قلت في الجزء الأول من هذا المقال إن المرة الأولى التي تم فيها استدعاء الوحي “القرآن” كسلطة لإسناد وتبرير المواقف السياسية كانت إبان ما عرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى التي اصطرع فيها طرفان من الجماعة المسلمة، تزعم أحدهما الخليفة الرابع على بن أبي طالب، بينما وقف على رأس الثاني، معاوية بن أبي سفيان.
قام الطرفان باستدعاء القرآن للمعركة، كلٌ بحسب طريقته، حيث عمد معاوية إلى استخدامه كسلطة رادعة للخصوم من خلال رفعه على أسنة الرماح، بينما استدعاه الإمام على كحقل مفتوح للمعرفة والتأويل من خلال مقولته “القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتحدث به الرجال”، ومنذ أن تحقق النصر النهائي لمعاوية سادت في التاريخ الإسلامي طريقته في استحضار الوحي لتحقيق المرامي السياسية وردع الخصوم.
غرض الغزالي من تأليف كتاب في “علم الدين” هو فقط “شكر النعمة” التي أنعم بها عليه الخليفة
قد استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي، فعلى سبيل المثال قام الأمويون بابتداع عقيدتي “الجبر والإرجاء” اللتان تمنحان الخلفاء المبرر الذي يمكنهم من مخالفة الأوامر الدينية والتنكيل بالمعارضين دون أن يتعرضوا للمساءلة.
حيث تذهب العقيدة الأولى إلى أن جميع ما يقع من أفعال إنما هو بقدر الله تعالى، وأن الانسان كالريشة في مهب الريح، لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام لذلك القدر، وأن الملوك الظلمة هم عقاب من الله، وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.
أما الإرجاء فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالجبر، إذ أنه يفيد بأن الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المحرمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الانحرافات فإنهم لا يخرجون من دائرة الاسلام ما داموا يُقرِّون بالشهادتين، وأن حسابهم والحكم عليهم يجب أن يُرجأ إلى يوم القيامة.
ومن ناحية أخرى، فقد سعى بعض العلماء والفقهاء إلى تقديم خدماتهم للسلاطين والفقهاء عبر تأليف الكتب وإصدار الفتاوى من أجل تثبيتهم في السلطة، حتى أن آرائهم التي خرجوا بها في ذلك الإطار باتت جزءا من الشريعة التي يتم الدعوة لتطبيقها اليوم، كما أنها ساهمت في تأجيج الخلافات بين مختلف المذاهب من منطلق الدين بينما هي في الواقع وليدة الأغراض السياسية.
ويبرز من بين الأسماء التي دخلت في هذا الإطار الفقيه والصوفي والمتكلم الأشعري الكبير، أبو حامد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام وصاحب كتاب “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية”، الذي قام بتأليف ذلك السفر بطلب من الخليفة العباسي، أبو العباس أحمد بن عبد الله، الملقب بـ “المستظهر بالله” وسطر في مقدمته الكلام التالي:
“أما بعد فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ضعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة، لكني جنحت إلى التواني للتحري في تعيين العلم الذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تغير في وجه المراد وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية”.
إن أول ما نلاحظه في الحديث أعلاه هو أن الغزالي يجعل من نفسه “خادما” لمواقف الخليفة التي يصفها بـ”المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية”، وهى صفات تضفي هالة كبيرة من التقديس على الخليفة ومواقفه.
ثم أنه يوضح بجلاء لا لبس فيه أن غرضه من تأليف كتاب في “علم الدين” هو فقط “شكر النعمة” التي أنعم بها عليه الخليفة وحتى ينال به ثمار القبول والزلفة، وليس الهدف منه هو خدمة الدين عبر نشر كتاب يتعلم منه خاصة المسلمين وجمهورهم شؤون دينهم.
وكذلك يعترف حجة الإسلام أنه لم يكن لديه موضوع معين للكتابة تدفعه إليه رغبة في التأليف يستطيع من خلالها إشباع شغف علمي أو تأدية رسالة دينية يمليها عليه إيمانه، بل إن محركه الأساسي للكتابة هو أن يحظى مؤلفه بموقع “الرضا من الرأي النبوي الشريف”.
لا يُعاني الغزالي من الحيرة التي تعتري الفيلسوف أو الصوفي أو المفكر في بحثهم عن الحقيقة، ولكنه يُعاني نوعا من الحيرة باعثه الأساسي ليس الشغف المعرفي، إنها الحيرة المتعلقة باختيار موضوع للتأليف يجد صدى في نفس السلطان، حتى إذا ما خرجت التوجيهات الشريفة النبوية بالإشارة “للخادم” بتصنيف كتاب في الهجوم على الباطنية، ذهبت الحيرة وارتاح البال وشمَّر الأخير عن ساعد الكتابة استجابة للأمر المقدس!
إن القراءة الموضوعية للظرف التاريخي الذي سطر فيه الغزالي سفره المشار إليه، تفيد بأن الغرض من كتابته لم يكن دينيا، بل سياسيا يعكس حالة الاضطراب والمعارضة الداخلية التي كانت تعيشها الدولة العباسية أبان حكم الخليفة المستظهر، وهي الفترة التي شهدت الكثير من المعارك مع الصليبيين، كما شكل الشيعة الخطر الأيديولوجي الأكبر الذي هدد بزوال المرجعية العباسية.
كانت الدولة العباسية في فترة حكم المستظهر بحاجة ماسة إلى إجراء عملية تنظير للأيديولوجية (العقيدة) السنية لمواجهة الخطر الشيعي الإسماعيلي الباطني المتماسك فكريا والمتحالف مع الخلافة الفاطمية في مصر فوجدت ضالتها في الغزالي الذي قرر أن يرمي بثقله إلى جانبها في تلك المواجهة.
استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي
قام الغزالي بتخصيص قسم كامل من كتابه المذكور لتقديم البراهين على أن “الإمام الحق القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته هو الإمام المستظهر”، كما أوضح أنه يجب على “علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة” وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على جميع الخلق فرض.
وإذ يُجادل البعض أنه لا يمكن اتهام الغزالي بتوظيف الدين لخدمة الدولة العباسية ويقولون إنه لم يضع في كتابه المذكور أية نوع من التشريعات تبرر ذلك الاتهام حيث أن مادة الكتاب لا تنتمي لعلم أصول الفقه بل لعلم الكلام، فإنهم إنما يتجاهلون حقيقة أن حُجة الإسلام يعتبر أن “العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله، والحديث والتفسير علوم جزئية”.
وبما أن الغزالي يعتبر أن الكلام هو العلم الديني الكلي، فإن مادته بالضرورة تشكل الأساس الذي تنبني عليه العلوم الجزئية (بما فيها أصول الفقه)، وهو ما يؤكد حقيقة أن كتاب فضائح الباطنية ليس سوى كتاب في “علم الدين” قصد منه تشكيل الأرضية الدينية (عقيدة، وحديث، وتشريع إلخ) من أجل تحقيق هدف سياسي هو إسناد موقف الدولة العباسية (السنية) في مواجهة المد الشيعي الإسماعيلي.