العدل والجور
هذه مسألة من المسائل الهامَّة التي ثار من أجلها الخلاف واشتدَّ النِّزاع بين الأشاعرة وبين المعتزلة والفلاسفة، ومن ثَمَّ نرى ابن رشد في بحثه لها لا يذكر المعتزلة في نقده، على حين ينال الأشاعرة بفيض من نقده اللاذع الشديد.
وهي مسألة تقوم في أساسها على مسألة الحُسْنِ والقُبْح في الأفعال، أذلك يرجع إلى العقل، كما يرى المعتزلة والفلاسفة، أم إلى الشرع كما يرى الأشاعرة؟ ولذلك سنرى كل فريق يبني رأيه في مسألة العدل والجور على رأيه في مُشْكِلَة الحُسن والقبح.
ويبدأ فيلسوف الأندلس البحث بقوله: «قد ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جدًّا في العقل والشرع، أعني أنَّها صرَّحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع بل صرح بضده.»٥٢
ثم يُلَخِّص ابن رشد هذا الرَّأي بأنَّ الإنسان يُوصف بالعدل تارة، وبالجور أُخرى؛ لأنَّ الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رَضِيه الشَّرع كان عادلًا، ومن أتى ما نهاه عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائرًا، أمَّا الله سبحانه وتعالى وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعلٌ هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدلٌ، وكان مِنْ هذا أن قالوا ليس شيء في نفسه عدلًا، ولا شيء في نفسه جورًا، بل كل ذلك يرجع إلى الشرع الذي أمر بأي معصية لكان ذلك عدلًا، وهذا في غاية الشناعة وخلاف المسموع والمعقول!٥٣
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ موقف الأشاعرة في هذه المَسألة «خلاف المسموع والمعقول»؛ وذلك لأنَّ الله وصف نفسه بأنَّه القائم بالقسط، وبأنَّه لا يظلم، وهذا إذ يقول (سورة آل عمران: ١٨): شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وإذ يقول (سورة فصلت: ٤٦): وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وإذ يقول أيضًا (سورة يونس: ٤٤): إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا. يُريد فيلسوفنا بهذا أنْ يُقَرِّر على ما نعتقده، بأنَّ هذه الآيات — وأمثالها في القرآن — تشهد بأنَّ منَ الأفعال ما هو في نفسه عدل كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم كتعذيب البريء الذي لم يجترح إثمًا.
ولكن الغزالي مَثَلُه في هذا مثل سائر الأشاعرة، يرى هنا أنَّ لله ألَّا يُثيب المُطيع كما له أن يعذب الحيوان والطفل البريء بما يشاء، وأنه بهذا وذاك لا يكون ظالمًا؛ لأنَّه يتصرف في ملكه بما يُريد، وكما يَرَى هو لا يرى غيره، فلا يُتَصور في حقه الوصف بالظلم، ما دام شرط هذا الوصف غيرَ موجود في حَقِّه، وهو التصرف في غير الملك أو مخالفة أمر من له عليه حق الأمر.٥٤
على أنَّ لنا أن نقول بأنَّ الأشاعرة حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنَّه تعالى وإن كان لا يَجِبُ عليه إثابة المطيع إلا أنه سيفعل هذا حتمًا تحقيقًا لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنه حين تُحل هذه المشكلة هذا الحل الذي يحقق لله العدالة والإرادة والقدرة بإطلاق، يشعر الإنسان أنَّه تحت حكم إله ليس عادلًا كل العدل فحسب، بل ورحيمًا أيضًا إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العُصَاة، وأنَّه لن يضيع أجر من أحسن عملًا.٥٥
ومع هذا فإنَّ ابن رشد لم يَسلَم له رأيه حتى الآن، بل عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن لا تدلُّ بظاهرها لرأيه، وأنْ يُفسر آيات أُخرى تشهد لرأيه، مثلًا جاء في سورة المدثر: (آية ٣١): كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي سورة السجدة: (آية ١٣): وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، إلى آيات أخرى تدلُّ — إذا أخذت حرفيًّا ومُستلقة عن غيرها — على أنَّ الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جورًا طبعًا.
