الجدل عند كانت في أثبات وجود الله
لقد ادعى الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت بأن أدلة الفلاسفة التي تحوم حول اثبات وجود الخالق
لا تتجاوز الثلاثة
، بل ولا يمكن ان يُؤتى بأدلة أخرى غيرها، وهي الدليل الانطولوجي (الوجودي)
والكسمولوجي (الكوني)
واللاهوتي،
واعتبرها جميعاً غير ناهضة، وانها لا تتجاوز الدليل الانطولوجي المتضمن لفكرة الكائن الأسمى. اذ يتأسس الدليل اللاهوتي على الكوني
وهذا بدوره يتأسس على الدليل الانطولوجي الديكارتي، وليس هناك طريق آخر. ما يعني ان الأخير هو الوحيد الممكن لاثبات الكائن الأسمى؛ إن كان هناك دليل معتبر، فهو دليل مجرد عن الواقع ولا يتجاوز الذات المفكرة، كالذي استعان به ديكارت. وبالتالي فالأدلة ناقصة (١ )
والفارق بين هذه الأدلة هو ان الدليل الانطولوجي ينفرد في تجرده عن التجربة الخارجية كلياً، فيما الدليل الكوني يعتمد على التجربة العامة من دون تخصيص وتعيين، أما الدليل اللاهوتي
فهو يستعين بالتجارب الحسية المتعينة.
ويعتبر الدليل الوجودي
العمدة في الموضوع لدى (كانت)، ويمتاز بأنه يستدل قبلياً بمفاهيم مجردة ذاتية على وجود علة أسمى. وقد يكون من الأولى ان يسمى بالدليل الذاتي لا الانطولوجي أو الوجودي.
وبحسب
بعض الباحثين إن للدليل الانطولوجي تاريخاً قديماً تصل جذوره إلى ما قبل أرسطو، كما يلاحظ لدى نصوص بارمنيدس، فقد رأى هذا الفيلسوف ان الأصل في الأشياء هو وجود كائن لا نهائي وغير مخلوق، فهو وجود خالص بسيط ومطلق مليء بالوجود. واستدل على ذلك بأن هذا الكائن إما ان يكون كاملاً أو ان لا يكون موجوداً على الاطلاق( ٢ )
. وكثيراً ما كان القدماء يعتبرون الكائن الضروري لا بد ان يتصف بالكمال مقارنة بغيره، وهم يستدلون عليه بالأمر الوجودي لا الذاتي. وعادة ما يتخذ الاستدلال طريقة التدرج من المعلول إلى العلة، كالنهج المتبع لدى افلاطون وأرسطو وأتباعهما، ومن ذلك ترتيبهم للوجود ضمن مراتب هرمية لا بد ان تنتهي إلى أقصى صور الكمال؛ وفقاً لقاعدة الإمكان الأشرف كما أدلى بها أرسطو. ويعود الفضل في هذا الترتيب إلى منطق السنخية كأصل مولد للتفكير الفلسفي (٣ )
.
فكما رأى هذا الفيلسوف انه اذا كانت فكرة الجوهر اللامتناهي موجودة فينا
، ونحن جواهر متناهية
، فمن الضروري ان يكون مصدر هذه الفكرة حقيقة موضوعية لشيء غير متناه
هو الذي وضع الفكرة فينا. ففي الجوهر اللامتناهي وجود أكثر مما في الجوهر المتناهي
، وبالتالي لا يفسر هذا الحال إلا الواقع الموضوعي للحقيقة الإلهية،
مشيراً إلى ان هذه الفكرة تسبق في أذهاننا لفكرة المتناهي،
أي ان الله سابق لذواتنا،
وإلا كيف نعرف اننا نشك ونرغب،
أو اننا أشياء ناقصة
لو لم يكن لدينا فكرة عن كائن هو أكمل من كياننا
نعلم بالقياس عليه ما في طبيعتنا من عيوب؟
وعليه انتهى هذا الفيلسوف
إلى ان فكرة الله الكامل هي فكرة واضحة جداً وتتضمن من الوجود الواقعي أكثر من أي فكرة أخرى، وبالتالي لا يوجد اصدق منها ()٧.
