قراءة في كتاب سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون
الجزء الأول : الطالبة حنان السملالي
الجزء الثاني : الطالب أسامة البحري
الجزء الثالث : الطالبة رشيدة رخوخي
طلبة شعبة علم الاجتماع – بني ملال – جامعة السلطان مولاي سليمان
سيكولوجيا الجماهير “الجزء الأول”
بقلم الطالبة حنان السملالي
في ما مضى كانت السياسة التقليدية للدول و المنافسة بين الحكام هي التي تشكل العوامل الأساسية التي تحرك الأحداث ، و لم يكن لرأي الشعوب في الغالب الأعم قيمة ، و لكن بدخول الطبقات الشعبية في الحياة الساسية و تحولها بالتدريج إلى طبقات قوية قائدة أصبح صوتها راجعا و غالبا بل قادرا على قلب الموازين ، تلك القوة استمدت عن طريق نشر بعض الأفكار التي زرعت في النفوس ثم رويدا رويدا ، بواسطة تجمع و احتكاك و تكتل الأفراد من خلال الروابط و الجمعيات تجسدت مفاهيم التي كانت مجرد نظرية ، فأصبحت المطالب واضحة أكثر فأكثر و تميل الى قلب و تدمير المجتمع الحالي ، فالعقائد الجديدة سوف تكتسب قريبا نفس قوة العقائد القديمة ، لذلك يكفي القيام بتمعن شديد و فاحص للأحداث التي تمخضت عنها التحولات العظمى ، ليتضح ان السبب الحقيقي الكامن وراء ما يبدو كأسباب ضاهرية هو في الحقيقة تغير عميق يصيب الشعب ، فصح القول إذن “انما تتناقله كتب التاريخ ليس سوى آثار مرئية لمتغريات لا مرئية يصيب عواطف البشر ” و في نهاية القرن التاسع عشر تزايد عدد الجماهير على سطح المسرح الاوروبي ، و راحت اعمالهم المباغتة ، فبدأ الباحثون و المفكرون الفرنسيون الايطاليون ، يتحدثون عن ظاهرة الجماهير المجرمة ، المجرمون الجماعيون الذين يهددون امن الدولة ، النظام الاجتماعي القائم و طمأنينة اىمواطنين و شلامتهم ، هكذا أصبحت الدراسة العلمية للجماهير تمر من خلال علم القانون الجماهيري ، و كان سيكهبل اول من بلور هذه النظرية و خلع مفهوم تقنيا عن الجماهير ، و حسبه هي كل الحركات الإجتماعية ، و المجموعات السياسية من الفوضوية إلى الإشتراكية ، زد على ذلك العمال في حالة الاضراب ، علاوة على ذلك التجمعات الحاصلة في الشوارع ، فتبلورت بذلك ثلاث أجوبة : 1 : جماهير ضد المؤسسات القائمة :
أشخاص شادون عن المجتمع فصار الجمهور = رعاع / اوباش ، 2 : جماهير مجنونة بطبيعتها : ان تعلقت او احبت شيئا او شخصا تبعته و تابعته حتى الموت ، 3: جماهير مجرمة = بما أنها مؤلفة من رعاعو أوغاذ (الحاقدين) فذلك معناه : عنف – سب – شتم – عصيان – جنوح عن القانون ، لكن لوبون و هو يراكم تجربته التي دمج فيها كل النظريات البيولوجية / الانثربولوجية / السيكولوجية ، راح شيئا فشيىأ يبلور نظريته المعلقة بسيكولوجياالشعوب / نفسية الشعوب و الأعراق البشرية ، فاثناء دراسته لقضايا علم النفس ، اصطدم بظاهرة الجماهير (الحركات الشعبية و الارهاب ، فكان ذكيافي طريقة تناوله لهذا الموضوع من وجهة نظر لم تكن سائدة ، فبنى نظرية متكاملة و متماسكة بدأ بتشخيص أوضاع الديموقراطية البرلمانية التي تولدت عن الثورة الفرنسية لم يقل بأن الحل في الرجوع الى الماضي و لا الى الاشتراكية و انما اصلاح النظام البرلماني بشكل يناسب اوضاع الجمهور المستجدة ، ثم اكد ان قوى الحاكم و الحكم تؤدي الى استقرار النظام الاجتماعي و انعدام القوة تؤدي الى الفوضى و الى احتلال الاوضاع ، فمنهجيته التحليلة لم يجدها في التاريخ و الاقتصاد ، بل في “علم النفس ” فحسب و في هذا الصدد يقول “علم النفس يعلمنا ان هناك روحا للجماهير ” ، روح مكونة من الانفعالات البدائية و مكرسة بواسطة العقائد الايمانية القوية و البعيدة عن التفكير العقلاني و المنطقي فكرته الاساسية بسيطة جدا : كل الكوارث الماضوية التي بليت بها فرنسا و كل هزائمها تع الى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ ، فضعف النظام البرلماني الديمقراطي اذن راجع الى الجهل بقوانين علم النفس و طرائق تسيير الجماهير ، و بين عشية و