وهنا نرى ابن رشد لا يعيا بالجواب عن هذه المشكلة، إنه يرى بحق أنَّ هذه الآيات ظاهرها لا يَتَّفِقُ وآيات أُخرى تدلُّ على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى (سورة الزمر: ٧): وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ إذ منَ البيِّن بنفسه أنَّه متى كان الله لا يَرضى الكُفر لأحد من عباده، فإنَّه لا يرضى طبعًا أن يوقع أحدًا في الضلال المؤدي إليه.٥٦ والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب منعًا للتعارض بين آيات القرآن تأويلُ آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأُخرى، فهذا هو اللازم عقلًا، وما يتفق وعدْلَ الله الشامل العام.
ولكنْ كيف يؤوِّل هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما آنفًا؟ إنه يرى في الآية الأولى التي تقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، إشارة إلى أنَّ مشيئة الله الأزلية اقتضت أن يكون في بعض الناس خلق مُهَيَّئون للضلال بطباعهم وبأسباب أُخرى عرضت لهم، لا أن الله تعالى هو الذي يضلهم.٥٧ ولكن لنا أن نتساءل: وهذه الطباع التي هيأتهم للضلال، مَن الذي خلقها فيهم؟ وهذه الأسباب التي قادتهم إليه، من الذي كان السبب الأول فيها؟
على أنَّ فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأُخرى التي تقول: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. إنه يَرَى أنَّ ما يكون خيرًا للأكثر من الناس قد يكون سببًا لشر — هو هنا الضلال مثلًا — يُصيب الأقل، فليس من الحِكْمَة أَلَّا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خَلْقه والأمر هكذا يكون عدلًا كل العدل،٥٨ ولهذا جاء في آية أخرى (سورة البقرة: ٢٦) قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.
وفي الحق لو لم يجئ الإسلام وينزل الله القرآن على محمد، ﷺ؛ ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لما صار من كفر به إلى الضلال الأبدي والخلود في النار، ولكنه كان من أعظم الخير والعدل للبشرية جميعًا أنْ جَاءَ هذا القرآن الذي هُدي به أضعاف أضعاف من كان سببًا عارضًا لإمعانهم في الضلال والكُفر، فالله إذن لم يقصد قصدًا أوَّليًّا أولئك الذين كفروا به، ولكن أراد الخير الكامل والسعادة التامة لأُمَّة رسوله المصطفى، وإن كان سببًا لشقاء من كفروا به.
ومن الواضِحِ بَعْدَ هذا كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور «كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنَّه إنما خلق أسباب الضلال؛ لأنه يُوجد عنها غالبًا الهداية أكثر من الضلال.»٥٩
أمَّا لماذا جاءت في هذا المعنى تلك الآيات المُتَعَارضة بظاهرها؛ حتى احتاج الأمر إلى التأويل، فإنَّ فيلسوف الأندلس يجيب بأنه كان ضروريًّا أن يفهم الجمهور أنَّ الله مع عدالته المُطْلَقة هو خالق كل شيء: الخير والشر؛ وذلك بسبب ما كان معروفًا — قريب عهد بالرسالة — من القول لدى بعض الأمم من وجود إلهين: واحد للخير وآخر للشر، فكان من الضروري تقرير أنه لا خالق لشيء ما إلا الله وحده، ولكن على معنى أنَّ خلقه للشر من أجل ما يكون سببًا للخير لأكثر الناس؛ فيكون خلقه للشر إذن عدلًا وخيرًا حقًّا.٦٠
ومهما يكن من شيء، فإنَّ هذا القدر من التأويل ليست معرفته واجبة على جميع الناس في رأي ابن رشد، ولكنَّ هذا واجب لمن عرض لهم فقط الشك في هذا المعنى؛ وذلك لأنَّه «ليس كل أحد من الجمهور يشعر بالمعارضات التي في تلك العمومات، فمن لم يشعر بذلك فغرضُه اعتقاد تلك العمومات على ظاهرها.»٦١ حتى لا يكون البحث في هذا سببًا لدخول الشك في قلبه.
هكذا سَلِم لابن رشد التدليل على أن الفعل يصح أن يوصف لنفسه بالحسن والعدل أو بالقُبح والجور، وعلى أنَّ أفعال الله تعالى تُوصف لذلك بالعدل دائمًا، كما سَلِم له أيضًا الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ إذا أُخذت بظاهرها أنها مُتعارضة في هذا المعنى، وذلك دون أن ينزل إلى رأي الأشاعرة الذي يراه شنيعًا وضد الشرع والنظر العقلي الصحيح.