ومن الجدير بالذكر انه سبق لعدد من الفلاسفة المسلمين ان طرحوا برهاناً على الوجود الالهي لا يختلف عن الدليل االوجودي
فقد استدلوا على وجود الله وكماله من خلال مفهوم الوجود ذاته من دون ان يدعوا حضور الفكرة الفطرية للكمال الالهي كما تضمنها الدليل الانطولوجي.
ففي هذا البرهان لا يحتاج الأمر أكثر من تأمل نفس الوجود كمقدمة تعريفية ليصل الحال إلى البرهنة على وجود الله،
لذلك كان مبجلاً وأحياناً يعتبر هو الوحيد الوافي دون غيره من الأدلة.
وقد أشار إليه ابن سينا في (الاشارات والتنبيهات)، وكما قال:
‹‹تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن السمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى إعتبار من خلقه وفعله.. فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده من وجود.. أقول إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه››
كذلك اعتمد صدر المتألهين على هذا المنحى التعريفي، وكما ذكر في رسالة (المشاعر)
بأن الوجود هو صرف مجرد من غير مشوبة حد أو نهاية أو نقص أو عموم أو خصوص، وهو المسمى بواجب الوجود،
فلو لم يكن مثل هذا الوجود موجوداً لما كان هناك شيء موجود، وبه لا يحتاج إلى الاستدلال على نفي التسلسل
. ،
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
أما الدليل الكوني
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
فهو ذاته دليل الحدوث كما صوره لايبتنز،
وهو دليل قائم على السببية الوجودية،
حيث الحادث دال على محدث كما سبق للكثير من الفلاسفة ان قالوا به.
وفحوى هذا الدليل هو انه يعتمد على وجود شيء ما لا على التعيين،
كوجودي أنا مثلاً، فإذا كان شيء ما موجوداً
فان ذلك سيفضي إلى وجود كائن ضروري ضرورة مطلقة،
اعتماداً على السببية وامتناع التسلسل.
وهو الدليل المسمى ببرهان الإمكان والوجوب،
وقد أشار إليه الفلاسفة واللاهوتيون ضمن الأدلة المختصة بالمسألة الإلهية،
ومن ذلك ما استعرضه القديس توما الاكويني في (الخلاصة اللاهوتية)،
حيث أحصى خمسة أدلة مختلفة من بينها هذا الدليل، ومثله الدليل الانطولوجي واللاهوتي الطبيعي
[13]. وسبق لإبن سينا ان حرر هذا الدليل في (النجاة) بالشكل التالي
: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››[14].
وبنظر (كانت) ينطوي الدليل الكوني على الدليل الوجودي
، اذ يفترض كائناً يمتلك الواقع الأسمى، وهو المتصف بالضرورة المطلقة غير المشروطة، أي انه يحول الضرورة المطلقة مما هي ذاتية إلى وجود موضوعي،
فهذه الضرورة هي وجود مشتق من مفاهيم صرفة،
مطلقة، وهو مفهوم قبلي يستحيل اثبات ان له وجوداً موضوعياً.
اذ يقرر هذا الدليل القضية التالية: ‹‹كل كائن ضروري ضرورة مطلقة هو معاً أكثر الكائنات واقعية››[15].
فبحسب (كانت)
ان ‹‹مفهوم كائن ضروري ضرورة مطلقة هو مفهوم عقلي محض، أي مجرد فكرة
ما يزال واقعها الموضوعي بعيداً عن ان تدلل عليه مجرد حاجة العقل اليها، وهي لا تفعل سوى ان تحيلنا إلى كمال ›
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
يبقى الدليل اللاهوتي،
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
وهو ذاته دليل النظام والعناية أو الغائية،
ويتصف بأنه ينطلق من التجارب المتعينة
ومن القوام الخاص لعالمنا الحسي،
ومن ثم يرتفع
– كالدليل الكوني
- عبر قوانين السببية إلى العلة الأسمى خارج العالم.