ضحاها اصبح لوبون الاستاذ الفكري لمرحلة كاملة باسرها و حافظ عليها حتى نهاية حياتخ “المديدة” و مادمنا نتناوله بالتحليل في هذه الاثناء فاكيد ان كتابه منح لصاحبه خلودا فكريا ، فكان بذلك بنثابة المانيفيست الذي دشن علم النفس الاجتماعي و الجماعي كما قال “موسكوفيتشي” ، بهذا نال غوستاف لوبون : شهرة واسعة و مكانة رفيعة ، فصار كتابه هذا المرجع الوحيد الذي قررته الجامعة في برامجها حول علم النفس الاجتماعي ، و من خلال ما سلف ، يتضح ان : معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الاساسي لرجل الدولة الذي لا يريد ان يحلم كليا من قبلها ، زد على ذلك ان نفسية الجماهير تبين مدى ضعف تأثير القوانين و المؤسسات على طبيعتها الغرائزية ، و بهذا فقد تطرق لوبون في فصله الاول من عمله سيكولوجية الجماهير ، لكلمة الجمهور ، فهي تعني في المعنى العادي تجمعا لمجموعة من الافراد ايا كانت هيوتهم القومية / مهنتهم ، لكن من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي ” جمهور ” يصبح له معنى اخر ، ففي ظروف معينة يمكن لتكتل ما من البشر ان يمتلك خصائص جديدة مختلفة تماما عت خصاىص كل فرد يشكله ، انذاك تنطمس الشخصية الواعية للفرد و تصبح عواطف / افكار الوحدات الصغرى المشكلة للجمهور في نفس الاتجاه ، فتتشكل روح جماعية مؤقتة . بدون شك لكنها تنفتح بخصائص متبلورة تماما عندئذ ستصبح هذه الجماعة : جمهورا حسب لوبون منظما / جمهورا نفسيا ، فتتشكل بذلك “كينونة واحدة ” و تصبح خاضعة “لقانون الوحدة العقلية للجماهير ” ، فأي تجمع عن طريق الصدفة لا تخلع عليهم خصائص الجمهور المنظم ، فألف فرد مجتمعون بالمصادفة على الساحة العمومية بدون هدف محدد لايشكلون إطلاقا جمهورا نفسيا ، لكن هذا لا يتطلب بالضرورة الحضور المتزامن للعديد من الأفراد في نقطة واحدة / شعب بأكمله قد يصبح جمهورا نفسيا بدون تجمع مرئي ، فما أن يتكون الجمهور النفسي حتى يكتسب خصائص عامة و مؤقتة و قابلة للفرز فتنضاف خصائص متغيرة خاصة بحسب العناصر التي يتألف منها و التي يمكن أن تعدل بنية العقلية ، و هذا يدل أن الجماهير قابلة للتصنيف، هذا الأخير سيبين لنا أن هناك خصائص مشتركة بين الجماهير
المتجانسة و الغير متجانسة و الأكيد أن هناك إلى جانب ما هو مشترك هناك ، خصوصيات تتيح لنا إقامة التمايز بينهاة، و لهذا فليس من السهل دراسة روح الجماهير ، ذلك لأن تركيبتها تختلف ليس فقط بحسب : العرق البشري / تشكيلة الجماعات ،
غوستاف لوبون – سيكولوجيا الجماهير ” الجزء الثاني “
بقلم الطالب أسامة البحري – شعبة علم الاجتماع – بني ملال
يرى لوبون في بداية الكتاب الثاني من عمله سيكولوجية الجماهير أن هناك عاملين أساسين يؤثران في الجماعة ، عامل بعيد : و يعني المؤثرات الخارجية ، كما نجد في علاقة الثورة الفرنسية بأعمال المفكرين و الفلاسفة ، ثم عوامل مباشرة : التي تعني تكدس كل المؤثرات الخارجية في قبضة واحدة ، مما يدفع بالجماهير الى إحداث عامل مباشر و هو الثورة (فصل الدين عن الساسية مثلا)، و من بين العوامل البعيدة ، نجد : التقاليد الموروثة ” العرق / الزمن / المؤسسات / التربية / التعليم ، فالعرق حسب لوبون هو عبارة عن سلسلة تاريخية تلتبس البيئة الحاضراتية (تقسيم العمل داخل المنازل مثلا : المطبخ و السرير للانثى – المنزل باكمله للذكر ، التقاليد الموروثة : يعرفها غوستاف لوبون ، بانها ” الافكار و الحاجيات و العواطف الخاصة بالماضي فهي تمثل خلاصة العرق و تضغط بكل ثقل علينا 1″ فما تفعله هذه الاجزاء الماضوية حسب لوبون ، هو تكوينها لكائن فوق عضوي يسيطرعلى المخيال الإجتماعي ، ففي هذا الصدد يقول ” نرى ان الشعب هو عبارة عن كائن عضوي مخلوق من قبل الماضي ” ، فهذه الاجزاء الماضوية حسبه، تكون شبكة من التقاليد ، تطبع كل الافراد بما تحمله داخلها من افكار و مفاهيم : كحشومة – عيب الخ .. و يرى لوبون أيضا أنه بدون هذه التقاليد لا يمكن ان