو الخروج من حالة الشكِّ الدائم في الحقيقة واليقين، وحالة الاكتفاء بما تقدِّمه الحواسُّ من أساس تجريبيٍّ لبناء المعرفة. لئن انطلق الغزالي من منطلقات هيوم نفسها، وانتهى إلى النتائج نفسها، فإنَّ هذا العمل النقديَّ لم يكن إلَّا مقدِّمة لإعادة السؤال الفلسفيِّ الأول: ما الإنسان، وما العلم، وما حقيقته، وما أصنافه ودرجاته، وما اليقين، وكيف يمكن الحصول عليه؟ وهو ما فسَّره الغزالي في «المنقذ من الضلال» إجمالًا وحلَّله في بقيَّة مؤلَّفاته مميِّزًا بين العقل الغريزيِّ والعقل المكتَسب، وبين درجات المعرفة الحسِّيَّة والعقليَّة والصوفيَّة الإشراقيَّة. ليس غرضُنا في هذا السياق عرض أطروحة الغزالي الفلسفيَّة والمعرفيَّة، وموقفه من الحقيقة واليقين، ومنزلة العقل وحدوده، وقيمة المنهج الإشراقيِّ في ذلك ومنزلته، وإنما غرضُنا أن نبيِّن أن هاجس هيوم النقديَّ ليس بالجديد في تاريخ الفلسفة، وأنَّه وإن وقفت معالجته في حدود ريبيَّته الَّلطيفة كما أرادها، فإنَّ الفلاسفة الآخرين قبله وبعده عرفوا كيف يعالجون المسألة نفسها ويتجاوزونها. فمحدوديَّة نظرة هيوم في تفسيره للطبيعة البشريَّة واضحة جليَّة وقد جعلته من جهة لا يرى أيَّ شيء، ومن جهة ثانية يعارضها ولا يلتزم بها لمَّا عرض فلسفته وفسرها كما بيَّنا آنفًا.
الرياضيَّات والطبيعيَّات وإشكال اليقين:
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
اعتقد هيوم في الحقيقة التجريبيَّة والحقيقة الرياضيَّة، من دون سواهما. وما يؤكِّد اعتقاده هذا نجاح العلوم في عصره التي تمثِّلها فيزياء نيوتن وبقيَّة العلماء قبله وبعده الذين جسَّموا الثورة الكوبرنيكيَّة. غير أنَّه لم يدرك قيمة الرياضيَّات في ذاتها بوصفها علمًا صوريًّا يكشف كيفيَّة عمل الذِّهن وكيفيَّة بناء براهينه. ولم يكشف العلاقة الضروريَّة بينها وبين العلوم الطبيعيَّة، فلم نرَ لها أيَّ أثر أو دور في بناء الحقيقة الطبيعيَّة التي أرادها حسِّيَّة. والغريب في الأمر أنَّه لم يتمكَّن من فهم نسق نيوتن الفيزيائيِّ الذي كشف عنه في كتابه الأشهر «المبادئ الرياضيَّة في الفلسفة الطبيعيَّة»، والذي بيَّن فيه الدور الأساس الذي يجب أن تضطلع به الرياضيَّات في بناء علم الطبيعة، فلا يستقيم علم الطبيعة خارج حدود الرياضيَّات، أي كما فهمها هيوم خطًّأ لمَّا فصلها عن الرياضيَّات وجعلها حسِّيَّة تجريبيَّة خالصة. فالعقل الفيزيائيُّ عقلٌ رياضيٌّ أولًا وتجريبيٌّ ثانيًا. وهذا ما أكَّده تاريخ العلم بعد نيوتن وهيوم، فلم تعد التجربة هي القاضي الأعلى للعلم – حسب تعبير غاستون بشلار- وأنَّ الرياضيَّات هي عقل العلم ولغته وشرط نجاح تفسيره وبناء قوانينه. وبهذا نفهم أنَّ ريبيَّة هيوم ليس لها أساسٌ علميٌّ حتى داخل العلوم التي يؤمن بها، بل إنَّ هذه العلوم نفسها دليل تهافت ريبيَّته وشكوكه وكلِّ أُسُس فلسفته ونتائجها. إنَّ العقلانيَّة العلميَّة هي عقلانيَّة رياضيَّة بالأساس، ولعلَّها أخذت هذه الميزة من كلمة عقلانيَّة نفسها التي تعني في الِّلسان الَّلاتينيِّ الحساب أو العقل الحسابي. إلى جانب تهافت مشروع هيوم النقديِّ الذي أدخل الفلسفة في توجُّه ريبيٍّ بسبب تناقُضه الداخليِّ وتعارُضه مع منهج العلم وبنيته التي يقرُّ هو نفسه بصحته، يمكن أن نضيف إلى هذا الأمر إشارة أخيرة مهمَّة تتمثَّل بأسلوبه في التفلسف، وهو الأسلوب الذي ناقض فيه محتوى مشروعه وخالفه لأنَّه تفلسفٌ تأمُّليٌّ صرفٌ يربط بين الأفكار، ويبني الاستنتاجات ويركِّبها ويطوِّرها ويدفعها إلى الأمام كلَّما تقدَّمت به الفكرة. وهذا يعني أنَّ العقل الفلسفيَّ ليس العقل التجريبيَّ وإنَّما هو العقل التأمُّليُّ لكونه يملك قدرات فعليَّة على تمكين العقل من كشف حقيقة نفسه وحقيقة فعله، وهذا يؤكِّد لنا أنَّ المنهج التأمُّليَّ منهجٌ مهمٌ جدًا ومناسب للعمليَّة الفلسفيَّة. أمَّا إذا أضفنا إلى هذا العقل التأمُّليِّ البُعد الإيمانيَّ الذي يقرُّ هيوم بأهمِّيَّته في بناء الدين من دون أن نرى له أثرًا في فلسفته، فإنَّنا ننتهي إلى رؤية عقليَّة تأمُّليَّة متسامية يمنحها الإيمان قدراتٍ أخرى تتجاوز حدود العقل الماديِّ أو الخبريِّ والعقل الرياضيِّ معًا. وبهذا تنفتح الفلسفة أمام آفاق أخرى لا يمكن لفلسفة هيوم تصوُّرها.
أحد الأسماء التي ذاع صيتها في سجلات الفلسفة ومواثيق العلوم الطبيعية والتراثية المتنوعة، استطاع في أقل من خمسة عقود أن يحفر اسمه في قائمة الشرف التاريخية بجوار فلاسفة اليونان الأُول، ويعد وفق عدد من المفكرين “مؤسس الفلسفة العربية الإسلامية”، هذا بجانب كونه موسوعة شاملة في الرياضيات والفيزياء والفلك والموسيقى.
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الملقب بـ”أبو يوسف الكندي” (805-873 ميلاديًا) الذي نهل علومه الأولية على يد والده الذي كان واليًا على الكوفة بالعراق، ثم انتقل منها إلى بغداد حيث حظي برعاية الخليفين المأمون والمعتصم، إذ كان مشرفًا على بيت الحكمة.يعتبره الفلاسفة ثمرة انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي، وقد لُقب بـ”فيلسوف العرب”، وهو اللقب الذي ذكره بعض الفلاسفة في مؤلفاتهم القديمة، على رأسهم ابن النديم في “الفهرست”، وصاعد الأندلسي في “طبقات الأمم”، والقفطي في “أخبار العلماء بأخبار الحكماء”، وابن أبي أصيبعة في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”، والبيهقي في “تتمة صوان الحكمة”. له إسهامات متنوعة في العديد من المجالات، ونظريات لاقت ثناءً واستحسانًا لم يلقه فيلسوف آخر، غير أن الدور المهم الذي قام به كان جعله الفلسفة في متناول المثقفين المسلمين آنذاك، لكن هذا الدور تراجع رويدًا بعد ظهور علماء مثل الفارابي، ولم يبق إلا عدد قليل جدًا من أعماله للعلماء المعاصرين لدراستها، ومع ذلك ظل أحد الأسماء اللامعة في تاريخ الفلسفة اليونانية والعربية.
فيلسوف العرب المتجول
يعد الكندي أول الفلاسفة المسلمين والعرب المتجولين، حيث تنقل بعلمه ونظرياته من بلد إلى بلد، ومن حضارة إلى أخرى، فاستطاع الجمع بينها وتقريب الفكر الفلسفي بين عدة حضارات، حيث بذل جهدًا كبيرًا في تقريب الفكر الفلسفي اليوناني على وجه الخصوص وتحويله من مواد صعبة الفهم إلى وجبات سهلة التناول لدى العرب.
وقد ساعد عمله في بيت الحكمة ببغداد في تعزيز هذه الجهود من خلال ترجمته للعديد من النصوص الفلسفية المهمة، حيث أدخل الكثير من المفردات الفلسفية إلى اللغة العربية، ويمكن القول إنه لولا أعماله الفلسفية، لما تمكن الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا والغزالي من التوصل إلى ما توصلوا إليه. نجح الكندي في إدخال الفكر الأرسطي والأفلاطوني المحدث إلى الفكر الفلسفي الإسلامي، رغم الانتقادات ووصفه بغير المقنع
تأثر فيلسوف العرب إلى حد كبير بالعديد من المدارس الفلسفية على رأسهم فلاسفة المدرسة الأفلاطونية المحدثة أمثال بروكليوس وأفلوطين وجون فيلوبونوس، هذا بجانب العديد من المدارس الأخرى، وفي أكثر من مناسبة استشهد الكندي في كتاباته بأرسطو، غير أنه حاول صياغتها بشكل مختلف، يغلب عليه الصبغة الأفلاطونية المحدثة، حتى بات المزج والتنسيق والجمع بين أكثر من فكر في المخطوط الواحد سمة تميز بها عن غيره من فلاسفة جيله.
جدير بالذكر أن التدليل على التوافق بين الفلسفة واللاهوت الطبيعي من جهة، وعلم الكلام من جهة أخرى، كان أحد أبرز الاهتمامات التي سيطرت على فكر وعقل الكندي، ورغم ذلك كان يعتقد أن الوحي مصدر المعرفة للعقل، لأن مسائل الإيمان المسلم بها لا يمكن استيعابها.العديد من الانتقادات وجهت لمنهج الكندي، حيث وصف بالبدائية، واعتبره البعض في وقت لاحق بأنه غير مقنع، كونه يكتب بالعربية، إلا أنه رغم ذلك نجح في إدخال الفكر الأرسطي والأفلاطوني المحدث إلى الفكر الفلسفي الإسلامي، وهو ما كان له أبلغ الأثر في انصهار الفلسفة اليونانية داخل بوتقة الفكر الفلسفي الإسلامي.
إسهامات علمية مميزة
نجح الكندي في إثراء المكتبة العربية بأمهات الكتب في مختلف العلوم، وقد وصل عدد مؤلفاته إلى 241 كتابًا موزعًا على 17 مجالًا من مجالات المعرفة، غير أن الكثير من هذه المؤلفات فُقدَت ولم يبقَ من أعماله إلا 50 كتابًا، ففي علم الفلك مثلًا له عشرات المؤلفات البارزة على رأسها كتاب “الحكم على النجوم” وهو من أربعين فصلاً في صورة أسئلة وأجوبة، وأطروحات عن “أشعة النجوم” و”تغيرات الطقس” و”الكسوف” و”روحانيات الكواكب”.
وقد اتبع الفيلسوف العربي نظرية بطليموس عن النظام الشمسي، التي تقول إن الأرض هي المركز لسلسلة من المجالات متحدة المركز، التي تدور فيها الكواكب والنجوم المعروفة حينها – القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري -، وقال عنها إنها كيانات عقلانية تدور في حركة دائرية ويقتصر دورها على طاعة الله وعبادته.وفي علوم الطب له أكثر من ثلاثين أطروحة أبرزها كتاب “رسالة في قدر منفعة صناعة الطب”، الذي أوضح فيه كيفية استخدام الرياضيات في الطب، لا سيما في مجال الصيدلة، كما وضع مقياس رياضي لتحديد فعالية الدواء، إضافة إلى نظام يعتمد على أطوار القمر، يسمح للطبيب بتحديد الأيام الحرجة لمرض المريض.أما في مجال الكيمياء فقد عارض أفكار الخيمياء، القائلة بإمكانية استخراج المعادن الكريمة أو الثمينة كالذهب من المعادن الخسيسة، في رسالة سماها “كتاب في إبطال دعوى من يدعي صنعة الذهب والفضة”، مؤسسًا مع الفيلسوف جابر بن حيان صناعة العطور، وأجرى أبحاثًا واسعة وتجارب في الجمع بين روائح النباتات عن طريق تحويلها إلى زيوت. لم تكن العلوم وحدها ساحة الإبداع التي تفوق فيها فيلسوف الكوفة، بل كان له باع طويل كذلك في الفنون والموسيقى
وفي الرياضيات أثرى الكندي المكتبة بعشرات الرسائل في الفروع الرياضية المهمة، بما فيها الهندسة والحساب والأرقام الهندية وتوافق الأرقام والخطوط وضرب الأعداد والأعداد النسبية وحساب الوقت، ومن أبرز ما كتب في هذا المضمار أربعة مجلدات بعنوان “كتاب في استعمال الأعداد الهندية” الذي ساهم بشكل كبير في نشر النظام الهندي للترقيم في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا.
لم تكن العلوم وحدها ساحة الإبداع التي تفوق فيها فيلسوف الكوفة، بل كان له باع طويل كذلك في الفنون والموسيقى، فهو أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي، إذ اقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود، بجانب دوره في وضع سلم موسيقي ما زال يستخدم في الموسيقى العربية من 12 نغمة، وتفوق على الموسيقيين اليونانيين في هذا المجال، مدركًا التأثير العلاجي للموسيقى، وحاول علاج صبي مشلول شللاً رباعيًا بالموسيقى، وله ما يقرب من 15 أطروحة في نظرية الموسيقى، لم يبق منها إلا خمس فقط، وهو أول من أدخل كلمة “موسيقى” للغة العربية.
تأثره بالفكر اليوناني
رغم تعدد آبار الثقافة التي نهل الكندي منها، فإنه مدينًا بشكل كبير للثقافة اليونانية، والمتابع الجيد لكتاباته وإسهاماته، سواء كانت في الفلسفة أم العلوم الأخرى يشتم فيها عبير الحضارة اليونانية، حيث تأثر بشكل كبير بعلماء اليونان في هذا التوقيت، على رأسهم إقليدس الذي تأثر به في الرياضيات وأرسطو في الفلسفة، إلخ.
وفي التفصيل يلاحظ على سبيل المثال في شرحه لمفهومه عن الميتافيزيقيا، ففي كتابه “رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى” تأثر الكندي كثيرًا بمنهجية أرسطو في الخلط بين الميتافيزيقيا واللاهوت، حيث جاء فيه “لأن كل ما له أنية له حقيقة، فالحق اضطرارًا موجود إذن الأنيات موجودة. وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق”.وتعد تلك الرسالة أكبر تجسيد للمزج الذي أحدثه الكندي في الاستفادة من الثقافة اليونانية، حيث جمع بين الأفكار الأفلاطونية والأرسطية في رؤيته لفلسفة متماسكة مستمدة من الإغريق، وهو في الوقت نفسه كان حريصًا على التقليل من حدة أي توترات بين الفلاسفة اليونانيين، أو أي إخفاقات من المفكرين اليونانيين، ومن الأمثلة على ذلك أنه لم يعط أي تلميح بشأن موقفه من الخلود في العالم حتى لا يصطدم أو يتعارض مع أرسطو.
اللافت للنظر في فكر الكندي كذلك أنه أطلق سيلاً من الإهانات ضد المعاصرين الذين لم يكشف هويتهم وينتقدون استخدام الأفكار اليونانية: “… وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق. وليس يبخس الحق، ولا يصغر بقائله ولا بالآتي به. ولا أحد بخس الحق؛ بل كان يشرفه الحق. يحسن بنا، إذا كنا حراصًا على تتميم نوعنا – إذ الحق في ذلك – أن نلزم في كتابنا هذا عاداتنا في جميع موضوعاتنا من إحضار ما قال القدماء في ذلك قولًا تامًا على أقصد سبله وأسهلها سلوكًا على أبناء هذه السبيل، وتتميم ما لم يقولوا فيه قولًا تامًا على مجرى عادة اللسان وسنة الزمان، وبقدر طاقتنا، مع العلة العارضة لنا في ذلك…”.
حيله لدفع الأحزان بالفلسفة
لم يقف فيلسوف العرب المتجول عند حاجز التنظير الفلسفي وفقط، بل سعى لتسخير ما تعلمه في خدمة الحياة العامة، فكانت رسالته التي وجهها إلى صديق طلب منه أن يضع رسالة في دفع الأحزان، خير نموذج على هذا التوظيف العملي، حيث بدأها بتبيين أن كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى شفاؤه، وينبغي بيان سبب الحزن، ومن هذا المنطلق عرف الحزن بأنه ألم نفسانيٌّ ناتجٌ من فقد أشياء محبوبة أو من عدم تحقيق رغبات مطلوبة. وتكشف رسالة الكندي تلك في أحد أبعادها عن مسألة جوهرية، تلك المتعلقة بالمقدرة الإنسانيّة على الاكتفاءِ بذاتهِ، بعيدًا عن المفارق، وهي مسـألة ترتبطُ بالجانب الأنثروبولوجيّ في الفلسفة الإسلامية، وما يمكنُ أن تحملهُ من آفاقٍ فلسفية وعملية في فهمِ وتمثل التراث العربي – الإسلامي في بعده الإنساني والإنسي.يرى الكندي بما أن متع الحياة عقلية وحسية، “فلا بد للمرءِ أن يناله حزنٌ لفقدِ المحبوب وانقطاعِ المطلوب، إلا أن المطلوبات الحسية بطبيعتها مقطوعة لأنها وقتية لا أكثر، فأكثر الأدواء ما كان متعلقًا بالمطلوبات الحسية، بل أشقى الناس من كان متعلقًا بالمطلوبات الحسية، وحتى إن دعت الحاجة إلى المحسوسات يجب أن تكون مما تهيئ لنا”.ووفق تعريفه للشَقي فهو “من اتّبعَ هواه وكانَ أمرهُ فُرطًا، فكثير منَ أحوالِ النّاسِ تصيرُ في النّفسِ مطبوعة بسببِ سلوكِ العادّة وكثرةِ الاستعمال، حتّى يتولّى المَطبوع على الطّبع، وتستأنسُ النّفس بهِ وتركن إليهِ. لكن وجبَ حملُ النّفسِ لدفعِ سلوك هذهِ العادّة، فإذا كانت النّفس تحزن لعلّةٍ جسمانيّة أصابتها، وبدّلت في ذلكَ كُلفةً عظيمة، حتّى تشفى من هذا العارض الجسمانيّ، فأولى بالمرءِ أن يهتمَّ بالنّفس، لأنّ فضل مصلحة النّفس وإشفائها من آلامها على مصلحة البدن وإشفائه من آلامهِ كفضل النّفس على البدن – إذ النّفس سائس والبدن مسوس، والنّفس باقية والبدن داثر، ومصلحة الباقي والعناية بتقويمه وتعديله أصلح وأفضل من إصلاح وتعديل الدّاثر لا محالة الفاسد بالطّبع- فإصلاح النّفس وإشفاؤها من أسقامها أوجبُ شديدًا علينا من إصلاح أجسامنا: فإنّا بأنفسنا نحنُ ما نحنُ، لا بأجسامنا، لأنّ الجسم مشترك لطل ذي جسم”. رغم اندثار معظم الإرث الذي تركه أبو يوسف الكندي، فقد تربع على عرش الفلاسفة العرب والمسلمين الذين أبدعوا في المزج بين الثقافات المنتمية لحضارات متباينة
ومن أجل التشخيص الجيد للحزن يطرح فيلسوف الكوفة وجوب تقسيمه تدريجيًا حتّى يسهلَ معرفتهُ بدقّةٍ يقول: “ومن أدوية ذلك السّهلةِ: أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى أقسامه فنقول: إنّ الحزن لا يخلو أن يكون ما عرض منه أمراً هو فعلنا، أو فعل غيرنا”، وعليه يقسم الحزن إلى صنفين، فأمّا الأوّل: فهوَ ذاتي أي تسبّبنا نحنُ فيهِ دونَ أن تكونَ هناكَ علّة لأحدٍ فيه، أو لأمر خارجي، وهو ما يسبّبه أحدٌ لنا، أي فعلُ غيرنا.ومن أجل التخلص من كل أنواع الحزن عند الكندي فقد “وجب مدافعتهما بل المجاهدة حتّى يرتفعُ الضّررُ عنّا، وإلاّ فالمستغرق نفسهُ في الحزن، فهو يجور على نفسهِ ويظلمها، وهي من أمارةِ الجهلِ والشّقاء، فلا ينبغي للعاقلِ أن يرضى الشّقاء والبلاء على نفسهِ”.أما عن الوسيلة التي يلجأ إليها كل من وقع في مستنقع الحزن فعليه “اللجوء إلى حيلة الاستعانة بخبرات الذّاكرة في مجاوزةِ حالات الحزن، فحيلةُ تذكّر المرءِ لأحزانهِ الفائتةِ وتمثّل حالة الحزن وما نجمَ عنها من سلوٍ ونسيان لأتراح كانت عارضة، بل عليهِ أيضًا ألّا ينسى أنّ ما فاته قد فاتَ خلقًا كثيرًا، كلُّهم قنعَ بفوتهِ وفقدانهِ وهو ظاهر البهجِ بعيدٌ منَ الحزنِ”.هذا بخلاف إستراتيجيات عدة للمقاومة النفسانية على رأسها رؤية الكون بطبيعته، كمالاً، “لأنّ الأحزان تجلب المصائب والمصائبُ تكون بفسادِ الفاسداتِ؛ فإن لم يكن فسادٌ لم يكن كائنٌ. فإذن إن أردنا أن لا تكون مصائب، فقد أردنا أن لا يكون الكون والفساد بالطّبعِ. وأيضاً فإن أردنا أن لا يكون ما في الطّبعِ فقد أردنا الممتنع؛ ومن أراد الممتنع حرم مراده؛ ومن حرم مراده فشقيٌّ”.ورغم اندثار معظم الإرث الذي تركه أبو يوسف الكندي وتجاوزه من قبل الجيل التالي له من المفكرين والفلاسفة، فقد استطاع أن يجد لنفسه مكانًا بارزًا في لوحة الفلاسفة المؤثرين في الحضارة الإنسانية، متربعًا على عرش الفلاسفة العرب والمسلمين الذين أبدعوا في المزج بين الثقافات المنتمية لحضارات متباينة.