وقد احترم (كانت) هذا الدليل
لكنه عرّضه كغيره من الأدلة للنقد
.
شكلان مختلفان للنقد
لقد اتخذ نقد (كانت) للأدلة السابقة
شكلين مختلفين،
أحدهما اختص
بالدليل الوجودي
فيما تعلق الثاني
بالأدلة عموماً.
فهو من جانب اعترض على القفزة غير المشروعة
لفكرة الإله
من التصور الذاتي إلى الوجود الخارجي،
كالتي امتازت بها صياغة ديكارت الانطولوجية.
لكنه من جانب ثان
اعتبر سائر الأدلة تخفي العناصر الذاتية لفكرة الكائن الأسمى الضروري
، لذا اتهمها بأنها تعمل على اسقاط العناصر الذاتية على الوجود الموضوعي
ومن ثم فان هذه الأدلة لا تختلف عن الدليل الوجودي
في كونها تحمل ذات المضمون القبلي المتعلق بفكرة الكائن الأسمى.
.
.
. فالعقل لا يمتلك صفة الاستكشاف الموضوعي،
بل كل ما يمكن فعله هو الربط والتنظيم.
. وعليه رأى ان من المسموح به ان نسلّم بوجود هذا الكائن كعلة أولى للمسببات الممكنة
؛ بغية اشباع رغبة العقل في ان يعثر على وحدة لمبادئ التفسير التي يبحث عنها.
.
وبلا شك ان المبادئ التنظيمية الصرفة للعقل البشري كما صورها (كانت)
تكفي لاغلاق الباب على كل الأدلة المتعلقة
بالمسألة الإلهية وما شكالها
من المسائل الميتافيزيقية الأخرى،
وذلك من دون حاجة للتفاصيل التي أبرزها هذا الفيلسوف بلا طائل
. فقد يكفي اعتبار كل الأدلة لا تجاوز الدليل الواحد
، وهو الدليل الذاتي الصرف
،. فالمبادئ التنظيمية في العقل بحسب (كانت) ليست مخولة للكشف عن الواقع الموضوعي.
ولكي يجد لفلسفته المغلقة مبرراً مستساغاً حاول ان يثبت بأن خلافها يفضي إلى التناقض الصريح.
فقد ذكر بأن الحدوث والضرورة المطلقة غير المشروطة كلاهما يشكلان مبدأين رابطين للعقل
، لكنهما غير مهيئين لتحويل الافكار غير الحسية إلى قضايا وجودية،
فاحدهما يناقض الآخر،
لذا اعتبرهما فكرتين ذاتيتين فحسب.
فلو تعلقا بالأشياء لكان هناك تناقض صارخ، فاحدهما يدعو إلى التوقف عند حد نهائي مطلق غير مشروط، فيما يدعو الآخر إلى الاستمرار في الحدوث المشروط بلا توقف.
وبعبارة ثانية
، ان أحدهما يدعو العقل
إلى ان يدفعنا إلى البحث عن شيء ضروري لما هو معطى بوصفه موجوداً دون الاستمرار بلا حد نهائي.
أما الآخر فعلى العكس
يمنعنا ان نتوقف عند حد معين غير مشروط.
فهذا التناقض يحتم عليهما ان يكونا صالحين للتنظيم فحسب،
فهما لا يتعلقان بالأشياء، بل بالغرض الصوري للعقل فحسب،
طالما ان أحدهما يدعو إلى شيء والآخر إلى نقيضه[18].
وهو ما يعني ان من المستحيل اثبات الضرورة المطلقة غير المشروطة في الوجود.
.
ومن وجهة نظر (كانت) فان العقل لا يحتضن سوى فكرتين فحسب
.