توجد حضارة و بدون اصلاح هذه التقاليد بالمنطق يستحيل أن يكون هناك تقدم ، الزمن ، فالبعد التاريخي / المفتوح الأمد يفتح عوالم التلاشي و التطور حينما يحضر الوعي ، فالحضارة أمام الوعي تتغير بتغير محتويات الماضي ، فإنها تتطور لتفتح عوالم التلاشي و التطور مرة أخرى ، و محور هذا التطور هي العلاقة التجاذبية التي يحققها الوعي بين الرأي و المعتقد ، و بهذا يقول لوبون :” ان التوكيد لا يلبث بعد ان يكرر تكرارا كافيا أن يحدث رأيا ثم معتقدا 2 ” ،و بهذا يكون الرأي هو المحدد للسلوك الفردي و الإجتماعي ، عن طريق تكراره بكل مواضع الجسد الإجتماعي مما يجعله معتقدا doxa ، يحافظ على مشروعية بقائه عبر جل المؤسسات الإجتماعية و السياسية، و في هذا الصدد يعرفها لوبون بأنها ” بنت الافكار و العواطف و الأخلاق و الطبائع التاريخية المكونة للثقافة ” لأنه بفعل ترسخها في الذهن ، بها ينظر الفرد إلى الوجود ، و بفعلها يجيب الفرد عن كل مثير يثيرلجسد بالواقع الإجتماعي ، و في هذا الصدد يرى لوبون ان التعليم دخل في دوامة الادلجة عبر فكرة التلقين التي غزت المخيال التدريسي ، و ” هكذا نجد ان الشابة او الشاب ما ينفكون منذ السنة الاولى ابتدائية و حتى الدكتوراه او شهادة التبريز ، ييتلع مضمون الكتب بدون ان يشغل عقله أو رأيه الشخصي ، فالتعليم بالنسبة له يتمثل في الحفظ و الطباعة 5″ ، فما يفعله هذا النظام المؤدلج حسب غوستاف لوبون هو تكوين ” إنسان مصنوع 6″
1 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 1012 : المرجع ذاته – الصفحة ذاته3 :غوستاف لوبون – الآراء و المعتقدات – ص : 1994 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 1055 : المرجع ذاته – ص : 1086 : المرجع ذاته – ص : 111
ففي هذا الصدد يقول لوبون “الانسان المدجن و المتزوج و المستسلم يدور في حلقة مفرغة الى ما لا نهاية ، فهو منغلق داخل وظيفته الضيقة 1″ ، و من خلال هذه الاحاطة بعلاقة الذات مع محيطها ، سينتقل بنا لوبون الى العوامل المباشرة في الفصل الثاني من الكتاب الثاني ، و بهذا فقد تكلم لوبون في بداية هذا الفصل ، عن دور الكلمة في اخضاع العقول ، فالكلمة حسب لوبون تشكل صورة في الذهن ، و تتشكل في صورة بالمجتمع ، كالرسومات على المدارس (امرأة تضع الخمار ، رجل يلبس اللباس التقليدي …. )، فهذه الصور حسب لوبون تعزز وجود الصورة الذهنية التي تمخضت عن جملة او كلمة ترسخت في المخيال بالتكرار ، و عندما تشعر الجماهير بنفور عميق من الصور التي تثيرها بعض الكلمات و” ذلك على أثر الانقلابات السياسية و المتغيرات التي اصابت العقائد ، فإن الواجب الأول لرجل الدولة الحقيقي هو تغيير هذه الكلمات 2″ ، ” و لهذا فيكفي على القادة أن يعرفوا اختيار الكلمات لكي يجعلوا الجماهير تقبل ابشع انواع الأشياء 3″ ، علاوة على ذلك الاوهام : فمن بين العوامل التي تخذر الاذهان حسب لوبون هي الوهم ، فقد ظهر لاول مرة بالمعابد ، ثم استخدمت الأصنام للتلاعب بالعقول ، ثم انتقل الى الدين ثم الى الفلسفة ثم الى الجسد الاجتماعي باكمله
1 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 112
: المرجع ذاته – ص : 1193 : المرجع ذاته – الصفحة ذاتها
سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون ” الجزء الثالث” بقلم الطالبة رشيدة الرخوخي – شعبة علم الاجتماع – بني ملال
الفصل الأول: تصنيف الجماهير
هذا الكتاب يهم الخصائص الخصوصية التي تميز مختلف فئات الجماهير البشرية، ولكن قبل ذلك أقدم تصنيفا مختصرا لأنواع الجماهير البشرية، فيمكن تقسيمها إلى :
جماهير غير متجانسة وجماهير متجانسة :
— الجماهير الغير متجانسة تتألف من مجموعة من الأفراد بغض النظر عن مهنهم وثقافاتهم ….. وتنقسم بدورها إلى :
- جماهير مغفلة : وتتمثل في جماهير الشارع وتتميز بغياب حس المسؤولية ، مثال : ثورات الربيع الديمقراطي ، الجماهير التي خرقت قانون الطوارئ الصحية بالمغرب.
