انشغل بوبر Karl Popper كثيرا بمشكلة الاستقراء، في علاقتها الوطيدة بمشكلة الفصل، طوال حياته العلمية. ففي كتابه المعرفة الموضوعية، اعترف بأن هذه المشكلة استقطبت اهتمامه، بل ووجد لها حلا، منذ فترة متقدمة من حياته العلمية. فبهذا الصدد كتب: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919، أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم واللاعلم، ولم أكن مقتنعا بكونه (الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود تداخل بين هاتين المشكلتين؛ و هذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة 1927»
وإذا كان بوبر قد توصل إلى حل لمشكلة الاستقراء حوالي سنة 1927، فإنه لم ينشره إلا في سنة 1933، في مقال مقتضب باللغة الألمانية. و في سنة 1934، أثار هذا الموضوع مجددا في كتابه التاريخي منطق البحث العلمي و منذ ذلك الحين، لم يتردد في إثارة هذا الموضوع كلما أتيحت له الفرصة، إلى درجة تسمح بالقول إن مشكلة الاستقراء شكلت، إلى جانب مشكلة الفصل، المحور الأساسي لأعماله الإبستملوجية.
وعلاوة على ذلك، شكل انشغال بوبر بمشكلة الاستقراء نقطة تحول بارزة في البحث الإبستملوجي المعاصر. فمن جهة، أمطر الاستقراء بوابل من الانتقادات الوازنة جعلت الثقة فيه تتراجع بشكل ملحوظ. ومن جهة أخرى، اقترح منهجا بديلا فضل تسميته بالمنهج الاستنباطي للمراقبة خضع، بدوره، لنقاشات كثيرة أفرزت مواقف مختلفة، بل ومتباينة أحيانا. وبالجملة، يمكن القول إن مناقشة بوبر لمشكلة الاستقراء شكلت الأرضية الخلفية لعدد لا يستهان به الأعمال الإبستملوجية التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي
بوبر ونظرية الاحتمالات
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل . الرجل يكاد يكون
بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى
سعى فيلسوف العلم كارل بوبر، إلى حل مشكلة الاستقراء. حاجج أن العلم لا يستخدم الاستقراء، وأنه يمثل أسطورة في حقيقة الأمر. عوضًا عن ذلك، تتشكل المعرفة من خلال الحدوس الافتراضية، والنقد.
قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.
موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن مباديء الجِشطلتيعد كارل بوبر أشهر فلاسفة العلم في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيرًا في مسيرة فلسفة العلم الحديثة، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه، يمكن القول إنه قد أحدث ثورة في المنهجية العلمية لا تقل عما أحدثه أينشتين في الفيزياء حين غيّر لنا نظرتنا إلى الزمن.
وعندما نتحدث عن نظرية المعرفة عند بوبر فنحن نريد أن نفهم طبيعة المعرفة الإنسانية ومبادئها ومصادرها وقيمتها وحدودها كما يراها كارل بوبر.
اللافت أن جانبيّ فلسفة بوبر الميثودولوجي (المنهجي) والابستمولوجي (المعرفي) يتطابقان تطابقًا تامًا في المباحث المشتركة بينهما؛ فالمنهج العلمي عند بوبر هو نفسه نظرية المعرفة.
والهدف من هذا المقال هو تحليل أهم أفكار بوبر الفلسفية، كذلك تحليل لعلاقة التأثير والتأثر بين أفكار كارل بوبر وبعض أهم النظريات العلمية السائدة في عصره، والتي تبلورت أفكاره بالاتفاق والاختلاف معها.
نوعا الاستدلال العقلي
ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط؛ إذ يرتبطان بإقامة الحجج العقلية، وكلاهما يوصلانا إلى استنتاجات، لكن لكل منهما منهج يختلف عن الآخر. فالتفكير الاستنباطي ينقلنا من العام إلى الخاص؛ بمعنى أن الاستنتاج الذي نتوصل إليه نتيجة القياس المنطقي أقل عمومية من المقدمة الكبرى التي انطلقنا منها، وعلى العكس منه فإن آلية الاستدلال في التفكير الاستقرائي تنقلنا من الجزئيات إلى استنتاج عام.