(٩) المعاد وأحواله
■●■●■●■●■●■●■●■■●■■●■
كون الإنسان يُبعث بعد موته ليُجزى عَمَّا عَمِل في الدار الدنيا، وليحيا حياة أخرى سعيدة أو شقية، هو كما يقول ابن رشد «مما اتفقت عليه الشَّرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء.»٦٢ ولا نِزَاع فيه بين الفَلاسِفَة وبين رجال علم الكلام.
وذلك لأنَّ الإنسان لم يُخلق عبثًا، بل خُلِقَ لِغَايَةٍ جَليلة يُعتبر تحقيقها بأفعاله ثمرة وجوده في الدَّار الدنيا، فلا بدَّ إذن من أن يؤدي حِسَابًا عَمَّا عمل في سبيل هذه الغاية.
وكذلك؛ من الناس من يحيا في هذه الدار الدنيا حياة لا يجد فيها من السعادة ما يُكافئ فضيلته وأَعماله الخيِّرة، ومِنَ النَّاس من هم في مُتعة من اللذات والخيرات مع بُعدهم عن الفضيلة، فلا بدَّ إذن من حياة أخرى، بعد هذه الحياة التي يشقى فيها الفاضل وينعم الرذْل الشرير، يجد فيها كل إنسان من الجزاء ما يكون كِفاء ما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الحاضرة.
ولهذا وذاك كان الاتفاق في هذه المسألة، مسألة المعاد والجزاء، يرتكز على ما جاء به الوحي وقامت عليه البراهين الضرورية عند الجميع، وفي ذلك يقول الله تعالى (سورة المؤمنون: ١١٥): أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ويقول (سورة النجم: ٣٩–٤١): وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.
لم يجد ابن رشد إذن أي عناء في التدليل على مبدأ المعاد، وإنما الذي بذل فيه جهده هُنا هو بيان أنَّ هذا المعاد وما يتبعه من ثواب أو عقاب سيكون روحانيًّا لا جُسمانيًّا أيضًا كما يرى المتكلمون، وإثبات هذا بطريق يناسب الخاصة والعامَّة حسب المبدأ الذي أخذه على نفسه في كتابه «كشف الأدلة».
وهذا المجهود الذي بذله ابن رشد في بيان رأيه ورأي أسلافه فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، وفي التدليل عليه سيكون الحكمُ له أو عليه في الفصل التالي الخاص بالخصومة بينه وبين الغزالي، وإنما طريقتنا هنا كما في سائر المسائل التي تقدمت في هذا الفصل، هي عرض رأي فيلسوف الأندلس وتدليله عليه كما أراد، ومُقارنته برأي بعض أعيان المُتكلمين وبالأخص إمام الحرمين وخريجه أبو حامد الغزالي.
•••
ذهب المتكلمون إلى أنَّ بعث الأجسام ثابت بالسمع وجائز عقلًا مع هذا، أمَّا السمع ففي القرآن كثير من الآيات التي تثبته، ومنها قوله تعالى (سورة يس: ٧٨-٧٩): وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
والعقل يُجيز البعث الجسماني أيضًا، فهذا هو إمام الحرمين الجويني يقول مستدلًّا بالعقل على جوازه: «ووجه تحرير الدليل أننا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدَّرناها مثلًا لها لقضي العقل بتجويزها، فإنَّ ما جاز وجوده جاز مثله؛ إذ من حُكْم المثْلين أن يتساويا في الواجب والجائز.»٦٣
ولا يختلف الغزالي في هذا عن شيخه الجُويني، فهو يقرر أنَّ المعاد (يريد الروحاني والجسماني معًا) دلت عليه الأدلة القاطعة الشرعية، وأنَّه ممكن عقلًا بدليل الابتداء؛ فإنَّ الإعادة خلْق ثانٍ، ولا فرق بينه وبين الابتداء.