- جماهير الغير المغفلة : وهي المجالس البرلمانية ، وهيئات المحلفين.وتتميز بكونها أكثر تطورا ، ولها كذلك حس عالي بالمسؤولية .
— فيما يخص الجماهير المتجانسة فتتألف من : - الطائفة : وهي المرحلة الأولى من مراحل تشكل الجماهير ، وتضم أفرادا مع اختلاف ثقافاتهم ومهنهم ، ومستوياتهم الاجتماعية، والذي يجمع بين أفرادها هو العقيدة أو الإيمان ، مثال : الطوائف الدينية ، الطوائف السياسية .
- الزمرة : تشكل أعلى درجات التنظيم التي يمكن أن يصل إليها الجمهور ، وتحتوي على أفراد من أوساط متقاربة، ويمتهنون المهنة نفسها. مثال : الزمرة العسكرية ، الزمرة الكهنوتية .
- الطبقة : تتشكل من أفراد ذوي أصول مختلفة وتجمع بينهم المصالح ، وبعض عادات الحياة ، والتربية المشتركة ، مثال : الطبقة البورجوازية ، الطبقة الزراعية.
الفصل الثاني : الجماهير المدعوة بالمجرمة
عندما تزول حالة الهيجان والانقياد الآلي التي تخضع لها الجماهير حينذاك يصعب وصفها بالمجرمة ، لكن هذه الصفة تلازمها وتلاحقها من طرف البحوث النفسية . فالجرائم التي ترتكبها الجماهير ناتجة عن تحريض ضخم ، يشعر معه المرتكب لهذه الجريمة أنه أدى واجبا وطنيا كبيرا ، وهذا ما لا يكون في حالة المجرم العادي.
وكمثال موضح لما سبق : مقتل مدير سجن الباستيل بفرنسا ، السيد دولوني :
في خطوة أولى استولت الجماهير على السجن وأخذوا يضربون المدير ، هناك من اقترح شنقه ، وآخرون يرون بسحله في الشارع، ووسط تخبطه بين أيديهم ضرب رجلا برجله دون قصد ، آنذاك اقترح أحدهم أن يكون قتل هذا المدير من نصيب ذلك الرجل ، ويروي أحد الشهود أن هذا الرجل كان طباخا متجولا ونصف متسكع ، وقد ذهب إلى الباستيل ليرى ماذا يحدث هناك ، ولما اتفق الجميع على قيامه بهذه المهمة ، ظن أنه بإنجازها سيؤدي عملا وطنيا ، قد يستحق أن يكافأ من أجله ، أعاروه سيفا ولكنه لم يكن مشحوذا بما يكفي لقطع رقبة المدير ، فأخرج سكينا من جيبه كان يستخدمه لتقطيع اللحم فأتم مهمته بنجاح.
القوة الجماهيرية تؤثر بشكل كبير في عملية التحريض ، والاستحسان الجماعي للفعل يوحي إلى القاتل بأنه قام بعمل طبيعي ، بل عظيم ، ومثل هذا العمل هو إجرامي من الناحية القانونية ، لكن ليس من الناحية النفسية .
الجماهير المدعوة بالمجرمة لها نفس الخصائص التي لدى جميع أنواع الجماهير ، كقابلية التحريض فمهما كان الفرد واعيا فإنه يقبل أن يحرض داخل جماعة الجمهور ، وكذلك السذاجة ، وسرعة التصديق ، فلا مجال لأن يتحرى الأفراد صدق الأخبار المنقولة بينهم من زيفها.
الخصائص التي تحدثنا عنها نلمسها لدى هذا النوع من الجماهير، والتي تركت ذكريات بشعة ، وتعتبر الأكثر إجراما. جماعة سبتمبر، الذين شاركوا في مذابح شتنبر في فرنسا سنة 1792.
الوقائع كما يحكيها الفيلسوف “تين” ، في هذه الأحداث لا أحد يعلم من أعطى الأوامر لارتكاب تلك المجازر، وقد ابتدأ الاقتراح التحريضي من تفريغ السجون عن طريق قتل المساجين وهذا الاقتراح الذي تلقاه الجمهور المكلف بعملية القتل والذي يتكون من ثلاثمائة شخص وهنا نشير إلى أنه نمط نموذجي على الجمهور الغير متجانس وكان يتألف من الحرفيين المختلفين ،والحدادين، والإسكافيين،والبنائين والموظفين،والوسطاء التجاريين ،وأصحاب الدكاكين،والحلاقين . فقد اقتنعوا أنهم يؤدون واجبا وطنيا كما سبق مع الطباخ آنفا،فهم لايعتبرون أنفسهم مجرمين بل هم القضاة والجلادين في آن واحد.