قبل كارل بوبر كان يُنظر إلى الاستقراء على أنه الأداة الرئيسية لبناء العلم؛ فماذا عساه يضيف الاستنباط للعلم؟، فالعلم بُني بالاستقراء لا بالاستنباط، لأن الاستقراء يمثل إضافة؛ كونه ينطلق من جزئيات وصولًا إلى تعميمات أوسع تضيف إلى بنية العلم، بينما الاستنباط لا يُمكِّننا سوى من التحقق من صحة نتيجة هي أضيق من المقدمة المعلومة التي انطلقنا منها.
فالمنهج العلمي كان يقوم أساسًا على الاستقراء، لكن بوبر لم يره كذلك.
الاستدلال العقلي عند بوبر استنباط فقط!
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
كان تمييز بوبر بين الاستنباط والاستقراء مناظرًا للتمييز بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأخير كان قائمًا على الاستقراء، وتحديدًا الاستقراء الناقص، فالتجريب ما هو في حقيقته سوى وسيلة لإضافة ملاحظات يتم التعميم منها استقرائيًا للخروج باستنتاج سليم.
ولأن الاستنباط باعتباره منهج استدلال عقلي أكثر موضوعية، وأكثر توافقية وانضباطًا مع قواعد المنطق، وقدرتنا على التحقق منه أكبر بكثير من المتاحة في حال الاستقراء، فكارل بوبر يرى الاستنباط منهج الاستدلال العقلي المقبول الوحيد!، وهاجم الاستقراء كطريقة كلية بل وكعمليات صغيرة أثناء الاستدلال. كما أن بوبر يرفض الخبرة كمصدر لصدق الاستقراء لكون البرهنة عليه لا بد أن تقوم على استدلالات استقرائية!
ومفهوم نمو المعرفة هو من أهم المفاهيم التي تشيع في فلسفة بوبر العلمية، بل هو أساسها؛ فبوبر لا يقتنع بالمنهج الاستقرائي الذي يوصلنا وفقًا لملاحظاتنا إلى نظرية واحدة، من المفترض أنها تحدد ماهية المعرفة بشكل كامل، وتعطي تفسيرًا كاملًا، لن يكون قابلًا للنمو.
في رأيي أن هجوم بوبر على الاستقراء كان غريبًا. صحيح أن نتائج الاستدلال الاستنباطي تكون يقينية لأنها استنتاج من مقدمات أكبر منها، وأن الاستقراء تظل نتائجه مشكوك فيها لأنه رد صحة وصدق القضية الكلية إلى قضايا مفردة، لكن لا يمكن أن يكون الاستنباط متفردًا بالقبول المنطقي، فما بالنا بالقبول العلمي. لكن بوبر، الذي هاجم الاستقراء لم يستطع أن يستغني عنه، وكثيرًا ما نُقِد لاستخدامه عمليات استقرائية رغم ادّعائه أنها ليست كذلك. سنذكر أمثلة عليها في حينها.
ولم يركز بوبر فيما يخص الاستقراء سوى على إثبات فشله كمنهج ومبدأ، ثم كمعيار للتمييز بين النظريات العلمية. وقدّم منهجه في الكشف العلمي للرد على مشكلة الاستقراء.
وكما يرفض بوبر المنهج الاستقرائي على أساس منطقي، فهو يرفضه على أساس سيكولوجي!، فعند بوبر “ما يصدق في المنطق يصدق في علم النفس”؛ فنحن نبحث عن إطرادات لنفرضها على العالم، لأجل أن يوافق توقعاتنا. والحقيقة أن تلك الأفكار الأخيرة عن الإطرادات أو الاعتقاد بتوقعات معينة إن لم تكن استقراءً، فماذا عساها تكون؟!
لكن بوبر يدّعي أن الميل والتوقع للإطراد في الطبيعة هو اعتقاد براجماتي، إلى حد ما فطري، يرتبط بالاختيار بين البدائل، وليس ناشئًا عن تكرار؛ فنظرًا لرفضه الاستقراء الذي يقود إلى نظرية واحدة، فإن منهجه قائم على الاختيار بين بدائل؛ حيث يفترض نظريات متكافئة أمامه يبحث في صحة كل منها، وصولًا لاستنتاج صحة أفضلها، والتي تبقى مع ذلك قابلة للمزيد من الفحص مع توفر بدائل أخرى.