صدر عن دار “جداول للنشر والترجمة”، في بيروت، وضمن مشروع النشر المشترك مع منظمة “مؤمنون بلا حدود” كتاب “نيتشه والإسلام” للمؤرخ الشهير روي جاكسون، وقد قام بترجمة الكتاب حمود حمود. جاء على ظهر الغلاف: “تكتسي قضية الهوية الإسلامية أهمية حاسمة في ضوء الأحداث الجارية، وتحديدا: «ما بعد “جدالات” 11/ 9» المصحوبة بتركيز كبير على معالم أطروحة «صراع الحضارات».
وفي حين كان فريدريك نيتشه يتوجه إلى جمهور من ثقافة وعصر مختلفين، فإنّ رؤاه الأصيلة والإبداعية والنفسية والفلسفية والتاريخية تسمح بفهم جديد ومستنير للإسلام في سياق عصرنا الحديث. يشرع روي جاكسون في كتابه الجديد، نيتشه والإسلام، ليحدّد قضايا: لماذا شعر نيتشه بميله لأن يكون سمحا تجاه التراث الإسلامي، رغم أنه كان نقديّا تجاه المسيحية الغربية؟ وكيف كان الدين مهمّا لرؤى نيتشه حول قضايا مثل الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وكيف يمكن لهذا الأمر أن يساعدنا على فهم الردّ الإسلامي على الحداثة؟ وكيف يمكن لرؤية نيتشه المميزة ومنهجيته أنْ تساعدانا على فهم البارادايمات الإسلامية مثل: القرآن والنبي والخلفاء “الراشدين”؟ يقدّم كتاب “نيتشه والإسلام” نظرة أصيلة وجديدة في توجهات نيتشه الفكرية حول الدين، ويدلل على أنّ فلسفته يمكن أن تُقدّم مساهمةً مهمة لما اعتبر بارادايمات الإسلام الجوهرية. وعلى هذا النحو، فإنّ الكتاب سيكون ذا أهمية للقراءات المتنوعة وسيُقدّم مادة مفيدة للباحثين المهتمين بالتفكير في الدين والإسلام والمستقبل. روي جاكسون، هو محاضر وكاتب وباحث مستقل في الفلسفة والدين. وهو مؤلف عدد من الكتب حول موضوعات مثل أفلاطون ونيتشه وفلسفة الدين، وهو مؤلف كتاب “خمسون شخصية مهمة في الإسلام”. من الشخصيات التي تناولها الباحث، الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالي ومعاوية بن أبي سفيان. هذا، بالإضافة إلى أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة، والإمام الأشعري والماوردي والغزالي والسيوطي وابن تيمية والفيلسوف الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وتحدث عن الطبري وابن خلدون، ومن أئمة التصوف تناول الباحث رابعة العدوية والسهروردي وابن عربي وجلال الدين الرومي وصدرالدين الشيرازي. كما تحدّث عن الإسلاميين الإصلاحيين كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا ومحمد إقبال، كما تطرق إلى أبي الأعلى المودودي ومحمود أحمد طه، ومن المعاصرين تناول بالبحث حسن الترابي وحسن حنفي والمفكر الإيراني عبدالكريم سوروش
يشرع روي جاكسون في كتابه الجديد، نيتشه والإسلام، ليحدّد قضايا:
لماذا شعر نيتشه بميله لأنْ يكون سمحاً تجاه التراث الإسلامي، رغم أنه كان نقديّاً تجاه المسيحية الغربية؟
كيف كان الدين مهمًّا لرؤى نيتشه حول قضايا مثل الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وكيف يمكن لهذا الأمر أن يساعدنا على فهم الرد الإسلامي على الحداثة ؟
كيف يمكن لرؤية نيتشه المميزة وميثودولوجيته أن تساعدنا على فهم البارادايمات الإسلامية مثل:القرآن والنبي والخلفاء “الراشدين ” ؟
يقدم كتاب نيتشه والإسلام نظرة أصيلة وجديدة في توجهات نيتشه الفكرية حول الدين، ويدلل على أن فلسفته يمكن أن تقدم مساهمة مهمة لما اعتبر بارادايمات الإسلام الجوهرية .
وعلى هذا النحو، فإن الكتاب سيكون ذا أهمية للقراءات المتنوعة وسيقدّم مادة مفيدة للباحثين المهتمين بالتفكير في الدين والإسلام والمستقبل .
روي جاكسون، هو محاضر وكاتب وباحث مستقل في الفلسفة والدين. وهو مؤلف عدد من الكتب حول موضوعات مثل أفلاطون ونيتشه وفلسفة الدين، وهو مؤلف كتاب “خمسون شخصية مهمة في الإسلام” .
ما الذي يجمع بين رجل متمرد مثل فريدريك نيتشه ودين سماوي عنوانه يدل على السلام والسكينة والهدوء؟! بل ما الذي يجمع بين رجل «قتل الإله»، وما بين دين موحى به من الإله؟!
الذي دفعني إلى طرح مثل هذه التساؤلات ليس هو كتاب «روي جاكسون» المعنون بنفس عنوان مقالتي هذه «نيتشه والإسلام»؛ فقد كفاني أستاذ الفلسفة الدكتور عادل حدجامي مؤونة السؤال، حينما أجاب عن عنوان الكتاب بقوله: لقاء لم يحصل؛ وهو بذلك يبعد أية علاقة لـ«نيتشه» بالإسلام، بكل بساطة لأن فيلسوف القوة والتمرد لا يمكن أن يحتويه أي إطار، بل هو مفجر الأطر، والثائر على كل القوالب والتصنيفات.
الحقيقة أن ما دفعني إلى طرح هذه التساؤلات هو محمد إقبال (1938) في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام! لقد صدمني صاحب تجديد التفكير الديني وهو يُحلِّي «قاتل الإله» ببُرْدة الأنبياء!
كيف جاز لفيلسوف الإيمان، وشاعر الحضارة الإسلامية، ومؤسس باكستان الإسلامية أن يهدي هذا المديح لفيلسوف وشاعر آخر من حضارة مخالفة هو الألماني فريدريك نيتشه (1900)؟ وكيف يُمجد هذا الرجل الذي لا يمكن لأحد أن يستسيغ فلسفته لأسباب عديدة ربما كان أكثرها استفزازًا و«كفرًا» إعلانه موت الإله، وهو ما جعل الكنيسة -بكل طوائفها- تحاربه باعتباره عدوًا للرب والإله؟! ما الذي جذب رجلًا قضى حياته وهو يملأ هضاب نجد وصحراء الحجاز بدموعه اللاهبة، شوقًا إلى ضريح محمد وكعبة الله، إلى «عدو المسيح» و«قاتل الإله»؟!
لا شك أن صاحب «جناح جبريل» و«أسرار الذات» وجد عند صاحب «الإرادة الحرة والقدر» و«إرادة القوة» ما كان يبحث عنه؛ وأن ذلك الذي وجده عنده هو سبب احتفائه الكبير به في كتابه الأخير «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، واصفًا إياه بالعبقرية، ومضفيًا عليه صفات الأنبياء.
لقد كان إقبال يتقاسم مع نيتشه غضبَه على الكهنوت، وكراهيته لأخلاق الخنوع والضعف التي يغرسها الكهنوت في صفوف المجتمع؛ وأكثر شيء وحَّد فيلسوف الشرق بفيلسوف الغرب هو غضبهما الشديد من فكرة «القدَر»؛ ففي حين يصيح الأول في وجه المسلم الذي كبَّلته عقيدة القضاء والقدر المحرفة: «ويلك!! أنت هو القضاء.. أنت هو القدر.. لا يستطيع القضاء ولا القدر أن يركب ظهرك، إلا إذا وجدك منحنيًا»، يعلن الثاني على لسان «زارا» العائد من الجبل: «الكون يتجدد كل يوم، والحقائق تعيد إنتاج ذاتها، إنه العود الأبدي.. الشعرى والعنكبوت وأفكارك التي تكررها بلا سأم، والسوبرمان نفسه.. حياتك كالساعة الرملية تمتلئ وتغور، ولن تنتهي إلى الأبد.. أنت حبة ستتلألأ إلى الأبد».
الواقع أن ما وحَّد الفيلسوفين الشاعرين هو المعاناة التي تعيشها الإنسانية عموما من مآسي مآلات الأديان، والتي انتهت إلى احتقار الإنسان وإذله، في الوقت الذي كان عليها أن تكرمه وترفع شأنه.
لقد عانى الشرق كما عانى الغرب من أخلاق الذلة والهوان التي تكرّسها المدارس الدينية المختلفة في كل شيء إلا في تركيع الناس للمترفين وأعوانهم من رجال الدين.
لذلك كان إقبال يرى في فيلسوف «السوبرمان» والإنسان الأعلى، مشروع ثورة حقيقية جارفة، تجتث في طريقها كل مظاهر الوهنٍ والضعفٍ؛ فتحرر النفوس من الأغلال التي كبَّلها بها الكهنوت، كي يتمكن الإنسان من السعي في الأرض والمشي في مناكبها إعمارًا و إصلاحًا كما أمره الله.
والحق أن نيتشه لم يقتل الإله؛ نيتشه بكى عليه فحسب، كما يقول الجبران؛ والذي «قتل الإله» هو الكنيسة كما يصرح بذلك الدكتور الطيب بوعزة؛ وبالتالي فنيتشه لم يقل شيئًا جديدًا بالمرة، وإنما الجديد هو أنه رفض ذلك الإله المصلوب العاجز عن حماية نفسه، قائلا: إن أمة هذه آلهتها لن تنهض أبدًا.
فالإله الحق هو من يحمي عِياله، لا من يستسلم أمام أعدائه؛ فإذا أصبح هو نفسه عاجزًا عن حماية نفسه، فعلى الأبناء أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، وأن ينسوا أمر أبيهم الذي صُلب، وأن يتخلَّوا فورًا عن وصايا الأب بالتواضع والسكينة والتسامح؛ فماذا عساها أن تفعل الحملان الصغيرة أمام الذئب الشديد، وهل يُطلب منها أن تكون متسامحة أو مسالمة تجاه عدوها!؟
والمخجل في القضية هو أن كل الحيوانات طورت أنفسها، وأنتجت شكلًا جديدًا من الحياة أكثر قوة وتلاؤمًا: الزرافة والحصان والأفعى والأسد، كلها تجاوزت مكانها الذي كانت فيه، حين حافظت على الأقوى من عناصرها وجيناتها، وداست بأرجلها على الواهن العاجز الضعيف، في حين بقي الإنسان أسير وهنه وعجزه، ولم ينجح قطّ في خلق نفسه من جديد.
متى يستفيق الإنسان من وهمه، ويركل في ربه كل تلك الأوهام السخيفة، ويستأنف انطلاقته العُلوية ومعراجه؛ فيسمو فوق سجَّانيه، ويعلو على مُكَبِّليه؟!
إنه لأمر مخجل حقًا، ألا تتمكن البشرية من الوثوب على تاريخها السيء، وتجاوز واقعها الأليم. والحق أنه ليس نحن من علينا أن نخجل من ماضينا كقرود، بل على القرود أن تخجل من مستقبلها كإنسان عاجز وضعيف، كما هو حالنا اليوم! ليس غريبًا أن يتأثر فيلسوف وشاعر شرقي مسلم بفيلسوف وشاعر غربي يوصم بكونه زنديقًا وكافرًا. وليس غريبًا أن يقتبس رجل مسلم فلسفة تبدو مناهضة لكل الأديان، وثائرة على كل المعتقدات.
ولكن العجيب في قصة الفيلسوفين الشاعرين، أن إقبال لم يكن راضيًا كفاية على تمرد نيتشه، ولم يقنع منه بأن يدمر كل الأطر والمرجعيات، ويمحو مِن على الأرض كل القوالب والتصنيفات، ثم «يقتل الإله» أخيرًا، ويدخل مستشفى المجانين.
ذلك أن إقبال -في كتاب تجديد الفكر الديني- لم يكن يرى غضبة نيتشه كافية لرسم ملامح الثورة الهادرة التي يريد، والتغيير الشامل الذي يطمح إليه! لقد كان يريد مزيدًا من غضبه، ولكن في الوقت نفسه لم يكن يريد جنونه وانتحاره!
وحسب إقبال فـ«نيتشه» عبقري عظيم لم يتمكن من إخراج كل طاقاته، ونبي من أنبياء العصر خانه حواريوه، ولم يكن له من سند يقوي ظهره، فكانت نهاية فيلسوف القوة في غاية الضعف ومنتهى الهوان. رحل وحيدًا غريبًا؛ كالتائه في غابة لم تطأها قدم حسب تعبيره؛ من دون أتباع ولا مريدين طائعين، ولا حتى أسياد وأئمة آمرين! حرموه ليس من نعمة الرفقة والصحبة في العلم، ونعمة الأتباع والمريدين، بل حرموه أيضًا حتى من أن يكون تابعًا مطيعًا! تركوه يصرخ سدى: أنا وحدي.. أنا في الحاجة إلى العون.. أنا في حاجة إلى أتباع ومريدين.. أنا في حاجة إلى سيد.. ما أحلى أن نطيع!
يهدف التأويل في معناه إلى فهم حقيقة النص وأن معانيه في الفلسفة تعددت وأصبحت تعني بما وراء منتج النص واختلطت مع التفسير في الفلسفة العربية خاصة في بحوث القرءان ومن بين فلاسفة الإسلام ابن رشد احتلت اشكالية التأويل عنده مكانة هامة اعتبرها من أهم المناهج الفلسفية، وأن التأويل لابد أن يعتمد على برهان عقلي ليكشف على معنى باطني اعتمادا على العقل والمنطق. من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي : 1. الهدف من التأويل عند بن رشد هو بلوغ اليقين وعدم الشك أي المعنى الباطني مرتبط ارتباطا وطيدا بالكتاب والسنة . 2. اعتمد ابن رشد بفضل القياس البرهاني من شرح وتفسير نصوص أرسطية. 3. اكد ابن رشد انقسام الشرع إلى ضاهر وباطن وهو مراعات تفاوت مستويات الناس في قدراتهم على الفهم. 4. حدد ابن رشد قوانين للتأويل وذلك من أجل أن لا تتسرب الفوضى ومن أجل الحفاض على مقاصد الشرع.
لقد كان الاهتمام بتحديد مفهوم التأويل في العديد من الحقول المعرفية. لذلك كان يجب علينا كباحثين في الحقل الفلسفي أن نستكشف حقيقته في هذا الحقل من خلال فيلسوف بحث فيه في إطار الفكر الفلسفي الإسلامي، وهو ابن رشد، وهذا لا يعني أنه أول من تناول هذا المفهوم داخل العالم العربي الإسلامي حيث نجد أن هناك العديد من المفكرين في مختلف الميادين الفكرية قد تداولوا هذا اللفظ، خاصة وأن لفظ التأويل موجود في القرآن الكريم: "ويؤكد حضور الدال تأويل في القرآن الكريم أقدم نص عربي موثوق في صحته سبع عشر مرة٨ "[1]
وابن رشد يعد من أشهر الفلاسفة المسلمين الذين عالجوا قضية التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وقد بين أن الشريعة تدعو إلى النظر لذلك فهو يقول: "وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد فيه الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"
ثم يبين أن في الشرع المسكوت عنه يوازي المسكوت عنه من الأحكام إذ يقول:" فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به فإن كان مما قد سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها بالقياس الشرعي". فالمسكوت عنه في الشرع هو عند ابن رشد المحفز للتأويل خاصة عندما يخالف ظاهر النطق ما توصل إليه البرهان وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا له، فإن كان موافقا، فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله".
ونفهم من خلال هذا أن ابن رشد يعلن عن التأويل للفصل في قضية مخالفة البرهان بظاهر النطق في الشريعة، وهنا نتساءل هل غاية ابن رشد كانت نصرة البرهان أم اكتشاف آلية التأويل والتي من شأنها أن لا تشوه الشريعة؟
سنتقصى ذلك من خلال الكشف عن أسس التأويل عند ابن رشد انطلاقا من تعريفه للتأويل وهو يقول: "ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة في الدلالة المجازة – من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز- من تسمية لشيء يشبهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي"
إذا كان التأويل عند ابن رشد هو فعل الإخراج الذي يتم على مستوى التعامل مع الألفاظ القرآنية فهو يشترط أن لا يخرج ذلك على نطاق قوانين اللغة العربية، وليس هذا فحسب بل هو يصر على أن لا يتم ذلك إلا بالالتزام بهذا الأساس، حيث يقول: "ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان خالفه ظاهر الشرع. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"
من هنا يتبين أن ابن رشد في تعريفه للتأويل قد أكد على خصوصيته انطلاقا من أن القرآن الكريم ألفاظه عربية بحيث لا يجب على المتأول أن يتعامل مع النص القرآني بقوانين تخرج عن نطاق اللغة العربية وهذا إدراكا منه بخصوصية اللغة العربية من جهة وللإعجاز القرآني في ورود اللفظ، يقول الجابري: "هذا القيد اللغوي ضروري حتى لا يجنح التأويل إلى أمور بعيدة كل البعد عن مجال الخطاب القرآني"
لذلك يرى الجابري أن "الضابط الأساسي في هذه عملية هي القواعد التي تحكم أساليب التعبير في اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وبذلك يكون التأويل صناعة لغوية في جزء منه".
التأويل والمنهج العقلي:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
خصص ابن رشد فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة لفحص قضية التأويل وأصح تأويل في نظره هو ما ينتج عن القياس المنطقي، كما يبين أن التأمل في الوجود أساسه عقلي حيث يقول: "فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي". وليس هذا فحسب بل نجد ابن رشد يصر على أن العقل هو مطلب شرعي فيقول: "أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأتم القياس وهو المسمى برهانا".
لذلك يجعل ابن رشد المنهج العقلي الذي يعتمد البرهان في الأساس هو المنهج الوحيد الذي بإمكانه أن يستخدم في التأويل "فالعلم البرهاني في الأساس هو الذي يجعل الشريعة منسجمة مع العقل ومتسقة فيما بينها فما خالفه من النصوص يسلط عليه التأويل".
لكن إذا كان التأويل لا يستخدمه إلا أهل العلم الذي يشترط فيهم امتلاك البرهان فبالضرورة سيكون أحد التأويلات إن لم نقل أهمها، فالتأويل هو جوهره ربط النتائج بالمقدمات، داخل القول الديني نفسه، هو البحث عن المعنى، المقصود وراء التعابير المجازية والأمثلة الحسية وذلك بشكل يجعل مدلول القول الديني على وفاق ما يقرره البرهان العقلي "
وحسب ابن رشد البرهان هو كاشف للحقيقة "إن كان البرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله تعالى قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة." ولقد استفاد ابن رشد من المنطق الأرسطي في تأسيسه لنظرية التأويل وذلك باستخدام البرهان العقلي واعتباره أهم شرط للحصول على تأويل صحيح، وقد وظف في ذلك نظرية التوسط ونظرية الطرف المحايد الكونيتان باعتبارهما مشتقتين من البرهان العقلي ولذلك، فهما عامتان شاملتان يمكن توظيفهما في حل مشاكل فلسفية وكلامية وسياسية وتأويلية قد تكون مصدر فرقة الناس "
نجد أن ابن رشد في إطار استثماره المنطق الأرسطي في التعامل مع النص القرآني، يوظف التوسط والحياد مكونا اثنان من مكونات المربع السيمائي أو المسدس السيميائي وسيلة تأويلية وتوليدية في الوقت نفسه" لذلك نجد العقل الذي هو "أداة التفكير والتأمل والتدبر وبعبارة أخرى هو أداة التأويل".
المجاز والحقيقة:
◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇
إن ابن رشد من خلال تعريفه للتأويل يشير إلى المجاز والحقيقة ذلك "أنه مهما كانت أجناس النصوص وأنواعها وأصنافها فقد ترجع إلى القسمة المعروفة من كون الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز فإذا كان الكلام حقيقة صرفة خالصة فإنه لا يجوز تأويله، وأما إذا كان الكلام فإنه يجب تأويله حتى تتلاءم دلالة تعابيره مع المعقولية ."
نجد أن ابن رشد يؤكد على ثنائية الحقيقة والمجاز في النصوص وهناك من يقر أن ابن رشد لم يخرج في تعريفه للمجاز عن تعريف المتكلمين حيث يقول أبو زيد نصر حامد :"إن تعريف المجاز الذي يقدمه ابن رشد هو نفسه التعريف المتداول في دائرة المتكلمين المعتزلة أو الأشاعرة"
في حين أن ابن رشد في الأساس نظر إلى التأويل لدحض أفكار وتأويلات المتكلمين، خاصة التي لها علاقة بصفات الخالق،" وينتهي تأويل الصفات المعتمد على البرهان والمؤسس على ما بعد الطبيعة إلى أن الله سبحانه عقل خالص لا يعقل إلا ذاته، وذاته عقل بالضرورة " وقد بين ابن رشد من خلال العديد من نصوصه عدم مصداقية تأويلات المتكلمين، فهو يقول مثلا: "فالمتكلمين ليسوا في قولهم أيضا في العالم معتمدين على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا من العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصا أبدا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذا الآيات أن الإجماع انعقد عليه."