في البداية سيتخلصون من النبلاء والكهنة والضباط باعتبار أن مهنهم تشكل جريمة في حد ذاتها ، ثم بعد ذلك يقتلون الآخرين.وفي خضم هذه المجازر يخيم على الجميع نوع من الفرح اللطيف ابتهاجا بمقتل الارستقراطيين ، فهم يغنون ويرقصون حول الجثث . وعندما انتبهوا إلى أن بعض النساء اللاتي يجلسن بعيدا نسبيا لا يرين المشهد جيدا ،أخذوا يمررون الضحايا بشكل بطئ بين صفين من الذباحين الذين يضربون بظهر السيف لكي يطيلوا مدة التعذيب قدر الإمكان.استمر ذلك لمدة نصف ساعة ،وبعد أن يرى الكل المشهد يجهزون عليهم بشق بطونهم.
من صفات أولئك الجزارين أنهم صارمين، وأكثر دقة، وأمناء أيضا،فكل الذهب والجواهر التي يجدونها في جيوب الضحايا يقدمونها إلى اللجان.
كما أن روح الجماهير تتميز أيضا بأشكال بدائية من المحاكمة العقلية. فبعد قتلهم لما يزيد عن اثني عشر ألفا من أعداء الأمة اقترح أحدهم أحدهم قتل العديد من الأفواه الجائعة والغير المفيدة والتي تتمثل في عدد كبير من المسجونين الشحاذين،والمتسكعين،وقد قبل اقتراحه . إضافة إلى العديد من أعداء الشعب الذين يقبعون في السجون أيضا،وقد قتلوا الجميع بما فيهم خمسين طفلا ماداموا سيصبحون أعداءا للشعب أيضا.
وبعد أسبوع من العمل انتهت هذه المهمات كلها وذهب الجزارون إلى الاستراحة ، فهم مقتنعون أنهم قدموا خدمة كبيرة للوطن ويستحقون التنويه والمكافأة.
الفصل الثالث : محلفوا محكمة الجنايات
تعتبر فئة محلفوا محكمة الجنايات الفئة الأهم من بين فئات المحلفين ،وتعتبر أيضا نموذجا للجمهور الغير متجانس وغير المغفل،وتتميز بخصائص أساسية كالقابلية للتحريض،وهيمنة العواطف اللاواعية،وضعف القدرة على المحاكمة العقلية،وتأثير القادة والمحركين.
هيئة المحلفين كجمهور لا يستطيعون اتخاذ القرارات باستخدام العقل ، فالذكاء لا يلعب أي دور ، وكمثال على ذلك أن مجمع العلماء والفنانين لا يصدر حول القوانين العامة أحكاما مختلفة جدا الأحكام التي تصدرها جمعيات البنائين والأميين . والإحصائيات تبين أن القرارات المتخذة من طرف هيئة المحلفين المؤلفة من الأساتذة والموظفين والأدباء …..، متماثلة مع القرارات المتخذة من طرف هيئة المحلفين المكونة من التجار الصغار ، وأرباب العمل الصغار …..
وفي ما يلي ما قاله السيد بيرار دي غلاجو بهذا الصدد وهو رئيس سابق لمحكمة الجنايات:”في الواقع أن اختيار الهيئة المحلفة اليوم هو في أيدي أعضاء مجلس البلدية . وهم ينتقون الشخص أو يحذفونه بحسب هواهم وطبقا للمصالح السياسية والانتخابية الخاصة بوضعهم. وأغلبية المنتخبين مؤلفة من تجار أقل أهمية من أولئك الذين يختارون في الماضي ، من موظفي بعض الإدارات ….. وكل الآراء تمتزج بكل المهن في الدور الذي يقوم به القاضي، فالكثيرون يتمتعون بالحماسة التي يتمتع بها المعتنق الجديد للدين. والرجال ذوو النية الطيبة يتلاقون في الحالات الأكثر تواضعا ، ولكن روح لجنة التحكيم لم تتغير بقيت هي هي “.
ويبدو أن المحامون والقضاة لا يفهمون جيدا نفسية الجماهير وكدليل على ذلك القصة التي يرويها السيد دي غلاجو ومفادها أن السيد لاشو- وهو من أشهر المحامين – كان يستخدم كثيرا حق الطعن اتجاه كل الأشخاص الأذكياء الذين يمارسون دورهم كأعضاء اللجنة، ولكن مع توالي التجارب استنتج المحامي أنه لا جدوى من هذا الطعن ومن هنا كانت ملاحظة السيد دي غلاجو التي مؤداها أن الأحكام الصادرة لم تتغير.
المحلفين أيضا يتأثرون جدا بالعواطف كسائر أنواع الجماهير ويتسامحون في الجرائم المدعوة بالغرامية والعاطفية ،فهم يشعرون أن مثل هذه الجرائم ليست خطيرة بالنسبة للمجتمع ، غير أنهم لا يبدون أي شفقة أو رحمة اتجاه الجرائم التي تنال منهم أو التي تشكل خطرا على المجتمع.
ككل أنواع الجماهير هيئة المحلفين لا يصدرون الأحكام بشكل عقلاني ، وبالتالي فالمحامي الناجح هوالذي ينجح في التأثير على عواطف المحلفين .