وتتوفر تلك البدائل من خلال حدس العلماء؛ فعلى العالم أن يحْدِس (يفترض) أكثر من حَدْس، وهو تخمين ذكي لحل المشكلة، ثم باستخدام المنهجية العلمية الموضوعية يختار أفضلها؛ وبذا ينمو العلم بهذه الإضافة.
والصدق عند بوبر دائمًا مشكوك فيه، ودائمًا مؤقت. ينتظر ظهور النظرية البديلة أو الحل البديل.
في المقابل، يمكن القول إن بوبر لم يحترم الأساليب الأمبريقية كأساس لتقرير صحة نظرية أو مقارنة أفضلية عدد من النظريات أو الفرضيات المتكافئة كما كان يراها لأجل الوصول إلى نظرية أصدق وأشمل وأعمّ. وإن كان يرى أنه يمكن استخدام الأساليب الأمبريقية أحيانًا.
ويمكن تلخيص فكرته الأساسية في أنه دون خطوات استقرائية يمكن أن ينمو العلم، وذلك عن طريق وضع فرضيات، ثم اختبارها بأن نستنتج استنباطيًا ما يترتب على كل فرض، ومستعينين بالملاحظة أو التجربة نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، فيتعزز الفرض، أو يتم تكذيبه. فيمكن الاختيار بين النظريات المتكافئة المطروحة وصولًا للنظرية الصحيحة.
ونلاحظ هنا أن الاستنباط عند كارل بوبر ينطلق من مقدمات غير مؤكدة، على عكس الاستنباط الديكارتي؛ فمقدماته الاستنباطية هي فروض حَدْسية تخمينية مؤقتة وقابلة للتغير.
منهج الكشف العلمي
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
تبدأ خطوات المنهج الاستقرائي بالملاحظة والتجربة، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميم استقرائي أولي، وللتيقن منه يتم وضع الفروض، ثم التحقق من صدقها، وصولًا لإثباتها أو نفيها، ومن ثم يخلص الباحث إلى معرفة مُتحقق منها.
بينما خطوات منهج الكشف العلمي عند بوبر تبدأ بمشكلة ترتبط بنظرية ما، ثم يتم اقتراح حل لها عبارة عن فرض ونظرية جديدة، ثم استنباط واشتقاق قضايا قابلة للاختبار من النظرية الجديدة، ثم محاولة تفنيد وتكذيب تلك القضايا عن طريق اختبارها في ضوء الملاحظات والتجارب، ونظرًا لأنه عادة توجد فروض ونظريات متكافئة تم تفنيدها فإن الخطوة الأخيرة تكون تفضيل إحدى النظريات وترجيح إحداها.
في المنهج الاستقرائي يكون الاستدلال على صحة النظريات ومعيار التمييز بينها هو التحقق منها (استدلال إيجابي)، ويرتبط بالملاحظة والتجربة، وحساب الاحتمالات. وهذا يؤدي إلى استقرار وثبات للنظريات لا يتفق مع مفهوم بوبر عن نمو العلم، المرتبط باستمرار نقد النظريات.
في المقابل فإن منهج الكشف لبوبر لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، بل هما وسيلتان مساعدتان فقط في اختبار النظريات والفروض، وتكذيب وتفنيد غير الجيد منها واستبعاده؛ فلا بد من فرض يحْدِس به العالم يسبق الملاحظة والتجريب وليس العكس. وهو ما يعكس الجرأة والجسارة العلمية من وجهة نظر بوبر، ولكن غيره يراه تعطيلًا عجيبًا للحواس، ورفضًا لأن تكون مدخلاتها نقطة بداية في طريق المعرفة.
وسنُفصِّل في توضيح منهج بوبر، ونقارن ما لزم الأمر بينه وبين المنهج الاستقرائي.