وقد أقر ابن رشد أن هذا النوع من التأويل قد أضر بالشرع، وهو بطريقة أو بأخرى معني بإيقافها وإعطاء البديل في هذا الإطار. حيث عمل على تقديم نظرية متكاملة في التأويل وهذا على الأقل حسب ابن رشد، وهو يستند في ذلك إلى آيات قرآنية من بينها قوله تعالى: ﴿ فَأمَّا اْلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾
لذلك كان موقف ابن رشد من المتكلمين في مسألة التأويل موقف الناقد ” وأسند ما عرض الشريعة في هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره، قالوا إن هذا التأويل هو المقصود، وإنما أتى الله به” هناك من ينتقد ابن رشد في هذا الإطار، فإنه إذا كان ابن رشد يؤسس لتأويل على البرهان وذلك إذا كان البرهان هو المعرفة اليقينية فمن الضروري أن يكون البرهان هو أساس التأويل ومعياره ” فإن هجوم ابن رشد على المتكلمين وعلى تأويلاتهم التي سببت الاضطراب والفساد وشوهت العقيدة، ليس مبررا ولا مفهوما إذا كان المجاز هو قانون التأويل لأن هذا بالضبط هو قانون التأويل، لأن هذا بالضبط هو القانون الذي حكم تأويلات علماء الكلام “ لكن هناك من يرى أن ابن رشد في نظريته للتأويل مازج بين البرهان والبيان فإننا نجد البيان عند ابن رشد ممتزجا بالبرهان، والبرهان مندمجا في البيان وهذا ما سوغ لنا أن ندعوه التأويل ” البرها – يان ” نحتا من كلمتي البرهان والبيان “ وإذا كان ابن رشد قد اهتم بالمجاز فلأنه لا يمكن لأي لغة أن تخلوا من المجاز خاصة اللغة العربية كما أن القرآن الكريم نص عربي “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان: الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، الثاني أن يوافق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها” وبهذا المفهوم يكون التأويل عند ابن رشد قد استفاد من كل الأسس المعرفية التي من شأنها أن تقدم تأويل صحيح “فالتأويل هنا فك شفرة لنص من أجل فهم العالم الذي تمثل اللغة ظاهر النص القرآني تعبير المجازي “ ويتجلى الإبداع الرشدي في تأسيسه لنظرية التأويل في قدرته على استعانته على أسس برهانية وبيانية دون أن يخل بقواعد اللغة العربية ولا بالمبادئ العقلية.
التعددية وثنائية الظاهر والباطن:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لقد قسم ابن رشد الناس إلى ثلاثة أصناف حسب درجة الإدراك. هناك من يصفهم بأهل الخطاب، والصنف الثاني أهل الجدل أما الصنف الثالث، فهم أهل البرهان وحسب ابن رشد أن هذا التقييم يظهر فيه اللطف الإلهي على البشرية. كما أن هذا الاختلاف يعود في الأساس إلى الفطرة والاكتساب أو إليهما معا إذ يقول: "فقد تلطف الله فيها لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، إما من قبل فطرتهم، وإما من قبل عاداتهم، وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم "
وابن رشد يقر بوجود التعددية، "فالتعددية، تلك القائمة في طباع البشر لاختلاف عاداتهم، ومرجعيا أمر حرصت الشرائع على التعامل معه وصفة حقيقة سابقة عليها، ولم تسعى الشرائع لإلغاء التعددية وللقضاء عليها بدليل أنها انطوت في بنية خطابها، الخطاب الإلهي على تعددية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحا لأفاق التأويل والفهم".
ولقد تضمن النص القرآني كل مستويات الخطاب مراعيا في ذلك أصناف البشر الثلاثة، وحسب ابن رشد "بأن ضرب لهم أمثالها وأباحها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعنى الجدلية والخطابية "
إن فكرة التعددية كانت سبب في انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن فيقول "فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني التي لا تتجلى إلاَّ لأهل البرهان "
ولذلك فإن أهل البرهان هم المختصون بالباطن دون غيرهم، وعلى هذا النحو من التمييز بين الظاهر والباطن فإن الظاهر لا يحتاج إلى تأويل. بل ذهب ابن رشد في هذا الشأن إلى انه من اعتمد التأويل في الظاهر كفر، فيقول: " وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل، وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول والمتأول له كافر". فابن رشد يحرص على أن هناك ظاهر من الشرع محظور التأويل :"فقد ظهر من قولنا أهمها ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله، فان كان تأويله في المبادئ، فهو كفر وان كان فيما بعد المبادئ، فهو بدعة وهنا أيضا يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم بدعة".
كما بين ابن رشد أن هناك صنف ثالث بين الظاهر والباطن حيث يقول: "ههنا صنف ثالث في الشرع متردد بين هذين الصنفين فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالبرهان الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي يجوز حمله على الظاهر، وذلك لعواصة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذا معذور، أعني من العلماء.
ويمكن أن نقول أن هذا الصنف لا هو باطن يحمل معناه على الظاهر، ولا هو ظاهر يجوز تأويله إذن هذا الصنف يبقي بين ثنائية الباطن والظاهر، "فهذه التعددية المنعكسة في تعدد مستويات الخطاب الإلهي من شأنها أن تفضي إلى تعددية التأويلات ".
وإذا كان التعدد صفة بشرية، فهذا لا يتعارض مع الوصول إلى فكرة التوحيد، والتي يتأسس عليها النص القرآني، "وهكذا تقضي التعددية إلى التأويل من حيث جذورها واحدة في الحكمة الإلهية". وهذا يعود في الأساس إلى خصوصية النص القرآني "فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسه."
ولما كانت فكرة التوحيد غاية المؤمن مهما كان الصنف الذي ينتمي إليه من حيث درجة التصديق، "فيبدو أن ابن رشد كان حريصا أشد الحرص على الضوابط المعرفية التي لا تلغي التعددية
وحسب أبو زيد نصر حامد " أن ابن رشد إذا كان محور فلسفته هو إبراز عدم الاختلاف بين الحكمة والشريعة، وهو يؤكد عدم الاختلاف كان يؤصل للتعددية والاختلاف بين البشر".
وقد كان ابن رشد مؤيدا للتعددية والاختلاف باعتماده على العقل وهي الآلية نفسها التي اعتمدها في التأويل، " فهو يؤكد أن رفع الاختلاف لا يتم إلا بآليات العقل الإنساني لاكتساب المعرفة البرهانية اليقينية من جانب، ولتأويل ما يتعارض مع هذه المعرفة تأويلا صحيحا من جانب آخر".
وهكذا عمل ابن رشد على تأسيس نظرية التأويل بشكل لا يتنافى مع الأسس العامة للمعرفة." و بهذا المعنى وحده يمكن اعتبار ابن رشد ممن أعادوا البناء والتأسيس للعلوم الدينية الفقهية والكلامية، أي انطلاقا من رؤيته للنص القرآني كفضاء دلالي متعدد الاحتمالات والدلالات، وباستعمال المنهج "التأويلي" لا "الظاهري"،في فهمه والتعامل معه" إن التعددية التي شملت البشر قد تعدت إلى التأويل، فإذا كان تعدد التأويلات في فهم النصوص الدينية أمر مشروعا، فإن الاختلاف في شؤون الحياة والمجتمع تكتسب تعدد التأويلات المشروعة أعمق أصناف إلى مشروعيته العقلية الخالصة "
وعليه فإنه سيكون لكل صنف من الأصناف البشرية نوع من التأويل وهذا ما يصرح به ابن رشد، " فإذا الناس في الشريعة على ثلاث أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرف هذا النوع من التصديق"
ونفهم من هذا أن هناك من هو محروم من امتلاك التأويل، وهذا دائما حسب ابن رشد لأن هذا الصنف قدراته العقلية في التعامل مع النصوص محدودة . وهو الصنف الذي يقف عند حدود الظاهر في التصديق، " والصنف هو من أهل التأويل الجدلي وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة"
هذا الصنف حسب ابن رشد لا يرقى لأن يكون تأويل صحيح في حين أن النوع الأخير من التأويل عند ابن رشد هو المطلوب، " والصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة. أعني صناعة الحكمة."
التأويل المحظور:
ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لقد حرص ابن رشد على عدم التصريح بالتأويل لعامة الناس. حيث كان صارما في ذلك وهو يقصد التأويل اليقيني الذي يجب أن يبقى في دائرة خاصة، وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور. متى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو غير أهلها وبخاصة تأويلات البرهانية ليعدها عن المعارف المشتركة. افضي ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر"
وقد اعتبر هذا التأويل محظور لما ينتج عن الإفصاح عنه، وهو انتشار الكفر بعدما كانت التأويل تحقيق التوحيد، وقد بلغ الإفصاح عن مفهوم الظاهر ولقد لحظنا فاعلية الظاهر، وليس لأي بشر الصلاحية لإلغاء ذلك. لأن النص القرآني خطاب إلهي وهو محفوظ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
لذلك يقول ابن رشد: "والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر واثبات المؤول. فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إذا كان في أصول الشريعة."
ومن هذا المقام يستعين ابن رشد بما فعله الغزالي حيث يستدل بذلك حيث يقول: "بالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية، أعني الكتب إلى الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين كما صنع ذلك أبو حامد
ولهذا لا بد أن يبقى مفهوم الظاهر ثابتا عند جميع البشر بمختلف أصنافهم "ولهذا يجب أن يصرح ويقال عن الظاهر بنفيه للجميع وكون معرفة تأويله غير ممكن فهو ثابت لا يعلمه إلا الله [].....في قوله تعالى ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَهُ﴾
وابن رشد لا يمنع التصريح بالتأويلات الفاسدة فحسب بل حتى الصحيحة منها وذلك لعدم توفر هؤلاء على آلية الفهم "هذا أن أصرح لهم بتأويلات صحيحة في ذلك الأشياء بكونهم لا يفهمون ذلك التأويل، فضلا إن أصرح لهم بتأويلات فاسدة لأنه يؤول بهم الأمر إلى أن يروي أن هنا صحة يجب أن تحفظ ولأمر هنا يجب أن يزال، فضلا من أن يروي أنهما أشياء تحفظ الصحة وتزيل المرض."
وهكذا فإن ابن رشد يمنع التصريح بالتأويل للجمهور، وهو في الوقت نفسه يريد لهم المحافظة على الشريعة بل المحافظة على سلامة عقيدتهم الدينية ككل "لهذا ينتقد ابن رشد المتكلمين من المعتزلة والأشعرية الذين صرحوا بتأويلهم للجمهور، وفرقوا بين الناس وقد سبق الحنابلة ابن رشد في هذه المسألة وذموا الكلام". وهناك ردود متشابهة في تاريخ الفكر الإسلامي " فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يرد فيها على تأويلاتهم، بل يؤول بعض آيات القرآن التي تهاجم المؤولة على أساس أن المقصود بها الخوارج."
في حين نجد أن علي حرب يرى أن ابن رشد يلغي ميزة العقل عند عامة الجمهور، فيقول: "وهكذا نقرأ دعوة ابن رشد إلى عدم التصريح بالتأويلات أمام العامة، فنتأولها على أنها تعني أن الجمهور لا يعقل."
نلاحظ أن هذا القول مبالغ فيه لأن ابن رشد قد وضع هذه المسألة خاصة وأنه استند في هذا النص القرآني نفسه " فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسجوهذا قد صرح به أيضا علي حرب نفسه لذلك لا يمكن الحكم على الموقف الرشدي. خاصة و "أن التأويل الذي اعد لإرشاد العوام... هو تأويل يؤكد على شرعية الدعوة ويحميها."
قانون التأويل:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
إن اهتمام ابن رشد الشديد بالتأويل جعله يضع له قانون، فهو يبين تصنيف المعاني في الشرع، فيقول: “إن المعاني الموجودة في الشرع توجد خمسة أصناف، وذلك أنها تنقسم أولا إلى صنفين وينقسم الآخر منهما إلى أربعة أصناف.” وإذا اهتم ابن رشد بتصنيف المعاني في الشرع فلقد عنى ابن رشد بتحديد وظيفة اللفظ في النص وحدد الألفاظ ومصدرها في أربعة يقول: “وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة ثلاثة متفق عليها ورابع مختلف فيه.” وذلك أن التأويل الرشدي غايته الكشف عن الحقيقة، وهذا من خلال اهتمام بالمعاني والعمل على تصنيفها، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالألفاظ و تصنيفها هي الأخرى، “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، والثاني وفق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها.” من هنا فإن ابن رشد قد استفاد من كل أنماط المعرفة التي درسها في حياته من معارف فلسفية ودينية، “وهو يؤسس مشروعية التأويل على أساس فقهي مكين كما يؤسس مشروعية النظر الفلسفي على الأوامر القرآنية بالنظر إلى التدبر والاعتبار في خلق السموات والأرض وهكذا فإذا كانت غاية ابن رشد الوصول إلى حقيقة واحدة من خلال التوفيق بين الحكمة والشريعة، وينتج عن ذلك القرار بنظرية في التأويل، فإن هذا التأويل هو في حد ذاته يتأسس على أسس شرعية فلسفية. أما تأسيس التأويل على أساس شرعي، فيعتمد بدوره كذلك على مقارنته بقياس الفقهاء في الأمور التي سكت عنها الشرع. حيث نجد ابن رشد يقول ويتساءل في نفس الوقت “وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالأحرى أن يفعل ذلك صاحب عمل البرهان ؟” ومن هنا نتساءل نحن بدورنا عن حدود ممارسة ابن رشد للتأويل في نصوصه الخاصة، بمعنى هل استطاع أن يحافظ على ماهية صاحب علم البرهان؟
قائمة المصادر والمراجع:
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
1- ابن رشد ، أبو الوليد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1، دار الشريفة، دون ط، سنة 1989. 2- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، سيراس للنشر. دون ط، سنة 1994. 3- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير مابين الحكمة والشريعة من اتصال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر دون ط. سنة 1982 . 4- ابن رشد، أبو الوليد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 1،سنة 1998. 5- أبو زيد نصر حامد،النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997. 6- أبو زيد، نصر حامد، التأويل والخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.ط 1، سنة 2000. 7- الجابري، محمد عابد. نحن والتراث، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، المغرب، ط 6، سنة 1993. 8- حرب، علي، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1995. 9- سالم عبد الجليل بن عبد الكريم، التأويل عند الغزالي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر،ط1، سنة 2004 10- مفتاح، محمد. التلقي والتأويل، المركز الثقافي، العربي الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 2001.
[1] نصر حامد، أبو زيد.النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997، ص
يرى بعض الباحثين أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، بينما يرفض آخرون هذا الرأي لأن علم الكلام –بحسب رأيهم- قد يشحذ الذهن، ويطور مهارة الجدل، غير أنه لا يقود للتفكير العقلي المنظم، ويستشهد هذا الفريق بالصراع بين الفلسفة وعلم الكلام، بالرغم من تبني علم الكلام للكثير من المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، حيث كان ذلك كنوع من تبادل الأسلحة بين المتعارضين.
وثمة رأي آخر يرى أن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل هذا أقرب الآراء للاعتدال، فالفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي، بيد أن هذه الملامح غارقة وسط الاقتباسات الكثير لأفكار اليونانيين، على أنه لا بد من القول إن الفكر لا يمكن أن يحتفظ بطابعه الأصلي عند انتقاله إلى بيئة أخرى.
موقف المسلمين من الفلسفة اليونانية
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
لم يكن الفكر اليوناني الذي بدأ بالدخول في المجال الإسلامي في بدايته صريح التعارض مع الإسلام، فقد ترجمت في البداية العلوم الفلسفية الطبيعية، والمنطقية، والأخلاق، واستقبلت البيئة الإسلامية ذلك بالترحاب، ولم يشتد الصراع بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية إلا عند ترجمة الكتب التي تتعرض للمشاكل الميتافيزيقية كالألوهية، ولم يتقبل علماء الكلام أن يكون النبي في كفة، مقارنة مع الفيلسوف في الكفة الأخرى، وأكثر ما أثار ثائرة علماء الدين المحافظين، ما فهموه من إمكان الاستغناء عن الوحي للحصول على معرفة مؤسسة من العقل وحده، والحقيقة أن التدليل على أحقية ما جاء به الرسول، بالقول إنه يمكن الوصول إلى مثله من طريق العقل، يعد في ذاته عملاً محموداً في نظر عالم الدين المتفتح الذي يسره أن يجد مبادئ دينه لا تعارض العقل، ولا تقف في سبيل الفكر، لكن هذا العالم المتفتح يؤكد على خصوصية النبوة فهي منحة إلهية لمصطفًى مختار، أطلعه مباشرة على الحقيقية، بصورة لا تحتمل شكاً ولا ارتياباً، والرسول ناقل أمين للحقائق الإلهية، ولو أمكن الفيلسوف فعل ذلك، فما من حاجة لمبلغ عن الله، وهنا جوهر المشكلة، حيث تبرز الحاجة لمعرفة مصدر أساس المعرفة أهو الدين أم العقل، وهذا الإشكال يوهم أن الدين لا يساير العقل، بل يخالفه، وهذا قول باطل بشهادة الدين نفسه، إن المشكلة تكمن في:
1- مدى وثاقة ما يوحى إلى النبي.
2- مدى أحقية العقل في مناقشة التعاليم والأفكار الدينية، بعد فرض صحتها.
3- أيهما أولى بأن يكون له اليد الطولى؟ الدين؟ أم الفلسفة والفكر الحر؟
للبحث في النقطة الأولى يتطلب التعرض لحقيقة النبوة ووظيفتها وضرورتها، وطبيعة الوحي، وأدلة إمكانياته، وبراهين صدقه…
والبحث في النقطة الثانية يستوجب عرض الأفكار والمبادئ والتعاليم ومدى قدرة العقل على تعليلها أو نقدها أو شرحها شرحاً يرضي الفكر، ويريح النظر، وينتج عن ذلك مشكلة التأويل التي قد تنتج فرقاً كثيرة، ومشكلة التأويل هي التي مكنت الفلاسفة المسلمين من التفكير في التوفيق بين الدين والفلسفة.
وقد يبدو غريباً أن يعمل الفكر ضمن تعاليم أصبحت عقيدة، ويوصف مع ذلك فكرها بالحر، وهنا نقول إن الحرية الفكرية المطلقة وهم وخيال، فالفكر لا يأتي من لا شيء، وثورة الفكر على مذهب معين تنتهي بالوقوع ضحية لمذهب آخر، وأشد الملاحدة ثورة على مبدأ الألوهية يقع فريسة لإلهه هو الذي اتخذه من الطبيعة أو الإنسان أو الحيوان ويشمل ذلك ذاته نفسها، ولنا أن نتأمل أن شك ديكارت بكل ما سبقه من أفكار وعقائد جعلته حبيساً لفكر مذهبه، الذي هو خليط من مذاهب أخرى، وليس مبتكراً سبقه العدم.
حتى الموقف اللاأدري بالرغم من عدم تحيزه لفكرة معينة، لا يمكن وصفه بأنه ينم عن حركة فكرية طليقة، لأنه أحجم عن ممارسة إيجابية فعالة، وبالتالي فحرية الفكر نسبية، تكثر أو تقل، تبعاً لاستعداد الفكر لرؤية الحلول الممكنة لمشكلة ما، ووجود الحلول لا يمنع الفكر من مناقشتها وقبولها.
استيعاب ومقاومة الفكر اليوناني وجدت الفلسفة اليونانية مقاومة في المحيط الإسلامي، لا باعتبارها تمثل فكراً حراً منزها، بل لأنها تباين الروح الإسلامية، ونجد هناك من تابعها وجعل لها اليد الطولى، ومن أعجب بها وسعى إلى التنسيق بينها وبين الدين، ولقد كتب أحدهم كتاباً جمع فيه أحاديث في مكانة العقل، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الأحاديث التي تتحدث عن العقل ليست دعوة للفلسفة اليونانية، فهذا من الخلط.
وفي القرآن آيات تدعو إلى التفكير والتبصر والتأمل في صنع الله، وهذه من مواضع اعتزاز المسلمين بتبني الإسلام وتشجيعه للفكر البناء الهادف غير المتحيز، وللأسف فقد أصيب الإسلام من بعض أنصاره المتزمتين، وليتهم أدركوا أن محاربة الفكر المنحرف لا تكون بإخفائه بقدر ما تكون بإظهار عواره وكشف تهافته.
لقد كانت قضية العلاقة بين العقل والوحي، وبالتالي بين الحكمة والنبوة، أو الدين والفلسفة، أو العقل والنقل، قضية حاضرة في المحيط الإسلامي، وقد حاول المفكرون أن يظهروا التوافق بين المصدرين، لكن معظمهم أخطأ حينما ظن التوفيق بين الدين والعقل، يعني التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية.
وبالرغم من اتفاق فلاسفة الإسلام على وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية إلا أنهم تباينوا من حيث تقديمهم لأحد الجانبين على الآخر، فقد قدم الكندي الوحي على الفلسفة، بينما سوّى الفارابي وابن سينا بينهما تقريباً، وكان لابن رشد رأي باستقلالهما من دون تعارض.