محامي انجليزي كان يعرف بمرافعاته الناجحة ، كان يراقب هيئة المحلفين ، فيقرأ على تقاسيم وجوههم تأثير كل عبارة يقولها ، وبالتالي يميز بين الأعضاء المؤيدين له والمعارضين،وفي مرحلة ثانية يحاول فهم سبب معارضتهم للمتهم الذي يدافع عنه.
كل هدا يدل على تميز المحامين بفن الخطابة ، هذا الفن الذي يرتكز على الإبقاء جانبا بالخطابات الجاهزة ، وتعديل الكلمات والعبارات في كل لحظة تماشيا مع ردود أفعال المخاطبين .
ويكفي أن يقتنع القادة المحركين الذين يتحكمون في الرأي العام ، وهذا يغني عن محاولة إقناع كل أعضاء هيئة المحلفين.
رغم أنها تمثل الحماية الوحيدة ، إلا أن بعض الكتاب قد حاربوا هيئة المحلفين ، بحجة أن هذه الهيئة يجب أن تتألف من الطبقات المستنيرة ،لكننا قد برهنا سابقا أن الأحكام الصادرة من الهيئة متماثلة رغم اختلاف نوعية أعضائها.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن هيئة المحلفين هي القادرة على التخفيف من قساوة القانون الذي لا يعترف بالظروف أو الحالات الإستثنائية ، فالقاضي لا يعترف إلا بالنصوص القانونية ، ولا يفرق بين مجرم قاتل وبين قاتل دفعته الظروف القاسية لفعل ذلك.ناهيك عن الأخطاء التي يرتكبها القضاة والذين لا تمارس عليهم أية رقابة.
الفصل الرابع : الجماهير الانتخابية
الجماهير الانتخابية هي الجماهير المدعوة لانتخاب المسؤولين ، وتشكل جماهير غير متجانسة .وتتميز بضعف القابلية للتفكير العقلاني ، انعدام الروح النقدية ، سرعة الغضب ، السذاجة وسرعة التصديق…..
هذه الجماهير يمكن إغراؤها بمجموعة من الأساليب، كالهيبة الشخصية التي يمتلكها المرشح للانتخابات ، فبها يفرض نفسه دون الحاجة إلى مناقشة شيئ آخر أكثر أهمية ، فالناخبون من الفلاحين والعمال نادرا ما يختارون شخصا من بينهم ليمثلهم في مجلس النواب ، لأن الشخصيات النابعة من أوساطهم ليست لها أي هيبة شخصية.
من الوسائل أيضا المغرية ، التملق لرغبات الناخب وغمره بأكبر الوعود. وكذلك سحق المرشح المنافس بتكريس الاتهامات عن طريق تكرارها وتأكيدها ، بغض النظر عن صحتها أوزيفها.وإذا كان هذا المرشح المنافس لا يعرف نفسية الجماهير فإنه سيرد بالمحاجات العقلية والتبرير وإلا فعليه أن يرد باتهامات مضادة أيضا.
هناك وسيلة أخرى للإغراء وهي برنامج المرشح سواءا المكتوب أو الشفهي ، فعلى المرشح أن يعد الناخبين بإصلاحات ضخمة دون الخوف من عدم تحققها لأن الناخبين سرعان ما ينسون هذه الأمور رغم أن نتائج الانتخابات قد حسمت علة هذا الأساس.
الكلمات والشعارات أيضا لها تأثير على نفوس الجماهير ، فهناك خطابات رغم أنها استهلكت من كثرة الاستخدام إلا أنها تولد دائما نفس الآثار الإيجابية لدى المتلقين ، مثال : المستغلين الحقيرين ، الرأسمال الكريه ، العامل الرائع ، التوزيع الاشتراكي للثروات……
فيما يخص التأثير الذي قد تحدثه المحاجات العقلانية على نفسية الناخبين ، فينبغي قراءة محضر جلسة عن الإجتماعات الانتخابية ، ففيها يتبادلون الآراء القاطعة ، الشتائم ،واللطمات في بعض الأحيان ، من دون أن يتبادلوا المحاجات العقلانية.
وهذه المناقشات ليست حكرا على الطبقات الاجتماعية المتدنية وإنما نجد الأسلوب نفسه والكلمات نفسها في التجمعات المؤلفة من الأدباء والمثقفين.
وفي صفوف الطلاب أيضا ، جاء في أحد المحاضر أن الصخب يزداد كلما زادت السهرة في التقدم ، وقد لا يستطيع خطيب أن يقول كلمتين متتاليتين دون أن يقاطعه أحد، ثم راحت المناقشات العنيفة تندلع ، بعد ذلك ارتفعت أصوات العصي ضاربة الأرض في شكل من التهديد.
في ظل هذه الأجواء يمكننا أن نتساءل عن الطريقة التي يتشكل بها رأي الناخب.وهنا نقيس درجة الحرية التي يتمتع بها الجمهور أو الجماعة. فالواقع أن للجماهير آراء مفروضة وليست ناتجة أبدا عن أي جهد ذهني أو محاكمة عقلية. وهذه الآراء تظل بين يدي اللجان الانتخابية التي يقودها المحركون ، والذين هم في الغالب فئة من تجار الخمور ، ولهم تأثير كبير على العمال لأنهم يقرضونهم بعض المال.