يبقى ان الإشكال الأساس المنسجم مع اطروحة (كانت) هو انه اعتبر الأدلة المتعلقة بقضايا اثبات خالق حكيم قادر
؛ هي خارجة عن سياق حقل التجربة الممكنة، وبالتالي فمن المستحيل اثباتها.
ومن ذلك انه لم يسوّغ الاعتماد على مبدأ السببية لاثبات الخالق، ومما قاله بهذا الصدد:
أنا لست بحاجة إلى الانتقال إلى التأمل النظري كي أتأكد من حقيقة النظام والغائية في الطبيعة، وانما بحاجة إلى ان افسرها
بافتراض إلوهية كعلة لها.
لكن ربما الاستدلال الذي ينطلق من نتيجة إلى سبب محدد بدرجة من الكمال هو دائماً استدلال غير اكيد ومتعسر( )
وقدعلل لماذا الاستدلال من نتيجة إلى سبب يعتبر ناقصاً في الكشف عن وجود الله؟
فمن وجهة نظره انه لا يجوز الانتقال مما هو موجود إلى ما هو مختلف عنه
، فالموجود مشروط والخالق غير مشروط ( )
. فعلاقة السببية العامة باثبات الخالق مشروطة بالتجربة،
وبالتالي لا يمكن اثباته لخروجه عن مجال الأخيرة.
وأكد بأنه لا يمكن ان يأتي يوم يتم فيه العثور على دليل على وجود الله، لنفس السبب المذكور،
وهو انه خارج نطاق التجربة الممكنة، أو انه لا صلة له بموضوعاتها ( )).
.
لذلك استعان بالقوانين الأخلاقية لاثبات المبدأ المطروح، فهو على خلاف الفلاسفة
اعتبر حجر زاوية اثبات هذا المبدأ قائماً على القضية الأخلاقية
لا الوجودية،
فيما الفلاسفة كانوا يعتبرون الدليل الوجودي هو ما يحدد القضية الأخلاقية، لقيام الأخيرة عليه ( ).
وتجدر الاشارة إلى انه سبق لهذا الفيلسوف ان كتب بحثاً قبل النقد عام 1763 بعنوان
(الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله)،
ذكر فيه أربعة أدلة،
لكنه تقبّل منها واحداً فقط هو برهان الممكن والواجب
، حيث الموجود إما أن يكون ممكناً أو واجباً ضرورياً،
فإن كان ممكناً فانه سيحتاج إلى الواجب ( )
كما ان له بحثاً آخر بعنوان (التاريخ الطبيعي العام)
رأى فيه ان هناك شواهد كافية تثبت اعتماد المادة وقوانينها الباطنة على الله،
أي لا بد ان تكون هناك علة أصلية تمثل عقلاً كلياً أسمى هي التي وضعت طبائع الأشياء لتحقيق اغراض مشتركة
.
مع هذا فانه شعر فيما بعد بالفشل في العثور على دليل يثبت وجود الله،
وهو ما دفعه إلى كتابة
(نقد العقل المحض) لرسم طبيعة وحدود المعرفة البشرية، وقد جاء ذلك بتوجيه غير مباشر لعدد من الفلاسفة أبرزهم ديفيد هيوم.
.
وأ ؟.
من جهة ثانية، رأى هذا الفيلسوف ان الدليل المشار إليه يترك مسألة ما اذا كانت علة العالم (الله) ذات ضرورة طبيعية أم تتصف بالحرية؟
مؤكداً بأن هذه المسألة غير محسومة ( ) . .
فالطبيعة هي مسرح ‹‹من التنوع والنظام والغائية والجمال إلى درجة كبيرة. وكل لسان يعجز عن التعبير امام هذا العدد من العجائب وهذه الضخامة. فنحن نرى في كل مكان سلسلة من المسببات والأسباب والغايات والوسائل من الانتظام في ما ينشأ وما يفنى..››.