من هو الكِنْدِيُّ؟
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكِندي، وُلِدَ بمدينة الكوفة في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهو من قبيلة كِنْدة، أي أنَّ أصلَه عربيّ، ولذلك لُقِّبَ بفيلسوف العرب، وكان أبوه أميرًا على الكوفة. وقد حصَّلَ الكِنديُّ علومه -فيما يظهر- في البصرة ثم في بغداد، واشتغل بترجمة كتب اليونان إلى العربية، وبتهذيب ما كان يقوم غيره بترجمته من تلك الكتب، وعمل في قصر الخلافة ببغداد مُنَجِّمًا أو طبيبًا، غير أنه أُقْصِي آخر أيامه من القصر. وقد كان مُلِمًّا بعلوم عصره، ينزع في آرائه الكلاميَّة نزعةَ المُعْتَزِلَة، ومن المسائل التي كتب فيها بصفة خاصَّة قُدْرَةُ الإنسان على أداء فعل ما، هل هي تُوجَد قبل الفعل أو تكون معه؟ وكان يقول بالعدل والتوحيد اللذَيْنِ هما أميز ما يميِّزُ المعتزلة، وحاول التوفيق بين النُّبُوَّة والعقل، وقارن بين المِلَلِ المُختلفة مقارنةً انتهتْ به إلى أنَّها مُجْمِعَةٌ على الاعتقاد بأنَّ العالَم صادِر عن عِلَّة واحدة أزليَّة؛ هي الله
فلسفتُه
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
حدَّدَ الكندي -بجهده المُبَكِّر- مسارَ الفلسفة الإسلامية، ورسم لها الطريق، ووضع المنهج، وكوَّن له تلاميذ، بَثَّ فيهم من روحه وفكره؛ ما ساعدهم على نشر الفلسفة وإقبال الناس على دراستها. ولقد تمَّ له ذلك كلُّه تحت لواء الإسلام؛ فاستحقَّ أنْ يُطْلَقَ عليه اسمُ فيلسوف العرب والإسلام[3]. لقد كان على الكندي قبل كل شيء أن يضع تعريفًا واضحًا للفلسفة؛ ذلك أنَّ بعض الطوائف قد أساءتْ فهمَ هذا اللفظ؛ لاعتقادِهم أنَّ الفلسفة تعني -من جملة ما تعني- الكفر والإلحاد. ولهذا حرص الكندي على بيان ماهيَّة الفلسفة؛ حتى يُزيل هذا الفهم السيء لها. يرى الكندي أنَّ الفلسفة هي البحث؛ النظر العقلي الخالص الذي يهدف إلى كشف الحقيقة والوصول إليها. والفلسفة في هذا شأنها شأن الدين؛ لأنَّ الدين يؤدِّي بالإنسان إلى الوقوف على حقائق الأشياء؛ فالكنديُّ يجادل بداية؛ أنَّه لا يوجد ثمة تعارُض بين الفلسفة وبين الدين في الأصل. ويحاول أن يحدَّ الفلسفة؛ فيقول:
“إنَّ أعلى الصِّنَاعَاتِ الإنسانيَّةِ مَنْزِلَةً، وأَشْرَفَهَا مَرْتَبَةً صِنَاعَةُ الفلسفة التي حدُّها: عِلْمُ الأشياءِ بحقائقِها بِقَدْرِ طَاقَةِ الإنسان؛ لأنَّ غَرَضَ الفيلسوف في عِلْمِه إصابةُ الحَقِّ، وفي عَمَلِه العملُ بالحقِّ.
ولنحاول الآن سريعا الوقوف على أصول فلسفتِه ورؤوس أفكاره. تدور فلسفة الكندي حول الرياضيَّات والفلسفة الطبيعية. وعنده أنَّ الإنسان لا يكون فيلسوفا حتى يدرس الرياضيات؛ وقد طبَّق الرياضيات في بحوثه الطِّبِّيَّة وفي دراسته للموسيقى؛ فالطِّبُّ والهندسة يقومانِ على التَّناسُب الهندسيِّ؛ فالأدوية قِوَامُها تَنَاسُب في الكيفيَّات الأربع: الحار والبارد والرطب واليابس
ذهب الكندي إلى أنَّ العالَم مخلوق لله، وفِعلُ الله في العالَم إنما يكون بوسائط كثيرة؛ فالأعلى يُؤثِّرُ فيما دونه، أمَّا المَعْلُول فلا يُؤَثِّرُ في العِلَّة؛ لأنَّها أرقَى منه في مرتبة الوجود، وكل ما يقع في الكون يرتبط بعضُه ببعضٍ ارتباط علَّةٍ بمَعلُول. ونستطيع من معرفتنا بالعلل أن نتنبَّأَ بالمُستَقْبل؛ هذا لأنَّ كلَّ موجود في الكون يعكس سائر الموجودات كأنه مرآة لها؛ فإذا عرفتَ موجودًا واحدًا عرفتَ بقيَّةَ العالَم. وهو ذو مذهب عقليٍّ؛ إذ يرى أنَّ وجودَ المادَّةِ مرهون بتصوُّرِها في العقل؛ فما لا يمكن تصوُّره عقليًّا يستحيل عليه الوجود الماديُّ. ويذهب إلى أنَّ النفس الإنسانية جوهر بسيط خالد، هبطَ من عالَم العقل مُزَوَّدًا بذكريات من حياته في ذلك العالَم؛ فالنَّفس الإنسانيَّة من حيث جوهرها مستقلَّة عن مادَّة الجسم، لكنها مقيدة بمادته من حيث أفعالها؛ لأنَّ الجسم هو وسيلة الأداء. واتصال النفس بالجسم مصدرُ ألم لا ينقضي؛ لأنه مصدر رغبات كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها جميعًا؛ فمن شاء نعيما حقيقيًّا عليه أنْ يستغرق في تأملاته العقلية، وفي طلب العلم، وتقوى الله. أما عن نظرية المعرفة عنده، فهي ثنائية؛ فالجسم قادر على إدراك الجزئيات بالحواس، والعقل قادر على إدراك الكُلِّيَّات
التوفيق بين الفلسفة والدين
ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
يملك الكندي أصالة الفيلسوف، وقد وجدتِ الفلسفة في كينونته الثقافية مكانها الراسخ الفاعل، ومن هنا كانت نزعتُه الفلسفية تضعه أحيانا على المُفْتَرَق الذي كانت ظروف مجتمعه تقتضي أن يتجاوزه بالفعل. إننا نكاد نُحِسُّ المعاناة العميقة الخفية عند الكندي؛ نعني معاناة الصراع بين انتمائه اللاهوتي ونزعته الفلسفية التي كان عليها أن تستجيب لظروف المجتمع العربي الإسلامي في القرن الثالث الهجري، ويبدو أنَّها كانتْ مؤهَّلةً فعلا، من حيث الإعداد الذاتي، أن تستجيب لهذه الظروف، لولا سيطرة الانتماء القويَّة[6]. ولعلَّ محاولتَه الجمع بين الفلسفة والدين إحدى تعبيراته عن هذا القلق وتلك المعاناة الكامنة. عُنِي الكندي بالتوفيق بين إيمانه وتفلسفه لا لدافع شخصي فحسب، ولكن ليُسَوِّغَ وجود الفلسفة، ويُكْسِبها حقَّ المواطنة في مجتمع يميل إلى رفضها، وربما كان مسلكُه في هذا التوفيق أكثر سدادًا من مسلك كلٍّ من الفارابي وابن سينا. والسؤال الآن: ما هي الدوافع والأُسُس التي أقام عليها الكندي محاولتَه في الجمع و التوفيق بين الفلسفة والدين؟ 1- إنَّ الدين يلتقي مع الفلسفة في الغاية. فالفلسفة تهدف إلى عِلْمِ الأشياء بحقائقِها بقدر طاقة الإنسان، وتلك هي نفسها غاية الدين التي يعمل عليها، وجاء بها الرُّسُل الصَّادِقون عن الله في مجال العقيدة والعمل؛ فالغاية واحدة، أو على الأقلِّ مُتَقَارِبَة، والموضوع أيضا كذلك متقارب. يقول الكندي: “ينبغي لِمَن أراد عِلْمَ الفلسفة أن يُقَدِّمَ استعمال كتب الرياضيات والمنطقيات على مراتبها… ثم الكتب على الأشياء الطبيعية… ثم ما فوق الطبيعيات، ثم كتب الأخلاق وسياسة النفس بالأخلاق المحمودة، ثم ما بقي مما لم نُحَدِّد من العلوم مُرَكَّب من الذي حدَّدنا”. وتلك المباحث بجانبيها النظري والعملي تقابل أحكام العقيدة والعمل في المباحث الشرعيَّة.
2- إذا كان منهج الفلسفة يقوم على العقل، بينما يستَنِدُ الدين (الإسلام) إلى الوحي؛ فإنَّ كلَّ ما جاء به الوحي (القرآن) يُمكِن في نظرِ الكندي أنْ يُفْهَمَ بالمقاييس العقليَّة، التي لا يدفعها إلا من حُرِمَ صورة العقل، واتَّحَد بصورة الجهل كما يقول. فالمنهجان مختلفان، ولكنهما لا يتناقضان على أي حال، بل يتضافران ويتكاملان. 3- والفلسفة كذلك لا تُعَدُّ بديلا عن الدين، تُغْنِي عنه، كما قد يذهب إلى ذلك بعض الملاحِدَة؛ فالفلسفة تُوصِلُ بعد الجهد إلى بعضِ الحَقِّ، وربما قصرت عن البعض الآخر. لذلك يؤلِّف الكندي رسالة في (تثبيت الرسل عليهم السلام)؛ لأنَّ النبوة فعل إلهي في نفوس الأنبياء، ولأنَّ علومها لدى من تأمَّلَها وأَحْسَنَ فهمَها تبدو موجَزة، بيِّنَة، محيطة بالمطلوب، قريبة المسلك إلى العقول والقلوب. 4- ولأنَّ الحكمة ضالة المؤمن، فلا ينبغي إهمال الفلسفة مهما كان حظُّها من تحقيق الغاية. والحضارة في نظر الكنديِّ لا وطن لها، وهي عمل تراكمي تسهم فيها جميع الأمم؛ لذا يقول: “وينبغي ألا نستحيَ من استحسان الحقِّ، واقتناء الحقِّ من أين أتى، وإنْ أتى من الأجناس القاصيَة عنا، والأمم المُبَاينة لنا”. ويقول:
“ينبغي أن يعظم شُكْرُنا للآتين بيسيرِ الحَقِّ فضلا عمَّن أتي بكثير عن الحقِّ؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسَهَّلُوا لنا المَطالِبَ الخَفِيَّة؛ بما أفادونا من المُقَدِّمات المُسَهِّلَة لنا سبيلَ الحق”.
5- وأخيرا، يلجأ الكندي إلى فكرة تَتَرَدَّدُ كثيرا في مجال الدفاع عن الفلسفة؛ هي أنه من الضروري لمن يعارض دراسة الفلسفة أن يدرسها هو أولا. والمعارض إما أن يقول أن اقتناءها يجب أو لا يجب؛ “فإن قالوا: إنه يجب، وجب طلبُها عليهم، وإن قالو: إنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا عِلَّة ذلك، وأن يُعطوا على ذلك برهانا[7]“. إن الناظر في فكر الكندي، يرى أنه لم يُحاوِل التوفيق بين الدين والفلسفة بمعناهما العام، ولكنَّه حاول أن يوفق ويجمع بين الإسلام المُتأثِّر بالفكر الاعتزاليِّ، وما ارتآه من الفلسفة اليونانيَّة؛ فهو أول من تبنَّى أرسطو من فلاسفة الإسلام، بل يعد المؤسس الأوَّل للفلسفة المشَّائية وواضع أصولها الأولى في السياق الإسلامي. لذا لم يكن غريبا أن يحاولِ الاستدلال على وجود الله، ووحدانيَّته، وحدوث العالَم عن طريق النَّظر الفلسفي وحده؛ ليوضِّح فكرتَه تلك؛ أنَّ إيمانه الخاص، وعقيدته الدينيَّة، يمكن الوصول إليها عن طريق النظر العقلي الخالص، دون اعتمادٍ على النصِّ وحده.
ولة الكندي (185 – 256هـ / 801-870مكان الكندي فيلسوف العرب الأول الذي واجه لأول مرة الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، حيث خالف أرسطو في نقطة الخلق والرعاية واتصال الله بالعالم وإحاطته علماً بذلك، فقد كان أرسطو يرى أن لا علاقة بين الله والعالم إلا في جانب العلة الأولى التي بدأ بها الحركة والحياة في العالم، وبعد ذلك لا يليق بالمحرك أن يتصل بالعالم، وكأنه لم يبق للإله إلا التأمل في ذاته.
فحيث قال أرسطو بقدم العالم، قال الكندي بحدوثه، وحيث يقطع أرسطو الصلة بالله والعالم بعد ذلك، يحتفظ الكندي بتأكيد دوام الصلة والرعاية، ويستند الكندي في كثير من آرائه للقرآن للترجيح.
مؤلفاته يلاحظ أن أغلب مؤلفات الكندي متصلة بالعالم الطبيعي وظواهره، ولم تظفر المسائل الميتافيزيقية برسائل كثيرة من إنتاجه، ولعل ذلك راجع لعدم قناعة الكندي بمعالجات الفلسفة اليونانية لهذه القضايا، لا سيما وأن الإسلام قد حسم هذه المشكلات الميتافيزيقية كأصل الكون، وحقيقة الخلق المباشر، والعناية الإلهية، وغيرها.
كما كان الكندي عالم كلام على مذهب المعتزلة، وهو بذلك مقتنع بالأدلة العقلية بشقيها المأثور الموجود في الوحي، وما أنتجته قرائح المتكلمين اهتداء بإرشاد القرآن، لذلك فكان للدين وللوحي والنبوة مكانة ترجح ما يأتي عبرها، على ما يأتي من سواها من فلسفات.
مهد الكندي للفلسفة في المحيط الإسلامي، وجعل الاشتغال بها ضرورة، لكنه لم يرجح آراء الفيلسوف على ما يأتي به النبي، ولم يفضل ما يأتي عن طريق الفلسفة على ما يأتي به الدين.
موقف الكندي من النبوة لم يقصر الكندي وسائل المعرفة على الحس والعقل، بل أضاف إليهما الإشراق الذي تمثل قمته النبوة، ويؤكد أن هذا العلم خاص بهؤلاء الذين اصطفاهم الله، وهذا الاصطفاء ينأى أن يكون ما يأتي به هؤلاء مكتسباً بالبحث والدراسة، فلو أراد الفيلسوف الإجابة عن ذات الأسئلة التي طرحت على الرسل؛ فلن يتمكن من الإجابة عليها بمثل الوضوح الذي أجاب به الأنبياء، ويمثل لذلك برد الوحي على سؤال (من يحيي العظام وهي رميم؟) فكانت خلاصة الآيات تبين أن العظام قد وجدت بالفعل، بعد أن لم تكن، وعليه فمن الممكن إذا صارت رميماً أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، وإن تساوى الأمران بالنسبة لله تعالى، فالقوة التي ابتدعت، يمكن أن تعيد ما أبادت، إن هذا من أعظم الأجوبة برأي الكندي، وهو ما حجبت عنه العقول الجزئية، ويوضح الكندي لرواد الفلسفة أن النبوة ليست إلا مظهراً من مظاهر العناية الإلهية بهذا الكون.
ويظهر لنا أن الكندي أعلى من صوت الدين، وعليه فلم يفكر بالتوفيق بين الطرفين إلا بعد أن تيقن أن الفلسفة الحقة كما عرفها: “علم الأشياء بحقائقها” (علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة…) لذلك فصلتها قوية بالدين، فعلم الأشياء بحقائقها هي خلاصة المهمة التي جاء بها الرسل، وبالتالي فقد جمع الكندي بين الدين والفلسفة الحقة على أهداف وحقائق واحدة، ويرفض الكندي من وسم اقتناء الفلسفة بمعنى علم الأشياء بحقائقها بالكفر، ويرى أن دراستها واجبة على أن تسير في ركاب الدين، وأن تخدمه بإخلاص، عبر إثباتها بالأدلة العقلية ما جاء به الرسل، لتنتهي بعد كفاحها إلى ما انتهى إليه الدين، في الحقائق الكبرى المتصلة بالإله والعالم، وبقية الغيبيات.
،المصادر والمراجع
التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 128، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014. [2] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 262:263، مكتبة الأنجلو المصرية. [3] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 111، مكتبة الأسرة 2016. [4] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 115:116، مكتبة الأسرة 2016. [5] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 263، مكتبة الأنجلو المصرية. [6] النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية – الكندي – الفارابي – ابن سينا، حسين مروة، ص 79:80، المجلد الرابع، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2002. [7] التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 18:21، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014.
إن كلمة «الفلسفة» ليست غريبة عن مسامعنا، فهي متداولة بشكل واسع في لغتنا اليومية، إلا أن استعمالها كثيرا ما يتميز بنوع من الاستهزاء والتهكم، حيث أنها توصف بالثرثرة والكلام الفارغ وغير المفيد، وتنعت بالتعقيد والغموض، والغريب هو أن الفلسفة تتوخى الوضوح والدقة حتى في الأمور التي يعتقد الناس عادة بوضوحها، كما أنها تتهم بكونها أفكارا غير مألوفة، والحقيقة أن في هذه التهمة نصيب من الصحة لأن التفلسف في أحد معانيه هو خروج عن المعتقدات السائدة، والأفكار المألوفة، ونحن ننطق كلمة «فلسفة» ندرك فجأة أننا نصدر كلمة يونانية الاشتقاق اللغوي، حيث يمكن تجزئة اللفظ اليوناني «فيلوسوفيا» إلى مفردتين وهما: «فيليا» وتعني المحبة، و«سوفيا» وتعني الحكمة، ومن ثمة تكون الفلسفة هي محبة الحكمة، والذي يمارس هذا التعلق بالحكمة يسمى «فيلوسوفوس» أي الفيلسوف، ولمعرفة الفلسفة معرفة وافية لا بد من الإجابة عن الأسئلة التالية:
كيف نشأت الفلسفة؟
ما أهم المراحل في تاريخها؟
ما هي مظاهر التفلسف؟
ما هي أدوات التفكير الفلسفي؟
نشأة الفلسفة
تقديم
عندما وعى الإنسان ذاته في هذا العالم تساءل حول حقيقة وجوده، ووجود هذا العالم من حوله، وبما أن تفكيره كان في مرحلته البدائية، فقد اكتفى ببعض الإجابات البسيطة، دينية وأسطورية، ترجع أصل العالم إلى صراع بين قوى غيبية (الآلهة)، لكن ظهر بعد ذلك رجال لم يقتنعوا بهذه الإجابات، فأعادوا طرح نفس الأسئلة، لكنهم قدموا هذه المرة إجابات تعتمد على العقل، هذه الإجابات هي التي تسمى “الفلسفة”.
فأين ظهرت الفلسفة؟ ومتى؟
لماذا ظهرت في هذا البلد دون ذاك؟
ما هي الظروف التي أدت إلى ظهور الفلسفة؟
إطار النشأة
الإطار المكاني
لقد ظهرت الفلسفة لأول مرة في بلاد اليونان التي تحدها جنوبا جزيرة «كريت» التي شهدت بداية الحضارة والمدنية، وشرقا آسيا الصغرى التي كانت تعرف ازدهارا صناعيا وتجاريا وفكريا، أما غربا فتحدها إيطاليا، وأخيرا تحدها من جهة الشمال مقدونيا، تتميز بلاد اليونان من الناحية التضاريسية بالحواجز الطبيعية كالمرتفعات (الجبال والهضاب) مما جعلها عبارة عن مناطق منعزلة، ومع صعوبة المواصلات فقد تطورت كل مدينة في استقلال عن المدن الأخرى، حيث اعتمدت كل مدينة على الاكتفاء الذاتي اقتصاديا، كما كان لكل مدينة نظامها السياسي الخاص وحكومتها المستقلة سياسيا، ودينها وحضارتها المتيزة ثقافيا، وأشهر مدنها مدينتي إسبرطة وأثينا، حيث تقع مدينة أثينا في شرق بلاد اليونان، مما جعل منها البوابة التي يدخل من خلالها ترف وحضارة مدن آسيا الصغرى إلى المدن الإغريقية الناشئة، وكانت تملك ميناء وأسطولا تجاريا بحريا كبيرا، بعد أن حولت أسطولها العسكري الذي ساهمت به إلى جانب إسبارطة لصد أطماع الفرس الاستعمارية زمن داريوس، فأصبحت من أعظم المدن التجارية في العالم القديم.
الإطار الزماني
لقد ظهرت البوادر الأولى للتفكير الفلسفي في بداية القرن 6 ق.م في مدينة ملطية على ضفاف آسيا الصغرى، حيث أقام الأيونيون مستعمرات غنية ومزدهرة، وقد كان ظهورها على يد طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمانس، الذين أرجعوا أصل الكون إلى قوى طبيعية: الماء، الهواء…، لكن الفلسفة بشكلها المكتمل لم تظهر إلا في القرن 4 ق.م بأثينا مع فلاسفة اليونان الكبار سقراط، أفلاطون، أرسطو.
فعل النشأة
لقد نشأت الفلسفة بفعل توفر سلسلة كاملة من الشروط في بلاد اليونان، ما بين القرنين 8 و4 ق.م وهي:
على المستوى الاقتصادي: نظرا لارتباط الإغريق بالبحر فقد ازدهرت لديهم الملاحة والتجارة والصناعة، مما أدى إلى بروز تقسيم العمل والمبادرة الفردية الحرة، كما ظهر النقد في المبادلات التجارية بدل المقايضة.
على المستوى الاجتماعي: ظهور الطبقات الاجتماعية نتيجة تقسيم العمل (الأحرار/العبيد) إضافة إلى ظهور المدينة – الدولة، التي سمحت ببزوغ عقلية جديدة، وقد اتسمت بالانسجام والتناغم، سواء على صعيد الفضاء الهندسي أو الجماعة البشرية التي تقطنها.
على المستوى السياسي: لقد تميزت المدينة اليونانية بسيادة الديمقراطية التي تمثلت في المساواة بين المجال الحضري والمجال القروي الذي كانت تشمله، فللقرويين والحضريين نفس الحقوق ونفس الواجبات، حيث يحتكمون إلى نفس المحاكم، ينتخبون نفس النواب، ويجتمعون تحت قبة نفس البرلمان.