معيار التمييز الأساسي عند بوبر (قابلية التكذيب)
كانت لبوبر طريقته التي افترضها -بديلًا عن الاستقراء- لنمو العلم والمرتبطة بمنهجه العلمي، وبمعيار القابلية للتكذيب (الدحض) الذي وضعه للتمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، وغيّر من خلاله طريقة الاستدلال على صحة النسق العلمي، من التحقق (استدلال إيجابي) إلى التكذيب (استدلال سلبي)؛ فالبيّنة (الملاحظة والتجربة) بدلًا من أن كانت تدعم فرضًا في المنهج الاستقرائي صار عليها في منهج بوبر أن ترفضه.
والاختبار العلمي للنظرية عند بوبر يتمثل في البحث عن الملاحظات المُكذِّبة؛ فإن لم تنجح البيّنة في رفض النظرية فقد نجحت النظرية في الاختبار. بل يصل الأمر أن بوبر يعتقد أن البيّنة المؤيدة لأي نظرية هي في حقيقتها كانت اختبارًا لتكذيب النظرية، ولم ينجح، وبالتالي فهي تدعم النظرية عن طريق إثباتها لصمود النظرية أمام اختبار التكذيب.
والأهم أن النظرية غير القابلة للتكذيب؛ أي التي لا يمكن التنبؤ بوقوع حادث ما يمكن أن يُكذِّبها، هي نظرية غير علمية، لأنها تفتقد شرط الاستدلال على صحتها. أما النظرية العلمية الجيدة فهي التي تحدد ما الذي لا يمكن أن يحدث لو كانت فروضها صحيحة. وتلك المُكذِّبات المحتملة للنظرية يُعطيها بوبر مصطلح “المحتوى التجريبي للنظرية”.
أما المحتوى المنطقي للنظرية فيتمثل في النتائج التي يمكن أن تُشتق من النظرية. واختبار النظرية يعتمد كثيرًا على التطبيق التجريبي للنتائج المشتقة منها. وتضم النتائج المشتقة إضافة للمُكذبات المحتملة، القضايا التي لا تناقض النظرية.
وكلما زاد المحتوى المنطقي لنظرية علمية كلما زاد المحتوى التجريبي لها “المُكذِّبات المحتملة”. أي أنه كلما أمكن اشتقاق عدد أكبر من القضايا الأساسية من النظرية كلما كانت النظرية أكثر قابلية للتكذيب.
والنزعة الشكية ظاهرة تمامًا عند بوبر، فهو لا يبحث عن اليقين، بقدر ما يسعى لتكذيب فرض، ثم البحث بعد ذلك عن فرض أفضل منه، لن يلبث أن يبحث له عن مكذبات هو الآخر. لكن شك بوبر ليس الشك المطلق الذي يدّعي استحالة الحصول على المعرفة، بل هو شك منتج ومتجدد يسعى لاختبار المعرفة وإنمائها. كما أنه يجعل العلماء في ادعائهم المعرفة الإنسانية أكثر تواضعًا.
لكن بوبر لم يفهمنا بشكل واضح ما هي الشروط التي يشترطها والتي تجعل نظرية ما كاذبة!
أسس المفاضلة الثانوية (التعزيز والصدق)
إذا وُجِدت أكثر من نظرية ذات قابلية للاختبار والتكذيب عالية، ومحتواها المعرفي واسع، فإن أساس المفاضلة عندها ينتقل عند بوبر إلى اختيار النظرية الأكثر قابلية للتعزيز والتعزيز عند بوبر يختلف عن التأييد المرتبط بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى، ونظرية أو نظريات غيرها تعاكسها. وكان عليه تحديد معيار لترجيح الصدق في ضوء أن كل نظرية من النظريتين كاذبة في بعض جوانبهما.
وكان من مرجحاته للنظرية الأفضل: إعطاء أحكام أكثر دقة تصمد أمام اختبارات أكثر دقة، وقدرة وصفية وتفسيرية أعلى للوقائع، واجتياز اختبارات، واقتراح اختبارات تجريبية جديدة، وربط مشكلات لم تكن مترابطة. وكلها معايير ترتبط بالمحتوى الأكثر ثراءً. ويؤكد بوبر أن تلك المُرجِّحات لا علاقة لها بدرجات الاحتمال أو أي شكل من أشكال الاستقراء! وهو ما لا يخلُ من شبهة هو الآخر.