كما أشار إلى ان
‹‹هذا الدليل يستحق ان يذكر دائماً باحترام،
فهو الأقدم والاوضح والانسب للعقل البشري العامي››
. لكنه مع هذا لم يعتبره كافياً لاثبات وجود الكائن الأسمى،
بل رآه مرغماً للاستعانة بالدليل الوجودي الديكارتي.
فرغم انه أبدى اعجابه بعظمة حكمة الخالق وقدرته
وفي الدليل اللاهوتي،
إلا انه اعترض على ما اعتقده اللاهوتيون حول حدوث العالم،
ولعله قصد مادة العالم أو جوهره
وفق الدليل الكوني ، وان هذا الأخير يضمر الدليل الوجودي ، حيث نرتفع من تعيين هذا الكائن بتضمنه لكل الكمال
. لذلك رأى بأن الدليل اللاهوتي متوقف في نصف مشروعه ليقفز من ضيقه إلى الدليل الكوني الذي يضمر الدليل االوجودي
ما يعني ان مشكلة الدليل اللاهوتي
تعود إلى كونه يفترض الكمال التام للكائن الضروري مثلما يفترض الحاجة إلى علة أولى غير مشروطة.
ويبدي فيلسوف التنوير أحياناً انه لم يتمكن من نفي كامل الحجة اللاهوتية حول نظام الطبيعة
، فقد اذعن لاثبات صانع الصور دون إمكانية اثبات خلق مادة العالم وفق تلك الحجة.
فاعتراضه على هذا الدليل هو لكونه لا يقدم شيئاً لاثبات حدوث المادة أو خلق الجوهر،
لكنه تقبل صنع الحوادث كصور غائية للمادة
. واعترف بأن الدليل يمكن
‹‹ان يثبت على الأكثر مهندساً للعالم سيظل دائماً محدوداً باستعدادات المادة التي يشتغل بها، لا خالقاً للعالم يخضع كل شيء لفكرته. وهيهات ان يكفي ذلك للمقصد الكبير الذي نصبوا إليه والذي هو التدليل على كائن اصلي كاف لكل شيء››
م
من جانب آخر تقبّل (كانت) فكرة التخمين حول مسألة وجود الله كما اوردها مؤخراً في (نقد العقل العملي).
ولأول وهلة قد تبدو هذه الفكرة بأنها تطور لافت، فكما قال
: ‹‹على الرغم من كل الجهود التي يبذلها عقلنا، لا نحصل على أكثر من نظرة قاتمة جداً ومريبة إلى المستقبل، وان حاكم العالم يتيح لنا التخمين فقط بخصوص وجوده وجلاله، من دون ان نبصره أو نبرهن عنه بوضوح، وان القانون الأخلاقي فينا بالمقابل يوجب علينا احتراماً منزهاً عن كل منفعة››. لذلك فهو وحده الذي يتيح لنا القاء نظرات ولو باهتة على علم خارج نطاق المحسوس ( )
.
والعجيب ان دهشة (كانت) وتعظيمه لعجائب النظام الكوني لم تحرّك فيه السؤال الملح:
من أين أتى ذلك وكيف؟
والشيء ذاته يتعلق بالنظام الأخلاقي. فهو معجب بهما غاية الاعجاب
، وله عبارة رائعة تشير إلى هذا المعنى، اذ يقول:
‹‹شيئان يملآن الوجدان باعجاب واجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر والتأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي›› ( )
.
لقد يأس (كانت) من العقل النظري في اثبات وجود الله،
ما اضطره إلى اللجوء إلى العقل العملي الأخلاقي
. فقد اعتبر ان بين عوالم الأخلاق والطبيعة والله انسجاماً واضحاً،
وهو ان الغايات السامية تتمثل بالأخلاق. وبحسب العقل العملي الأخلاقي
فان هناك ضرورة لافتراض وجود الله،
وان قانون الأخلاق المقدس هو وصايا إلهية لكوننا ملزمين بها من الداخل ( )
. هكذا انه افترض وجود الله من خلال العقل الأخلاقي،
أي من خلال إمكانية الخير الأسمى في العالم،
وعلى حد قوله: ان ‹‹من الضروري أخلاقياً ان نقر بوجود الله›› ( ٤٠ )
أو بتعبير آخر ان هناك مصلحة حرة للعقل العملي المحض في قرار القبول بصانع حكيم للعالم،
وهو مبدأ ذاتي بصفته حاجة[41].