على المستوى الثقافي: لقد كانت الثقافة مشتركة ومشاعة بين اليونانيين، ولم تعد امتيازا لبعض العائلات أو بعض الأدباء والمثقفين، نتيجة انتشار الكتابة الأبجدية التي أتاحت للمواطنين جميعا تعلم القراءة والكتابة، كما أن المجال كان مفتوحا أمامهم للمشاركة في الحفلات والحضور إلى المسارح للاستمتاع بجميع الإبداعات الفنية والأدبية.
على المستوى الفكري: لقد كان للديمقراطية السياسية، وإشاعة الثقافة تأثير على تطور الأفكار عند اليونان، فبعد أن كانت الحقيقة تعد سرا غيبيا يوحى، محروسا من قبل أسر معينة، صارت المعارف والتقنيات الذهنية معروضة أمام الجميع وفي واضحة النهار، وأصبحت قواعد العمل السياسي المتمثلة في الإشهار والنقاش الحر والحجاج، قواعد للفكر كذلك، تتجلى في نشر المذاهب والنظريات، وإخضاعها للنقد والمناظرة، وإعطاءها صورة استدلالية برهانية، وهذه هي مظاهر التفكير الفلسفي.
استنتاج
إن الفلسفة ليست معجزة إغريقية خص بها آلله اليونان دون غيرهم من الشعوب والأمم، وإنما هي ظاهرة تاريخية جاءت نتيجة تفاعل عدة شروط تاريخية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية.
لحظات أساسية في تطور الفلسفة
إن الفلسفة ليست استثناء يونانيا، بل إن هذا الشكل من التفكير الإنساني قد ظهر في حضارات ومجتمعات أخرى بعد أفول الحضارة اليونانية، كالحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الأوربية.
فما هي خصائص الفلسفة الإسلامية؟
وبما تتميز الفلسفة الغربية الحديثة؟
وما هي القضايا التي اهتمت بها الفلسفة المعاصرة؟
الفلسفة الإسلامية
تمهيد
لقد أنشأ الخليفة العباسي المأمون “بيت الحكمة”، وأمر بترجمة كل العلوم والمعارف اليونانية وعلى رأسها الفلسفة، مما أتاح للكثير من المفكرين العرب والمسلمين التعرف على التفكير الفلسفي، فاستوعبوه وأبدعوا فيه، فتمخض عن ذلك ظهور الفلسفة الإسلامية.
فما هي الفلسفة الإسلامية؟
وما علاقتها بالدين الإسلامي؟
وما موقف الشرع من التفكير الفلسفي؟
ماهية الفلسفة الإسلامية
تعتبر الفلسفة من أسمى الإبداعات الفكرية البشرية، ويعرفها الكندي بكونها معرفة حقائق الأشياء حسب قدرة الإنسان، لأن غاية الفيلسوف هي توخي الحقيقة على مستوى علمه وعمله، وأعلى درجة من درجات التفلسف هي الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا)، التي تعنى بمعرفة الحقيقة الأولى (آلله)، التي هي سبب كل الحقائق الأخرى، لأن علم العلة أي السبب، أهم من علم المعلول أي النتيجة.
العلاقة بين الفلسفة والدين
إن الأفكار الواردة في الملة الفاضلة (الدين) كلها حقائق، والحقيقة في نظر أبو نصر الفارابي هي ما تيقن منه الإنسان إما عن طريق البداهة أو ببرهان، والملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة، وبما أن الفلسفة فيها جزء عملي وآخر نظري، فإن الجزء العملي من الفلسفة هو الذي يعطي براهين (أسباب، وشروط، وغايات) الأفعال الواردة في الملة، كما أن الجزء النظري من الفلسفة هو الذي يعطي براهين الأفكار الواردة في الملة الفاضلة، إذن فالفلسفة حسب الفارابي، هي التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة.
موقف الشرع من الفلسفة
مدخل
لقد تم القضاء على الفلسفة في المشرق بسبب الحملة المعادية التي تعرضت لها على يد الكثير من الفقهاء والعلماء، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي الذي ذهب إلى حد تكفير الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، لكنها انبعثت من جديد في المغرب ووصلت أوجها على يد ابن رشد الذي دافع عن ممارسة التفلسف، ورد على الغزالي فلسفيا في كتابه “تهافت التهافت”، وفقهيا في كتابه “فصل المقال”.
الفلسفة عند ابن رشد
إن التفلسف في تصور أبو الوليد بن رشد هو نظر عقلي وتأمل في الموجودات، لغاية معرفة صانعها (آلله)، وذلك بواسطة الاعتبار، أي استخراج المجهول من المعلوم، وهو المسمى برهانا، لأنه كلما كانت معرفتنا بالصنعة أتم، كانت معرفتنا بالصانع أكمل.
فتوى ابن رشد
إن التعاطي للفلسفة حسب ابن رشد هو أمر مأمور به من جهة الندب (مستحب) بالنسبة لعامة الناس، ودليله في ذلك الآية التالية ﴿ أَولَم ينظُروا في ملَكُوت السّماوات والأَرضِ وما خلَق آللهُ من شيءٍ ﴾، ومن جهة الوجوب (فرض) بالنسبة للعلماء، ودليله في ذلك الآية التالية ﴿ فاعتبِروا يا أُولي الأَبصارِ ﴾.
استنتاج
إن العلاقة التي ربطت الفلسفة الإسلامية بالدين الإسلامي هي علاقة توافق وتكامل، على عكس الفلسفة اليونانية التي كانت متناقضة ومتصارعة مع الأساطير والمعتقدات الدينية لدى اليونان.
الفلسفة الغربية الحديثة
تمهيد
شهدت أوربا انطلاقا من عصر النهضة تطورا شاملا تمثل في تطور الرأسمالية اقتصاديا، وصعود البورجوازية اجتماعيا، وظهور الدولة الوطنية، وانتشار الحرية والديمقراطية سياسيا، وتشجيع الإبداع والعلوم، وانتشار المذاهب الفكرية ثقافيا، في خضم هذه التطورات ظهرت الفلسفة الغربية الحديثة انطلاقا من رافدين فلسفيين وهما رافد يوناني يتمثل في الرجوع إلى التراث الفلسفي اليوناني قصد غربلته، وإعادة إحياءه، ورافد إسلامي يتمثل في الاستفادة من إضافات وإبداعات الفلسفة الإسلامية، وخاصة الرشدية منها.
بماذا تتميز الفلسفة الغربية الحديثة؟
ما هي الخطوات التي ينبغي إتباعها للوصول إلى الحقيقة؟
الفلسفة العقلانية الديكارتية
إذا كان عامة الناس يصلون إلى الحقيقة بواسطة بحوث مضطربة تعتمد على الصدفة، فإن الفيلسوف في نظر رونيه ديكارت يصل إليها بواسطة منهج يعتمد قواعد يقينية، يبدأ بدراسة الأمور البسيطة والمنظمة، لينتهي إلى معرفة الأشياء المعقدة والصعبة.
الفلسفة النقدية الكانطية
إن العقل في تصور إيمانويل كانط عبارة عن مبادئ وتخطيطات خاصة تصدر أحكاما وفق قوانين ثابتة وضرورية، وينبغي عليه أن يتجه نحو الطبيعة ماسكا بإحدى يديه مبادئه، وباليد الأخرى التجربة، وأن يرغمها على الإجابة عن أسئلته لكي يبني الحقيقة.
الفلسفة الجدلية الهيغلية
لقد أحدث فريدريك هيغل منهجا ثلاثي الأبعاد في المعرفة أطلق عليه اسم الديالكتيك (الجدل)، يتكون من ثلاث لحظات وهي: القضية، نقيض القضية، التركيب، ينطلق من القضية التي تدخل في صراع مع نقيض القضية، فيصدر عنهما تركيب، هذا التركيب يتحول بدوره إلى قضية تدخل في صراع مع نقيض القضية، فيصدر عنهما تركيب، وهكذا دواليك.
استنتاج
إذا كان مركز الاهتمام في الفلسفة الإسلامية يتمثل في معرفة آلله، فإن الفلسفة الغربية الحديثة قد اهتمت أكثر بالإنسان، وقدرة الذات على الوصول إلى الحقيقة.
الفلسفة المعاصرة
تمهيد
إن التاريخ المعاصر الذي يعيشه العالم الآن قد بدأ انطلاقا من منتصف القرن 19م مع الثورة الصناعية بإنجلترا، وسيادة ظاهرة الاستعمار، وقد وصل حاليا إلى مرحلة تسمى العولمة، وقد تميزت هذه الفترة بسيادة العلم وسيطرة التكنولوجيا، والاهتمام أكثر بحقوق الإنسان، في هذا السياق الدولي ظهرت الفلسفة المعاصرة التي اتخذت بعدا كونيا.
فما هي القضايا التي اهتمت بها الفلسفة المعاصرة؟
الفلسفة والعلم
إن المعرفة العلمية في تصور إدغار موران ليست انعكاسا للواقع، بل ترجمة له، تحوله إلى نظريات متغيرة قابلة للتكذيب، لأن النظريات العلمية فانية، إن المعرفة العلمية تتطور على المستوى التجريبي بمراكمة «الحقائق»، وعلى المستوى النظري بإلغاء الأخطاء، إن العلم إذن هو معركة من أجل بلوغ الحقيقة من خلال الصراع مع الخطأ.
الفلسفة والإنسان
إن الإنسان في نظر جان بول سارتر كائن يتميز بخاصية أساسية هي الحرية التي تتمثل في قدرته على أن يخلق من ذاته ما يشاء في المستقبل، وإرادته في الاختيار بين كل الإمكانات المتاحة أمامه، كون هذه الحرية مرتبطة بالمسؤولية، وهي ليست مسؤولية اتجاه ذاته فقط، بل مسؤولية تجاه الإنسانية جمعاء، لأن الإنسان لا يختار الشر، بل ما يختاره دائما هو الخير لذاته ولجميع الناس.
الفلسفة والحقيقة
إن الحقيقة في تصور فريديريك نيتشه هي مجموعة حية من الاستعارات والمجازات والتشبيهات بالإنسان، لكن مع طول استعمالها غدت تتميز بالشرعية والسلطة والإكراه، إن الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك، إن الحقيقة تقتل، بل إنها تقتل نفسها كذلك عندما تكتشف أنها عبارة عن أوهام.
استنتاج
إن الفلسفة عندما ظهرت كانت غايتها هي البحث عن الحقيقة، لكن هذه القضية ظلت محور اهتمامها إلى حدود الفترة المعاصرة.
استنتاج حول المحور
إن الفلسفة منذ ظهورها قد عالجت قضايا متنوعة، لكن كانت تركز في كل فترة على قضية معينة أكثر من غيرها من القضايا، فالفلسفة اليونانية اهتمت بحقيقة الوجود، في حين ركزت الفلسفة الإسلامية على الأمور الدينية، أما الفلسفة الحديثة فقد كرست جهدا كبيرا لوضع منهج يوصل إلى الحقيقة، وأخيرا نجد الفلسفة المعاصرة اهتمت أكثر بنقد المعرفة العلمية.
مظاهر فعل التفلسف
تمهيد
إن كنا نقصد بالتفلسف طرح أسئلة حول حقيقة الذات والوجود، فإننا سنجده عند كل الناس، لأن كل فرد يطرح مثل هذه الأسئلة على ذاته، بل سنجده حتى عند الأطفال، أما إن كنا نقصد به طريقة خاصة في التفكير تختلف عن الطرق أخرى كالتفكير الخرافي – الأسطوري – الديني، والتفكير العلمي…، فإن للفلسفة معالم ومظاهر تميزها عن باقي الأشكال الأخرى من التفكير.
فما هي المظاهر الأساسية التي تميز التفكير الفلسفي؟
العقلانية في التفكير
إن التفكير الفلسفي يقدم ذاته كتفكير عقلاني، أي تفكير مبني على العقل، والعقل في تصور أرسطو ينبني على أربعة مبادئ أساسية وهي:
مبدأ الهوية
أ هي هي أ، ويقضي بأن الشيء يكون دائما مطابقا لذاته، فالجبل هو هو الجبل وليس نهرا، والوجود هو هو الوجود وليس عدما.
مبدأ عدم التناقض
لا يمكن ل: أ أن تكون في نفس الوقت لا – أ ، ويقضي بأن النقيضين لا يجتمعان، وأن القضية ونقيضها لا يكونان معا صادقتين، بل إذا كانت أحدهما صادقة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة، إذا كانت القضية أ = ب قضية صادقة، فإن نقيضها أ ≠ ب تكون قضية كاذبة بالضرورة.
مبدأ الثالث المرفوع
بين أ و لا – أ لا وجود لطرف ثالث، ويقضي بأنه لا وسط بين الصدق والكذب، فإما أن تكون قضية ما صادقة، وإما أن تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد، ومن جهة واحدة.
مبدأ السبب الكافي
لا شيء من لا شيءـ ويقضي بأنه لا يمكن لأي قضية أن تكون صادقة، ولا لواقعة أن تكون موجودة، دون سبب كافي يبرر لماذا تكونان على هذا النحو وليس على نحو آخر، وهو الذي يسمى بمبدأ العلية (السببية)، أي أن كل شيء موجود، الكرسي مثلا، لابد له من أربع علل وهي:
العلة المادية: المادة التي صنع منها الكرسي، أي الخشب.
العلة الصورية: صورة الكرسي، أي شكله وهيئته.
العلة الفاعلة: الصانع الذي صنع الكرسي، أي النجار.
العلة الغائية: الغاية التي من أجلها صنع الكرسي، أي الجلوس.
الدهشة الفلسفية
إذا كان الإنسان العادي يندهش من الظواهر الغريبة، فإن الفيلسوف يندهش من الأمور المألوفة والعادية، مثل الاندهاش من وجوده الخاص، ووجود العالم من حوله، إن الاندهاش من الظواهر العادية هو الذي يدفع الإنسان إلى التفكير الفلسفي، حسب شوبنهاور، إن الدهشة الفلسفية هي نتيجة لعدة شروط وهي:
درجة عالية من استعمال العقل.
الأمور المتعلقة بالموت.
التفكير في الألم.
التفكير في بؤس الحياة.
منهج الشك
لقد قدم لنا رونيه ديكارت منهجا إذا ما التزمنا بخطواته وشروطه سنصل حتما إلى الحقيقة، وهذا المنهج هو منهج الشك، أي الشك في كل الأحكام المسبقة، سواء التي ورثناها أو تلقيناها من العالم الخارجي، وخاصة تلك التي تبدو معقدة وغامضة، والتي تتشبث بنفوسنا تشبثا كبيرا، وأن لا نقبل إلا الأفكار البسيطة والبديهية، أي الواضحة بذاتها والتي لا تحتاج إلى برهان، فهذه الأفكار وحدها يمكن اعتبارها أفكارا حقيقية.
البحث عن الحقيقة
إن الفلسفة على حد تعبير اليونانيين نوع من المغامرة الاستكشافية التي نقوم بها لذاتها، إن جوهر الفلسفة هو البحث عن الحقيقة لا في امتلاكها، إن الاشتغال بالفلسفة حسب ياسبرز معناه المضي في الطريق، والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، فكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا.
استنتاج
إن التفكير الفلسفي ينبني على أساس العقل، ويتخذ الشك منهجا له، وإذا كان دافعه الاندهاش من الأمور العادية، فإن غايته هي البحث عن الحقيقة.
أدوات التفكير الفلسفي
تقديم
إذا كانت الفلسفة طريقة خاصة في التفكير كما ذهب إلى ذلك فريدريك هيغل، فإن هذا الشكل من التفكير له معالمه التي تميزه عن باقي الأشكال الأخرى من التفكير، وله نمط اشتغاله الذي يرتكز على مجموعة من الآليات والتقنيات الخاصة بالفلسفة.
فما هي الأدوات التي يستعملها التفكير الفلسفي؟
1-طرح السؤال
إن أهم أداة يقوم عليها التفكير الفلسفي هي السؤال، ويختلف السؤال الفلسفي مثل «ما هو الوجود؟»، عن السؤال العادي مثل «أين توجد المحطة؟»، بكون الأول يتجه نحو الأسس العميقة للموضوعات التي يعالجها، إن الأسئلة الفلسفية في نظر راسل تعمل على إغناء تصورنا للممكن، وإثراء خيالنا العقلي، كما تحارب نظرتنا الدوغمائية (المتحجرة) التي تؤدي إلى انغلاق فكرنا، وتعمل في المقابل على توسيع هذا الفكر ليصبح بشساعة الكون الذي يتأمله.
2-بناء المفهوم
يكمن موضوع الفلسفة حسب جيل دولوز في بناء وإبداع مفاهيم جديدة بواسطة الحدس، وتكون قادرة على حمل تصورات الفيلسوف الخاصة، إن المفهوم هو الأداة التي تنقل اللغة من مستواها العادي والطبيعي، إلى مستواها الفلسفي المجرد.
3-البرهنة والحجاج
تعتبر البرهنة والحجاج حسب كوسيطا من الأدوات المهمة في التفكير الفلسفي.
البرهنة: إن البرهنة هي إقامة علاقة ضرورية بين المقدمات والنتائج، ونبحث فيها عما إذا كان الاستدلال يأخذ صورة القياس ويستجيب لمقتضيات المنطق.
الحجاج: يبحث الحجاج عما إذا كانت قضية ما صادقة أو خاطئة بالنسبة للمتحاور، كما يهتم بكيفية تسلسل القضايا داخل النص.
4-النسقية
إن النسق في نظر إيمانويل كانط عبارة عن وحدة معارف مختلفة، خاضعة لفكرة تتمثل في المفهوم العقلي لصورة الكل، إلا أنه داخل هذا الكل تتحدد كل عناصره المختلفة، كما تتحدد مكانة كل عنصر على حدة، إذن فالنسق شكل عضوي، وليس مجموعة مبعثرة.
5-استنتاج
للتفكير الفلسفي أدوات خاصة به وهي: السؤال، المفهوم، النسق، البرهنة والحجاج…، وتشكل كلها سلسلة متكاملة تسهم في معرفة واستكشاف حقيقة الإنسان والوجود.
استنتاجات عامة حول مجزوءة الفلسفة
إن الفلسفة ظاهرة تاريخية نتجت بفعل تضافر مجموعة من العوامل الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية، وقد شهدت في تاريخها عدة مراحل، حيث اهتمت في المرحلة اليونانية بالقضايا الأنطولوجية (الوجودية)، في حين ركزت في المرحلة الإسلامية على العلاقة بين الفلسفة والدين، أما في الفترة الحديثة فقد كرست مجهودها لصياغة منهج يوصل إلى الحقيقة، لتنتهي في العصر الحالي إلى دراسة العلم والتقنية.
إن الفلسفة باعتبارها معرفة إنسانية، تتميز عن باقي الأشكال الأخرى من المعرفة بمجموعة من المظاهر، وعلى رأسها: العقلانية، أي ارتكاز التفكير الفلسفي على مبادئ المنطق، واعتمادها على منهج الشك، أي مراجعة كل قناعاتنا السابقة، ووضعها موضع تساؤل، إن الدافع الأساسي للتفلسف هو الاندهاش من الظواهر المألوفة والاعتيادية، أما غاية الفلسفة فهي البحث عن الحقيقة.
إن الفلسفة طريقة خاصة في التفكير تعتمد على مجموعة من الأدوات وعلى رأسها السؤال الفلسفي، والمفهوم، وهو الأداة التي تنقل لغة الفيلسوف من مستواها العادي والطبيعي إلى مستواها النظري المجرد، والبرهنة والحجاج، وهي آليات يوظفها الفيلسوف للدفاع عن مواقفه وتصوراته، وأخيرا النسقية التي تضفي على الأفكار الفلسفية نوع من الوحدة والتكامل.
إن الفلسفة تسعى إلى إنتاج قيم إنسانية نبيلة ومثل عليا باعتبارها غايات قصوى للوجود الإنساني، مثل: الإيمان بالاختلاف، والحوار، والتسامح والتعايش، ونبذ التعصب، واحترام حقوق الإنسان، والمرأة، والطفل، وذي الاحتياجات الخاصة… وهذا ما يوضح أن الفلسفة ليست مجرد ترف فكري لا علاقة له بالواقع الإنساني، بل هي معرفة مرتبطة بحياة الإنسان وسلوكاته.
آرثر شوبنهاور فيلسوف ألماني، يشتهر عادة بتشاؤمه تجاه الحياة بوصفها “بندولًا يتأرجح بين الألم والملل”، وقد عاش شوبنهاور بالفعل وحيدًا ومغمورًا في الجزء الأكبر من حياته، لكن وحدته أو معاناته الشخصية لم تكن كما يظن البعض سببًا أساسيًا في صياغة آرائه التشاؤمية عن الحياة، بل على العكس من ذلك، لم تكن حياة شوبنهاور -على الأقل في بدايتها- بذلك السوء الذي قد نتصوره، ويمكن القول بأن كثيرًا من الفرص كانت مُتاحة أمامه ليعيش حياةً أكاديمية وبرجوازية هادئة تُرضي جمهور الناس، فقد تلقى شوبنهاور تعليمًا راقيًا منذ صغره، وأتقن العديد من اللغات الحديثة والقديمة، كما ذهب إلى حفلات الرقص والمسرح في شبابه، ومارس الجنس مع الممثلات والخادمات وحتى العاهرات.
وأقامت أمه جوانا أيضًا صالونًا حضره كثير من المثقفين ومن بينهم الشاعر الألماني الكبير گوته، لكن آرثر كان على خلاف دائم مع والدته خصوصًا بعد وفاة والده.