لا يمكن جهل مساوئ التصويت العام ، فالحضارات قد صنعت أقلية في أعلى الهرم ، وكلما نزلنا نحو القاعدة تتسع الطبقات وتنقص القيمة العقلية ، وبالتالي لايمكن أن نسمح للقاعدة أو العناصر الدنيا من الأمة أن تصوت في الانتخابات لأنها لا تمثل سوى كثرة عددية.
هذه الأمور النظرية تفقد قوتها عمليا، فعندما تتحول الأفكار إلى عقائد إيمانية فإن قوتها تكون جبارة لا تقهر.فعقيدة السيادة الجماهيرية لا يمكن الدفاع عنها من الناحية الفلسفية وهي تنطبق على الأفكار الدينية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، وبالتالي فمن المستحيل مهاجمتها اليوم كما كان مستحيلا مهاجمة الأفكار الدينية في الماضي.
هل يمكننا أن نفترض أن التصويت ينبغي أن يحصر في النخبة وبالتالي يحسن صوت الجماهير ، لا يمكن ذلك لسبب بسيط وهو أن في الجمهور يتساوى البشر كلهم ، وعليه فإن نتائج التصويت لن تكون أفضل مما هي عليه الآن.
وسواءا كان التصويت محصورا بفئة ضيقة أو عاما يشمل الجميع ، وسواءا طبق في بلد ملكي أو جمهوري فإن تصويت الجمهور سيظل هو هو، ويعبر غالبا عن آمال العرق وحاجياته اللاواعية . وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة وهي أن المؤسسات والحكومات تلعب دورا ضعيفا جدا في حياة الشعوب، فهذه الشعوب بشكل خاض تتحكم فيها روح عرقها.
الفصل الخامس : المجالس النيابية
المجالس النيابية تشكل جماهير غير متجانسة وغير مغفلة ، وهي تتشابه بصفاتها وخصائصها على الرغم من اختلاف طرق انتخابها على مر العصور.
هذا النظام البرلماني هو مثال حقيقي للفكرة التي تقول بأن اتخاذ قرار حكيم ومستقل بخصوص موضوع ما، يكون في تجمع العدد الكبير من الناس أكثر قدرة من التجمع الذي يحتوي على عدد أصغر.
من خصائص المجالس النيابية ، التبسيطية في الأفكار ، النزق وسرعة الغضب ، القابلية للتحريض.. . والحاجة للقادة المحركين شيء لا جدال فيه لأننا نجدهم في كل بلدان العالم تحت اسم رؤساء المجموعات النيابية ، إنهم الملوك الحقيقيون للمجالس النيابية ، والناس المنخرطون في الجمهور لا يمكنهم الاستغناء عن زعيم أو سيد ، وبالتالي فالتصويت الجاري في مجلس نيابي ما لا يعبر عموما إلا على رأي قلة قليلة.
إن القادة المحركين ، يتحركون قليلا جدا بواسطة العقل ، والمحاكمة العقلية ، وكثيرا جدا بواسطة هيبتهم الشخصية ، وإذا ما عرتهم منها حالة ظرفية ما فإنهم يفقدون كل تأثير ونفوذ.وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهيبة التي يتمتع بها القادة المحركون فردية ولا علاقة لها لا بالشهرة ولا بالاسم.
المجالس النيابية هي الرقعة الجغرافية التي لا مجال فيها للعبقرية، فأهم شيء هو الفصاحة اللغوية والخدمات المقدمة للأحزاب السياسية لا للوطن، أما الجمهور فهو يتابع حركة القائد المحرك دون أن يتدخل فيها.
ولكي يحسن المحركون استعمال وسائل الإقناع لابد أن يفهموا أعماق نفسية الجماهير لكي يستطيعوا استعمال الكلمات المناسبة والشعارات والصور والإيحاءات،وكذلك الفصاحة اللغوية والكلمات القاطعة.
ومن مصلحة المحركين أن يبالغوا في الأمور ويضخموها إلى أبعد حد ، ففي خطاب أحد المحركين في المجالس النيابية استطاع أن يؤكد بدون أن يثير كثير احتجاج بأن أصحاب المصارف والكهنة يستأجرون قاذفي القنابل للعمل لصالحهم ، وبأن مديري الشركات المالية الكبرى يستحقون نفس العقوبات كما الفوضويين.
ومثل هذه الأساليب تؤثر دائما على الجماهير، فمهما يكن التأكيد مبالغا فيه لا يكون غاضبا بما فيه الكفاية ، ولا الخطابة مهددة بما فيه الكفاية أيضا ، وينبغي دائما تقديم المزيد منهما ، ولم يعد هناك أي شيء يخيف السامعين ، فهم إذا ما احتجوا خافوا من اتهامهم بالخيانة أو التواطؤ.