وكما قال:
‹‹يستطيع الانسان قويم الخلق ان يقول بحق: انني اريد ان يوجد إله
، وان يكون وجودي في هذا العالم، ايضاً خارج الرباط الطبيعي،
وجوداً في عالم معقول محض،
وأخيراً ان يكون دوام وجودي لا متناهياً،
اني اتمسك بهذا من دون ان اعير أي اهتمام للسفسطات..
واني لن ادع احداً ينزع مني هذا الاعتقاد،
لأنها هذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها مصلحتي››[42].
بهذا لا يخفي (كانت) حاجة العقل العملي إلى مصادرات،
مثل حاجة العقل النظري إلى افتراضات
، فقد عبر في البداية عن الحالة الأخيرة قائلاً: ارتقي ‹‹من المستنبط صعوداً نحو الاعلى في سلسلة المبادئ بالقدر الذي اريده.. كي ارضي بشكل كامل عقلي الباحث في هذه الأمور››..
أما الحاجة إلى العقل العملي فهي
‹‹مؤسسة على واجب ان يجعل من شيء ما (أي الخير الأسمى)
موضوع إرادتي لكي اقوم بكل ما بوسعي لأحققه››.
لذا يجب عليّ افتراض إمكانية الشروط لذلك، أي افتراض الله والحرية والخلود. ويقيني في هذا مستمد من القانون الأخلاقي، حيث انني اريد ان يوجد إله[43].
هذه هي الفائدة التي جناها فيلسوف بروسيا بعد شكّه المطبق وتعليقه للحكم،
التنوير (كانت)[44].
ومن الناحية الابستيمية رأى انه اذا لم تتخذ القوانين الأخلاقية كأساس
؛ فان من المحال ان تكون هناك الهيات للعقل.
ومعلوم ان الالهيات الطبيعية تتضمن ازدواجاً من السببية الضرورية والحرية.
وعليه استدل بأن هناك نظامين طبيعي وأخلاقي
، حيث يرتفع الاستدلال من قوام ونظام ووحدة العالم ليتجه إلى العقل الأسمى
؛ بوصفه مبدءاً لكل نظام وكمال طبيعيين كانا أم خلقيين. وتسمى في الحالة الأولى الهيات طبيعية، وفي الثانية الهيات أخلاقية
هكذا ان الالهيات الأخلاقية هي اقتناع بوجود كائن أسمى مؤسس على قوانين خلقية،
وان مفهوم العقل الأسمى مشتق من طبيعة انفسنا
( )
وهذا التحليل هو أقرب المعاني للنظرة الكلامية القائلة بنظرية الحسن والقبح العقليين
كما التزمت بها العديد من المدارس الدينية، كالمعتزلة مثلاً، فمفهوم الله ينتمي إلى الأخلاق لا الفيزياء أو العقل النظري،
والشيء نفسه يقال حول مفاهيم الخلود وحرية العلية كمصادرات للعقل العملي. وهذا ما أشار إليه (كانت) مراراً في (نقد العقل العملي) ( )،
لكنه في (نقد العقل المحض)
اعتبر هذه الموضوعات الثلاثة تارة تمثل غرض العقل الترسندالي، وأخرى غاية الميتافيزيقا
، من دون ان يزيد عليها موضوع رابع ،( )
.
فمن منطلق اعتبار الغايات،
دلل (كانت) على حياة النفس بعد الموت؛ طالما ان للطبيعة وحدتها الغائية كمصادرة أخلاقية عملية ( ).