حصل شوبنهاور فيما بعد على الدكتوراه من جامعة برلين، وكان مُقدرًا له أن يحظى بمسيرة تدريس هادئة لولا أنه اختار -بعناد وشجاعة وربما سذاجة- إلقاء محاضراته بنفس التوقيت الذي كان يُلقي خلاله فيلسوف ألمانيا الأبرز في ذلك الوقت جورج هيـگـل محاضراته، فلم يستمع أحد إلى شوبنهاور الذي قرر اعتزال التدريس والتفرغ للكتابة.
طرح شوبنهاور آراءه الثاقبة للغاية في العديد من المسائل، بدءًا بنظرية المعرفة وفلسفة العلم وصولًا إلى فلسفة الأخلاق والفن، وقد كان مُتأنيًا في تفكيره، مُقتديًا بالفيلسوف الألماني كانْت “العظيم” كما كان يحلو له وصفه، تحديدًا في ممارسة النقد الذاتي الصارم على أفكاره
كل شيء هو إرادة
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
يُميّز شوبنهاور بين نوعين من الحركة في الطبيعة: الناشئة عن دوافع، والناشئة عن مثيرات. تُشير الأولى إلى الحركات الناتجة عن فعل الإرادة الباطنية في الطبيعة، في حين تُشير الثانية إلى الحركات الناتجة عن تعرض حواسنا لمُثير طبيعي ما (مثل الضوء الذي يُثير نشاط العين) وتخضع لقانون طبيعي (فيزيائي).
لكن وفقًا له، فإن الحركات من النوع الثاني تحمل في باطنها النوع الأول، أي إنها إحدى تجليات الإرادة. ويُقدم دليلًا عميقًا على ذلك، فهو يرى على سبيل المثال أن انقباض عين الإنسان عند تعرضها لضوء زائد عن الحد يتخطى عتبة إحساسها يحدث بناء على مُثير لا شك أنه الضوء في هذه الحالة.
ولكن ذلك الانقباض يُعبر كذلك عن حركة مبنية على دافع للإرادة التي تريد حماية شبكية العين من الأثر المُؤذي والمُؤلم للضوء الشديد. ومن هنا تكون حركات وأفعال الجسد لدى شوبنهاور تجليات للإرادة، فما ندعوه لذة أو راحة ليس سوى ما يتوافق مع الإرادة، أما الألم فهو إحساس مضاد ومُؤرِق لها.
ولذا يُمكن وصف اللذة والألم بأنهما التمثلات الحسية المُباشرة للإرادة، أي أنهما بعبارة أخرى: انعكاس الإرادة على الجسم، واللغة التي تعبر بها الإرادة عن رضاها أو سخطها تجاه ما تتعرض له، أو بالأصح ما يتعرض له تجسدها المادي (جسد الكائن). ومن هنا يمكن فهم لِمَ يبدو الجسد البشري مُوافقًا وصالحًا لمجموعة من الغايات، فهي غايات الإرادة ذاتها، وهذا الجسد الذي يصفه شوبنهاور بأنه التحقق الموضوعي للإرادة. بعبارة أخرى، يُناظِر تركيب الجسم تمامًا الحاجات والرغبات الأساسية التي من خلالها تكشف الإرادة عن ذاتها.
فنحن -من وجهة نظر شوبنهاور- لا نجوع لأن لدينا معدة، وإنما لدينا معدة فقط لأنها تخدم غاية إحدى تمثّلات الإرادة العمياء أي الجوع. وهكذا، فإن “الأسنان والبلعوم والأمعاء هي جوع مُتجسد” كما أن “أعضاء التناسل هي دافعية جنسية مُتجسدة” وقد تمثلت في صورة أعضاء مادية. تنشأ هذه الدافعية بشكل مُسبق بفعل الإرادة الباطنية التي تتخلل كل أجزاء الطبيعة، ويظهر ذلك بشكل خاص في “الوظائف الحيوية لأجسامنا التي لا تكون مُوجَهة بالمعرفة، وفي كل ما تقوم به من عمليات حيوية وإنمائية: كالهضم، والدورة الدموية، والإفرازات، والنمو والتكاثر” التي تُمارس بوصفها انفعالًا غريزيًا توليديًا للخلايا الحية، وليس للمعرفة أي شأن به.
تُوجَد إذًا غايات (إرادية) تسعى إليها الحيوانات (بل والجمادات أيضًا) عبر سلوكها بطرق معينة دون أخرى، وهي طُرق لاواعية في الغالب، كما لو كانت (الغاية) دافعًا معروفًا بشكل مُسبَق لديها، لكنها تظل في الحقيقة على جهل بها.لذا فإن سلوكها لا يتوجه تبعًا للمثيرات الطبيعية فقط، وإنما بفعل تلك الإرادة الباطنية في الطبيعة التي هي اندفاع أعمى غير عاقل نحو الحياة. وهي التي تجعل “الطائر الذي يبلغ من العمر عامًا واحدًا يبني عشًا” بينما لا يملك أي فكرة عن البيض الذي يبني له ذلك العش، كما تجعل العنكبوت الصغير ينسج خيوط شبكته لأول مرة، في حين لا يملك أي فكرة عن أنها ستضمن له طعامه (الحشرات).
لكن ذلك لا يعني أن تلك الإرادة تُناظِر إلهًا، أو أنها إرادة واعية أقرها هذا الإله، فهي عفوية وعمياء تمامًا، كما أنها بلا معنى في ذاتها وهي “في ذاتها بلا سبب”، ولا علة أنشأتها وحددت لها غاياتها كما يُؤكد شوبنهاور، وذلك مصدر عبثية وخواء ولا-معنى العالم الذي أحدثته.
فلا يُمكننا أن نطابقها بإله ما أو نصفها بأنها إرادته الفاعلة في الطبيعة، وذلك لأن الإله لا يتجلى أو يتجسد في الطبيعة (إلا لدى المؤمنين بالحُلول وهنا سيصبح الإله هو الإرادة وقد سميناها إلهًا لا أكثر)، كما أن عشوائية الإرادة وتجلياتها التي بلا حصر تجعل من المستحيل أن يكون لها مُنظِم، أو أن يستوعبها عقل واحد مهما بلغت قدرته، فهي لا تختار رغباتها وفقًا لخطة مُنظمة وإنما تفعل بغرض الفعل، وتتحرك بغرض الحركة دون وجهة مُحددة، وتخلق أثناء حركتها رغبات عديدة مُتجددة بعفوية وفوضى تامة.
بالطبع، لم يُعارض شوبنهاور قوانين الطبيعة، ولم يرفض العلاقة بين الأسباب والمُسببَات (بل إنه شدد عليها شارحًا نظريته في العلة الكافية ببراعة شديدة في كتاب مُنفصل)، لكنه حاول البحث منذ البداية عن الطبيعة الميتافيزيقية للعالم، “الشيء في ذاته” الذي نفى أستاذه كانْت قدرتنا على سبر أغواره، والحقيقة التي تقف وراء الوجود، والتي تجعل سلوك قوة مُعينة بهذه الطريقة دون غيرها، وليس مُجرد تنظيم الظواهر في قوانين وهو ما يقوم به العلم. فالعلم لدى شوبنهاور هو ما يبحث فقط في عمل/سلوك الظاهرة، وليس عن “الطبيعة الباطنية لها”. فهو يُعرفنا على “الترتيب المُنظَم الذي وفقًا له تظهر حالات وشروط المادة” وما يُمكّننا من تفسير التغيرات الحادثة لها.
وهكذا، عندما يدرس العلم ظاهرة كالحركة، فإن كل ما يفعله هو ترتيب حالات وشروط حركة وسكون الأجسام في صورة قوانين تُمكنه في النهاية من تصميم شيء مُعقد كالطائرة النفاثة مثلًا، فقط لأنه قام بمراعاة نفس قواعد فعل وتنظيم الحركة التي استخلصها من مشاهداته وتجاربه على الأجسام المُتحركة، فعرف أنه عند فعل “أ” تحدث “ب”، أو عند ظهور “ج” فذلك لأن “س” حدث في وجود “ص”…إلخ. لكن ليس عند العلم الاهتمام ولا القدرة على أن يخبرنا بطبيعة الحركة في ذاتها، فهو يفترض على سبيل المثال “المادة، والوزن، وعدم القابلية للنفاذ، وقابلية توصيل الحركة بصورة مُسبقة، ويسميها قوى الطبيعة”، وهو قادر بالفعل على أن يُفسر بدقة كيف ومتى تفعل كل مُنها أو متى يظهر أثر كل قوة منها.
إذًا فقد مكننا العلم من معرفة سلوك وفعل القوة في الطبيعة، أما القوة الطبيعية نفسها التي يستعملها في التفسير فهي ما تزال سرًا يُقدِم العلم وصفًا وتصنيفًا لتمثّلها (عملها) في الطبيعة، لكنه غير قادر على أن يُخبرنا ما هي القوة بالضبط، فهو يتوقف عند “حدود الظاهرة ونظامها”، بحيث يُوضح كيف يستمر الإلكترون في الدوران حول النواة دون أن يسقط ويصطدم بها، وذلك بفعل التوازن الذي تُحدثه القوة الجاذبة للمجال الكهربي بينهما ضد قوة الطرد المركزي النافرة الناتجة من حركة الإلكترون، لكن لماذا نشأت منذ البداية مجالات كهربية بين الشحنات المختلفة وليست مجالات من نوع آخر لا نعرفه؟ أو لماذا تعمل دومًا سرعة دوران الأجسام على إبعادها عن مسار دورانها (الطرد المركزي)؟
بالتأكيد وضع العلماء معادلات دقيقة تصف حدوث ذلك وتردّه إلى عمل القوى الطبيعية المُختلفة، لكنها لا تصف الطبيعة الباطنية لتلك القوى التي تفرض عليها (بصورة مُسبقة) أن تخلق مجالًا دون غيره أو تُحدث تأثيرًا كالطرد دون غيره، تلك هي الطبيعة التي يسميها شوبنهاور إرادة، وهي تتخلل الكون بموجوداته الواعية واللاواعية على السواء. فحتى النباتات تتوجه بطرق لاواعية مُحددة دون غيرها بفعل الإرادة، تتيح لها إمكانيات النمو والتكاثر، كما أن المغناطيس يجذب المعدن بفعل الإرادة.
عزاء الموسيقا أو المادة الخام للإرادة
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇♡♡♡♡♡♡
في رأي شوبنهاور، تظل الإرادة في ذاتها وكما هي، خفية وغامضة لا نستطيع إدراكها كما هي، وإنما نُدرك تجلياتها وآثارها الجزئية فقط حتى نستمع إلى الموسيقا، فالموسيقا حضورٌ نقي للإرادة يجعلنا نشعر بباطن العالم، بذلك الجوهر الخفي علينا الذي نفشل في التعبير عنه من خلال اللغة التي هي في النهاية أحد تجسدات الإرادة الجزئية. فالموسيقا هي ما يمكننا وصفه بالمادة الخام للإرادة.
إنها كلٌ لا يُمكن تفكيكه في أفضل الأحوال سوى إلى أعداد، هكذا كان العدد هو فقط ما يلائمها بصفته أكثر الموجودات تجريدًا. وقديمًا ربط فيثاگـورس الموسيقا بالأعداد، جاعلًا من الأخيرة جوهر الوجود.
وجاء شوبنهاور ليجعل من الموسيقى أقرب ما يكون إلى الإرادة كما هي، دون تعديل أو تجزيء أو تجسد، وهذا السبب في أنها تغزونا، إذ أنها تشابه الكل الذي جئنا منه والأصل الذي تُمثل أجسادنا وعقولنا أحد فروعه وتمثلاته. هكذا كان روكنتان بطل رواية سارتر “الغثيان” يجد راحة مؤقتة من شعوره الدائم بالغثيان والملل عندما يستمع إلى أغنية “بعض هذه الأيام”، فهي تتخطى الوجود الطبيعي (الفيزيائي). وإذا عدنا إلى شوبنهاور فإنها تستبطنه وتزن أعماقه وتملأ فراغاته، فهي لا تشترط ذاتًا تُدركها، وإنما فقط تتحرك وتفعل وتدور بغرض الدوران وتسير بغرض السير، تمامًا كالإرادة. إنها أحد الملاجىء التي يدعونا شوبنهاور إلى اتخاذها ضد المعاناة والانتحار، فعلى الرغم من إعادة اكتشافه الإرادة، إلا أن شوبنهاور كان أشبه بباندورا المرأة التي فتحت صندوق الإله زيوس الذي يختزن أصول معاناة البشر من أصناف الشرور.
فقد وجد شوبنهاور أن الإرادة دومًا نهمة وساخطة لا ترضى وتطلب المزيد، فكلما حققت غاية، ملّت منها سريعًا وتاقت إلى أخرى جديدة، ومن هنا تنبع معاناة الشوق والانتظار والتعلق. لذا امتدح شوبنهاور البوذية والرواقية، وبنى عليهما أساس فلسفته الأخلاقية التي عبر فيها عن احترام عميق لحالة النيرفانا أو الأباثيا، وهي حالة السلام الذي يتحقق عبر التحرر قدر الإمكان من الرغبات والعيش في الحاضر. لقد كان شوبنهاور متشائمًا، لكن ليس بغرض الظهور أو ادّعاء الذكاء، وإنما لأنه أدرك أنه نادرًا ما تتحقق غايات الرغبة، وحتى إذا ما تحققت فإنها تبقى لأقل وقت ممكن وبعدها تزول، وما يبقى هو الروتين واللهث وراء الغايات دون طائل في معظم الأوقات.
من هنا وصف الحياة بأنها “بندول يتأرجح بين الألم والملل”، وقد اقترح الفن والزهد البوذي-الرواقي علاجًا لتلك المعاناة، وذلك لأن الإبداع الفني يشترط التحرر من الإرادة، أي التحرر من رغباتنا الجزئية أثناء تأمل العالم من حولنا دون غاية مادية نفعية، وإنما بغرض اكتشاف الجمال، وأيضًا لأن الزاهد البوذي-الرواقي يتحرر من عبودية الإرادة عبر تحرره من الرغبة وتكيفه مع تغير الأشياء والأشخاص وفقدانهم. لقد كان شوبنهاور فيلسوفًا شجاعًا فجر في هدوء حقيقة الوجود فوق رؤوسنا، فتطايرت شظاياه كاشفة عن مُجرد إرادة عمياء بلا معنى أو هدف سوى الاستمرار في الحركة التي تُحرِك بها موجودات العالم، وفي حركتها تجلب الألم للكائنات الواعية ومنها البشر، وهو ألم الرغبة بغايات مُستقبلية ما إن تُدركها الإرادة حتى تملها وتبغضها، مستأنفة الحركة ومعها ألم الرغبة والشوق إلى غايات جديدة في دائرة مُغلقة لا يُنهيها سوى الموت.
فكانت لديه على حد تعبير عالم النفس كارل يونـگ “الشجاعة ليرى أنه لم يكن كل شيء في الكون قد أُسِسَ من أجل الأفضل”، وأن أفضل ما يُمكن التطلع إليه هو حياة الحكيم البوذي-الرواقي، أي حالة سكون الرغبة القادرة على تهدئة النفس التي قد نُعزّيها من حين لآخر بالفلسفة والفن، وخصوصًا الموسيقا، وذلك حتى نحقق السلام لذواتنا اللاهثة المُضطربة.
المراجع
العالم إرادة وتمثلًا، أرثر شوبنهاور، ترجمة د.سعيد توفيق، ص 38، و211
جان بول سارتر جان بول سارتر فيلسوف فرنسيٌّ يعتبر من أعظم فلاسفة المذهب الوجوديِّ والجدليَّة ومن أبرز الشخصيَّات الفرنسيَّة في القرن العشرين، ولدَ سارتر في باريس عام 1905م، كان سارتر كاتبًا مسرحيًّا وفيلسوفًا وناشطًا سياسيًّا فرنسيًّا مشهورًا، أثَّر في بعض المَجالات المعرفيَّة مثل علمِ الاجتماع والدراساتِ الأدبيَّة، وكان شخصيَّة بارزة في كلِّ من الفلسفةِ الوجوديَّة والفلسفةِ الظواهريَّة، ومن أشهر كتبه “الوجود والعدم”، فازَ بجائزة نوبل في الأدب عام 1964م لكنَّه رفضَها، لأنَّ الكاتب في رأيه لا يجِب أن يصبحَ مؤسَّسة، توفي عام 1980م بعد أن أصبحَ شبه أعمى وتعرَّض لوذمة رئوية،
الإنسان في الفلسفة وعن كتاب الوجود والعدم
الإنسان في الفلسفة وفق الكثير من الآراء الفلسفيَّة التي بُنيت على آراء الفلاسفة القدماء مثل أرسطو وأفلاطون فإنَّ الإنسان حيوان ناطق أو عاقل، فما يميِّز الإنسان هو العقل الذي يجعلُه مباشرةً ضمنَ إطار المسؤوليات والتكاليف. وقد تغيَّرت هذه النظرة كثيرًا في العصر الحديث فقامت الفلسفة الحديثة بعمل انقلابٍ هائلٍ في تعريف الإنسان، وتضمَّن هذا الانقلاب تقييم الأبعاد المعرفية والقدرات العقلية للإنسان. فلم تؤكد هذه الفلسفة على ما جاء به الفلاسفة القدماء من تصورات فلسفيَّة عن الإنسان كما أنَّها لم تعطِ الأبعاد العقلية أيَّ اعتبار وقامت بإهمال هذا الجانب العقلي واعتبرته مجرَّد قوى غريزيَّة لا شعوريَّة،
ومن أشهر الفلاسفة الذين قاموا بإخراج العقل من التصوُّرات الفلسفيَّة هو الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه، الذي اعتبر العقل غريزة كباقي الغرائز التي تُبقي الإنسان على قيد الحياة وهذه وظيفته فقط وبذلك انتهى نيتشه إلى الدعوةِ بتغيير وظيفة العقل وتحويلها من معرفيَّة إلى وسيلةٍ لخدمة الغرائز. أمَّا في المذهب الوجودي فيؤمنُ الوجوديون بالوجودِ الإنسانيِّ قبل كلِّ شيء، ويتَّخذونه منطلقًا لكلِّ أفكارهم، ويعتقدون أنَّ الإنسانَ هو أقدمُ شيءٍ في الوجود، وكلُّ ما قبلَه كانَ عدمًا، ويعتقدون أنَّ وجود الإنسان سابِق لمَاهيَّته، ويقولونَ: “إنَّهم يعملونَ لإعادةِ الاعتبارِ الكليِّ للإنسان، ومراعاةِ تفكيرِه الشخصيِّ، وحريَّته، وغرائِزه، ومشاعِره”.
ويرى سارتر في كتاب الوجود والعدم أنَّ على الإنسان أن يخلقَ القيمة بنفسه وأن يرفضَ القيمة القديمة القائمة، فحياة الإنسان كما يعتقد مصنوعةٌ من المستقبل كما الأجسام مصنوعةٌ من الفراغ وفق تعبيره، لأنَّ وضع الإنسان في العالم يحدُّ من حرِّيته وعليه أن يقابل ذلك بمشروع، ومن اللا أخلاقي أن يرفض الإنسان هذا الخلق المستمر وأن يسترخي في ماضيه، وليس هناك جوهر متجمِّد عليه أن يحترمَه إنَّما هناك وجود جديد عليه أن يسوِّغه من دون انقطاع.
كتاب الوجود والعدم كتاب الوجود والعدم من أشهر كتب الفلسفة للفيلسوف الفرنسيِّ جان بول سارتر كتبه عام 1943م في الفلسفة الوجودية، فبعد أن كان سارتر أسيرَ حربٍ قرأ كتاب الوجود والزمان للفيلسوف هايدجر وقد ألهمه هذا الكتاب مساره الفكري وقد كتب الوجود والعدم بنفس الروح تقريبًا، هدف سارتر الرئيسي في الكتاب أن يؤكد على المعتقد الأساسي في الوجودية وهو أنَّ وجود الفرد -كما كان- قبل جوهر الفرد، وبمعنى آخر: الوجود يسبقُ الجوهر أو الماهيَّة، وكان اهتمامه مُنْصَبًّا أيضًا على إثبات وجود الإرادة الحرة.
وكان سارتر في كتاب الوجود والعدم يشكِّك دائمًا في أي مقياس يمكِّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء، والإنسان في رأيه كائنٌ مدفوع برؤية الكمال وهذا ما يسمِّيه سارتر العلاقة الزوجيَّة وحرفيًّا الكائن الذي يسبب نفسَه، وذلك عند الولادة في الحقيقة المادية التي هي وجود المرء نفسه، فعند ذلك يجد المرءُ نفسه تلقائيًّا موضوعًا في الوجود، لأن الوعي لديه القدرة على تصوُّر الاحتمالات والإمكانيات وإظهارها أو القضاء عليها على حد تعبيره، ويدَّعي سارتر أنَّ الوجود البشري ما هو إلا لغزٌ يوجَدُ فيه كلُّ واحدٍ منَّا، طالما أنَّنا نعيش في ظلِّ حالةٍ عامَّة من العدم، ولذلك يعتبرُ كتاب الوجود والعدم من الكتب التأسيسيَّة في الفلسفة الوجوديَّة
الكينونة والعدم: بحث في الأنطولوجيا الفنومينولوجية (بالفرنسية: L’Être et le néant: Essai d’ontologie phénoménologique)، هو كتاب فلسفي للفيلسوف جان بول سارتر كتبه في عام 1943. يعتبر الكتاب من الكتب التأسيسية في الفلسفة الوجودية، حتى إنه يعرف بـ”إنجيل الوجوديّة”. ولذلك فإن هدف سارتر الرئيسي في الكتاب هو تأكيد المعتقد الرئيسي في الوجودية، وهو أن وجود المرء يسبق ماهيته (“الوجود يسبق الماهية”). اهتمام سارتر الأساسي في الكتاب كان إثبات وجود حرية الإرادة. بينما كان سجين حرب في عامي 1940 و1941، قرأ سارتر الوجود والزمان لهايدغر، وهو دراسة أونتولوجيّة من خلال نهج الفينموينولوجيا الهوسرلية (كان هوسرل معلّم هايدجر). قراءة “الوجود والزمان” ألهمت سارتر واستهلّت مساره الفكري، وقد كتب كتابه هذا على نفس المنوال كما يوحي العنوان.