عودة إلى الفصاحة اللغوية ، فقد هيمنت على المجالس النيابية وتزداد حدتها في الفترات الحرجة . وإذا ما كان القائد ذكيا ومثقفا فإن ذلك يضره أكثر مما ينفعه ، لأن المثقف يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح للأمور المعقدة ، وذلك ما يجعله متسامحا وبالتالي ضعيفا ، وإذا ما تأملنا فسنجد أن المؤثرين والقادة المحركين عبر العصور وخاصة الذين برزوا في الثورة الفرنسية فسننتهي إلى أنهم كانوا محدودي العقل جدا ، ومع ذلك فقد مارسوا تأثيرا كبيرا.
والجماهير تعرف أولئك القادة بالغريزة ،وترى فيهم السيد المطاع ،والرجل ذا التصميم العنيد الذي يلزمها.وفي المجالس النيابية أيضا نجاح الخطاب يعتمد على الهيبة الشخصية وليس على الحجج والمقترحات.
إن المجالس النيابية في حال هيجانها فأنها تتحول إلى جماهير غير متجانسة ، بحيث في لحظة من اللحظات قد تنجز إنجازات مبهرة وفي أحيان أخرى قد ترتكب أبشع الأخطاء. وتصبح جماهيرا بهذا المعنى في بعض الأوقات فقط لأن أفرادها يحافظون على فردانيتهم في أحيان كثيرة جدا ، والقوانين التي تصوت عليها الجماعة في المجلس النيابي إنما هي صنع لفرد واحد ،وهذه القوانين تعتبر الأفضل.
وعلى الرغم من صعوبة تسييرها فإن المجالس النيابية هي أفضل طريقة وجدتها الشعوب حتى الآن ، من أجل حكم ذاتها ، وخصوصا من أجل التخلص من الاستبداد .
ويهدد هذه المجالس خطران رئيسيان:
الأول هو التبذير الإجباري للميزانية ، أي عندما يقترح أي عندما يقترح أحد النواب بسن تعويضات للعمال أو الزيادة في أجورهم ، فإن باقي النواب يصادقون على المقترح لكي يرضوا الجماهير الانتخابية ، ولو كان هذا القرار يضر بميزانية الدولة .
أما الخطر الثاني فهو تقييد الحريات الفردية ، وهو لا يظهر جليا ، ولأن المجالس النيابية لها روحا تبسيطية فهي لا ترى انعكاسات القرارات التي تقيد الحرية ، بالتالي فهي تصادق عليها .
سن القوانين باستمرار قد يعقد أعمال الحياة وبالتالي تقييد دائرة حركة المواطنين ، والشعوب إذ تزن بأن عدد القوانين المسنونة تزيد من الحرية والمساواة ، فهي تقع في وهم كبير ، وهذا ما يجعلها تقبل بإكراهات قسرية جديدة في كل يوم ، وبالتالي يعتادون على تحمل كل العبوديات بعدها يصيرون كالآلات بدون إرادة أو قدرة ، وهذا العجز سيؤدي إلى ازدياد دور الحكومات ، وتصبح الدولة مسؤولة عن كل شيء.
نختم بدراسة نشأة ، عظمة ، وانحطاط الحضارات:
في البداية تتكون من مجموعة من الرجال المنتمين إلى أصول متفرقة ، وليس بينهم أي رابط مشترك ، ويجمعهم قانون الزعيم المعترف به ، وفي هذا الخليط نجد الصفات النفسية للجماهيرفي أعلى درجاتها، ومع مرور الزمن وبفعل البيئة المشتركة والتقاطع بين الحاجيات المشتركة أيضا ، تبدأ هذه الوحدات الغير متجانسة في الانصهار لكي تشكل عرقا واحدا في نهاية المطاف، وهكذا يصبح الجمهور شعبا.
المرحلة الثانية في قضية الانصهار تقتضي خروج الشعب من مرحلة البربرة ، بفعل حدوث مخاض داخل الشعب لتحديد المثل الأعلى الذي يهتدى ويقتدى به ،ومن ثمة يمكن أن تولد حضارة بشكل مؤسساتي.
وبعد أن تصل الحضارة إلى مستوى معين من القوة فإنها تتوقف عن النمو ، وحينذاك يتسلل إليها الانحطاط السريع فتدق ساعة شيخوختها. ومن صفات هذه الساعة أن يصاب المثل الأعلى بالوهن والضعف وبالتالي تتأثر المؤسسات،فيفقد العرق أسباب قوته وتماسكه أكثر فأكثر، فتزداد مظاهر الفر دانية ،والأنانية، باعتماد كل شخص على ذكائه،وبالتالي تضعف القابلية للانخراط والاندماج ، فيعيش الأفراد من دون رابط يجمعهم إلا وحدة شكلية تنادي بمن يحكمها.
وفي مرحلة أخيرة يفقد العرق روحه ، ويعود ليصبح ذرات متناثرة كما كانت في البداية ، أي جمهورا ، وهنا يمثل كل خصائص الجمهور العابرة واللامتماسكة والتي سرعان ما تتلاشى.