فمن حيث الأساس اعتقد بأنه من المحال ان يكون الخير الأسمى ممكناً عملياً إلا بافتراض خلود النفس ( ).
إن أهمية الاعتقاد بالله والوعد والوعيد بالنسبة إلى الأخلاق، وعلاقة ذلك بالخير الأسمى، هو ما يجعل المرء جديراً بالسعادة. والامل هو الذي يهتم بهذه السعادة عبر جمعه بين العقلين النظري والعملي ( ).
وهو يعتبر ان اثبات الحرية
شرطاً ضرورياً للأخلاق،
فمفهوم الحرية يشكل حجر الغَلَق ف
ي بناء منظومة العقل المحض بكامله
ا حتى النظري وكافة المفاهيم الأخرى،
وهي الله والخلود.
وسبق لباركلي
ان اعتبر بأن القانون الأخلاقي محكوم بمبدأين هما حرية الانسان ووجود الله[ ).
وقبل ذلك رأى الفيلسوف الحسي جون لوك
بأن الأخلاق تتأسس على وجود الله، لهذا فانه وإن تسامح مع اختلاف الطوائف والاديان فانه لم يتسامح مع الملحدين[54]
. ومثل ذلك ما ذهب إليه روسو
في علاقة الأخلاق بوجود الله
، وقد كان له تأثير بارز على الأخلاق الكانتية،
وقيل انه من علّم (كانت) احترام قيمة كل انسان من حيث انه غاية في ذاته[55]
. في حين نجد نظرية أخرى مختلفة ترى القضية الأخلاقية مستقلة تماماً عن المسألة الإلهية،
وهي الدعامة الأساسية للأخلاق العلمانية،
كالتي طرحها الفيلسوف الفرنسي بيير بيل خلال القرن السابع عشر الميلادي
، وبحسبه ان لدينا معرفة طبيعية يقينية بثلاثة مبادئ اجتماعية، وهي: ان نحيا حياة شريفة، وان لا نؤذي احداً، وان نعطي لكل انسان حقه ( )
وتقف نظرية (كانت)
موقفاً وسطاً بين النظريتين السابقتين،
فهي لا تعتبر القانون الأخلاقي مستقلاً عن المسألة الإلهية،
كذلك فانها لا تعتبر من جانب آخر فكرة الله ومثلها الخلود شرطاً للقانون الأخلاقي
. فالمهم لدى هذا المفكر هو مفهوم الحرية،
حيث ان به يكون لبقية المفاهيم قوام وحقيقة موضوعية، لأن إمكانيتها قد حازت على برهان بحسب العقل العملي
بأن الحرية حقيقية، وتتجلى هذه الفكرة عبر القانون الأخلاقي.
وهي وان لم ندركها لكنها شرط هذا القانون كما نعرفه
إن الأخلاق هي قانون قبلي ذات صلة بالسعادة،
وان ضرورة الله وعالم الاخرة هي لحوافز الفعل الأخلاقي.
وان الأخلاق هي كالرياضيات لا تخضع للرأي بل للعلم. فكلاهما يقينان
م.
نقد العقل المحض، ص312 و296 و316.
[4] الله كبرهان على وجود الله، ص65 وما بعدها.
[7] رينيه ديكارت: تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الرابعة، 1988م، التأمل الثالث، فقرة 22ـ25، عن م
[11] ابن سينا: الاشارات والتنبيهات، طبعة دار المعارف، القسمان الثالث والرابع، ص482-483.
[12] لاحظ: صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مصدر سابق، ج6، ص14ـ15. وأسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص26ـ27.
ر م (توما الاكويني: الخلاصة اللاهوتية، ترجمة الخوري بولس عواد، دار صادر، بيروت، ج1، ص32ـ34، عن مكتبة ال
[20] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص56ـ57.
[.
[29] يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص ٢١١
[35] نقد العقل العملي، ص٦٩ ٢ و ٢٤٩ ٢٤٢