“لكن تبقى قابلية التكذيب المعيار الأساسي لدى بوبر، وليست درجات التعزيز أو درجات رجحان الصدق، فالأخيران معياران تفاضليان”.
وباختصار يمكن القول إنه:
في المنهج الاستقرائي: القضايا المفردة تتجمع للتحقق وللوصول إلى القضية الكلية.
في منهج بوبر: القضايا محل الاتفاق يجب أن تكون مفردة وليست كُلية. يقوم باستغلال الاستنباط وليس الاستقراء للوصول إلى القضايا الكلية وبناء العلم؛ ذلك بأن تتجمع القضايا المفردة باعتبارها أمثلة لتكذيب القضايا الكلية، والإبقاء على القضية الكلية الصادقة منها بعد استبعاد القضايا الكاذبة.
فالنظرية العلمية تأتي من فروض العالم حول القضية الكلية وليس من استقراء الملاحظات من القضايا المفردة. ويمكن باستخدام الاستنباط التوصل إلى قضية كلية عامة باستخدام ملاحظة وحيدة.
وبوبر يستخدم الاستدلال العقلي (الاستنباطي) كما يستخدم الملاحظة والتجريب، فمصادر المعرفة عنده هي عقلية وتجريبية معًا، فلا توجد منابع مؤكدة للمعرفة، ونقد المعرفة أهم عنده من البحث في مصدرها، بالتالي هو يرفض أن يتدخل نوع المصدر في تحديد صدق المعرفة، ويصر على أن قياس الصدق يكون فقط عن طريق الفحص النقدي للمعرفة وما يترتب عليها من نتائج. كما لا يفوته أن يؤكد أن تعلم الإنسان النقد -والذي بدأ مع فلاسفة الإغريق- كان علامة فارقة في تطور ونمو المعرفة الإنسانية، وهو الذي وصل بها إلى ما هي عليه الآن.
وينبغي اللفت إلى أن منهج البحث النقدي عند بوبر أعم وأشمل من طريقة الحذف بالمحاولة والخطأ لأنه يضم إضافة إليه نمو المعرفة. ويمكن صياغة المعادلة التوضيحية الآتية:
منهج البحث النقدي لبوبر= قابلية التكذيب (معيار التمييز عند بوبر) + نمو المعرفة.
ويوجد على الانترنت مقطع فيديو شهير وقديم للغاية من زمن الأبيض والأسود للعالم الكبير ريتشارد فاينمان عن الطريقة العلمي، والتي تبدأ عنده بالافتراض، ثم يحسب ما يترتب على افتراضه، ثم مقارنة ذلك بالواقع، وتحديد ما إن كانت الفرضية صحيحة أو خاطئة بتوافقها أو عدم توافقها مع التجربة. وأيًا كان من وضع الفرضية فإن عدم توافقها يقتضي رفضها مباشرة. وطبعًا هذا يقتضي المحاولة مرة أخرى وافتراض فرضية جديدة. وهذا اتفاق كبير من فاينمان مع بوبر يوضح تأصل ذلك التصور للمنهجية العلمية لدى العلماء في العصر الحديث وليس فقط لدى فلاسفة العلم.
بوبر ونظرية الاحتمالات
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.
موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية
يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن أفكاره أولًا وآخرًا قد تبلورت للاتفاق مع نظريات راقته ورآها علمية، ونظريات أخرى لم يرها كذلك.
وربما يكون تأثر بوبر واضحًا مثلًا بنقد ديفيد هيوم للاستقراء، ولكن تأثره بآخرين في مجالات أخرى غير فلسفية لا يبدو على نفس الدرجة من الوضوح؛ لذا فإن هدفي هو تحليل لموقف كارل بوبر من النظريات العلمية التي كانت ثورة في عصره.
حل المشكلات
يبدأ بوبر منهجيته العلمية بمشكلة علمية أو فكرية تواجه صعوبات وتبحث عن حل، وليس بملاحظات متفرقة متجمعة ينبغي الاستقراء منها وصولًا لاستنتاج عام، كما هو الحال في المنهج الاستقرائي.