ولسنا الآن بسبيل استلهام الغزالي لشيخه إمام الحرمين في هذه المسألة وفي أكثر آرائه الكلامية، وإنَّما الغرضُ بيان أنَّ رجال علم الكلام مُجْمِعُون على أنَّ المَعَاد الجسمي لا الروحي فقط سيكون في الدار الأُخرى.٦٤ علينا إذن بعد هذا أن نعرف ماذا يرى ابن رشد في كيفية المعاد، وكيف يثبت رأيه في هذه العقيدة الأساسية في كل الأديان.
إنه يقرر أنَّ الشرائع وإن اتفقت على مبدأ المعاد، فإنها اختلفت في كيفيته، بل «في الشاهدات التي مثَّلَت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أنَّ من الشرائع من جعله روحانيًّا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معًا.»٦٥
وذلك بأنَّ مما لا شك فيه أن للنفس بعد الموت إن كانت فاضلة حالًا تُسَمَّى سعادة، وإلا فحال أُخرى تُسَمَّى شقاء، والوحي الذي جاء في بيان هذا الحال يختلفُ باختلاف الأنبياء، ومن ثم كان اختلاف الشرائع في تمثيلها.٦٦
وفيلسوفنا يذكر سببين لاختلاف الشرائع في التمثيل لتلك الحال:٦٧
اختلاف ما أدركه الأنبياء من الوحي من هذه الأحوال، أو لأنَّ الذين مثلوا هذه الأحوال بمُثُل مادية قد «رأوا أنَّ التمثيل بالمحسوسات هو أشدَّ تفهيمًا للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركًا … وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام.»
إنه إذن يذهب كما هو واضح من هذا إلى أنَّ المعاد سيكون روحانيًّا فقط، إلا أنه لا يُعنى هنا بإبراز هذا الرأي ولا بالتدليل عليه؛ وذلك لأنَّ المقام مقام توفيق بين الحكمة والشريعة بالتدليل على العقائد الدينية الأساسية تدليلًا يُوافق الخاصة والجمهور.
بل إنَّه يكتفي هنا بعد أن استدلَّ لأصل البعث من القرآن بأنْ يقول بأنَّ التمثيل الذي في شريعتنا يُشبه أن يكون أتم إفهامًا لأكثر الناس، وأكثر تحريكًا لنفوسهم إلى ما هنالك، والأكثر هم المقصود الأول من الشرائع، وذلك بخلاف التمثيل الروحاني، فهو أشد قبولًا عند غير الجمهور، وإنه لهذا المعنى نجد المسلمين فرقًا مختلفة في فهم التمثيل الذي جاء في الشريعة للمعاد وأحواله.٦٨
وتدليل ابن رشد لما ذهب إليه نجده في كتابه «تهافت التهافت»، وسنعرض له في الفصل التالي، وسنرى إنْ كان يُمكنه تأويل كل الآيات القرآنية التي تُؤَكِّد المعاد الجسماني والسعادة والشقاء الجسمانيين، أو إنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا، ولكنه ينتهي من هذه المسألة هنا بقوله: «والحق في هذه المسألة أنَّ فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظرًا يُفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة؛ فإنَّ هذا النَّحو من الاعتقاد يُوجِبُ تكفير صاحبه؛ لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلومًا للناس بالشرائع والعقول.»٦٩
•••
هذا، وإلى هنا انتهى ابن رُشد من التدليل على ما رأى التدليل عليه من العقائد الدينية الأساسية، تدليلًا يُنَاسِبُ الخَاصَّة والعامة من الناس، وإلى هنا أتمَّ في رأيه عملًا كبيرًا في سبيل الجمع أو التوفيق بين الشريعة والحكمة، فقد بيَّن أنَّ عقائد الدين يمكن أن يستدل عليها من الشرع ومن العقل معًا، وأنَّه لا يُوجد بين هذين المعنيين خلاف في شيء ما.
وإنَّ عليه بعد ذلك كله ليتم له ما أراد، أن يهدم تهافت الغزالي، وهذا ما سنراه في الفصل التالي الذي سيعالج فيه — ضمن ما سيعالجه من مسائل — بالبحث الطويل العميق بعض ما تناوله بإيجاز في كتابه «كشف الأدلة عن عقائد الملة» كما رأينا في هذا الفصل الذي انتهينا منه، نعني بذلك مثلًا مسائل: قدم العالم، وعلم الله، والحياة الأُخرى وما سيكون فيها من ثواب وعقاب.