لكن رغم تأثره بهايدجر، كان سارتر يشكّ بشدة في أي مقياس يمكّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء، كما يحصل مع هايدجر عند الالتقاء المزعوم مع الوجود. في سرديّة سارتر، الإنسان كائن مدفوع برؤية للكمال، يسميه سارتر “كائنًا يسبب نفسه”. عند الولادة في الحقيقة الماديّة التي هي جسد المرء، يجد المرء نفسه موضوعًا في الوجود. للوعي القدرة على تصوير الإمكانيات، وإيجادها، أو إبادتها
الوجود عند سارتر هو العالم المادي المحسوس الذي يتحرك فيه الإنسان.
ولكن هناك عالم آخر وعالم العدم le neant وهو يقصد به ضمير الإنسان.
وتقول سيمون دي بوفوار أنها سمعت بكلمة الوجودية عندما سألها أحد الصحفيين قائلا (وأنت يا سيدتي هل أنتي أيضا وجودية
يرى. الفيلسوف سارتر أن المفهوم الرئيسي للوجودية هو أن وجود الشخص يسبق جوهره. العبارة “الوجود يسبق الجوهر” أصبحت لاحقًا شعارًا من شعارات التيار الوجودي. ببساطة، يعني هذا أنه ما من شيء يحدد شخصية المرء أو أهدافه إلخ، إنما الفرد وحده هو الذي يعرّف جوهره. حسب سارتر، فإن المرء “أولًا يوجد، يلقى نفسه، يندفع في العالم، ومن ثم يعرّف نفسه.”
إذًا، يرفض الفيلسوف سارتر الأعذار الحتمية، ويدّعي أنه على الكل تحمّل مسؤولية أفعالهم. يعرّف سارتر الجزع بأنه الشعور الذي يشعر به الشخص حينما يكتشف أنه مسؤول ليس عن نفسه فقط بل عن كل الإنسانية. الجزع يجعل الشخص يكتشف أن أفعاله تقود الإنسانية وتمكّنه من الحكم على الآخرين بناء على موقفهم من الحرية. الجزع يتعلّق أيضًا بمفهوم سارتر للأسى، والذي يعرّفه بأنه الاعتماد المتقفائل على مجموعة من الإمكانيات التي تجعل الأفعال ممكنة. يدّعي سارتر أنه “في تكويني نفسي، أكون الإنسان”، يعني أن فعل الفرد يؤثّر في ويكوّن الإنسانية.
يقوم أيضًا سارتر بالرد على ما يعتقد أنها تهم ضد الوجودية. فيردّ على من ينعت الوجوديّة بأنها فلسفة تشاؤمية، قائلًا: إن الفلسفة الوجودية فلسفة متفائلة لأنها في صميمها فلسفة تضع الإنسان مواجها لذاته، حرًا، يختار لنفسه مايشاء، وهذا أمر مزعج لا يعجب الناس.”
خلاصة
يمكن تلخيص رؤية سارتر للعلاقة بين الهوية والحرية بالطريقة التالية: للبشر هوية ولكنهم يتجاوزونها. نُعرّف بأفكارنا ومشاعرنا وقيمنا، ونُعرّف بظروفنا و مجمل تجربتنا. ومع ذلك، نحن في الوقت نفسه نعي هذه التجربة، وبالتالي نكون على مسافة عنها. لدينا أسئلة، ومعضلات، ولحظات من القلق الوجودي والأخلاقي التي تجعلنا ندرك نقصنا وقصورنا. هناك نقص جوهري داخل الحاضر يشل أفكارنا وأفعالنا. لا شيء يمكن أن يحدد لنا تمامًا معنى العالم أو اتجاه حياتنا. ومع ذلك، نحن قادرون على تجاوز كل ما نحن عليه وتصور المستقبل الذي سيمنح معنى للحاضر. من خلال الفعل الحر من أجل غاية غير موجودة بعد، نوجه أنفسنا إلى هذا الهدف ونجعله حقيقيًا بالنسبة لنا. بهذه الطريقة نفهم العالم ونعطي معنى لحياتنا من خلال التزاماتنا النشطة. الإنسان ليس هوية حاضرة جامدة ولا هدف مستقبلي غير ملموس. نحن نتشكّل من خلال علاقة قمنا باختيارها بحرية بين هوية حالية و غاية. تتضمن الشخصية بالضرورة كل من الحقائق التي تحددنا والحركة وراء هذه الحقائق إلى ما نسعى إلى أن نصبح عليه. فهي تنطوي على الجوهر والوجود، وحيازة الذات والتجرّد منها، والإستبطان والنشوة، الحاضر والمستقبل، الحقيقي والمثالي، الدلالي والشرطي. أنها تنطوي على ما هو حقيقي، وما يمكن أن يكون. في فهم سارتر، نحن نشكل هويتنا الشخصية من خلال قبول من نحن وحرية التحرك وراء هذا.
شغلت فكرة العدالة اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ لأنها أسمى قيمة اجتماعية في الحياة. وقد ربط بعض المفكرين بين فكرة المجتمع المثالي والمجتمع الذي تسود فيه العدالة؛ إذ تشكل "العدالة" المدلول الحقيقي لجميع القيم والمثل التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع. والعدالة– بصفة عامة – تكمن في صميم فلسفة الأخلاق والسياسة، وهي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، على حد قول الفيلسوف الأمريكي جون رولز (1921 –2002) (1)، إن لم تكن هي الفضيلة الوحيدة؛ بمعنى أنها فضيلة أساسية للأفراد في تعاملهم مع الآخرين (2)؛ أي أنها فضيلة شخصية واجتماعية في آن واحد. وهذا هو ما جعل سقراط (470 – 399 B.C) يثور في وجه السوفسطائيين، ويرفض نسبية الفضيلة، مؤكداً أن الفضيلة واحدة رغم تعدد مسمياتها، وهي تكمن في الضمير الإنساني الحي الذي يرشدنا دائماً إلى الخير؛ أي في سلوك الصدق والابتعاد عن الكذب، وطريق الأمانة والعدل. وهكذا فرغم تعدد أسماء الفضائل إلا أنها في جوهرها فضيلة واحدة، هي الطريقة التي تكمن في تعاملنا مع الأفراد والمجتم.
ولقد حظي مفهوم "العدالة الاجتماعية" بقدر كبير من الأهمية على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة، وفي الخطابات المعاصرة، وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطني. ومن هذا المنطلق، تعدّ العدالة قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر بعضهم مع بعض؛ فهي محور مهم في الأخلاق وفي الحقوق وفي الفلسفة الاجتماعية؛ حيث تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية. العدالة إذن فضيلة شخصية سامية، وهي موجودة دائماً في سياق اجتماعي معين.
والحقيقة أن الرؤية السياسية لمحاورة "الجمهورية" لأفلاطون (427 – 347 B.C) يمكن أن نراها تخطيطاً لذلك السياق الاجتماعي نفسه؛ فأفلاطون هو صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم في تاريخ الفكر الغربي، وهو واحد من أوائل العلماء الاجتماعيين، وأقواهم تأثيراً، حيث طبق منهجه المثالي بنجاح على تحليل حياة الإنسان الاجتماعية وقوانين تطورها؛ فضلاً عن شروط استقرارها(5). وقد عبّر أفلاطون عن ذلك في الكتاب الرابع من "محاورة الجمهورية" بقوله: "إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلاً من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره". وفي الموضع ذاته يقول: "العدالة هي أن يمتلك المرء ما ينتمي فعلاً إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به"(6).
ولقد نشأ نزاع حول مفهوم "العدالة" الاجتماعية خاصة في التعامل مع قضايا مثل: توزيع الدخل، والسيطرة، واستخدام الموارد الطبيعية، وتوزيع الفرص التعليمية والوظيفية التي انتشرت على نطاق واسع في مجتمعاتنا، وقام عدد من الفلاسفة بتقديم رؤى مختلفة حول مفهوم العدالة، وارتباطها الوثيق بالأخلاق والقانون؛ وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق والواجبات والالتزامات بما يتماشى مع روح كل عصر. ومن هؤلاء الفلاسفة جون رولز، حيث أكد في مواضع كثيرة من كتاباته على أن المفهومين الأساسيين في مبحث "الأخلاق" هما مفهوما "العدل" و"الخير"، يقول في كتابه "نظرية في العدالة
“أعتقد أن مفهوم “الشخص الأخلاقي” ذاته قد تم استنباطه من مفهومي “العدل” و”الخير”، وهكذا تتحدد البينة لنظرية أخلاقية من خلال الطريقة التي تنتظم بوساطتها الصلة بين هذين المفهومين
من هذا المنطلق، بدأ تصور رولز للعدالة من معارضته لتصورات "الفلسفة النفعية" التي بلورها عدد من الفلاسفة النفعيين أمثال: "جيرمي بنتام". (1748 –1832)، و"جون ستيوارت مل" (1806 –1873) .... وآخرين، والتي سيطرت على الفكر السياسي والأخلاقي في العالم الغربي. وقد تبنت هذه الفلسفة مبدأ المنفعة بوصفه غاية لكل سلوك أخلاقي، وعلقت أخلاقية الأفعال الإنسانية على مدى ما تحقق من منافع أو تدفع أضرار (أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس)، وأقرت بأن الأفعال تكون صائبة إذا كانت تميل إلى تحقيق السعادة، وتكون خاطئة إذا مالت إلى الشقاء والتعاسة
أراد رولز أن يقدم بديلاً عن “المذهب النفعي”؛ لأنه لا يقدم تفسيراً مرضِياً للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو مطلب – على حد قوله – “ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية
وعلى صعيد آخر، تناول كانط (1724 – 1804) مفهوم العدالة على خلاف "المذهب النفعي"؛ حيث تقوم الأخلاق عنده على العقل وحده، مادام هو مصدر الإلزام الخلقي، ومن هنا نسب كانط إلى الأخلاق صفة "الضرورة المطلقة"، ونادى بوجود قوانين أولية كلية وضرورية في مضمار السلوك الإنساني. وفي كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" يقدم أوجه الإختلاف بين المبادئ الأخلاقية وقوانين الطبيعة، ويذهب إلى أن الاختلاف بينهما يكمن في إحساسنا الذاتي بالإلزام بطاعة القوانين الأخلاقية. يقول: "إن كل إنسان لابد أن يسلم بالقانون الأخلاقي، أعني قاعدة الإلزام... هذه القاعدة لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وُضع فيه، بل لابد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها
وترتبط القوانين الأخلاقية عند كانط بمفاهيم “الحرية” التي تفرض حدوداً على التصرفات الخارجية للناس، وعلى نواياهم الداخلية، ويعتمد أساس هذه النظرية على مبدأ “الحق”، وهو شامل لجميع البشر، ومستمد من الحتمية المطلقة من خلال مفهوم “الإرادة الخيرة” التي توجه الإنسان نحو غايات وأهداف عامة تصحح مبدأ السلوك كله. ومن هنا رأى كانط أن “القانون” يعُد أمراً واجباً، ومن الضروري فرضه وإجبار الآخرين على طاعته، لأنه مجموع الشروط التي تلائم بين حريتنا وحرية الغير، وفقاً لناموس شامل للحرية، أو على حد قوله: “القانون هو مجموع الشروط التي يمكن أن توحد حرية الفرد مع حرية الآخر وفقاً لقانون كلي للحرية
. كذلك رأى كانط أن السيادة لا يمكن تقسيمها، ولا يمكن حماية وضع الفرد كإنسان عاقل ومستقل إلا من خلال وجود دولة مدنية. لذلك ومن كل ما سبق، نحاول في هذه الدراسة رصد محاولات الفيلسوف الأمريكي جون رولز فيما يخص تصوره لنظام العدالة ونظام حكم القانون، ومحاولته الفريدة لطرح تنظير سياسي اجتماعي أخلاقي يدعم استقرار المجتمعات على نحو متكافئ ومتساو، خاصة بعد إصدار كتابه: “نظرية في العدالة”؛ إذ أثار -هذا الكتاب -جملة من التساؤلات التي تميزت بكثافتها أكثر مما أثارته أية نظرية أخرى في العدالة الاجتماعية خلال القرن العشرين. وكذلك الدور الذي أداه التصور الكانطي لنظرية “الحق” و”استقلالية الذات”، و”مبدأ الأمر المطلق”، و”نظرية الواجب” التي تقوم على تأكيد أولوية الحق على الخير؛ بخلاف “الفلسفة النفعية” السائدة في المجتمعات الغربية الليبرالية. كما أراد رولز أن تنال الشعوب حقها من خلال عدم المساس بمصالحها وذلك باحترام القانون العادل، ويتحقق هذا عندما يُعامل المجتمع أفراده كشخصيات أخلاقية، وقد أطلق عليه “قانون الشعوب”، ومعناه أن تلتزم كل الشعوب بأهداف “قانون الشعوب” ومبادئه في علاقاتها المتبادلة. وفكرة مجتمع الشعوب – كما عبر عنها رولز – هي فكرة يوتوبية واقعية تصور نظاماً اجتماعياً قابلاً للتطبيق، يكفل الحقوق والعدالة السياسية لجميع الشعوب
، كذلك كما صرح “كانط”: “يجب أن يقوم قانون الشعوب على أساس اتحادي بين دول حرة”.
مبادئ العدالة
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
تُعد نظرية العدالة عند رولز أهم محاولة فلسفية لبناء قاعدة نظرية للممارسة الليبرالية، فقد أكد على أن هدفه هو "تقديم تصور للعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، كما وجدت في أعمال لوك، وروسو، وكانط"
. معنى ذلك أن هدف رولز الذي يسترشد به هو التوصل إلى نظرية في العدالة قابلة للتطبيق وبديلة عن التصورات النفعية الكلاسيكية والحدسية للعدالة، والتي سادت التقليد الفلسفي فترة طويلة من الزمن. وقد بدأ بتعريف العدالة بأنها: “الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية. ومهما كانت النظرية متسقة ومقتصدة لابد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات، مهما كانت درجة كفاءتها وجديتها لابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة”
. العدالة إذن هي أساس الهيكل الاجتماعي، لذا وجب أن تتفق سائر الإجراءات التشريعية والسياسية مع ما تقضي به مبادئ العدالة. ومن هنا يتعين – في نظر رولز – تحديد القواعد والمبادئ التي تسيٌر المؤسسات الاجتماعية للعدالة
وذلك من خلال وضع نظام للعدالة مُنصف يتم تطبيقه على البنية الأساسية للمجتمع؛ أي على “المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة وبطريقة تلاؤمهما مع بعضهما مع بعض في ترسيمة نظام تعاوني موحد”
إن المادة الأولية للعدالة عند رولز هي البنية الأساسية للمجتمع، بمعنى آخر: "هي الطريقة التي تُوزع من خلالها المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدد تقسيم المنافع الناتجة عن الشراكة الاجتماعية"
والمقصود بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها ما يدل على الحماية القانونية لحرية التفكير، والأسواق التنافسية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن هنا يرى رولز أن “أحد الأهداف العملية للعدالة كإنصاف هو توفير أساس فلسفي وأخلاقي مقبول للمؤسسات الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف يبحث – رولز – في الثقافة السياسية العامة لمجتمع ديمقراطي، وفي تقاليد التأويل الخاصة بدستوره وقوانينه الأساسية، طلباً لأفكار مألوفة معينة يمكن صياغتها في مفهوم للعدالة السياسية”
. ويعتقد رولز أن بعض هذه الأفكار أكثر أساسية؛ من بعضها الآخر، وأكثرها أساسية هي فكرة المجتمع بوصفه نظاماً منصفاً من التعاون الاجتماعي الزمني من جيل إلى الجيل الذي يليه؛ والتي يعدها رولز فكرة منظمة ومركزية لتطوير مفهوم سياسي لعدالة نظام ديمقراطي. وفي هذا الشأن، يؤكد رولز أنه من غير الممكن أن يتفق المواطنون على سلطة أخلاقية مثل: نص مقدس، أو مؤسسة دينية، أو تقليد من التقاليد؛ أو حتى بالرجوع ما عدّه بعضهم (قانوناً طبيعياً) لذلك لا يوجد بديل – عنده – أفضل من الاتفاق على “فكرة منظمة للمجتمع”، أي نظامٍ منصفٍ من التعاون بين أشخاص أحرار ومتساوين”
. وهذا ما يسمى “بالوضع الأصلي” الذي يجتمع من خلاله أشخاص أحرار لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود المجتمع، لا سيما توزيع الخيرات الأساسية كالحقوق، والحريات، والثروات…الخ وإعادة هيكلة المكاسب والتكاليف التي تنجم عن التعاون الاجتماعي
. من هذا المنطلق، يتساءل رولز: ما هي مبادئ العدالة التي تنطبق بشكل رئيس على البينة الأساسية للمجتمع، وتحكم التخصيص للحقوق والواجبات، وتنظم التوزيع للمنافع الاجتماعية والاقتصادية؟ يرى رولز أن مبادئ العدالة التي تحكم المجتمع هي “المبادئ التي سوف يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون يهتمون بتحقيق مصالحهم الذاتية في وضع مبدئي من المساواة، ويجب أن تنظم هذه المبادئ جميع الاتفاقيات الأخرى، وتعين أنماط الشراكة الاجتماعية وأشكال الحكومات التي يمكن تأسيسها”
. وقد صاغ مبدأين رئيسين للعدالة هما: المبدأ الأول: يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغيره ضمن أوسع نسق من الحريات؛ أي أن “لكل شخص الحق ذاته -والذي لا يمكن إلغاؤه- في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات ذاته”. المبدأ الثاني، يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن في آن واحد أن نتوقع عقلياً أن تكون في مصلحة كل واحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع، بمعنى آخر: “يجب أن تحقق ظواهر اللا مساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين: أولهما: يفيد أن اللا مساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساوية منصفة للفرص، وثانيهما: يقتضي أن يكون ظواهر اللا مساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم أقل مركزاً (وهذا هو مبدأ الفرق)
. ويرى رولز ضرورة أن يعرض هذان المبدآن على وفق ترتيب ملزم؛ أي أنهما يعرضان بحسب معيار الأولوية؛ فيجب أن يستوفي مبدأ الحريات المتساوية قبل الركون إلى مبدأ مساواة الفرص المنصفة، ويجب تطبيق مبدأ مساواة الفرص المنصفة قبل اللجوء إلى مبدأ الفرق
. فيقول: “والمبدأ الأول سابق للمبدأ الثاني، وكذلك تسبق المساواة المنصفة بالفرص في المبدأ الثاني مبدأ الفرق”
وعلى ذلك، يجب أن نرتب هذه المبادئ في ترتيب تسلسلي، هذا الترتيب – كما عبر عنه رولز – “يعني أنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية المصانة بواسطة المبدأ الأول أو التعويض عنها من خلال منافع اقتصادية واجتماعية أكبر
. والواقع أن التركيز الشديد من جانب رولز على الأسس العقلانية في المفاضلة بين المبادئ المختلفة للتوصل إلى تلك المبادئ التي يقبلها الإنسان ويعدّها ملزمة له، إنما هو أمر يذكرنا بالمنهج الكانطي في التوصل إلى الأمر الأخلاقي المطلق، فالأمر المطلق عند كانط هو ذلك المبدأ الذي ينبع من طبيعة الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً حر الإرادة، ومن ثم فهو ينطبق على البشر جميعاً بوصفهم كذلك؛ ويميزهم عما سواهم من الكائنات والموجودات. يقول كانط في هذا الشأن: “كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين، والكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى: هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك”. ويقول في الموضع ذاته: ” إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادة لم يتمكن منها الخير تماماً يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائن عاقل بوساطة مبادئ عقلية حقاً، ولكن لا تستطيع هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. ولذلك فإن تمثل مبدأ موضوعي من حيث إنه ملزم للإرادة يدعى أمراً (عقلياً)، والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليه الأمر المطلق”
. والجدير بالملاحظة أن من أهم الانتقادات التي وجُهت إلى كانط في هذا الخصوص، هو أن الأمر المطلق الذي يقول به ويُحدد خصائصه لا يوضح لنا – على وجه التحديد – ما المبادئ الفعلية التي تنطبق عليها هذه السمات والخصائص؛ أي أن الأمر الكانطي المطلق يحدد لنا ما الذي يتعين علينا فعله في الواقع. وهذا هو في الحقيقة ما استطاع أن ينجو منه رولز، فالوضع الأصلي هو في جوهره مفهوم يوضح لنا ما تلك المبادئ التي يختارها أشخاص أحرار يتسمون بالعقلانية وحرية الإرادة، في حين أن العقل الخالص عند كانط هو الذي يمدنا بالمبادئ الأخلاقية؛ هذه المبادئ ممثلة في مبادئ العدالة عند رولز، التي يتم اشتقاقها من مقدمات معينة تتمثل في شروط الوضع الأصلي، التي تمتزج فيها عوامل عدة منها: الحقائق السيكولوجية والتفاعل الاجتماعي في سياق من الندرة والمطالب التنافسية. وهكذا، ينأى رولز عن الطابع العقلاني الخالص الذي اتسم به كانط، في الوقت الذي تظل فيه نظريته تردد في أعماقها النغمة الكانطية المميزة نفسها
القانون بين العام والخاص
يُعد كتاب كانط "المبادئ الميتافيزيقية لنظرية الحق" من أهم الكتب التي تناولت فلسفة القانون في مجال السياسة والأخلاق. وقد عالج موضوع "الحق"(30) في كثير من محاضراته، خاصة ما يتعلق بالحق الطبيعي أو القانون الطبيعي، فضلاً عن إشاراته إليه في ثنايا حديثه عن الفلسفة الأخلاقية بوجه عام. وفي مستهل حديثه عن نظرية القانون يتساءل كانط: ما القانون؟ (31) يجيب: القانون -بحسب العقل- لا يتعلق إلا بالعلاقة الخارجية العملية القائمة بين الأشخاص بعضهم ببعض، من حيث إنهم بأفعالهم يؤثر بعضهم في بعض تأثيراً مباشراً؛ إنه لا يحدد علاقة الحرية للواحد مع الرغبة أو الحاجة للآخر، بل علاقة حرية الفاعل مع حرية غيره. وفي هذه العلاقة المتبادلة بين الحريات لا يُنظر في مادة الإرادة؛ أي في الغاية التي ينحو إليها كل واحد، بل يُنظر فقط في الشكل الذي تتخذه هذه العلاقة. وعلى هذا فإن القانون هو مجموع الشروط التي يخضع لها ملكة الفعل الحرة لكل شخص إذا كانت قاعدته تُمكن من مثل هذا الاتفاق، ومن هنا جاءت القاعدة الأساسية: " افعل خارجياً بحيث يمكن للاستعمال الحر لإرادتك أن يتفق مع حرية الجميع وفقاً لقانون كلي"(32). إن المسألة الجوهرية في هذه القاعدة – كما يرى كانط – هي تبرير استعمال القسر لمنع الناس من التعدي على حرية الآخرين، وهذا القسر الذي يفرض بشكل قانوني لا يمكن تبريره إلا لضمان الحرية.
ويتألف كتاب "نظرية الحق" عند كانط من قسمين: الأول يتناول القانون الخاص، والثاني القانون العام. في القسم الأول يعالج العلاقة بين القانون الخاص أو الطبيعي، وبين القانون العام خاصة القانون السياسي. ويتناول القانون الخاص ما يتعلق بالملكية، أو -على حد تعبير كانط – "ما لي" و "ما لك"، ولهذا يبدأ بحثه في النظرية العامة للقانون الخاص بتعريف الملكية على النحو التالي: "ما لي بحسب القانون هو ما أنا مرتبط به إلى درجة أن استعمال الغير له دون موافقتي من شأنه أن يضر بي. والملكية هي الشرط الذاتي لإمكان الاستعمال بوجه عام"(33). ويُدرج ضمن موضوعات القانون الخاص: التعاملات والعقود التي أصبحت مألوفة في الوقت الحاضر.
ويتطرق كانط أيضاً إلى مناقشة الحقوق التي يتعين على الأشخاص القيام بها، وتتضمن الحقوق الواجبة على الأشخاص مثل: حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الوالدين على أبنائهما، وحقوق صاحب المنزل على من يعمل في خدمته. وفي القسم الثاني يتناول القانون العام، أو القانون السياسي؛ أي العلاقة القانونية بين المواطن من ناحية والوطن من ناحية أخرى، أو الدولة. ولا يمكن أن يكون هناك حق خاص خارج نطاق الوضع المدني، بمعنى أدق خارج نطاق دولة ذات قدرة على فرض أساليب قسرية تستطيع بها ضمان الحقوق الخاصة للمواطنين. ويرى كانط أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة في علاقات البشر بعضهم مع بعض إلا في ظل مجتمع يشكل دولة مدنية (34).
أما رولز، فقد رأى أن الحقوق السياسية والمدنية للفرد حقوق لها حرمه لا تُنتزع، وأن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. لقد آمن رولز – مقتفياً خطى كانط – أن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. ويترتب على ذلك أن الواجب الأول للدولة تجاه مواطنيها هو أن تحترم هذه القدرة على الاستقلال الذاتي، وأن تترك للمواطنين حرية العيش وفقاً لاختياراتهم الذاتية، وأن تعاملهم، وفقاً لعبارة كانط، كغايات وليس كوسائل. يقول كانط: "إن الكائنات العاقلة تخضع جميعاً للقانون الذي يقضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر كوسيلة أبداً، بل أن تكون المعاملة لهم دائماً وفي الوقت نفسه كغايات في ذاتها"(35). الواجب الأول للدولة الليبرالية– عند رولز -هو أن تحمي الحريات المدنية الأساسية للفرد، والتي لا يوجد شيء يمكن أن يُعوض عنها(36). وعلى هذا الأساس عنى رولز بما يسمى "حق الشعوب"، عدَّه مفهوماً سياسياً يختص بمبادئ القانون الدولي ومعاييره. ويتوازى مع هذا المفهوم مفهوم آخر، وهو "مجتمع الشعوب" التي تتبنى مُثل ومبادئ حق الشعوب في علاقاتها المتبادلة.
قانون الشعوب يسعى رولز في كتابه ” قانون الشعوب”(37) الصادر عام 1999، إلى أن يوسع نطاق أفكاره حول العدالة لتشمل الساحة الدولية، وقد حاول أن يبين موقف الليبرالية من إمكانية العلاقة مع الآخر غير الليبرالي؛ وحجة رولز هي أن” قانون الشعوب” لا يقضي بأن تكون جميع المجتمعات ليبرالية؛ بل يكفي أن تحترم الحد الأدنى من الليبراليات التقليدية فقط؛ مثل: حرية التعبير، وحرية العقيدة الدينية؛ يقول: “إن قانون الشعوب يؤمن بوجهة نظر سمحة وإن لم تكن ليبرالية، ومن القضايا الجوهرية في السياسة الخارجية للمجتمعات الليبرالية أن تقرر إلى أي حد يمكن قبول الشعوب غير الليبرالية”(38). ويستعمل رولز كلمة “شعوب” بدل كلمة “دول”؛ لأنه وجد في الشعوب سمات تختلف عن سمات الدول منها: أن الشعوب لا تحركها منافعها الخاصة، بل تحدد مصالحها الأساسية بشكل معقول دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى؛ أي أن الشعوب تمتلك جانباً أخلاقياً، بخلاف الدول، التي دأبت أن تكسب مصالحها، حتى وإن كانت على حساب مصالح دول أخرى؛ وأن الشعوب لا تمتلك السيادة حتى في التعامل مع مواطنيها، مما يعنى أن الدول الكبرى والمنظمات الدولية تمتلك كامل الحرية في التدخل في شؤونها (39). و”الدول هي الطرف الفاعل في العديد من نظريات السياسة الدولية حول أسباب الحرب والحفاظ على السلام. وكثيراً ما يُنظر إلى الدول على أنها عقلانية شديدة الحرص على قوتها – أي قدرتها (عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً) على التأثير على الدول الأخرى – وتعمل دائماً على تحقيق مصالحها الأساسية”(40). وهذا يذكرنا برأي كانط في كتابه “مشروع للسلام الدائم” الذي نشره عام 1795 ، والذي أعلن فيه أن إنشاء “حلف بين الشعوب” هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها. ولابد من الاعتراف –على حد قوله –”بأن الدول ما زالت في علاقاتها الدولية على حال من الهمجية والانحطاط البهيمي، وأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من هذا الوضع هو اقتلاع الداء من جذوره والاستعاضة في كافة العلاقات الدولية عن حالة الطبيعة بحالة الشريعة وتنظيم الأمم جميعاً عن طريق تعاقد حر بين الأفراد؛ أي جمع هذه الأمم في تحالف سلمي”(41). ويقدم رولز مفهوم “قانون الشعوب” من خلال نظريتين هما: “النظرية المثالية” التي تشمل مجتمع الشعوب الديمقراطية الليبرالية والشعوب السمحة(42) التي تتمتع بسمات معينة تجعلها مقبولة لتصبح جزءاً من مجتمع الشعوب. والنظرية الأخرى هي “النظرية اللا مثالية” ويندرج تحت هذه النظرية نوعان من المجتمعات: النوع الأول: مجتمعات ترفض فيها الحكومات أن تحترم قانوناً معقولاً للشعوب، يطلق عليها تسمية الدول الخارجة على القانون، ويناقش رولز فيها الإجراءات التي يمكن للشعوب الليبرالية والشعوب السمحة أن تلجأ إليها في مواجهتها لمثل هذه الدول. النوع الثاني من المجتمعات التي يندرج تحت النظرية اللا مثالية هو المجتمعات المغلوبة على أمرها، مجتمعات مثقلة الكاهل بظروف غير مواتية؛ أي مجتمعات لها ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية تجعل من الصعب – وربما من المستحيل – أن تصبح مجتمعات جيدة التنظيم سواء ليبرالية أو سمحة(43). ويحدد رولز مبادئ المساواة بين الشعوب مؤكداً أن مثل هذه المبادئ سوف تفسح المجال لأشكال متعددة للروابط التعاونية والاتجاهات بين الشعوب، إلا أنها لم تصل إلى قيام ما يسمى “بالدولة العالمية”. وهنا يوافق رولز ما ذهب إليه كانط في الاعتقاد بأن الحكومة العالمية سوف تكون حكومة هشة ممزقة بحروب مدنية مستمرة، عندما تحاول الثقافات المنفصلة أن تكسب استقلالها السياسي(44). يقول كانط: “إن فكرة قانون الشعوب تقتضي الانفصال بين الكثير من الدول المجاورة المستقلة، وهي في نظر العقل أفضل من ضم تلك الدول تحت لواء دولة واحدة، تطغى على سائرها، وتصير ملوكية شاملة، فالواقع أنه كلما اتسعت رقعة الدولة ضعفت قوة القوانين”(45). من هذا المنطلق يحدد رولز المبادئ المتعارف عليها للعدالة بين شعوب حرة وديمقراطية، وهي ثمانية مبادئ على النحو الآتي: 1- الشعوب حرة ومستقلة، كل شعب يحترم حريات الشعوب الأخرى واستقلالها. 2- يجب على الشعوب أن تحترم المعاهدات والتعهدات. 3- الشعوب على قدم المساواة، وهي أطراف في الاتفاقيات التي تلتزم بها. 4- تحترم الشعوب واجب عدم التدخل. 5- الشعوب لها الحق في الدفاع عن النفس، ولكن ليس لها الحق في شنِّ الحرب، أو التحريض عليه لأسباب غير الدفاع عن النفس. 6- تحترم الشعوب حقوق الإنسان. 7- تلتزم الشعوب بقيود محددة في ممارسة الحرب. 8- يجب على الشعوب مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها، التي تعيش تحت وطأة ظروف غير مواتية، تمنعها من أن يكون لها نظام اجتماعي وسياسي عادل أو سمح (46). يرى رولز أن هذه المبادئ تتطلب الكثير من الشرح والتفسير، وبعضها غير ضروري في مجتمع شعوب جيدة التنظيم كالمبدأ السابع الخاص بالسلوك في الحرب، والمبدأ السادس حول حقوق الإنسان. أما المبدأ الرابع (مبدأ عدم التدخل) نجد أن رولز يعتقد بوجوب تقييده بضوابط وقيود في الحالة العامة للدول الخارجة على القانون، وعلى الرغم من أن هذا المبدأ مناسب لشعوب منظمة بصورة جيدة ؛ فإنه لا يصلح لمجتمعات شعوب غير منظمة، تكثر فيها الحروب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
الانتقادات التي وُجهت إلى نظرية العدالة يُعد مايكل ساندل (5 مارس – 1953) من أهم المفكرين المعاصرين الذين تحدثوا عن معنى المساواة والحرية والعدالة التوزيعية، ومن أبرز الذين تناولوا طرح رولز عن العدالة والليبرالية السياسية التي يمثلها بالدراسة والنقد في كتابه: “الليبرالية وحدود العدالة”؛ حيث ينطلق ساندل من النظر في مدى صحة المقولة التي ترى أن المجتمع الليبرالي مجتمع يحرص على عدم إملاء أي طريقة معينة في الحياة على أفراده، تاركاً لهم أكبر حرية ممكنة في تحديد القيم التي يتبنونها والغايات التي يسعون إليها في الحياة. وعلى الرغم من أن ساندل رأى أن ليبرالية رولز مدينة لكانط في معظم آرائها الفلسفية، كما أنها جاءت معارضة للتصورات النفعية من حيث قولها بأسبقية الحق على الخير؛ فإنه رأى عيب هذه الليبرالية المعاصرة في كونها لم تأخذ بعين الاهتمام مسألة الجماعة، بل اهتمت بتفرد الذات بشكل قبلي، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التي يفترض مسبقاً أنها منفردة بنفسها؛ لكن الذات – كما يراها ساندل – هي ذات مجسدة ضمن نسيج من العلاقات الاجتماعية والإنسانية(47). وصف “ساندل” وصفاً دقيقاً – في معرض حديثه لنقد الليبرالية – غياب المساواة والعدالة في النظام الليبرالي الغربي، بالرغم من كل التطور الذي لحق به، فقد رأى أن ثمة جماعات تتعرض للظلم (كجماعة وليس كأفراد)، وأن الطبقة المهيمنة في النظام الجديد – لحظة التأسيس – تبقى مسيطرة في جميع اللحظات التي تليها، مادام النظام الليبرالي يقدم الحرية في تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية؛ ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام. أما أمارتيا صن (3 نوفمبر – 1933) فقد أقر- عند نقده لرولز – بأن مفاهيمه الأساسية ظلت تقدم له الكثير عند بحثه في مشكلة العدالة، وبأن أعمال رولز تُعد تحولاً مهماً في الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، يقول “صن”: “لا يسعني البدء بانتقاد رولز دون الإقرار أولاً بعظيم أثره في فهمي الخاص للعدالة والفلسفة السياسية عموماً، وعظيم الدَّيْن الذي أدين له به. فقد أشعل في نفسي جذوة الاهتمام الفلسفي بموضوع العدالة”(48). لقد رأى “صن” أن نظرية العدالة تشتمل على متطلبات إعمال العقل في تحليل مفهومي “العدل والظلم”، وقد حاول الذين كتبوا في مفهوم العدالة -على مدى مئات السنين في مختلف أرجاء العالم- تقديم أساس فكري للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكري الدقيق له، ومن ثم تطرقوا إلى تحليل المعنى الخاص بإعلاء قيمة العدل. ومن هنا، يعتقد صن أن الاشتغال على مستوى المؤسسات، في التنظير للعدالة، الذي يطلق عليه “المقاربة المؤسسية الما-فوقية”، المرتبطة بنمط تفكير العقد الاجتماعي السائد بتأثير من رولز، ومن تأثر بهم، كروسو وكانط (في الفلسفة السياسية المعاصرة فيما يخص مفهوم العدالة)- يظل قاصراً من ناحية عدم اهتمامه بالسلوك الفعلي للناس. بمعنى آخر: إن المؤسسية الما فوقية -في بحثها عن الكمال، تركز – في المقام الأول – على الوصول إلى المؤسسات العادلة، ولا تهتم مباشرة بالمجتمعات الفعلية التي ستنبثق في النهاية من تلك المؤسسات؛ إذ لابد لطبيعة المجتمع الذي سينتج عن أي مجموعة معينة من المؤسسات أن تعتمد على سمات لا مؤسسية، كأنماط السلوك الفعلي للناس وتعاملاتهم الاجتماعية(49). ولا شك أن القائلين بمذهب “المؤسسية الما فوقية” الباحثين عن مؤسسات عادلة تماماً -فيما يرى “صن”- قد قدموا تحليلات مضيئة للواجبات الأخلاقية والسياسية التي ينطوي عليها السلوك المناسب اجتماعياً؛ مثل: كانط، ورولز. فكلاهما شارك في البحث المؤسسي الما فوقي، لكنهما قدما تحليلات بعيدة الأثر لمتطلبات المعايير السلوكية. وبالرغم من أنهما ركزا على الخيارات المؤسسية؛ فإنهما أغفلا السلوك الفعلي للناس المرتبط بما هو واقع؛ أي ما يطلق عليه “المقاربة الما تحتية” التي تركز على الواقع الفعلي للمجتمعات
وتُعد الانتقادات والردود المتبادلة التي قامت بين رولز ويورجين هابرماس (18 يونيو – 1929) من أهم المناقشات المعاصرة التي أثارتها نظرية العدالة بوصفها إنصافاً، خاصٌة ما يتعلق بالمقاربة الليبرالية السياسية التي تقيدت بحدودها وتأسست على مقولاتها. وقد ارتكزت انتقادات هابرماس الرئيسة لنظرية رولز في العدالة على ثلاث مسائل هي: أولاً، التشكيك في قدرة الوضع الأصلي – كما جاء في العدالة بوصفها إنصافاً – عن التعبير عن حكم أخلاقي موضوعي حيادي واجبي بشأن مبادئ العدالة، ثانياً: الإخفاق في عدم توضيح الشروط والضوابط التي يتعين على الأطراف المشاركة في التفاوض التوصل من خلالها إلى مفهوم سياسي للعدالة يمكنه أن يقوم على أساس أخلاقي ملائم. ثالثاً: الإخفاق في تحقيق الهدف المتمثل في المواءمة بين الحريات والحقوق الليبرالية الجوهرية وفق المفهوم الليبرالي المعاصر وبين مفهومها عند القدماء
يرى هابرماس أنه لا يمكن للمواطنين الذين يُفترض أنهم يتمتعون بالاستقلال الذاتي أن يمثلوا عبر الأطراف المفتقرين لهذا الاستقلال، فالمواطنون ذوو قوة أخلاقية بوصفهم أعضاء في مجتمع ديمقراطي مثالي حسن التنظيم، ولهم حس بقيمة العدالة والقيم السياسية الأخلاقية عموماً. إذن، فكيف لمبادئ العدالة – التي جرى التعاقد عليها – أن تتناسب مع شروط تفكير غير موافقة لعقل المواطنين العام؟ كيف لهذه المبادئ أن تعبر عن الشرعية السياسية الليبرالية؟
ولا شك – فيما يرى هابرماس – أن الحقوق والحريات الليبرالية السياسية -بوصفها رؤية مثالية -هي تنظيم للعلاقات بين مواطنين متفاعلين قادرين على اتخاذ قرارات وأحكام حقيقية. ومن ثم فإن رولز لا يقدم حلاً كافياً لمشكلات الاستقرار في ظل واقع التعددية، فالحريات والحقوق الأساسية مثل: الضمير والملكية -وغير ذلك، مما عده رولز أولوية دستورية لا تنازل عنها ولا مقايضة لها بغيرها -تبدو غير منسجمة مع المقاربة الجمهورية التي تقول بأولوية المشاركة السياسية بوصفها حقاً يجعل المواطن مستقلاً ومؤكداً ذاته كعضو في الجمهورية، ولخيره السياسي العام المتمثل في الاستقرار الاجتماعي السياسي. وبناء عليه، فإن ليبرالية رولز السياسية غير قادرة على التعامل مع واقع التعددية بشكل ملائم(53). ورغم جميع هذه الانتقادات يمكن رؤية تأثير “جون رولز” ومن قبله “كانط” في أعمال معاصرة أخرى تخص مفهوم العدالة، منها أعمال: توماس ناجل (4 يوليو – 1937)، وتوماس سكانلون (1940)، وروبرت نوزيك (1938 – 2002)، وكثير غيرهم الذين تأثرت تحليلاتهم لمشكلات العدالة تأثراً قوياً بنظرية “كانط” و “جون رولز”.
المراجع والمصادر: (1) يُعد “جون رولز” من أبرز فلاسفة الفكر الليبرالي السياسي المعاصر، فقد أثارت كتاباته كثيراً من القضايا المتداولة على الساحة الدولية اليوم، ويحتدم في الغرب حوار وجدل مستمران بشأن موضوعات مثل: العدالة والإنصاف، والليبرالية السياسية، وحقوق الإنسان، وقضايا المجتمع المدني، والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت متداولة في الفكر السياسي المعاصر. وقد حاول “رولز” عبر مؤلفاته ترسيخ الأسس التي بُنيَت عليها النظرية الليبرالية بأبعادها المختلفة، وأكَد الحرية الفردية وتنمية قدرات الإنسان الذاتية. – يُنظر إلى: جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم د. عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم – ناشرون، المركز الثقافي العربي، الجزائر، 2006، ص 111. محمد العمراوي، العدالة الاجتماعية: مقاربة معرفية للمفهوم والأبعاد، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، المغرب، 2015. محاورة الجمهورية لأفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 83 من دراسة المترجم.
الواقع أن "جون رولز" كان اسماً مجهولاً خارج الأوساط الأكاديمية ، أو على وجه الدقة : خارج دائرة قراء البحوث الفلسفية المتخصصة؛ لكنه بعد صدور كتابه: "نظرية في العدالة" أصبح من ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جميع المثقفين في معظم أنحاء العالم. وقد وصف كتابه بعض المفكرين السياسيين بأنه "تحفة فريدة"، وإسهام لا نظير له في مجال الفلسفة السياسية؛ وربطوا بين هذا الكتاب وبين الأعمال العظيمة الخالدة "لأفلاطون" و"جون ستيوارت مل" و"كانط".
- يُنظر إلى: أنطوني دي كرسبني، وكينيث مينوج، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة ودراسة د. نصار عبد الله، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996، ص 132 -131 .
جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلي الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الث، نظرية في العدالة، ص 12.
إمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوى، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
- يُنظر أيضاً إلى: د. عبد الرحمن بدوي، إمانويل كنت. فلسفة القانون والسياسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979 ، ص26.
جون رولز، قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام، ترجمة محمد خليل، المشروع القومي للترجمة، عدد(1074)، 2007، ص 20.
كانت، مشروع للسلام الدائم، ترجمة د. عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1952، ص 51.
جون رولز، نظرية في العدالة، ص 38.
بومدين بوزيد، فلسفة العدالة في عصر العولمة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، 2009، ص 146.
- أيضاً: عادل صابر راضي، الفكر الليبرالي السياسي المعاصر (جون رولز أنموذجاً)، مجلة الفلسفة، العدد العاشر، 2013، ص 95.
جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت - لبنان، 2009، ص 90.