ويتم فرض الفروض لتفسير الظاهرة المشكلة، والفرض ما هو إلا (حَدْس) أو (توقع) لما يمكن أن يحدث تحت ظروف معينة، وبعد اختصار واستبعاد الفروض التي يظهر عدم ملاءمتها ما أمكن، نضع استنتاجات (عن طريق الاستنباط وليس الاستقراء) مترتبة على الفروض الملائمة المتبقية، وعن طريق التجريب نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، فإما أن تتفق فيتعزز الفرض، أو تختلف الظاهرة في الواقع عن الاستنتاجات المترتبة على الفرض، فيتم تكذيب الفرض.
وفي منهج بوبر، سنجد أنه حتى الفرضيات والنظريات الجيدة التي صمدت أمام اختبار التكذيب، يمكن أن تظهر أمامها صعوبات تفسيرية تؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة، فيتم دحض تلك الفرضية أو النظرية بعد ذلك.
ويعبر بوبر عن ذلك رمزيًا بأربعة رموز تمثل تدرجية المراحل التي ينتقل فيها:
P1: وهي المشكلة، ثم TT وتعبر عن وضع نظرية مؤقتة، ثم EE استبعاد الخطأ باختبار النظرية، ثم نصل إلى P2 وهي مشكلة ثانية جديدة بحاجة إلى حل جديد.
وظهور مشكلة جديدة بحاجة إلى حل هو تعبير أيضًا عن مفهوم نمو المعرفة وتطورها الدائب، وهو مفهوم رئيسي عند بوبر.
وبوبر حين يتحدث في منهجه العلمي عن المشكلات وقدرة الفرضيات على حل المشكلات هو ابن عصره؛ ففي القرن العشرين أيضًا ناقش علماء كثيرون في نطاقات علمية مختلفة أسلوب حل المشكلات، وشغلهم.
التحليل النفسي (فرويد وأدلر)
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
في مطلع شبابه عمل بوبر بمستشفى (ألفرد أدلر). وقد حكى بوبر ذات مرة أنه حكى لأدلر عن حالة طفل لم يعرضها بعد عليه، وفوجيء بوبر بأدلر يُشخص الحالة قبل أن يراها في ضوء نظريته، مدّعيًا خبرته بأكثر من ألف حالة مماثلة، ولمّا كان بوبر يعرف الطفل صاحب الحالة، ومقتنعًا بأن تشخيص أدلر غير سليم، فقد كان هذا مبعثه الأول للسخرية من الدور الذي يعطيه الاستقرائيون للخبرات والتعميم منها.
التعلم بالمحاولة والخطأ في مقابل الاستبصار والإدراك عند الجِشطلت
جوهر فكرة قابلية التكذيب عند بوبر هو التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، وهي نظرية سلوكية شهيرة في علم النفس التربوي، ظهرت في أمريكا في العقد الثالث من القرن العشرين، وكانت أفكارها تقابل وتعاكس تمامًا أفكار مدرسة الجِشطلت الألمانية التي ركزت على الاستبصار الفجائي باعتباره أساسًا للتعلم.
والتعلم بالمحاولة والخطأ هو شكل من أشكال التعلم التدريجي نكتسبه من خبراتنا أثناء حل المشكلة، وعند بوبر، هو فرض تفسيرنا على الظاهرة قبل الملاحظة، وإن ظهر أنه خاطيء نضع تفسيرًا آخر ونختبره هو الآخر! فتكذيب نظرية أو فرضية ما عند بوبر تجعل العالم يقترب من الصدق ويتعلم من خطئه.
ونظرية التعلم بالمحاولة والخطأ هي نظرية توحد طريقة التعلم بين الحيوانات الدنيا والعليا. وعلى العكس منها نظرية الجِشطلت للتعلم بالاستبصار، وهو شكل من أشكال التعلم لا يناسب إلا مرتفعي الذكاء. وقد بدا لي هذا عجيبًا أن يتبنى بوبر تصورًا بأن العلماء يتعلمون بنفس طريقة الحيوانات الدنيا والأطفال الصغار! نتيجة رفضه التام والحاسم لأي ملاحظة واستبصار للواقع تسبق فرض الفروض! وربما كان السبب أن الاستبصار ذو نزعة استقرائية واضحة فهو يقتضي أن تنظر إلى الواقع وتلاحظه قبل أن تصل إلى الحل.
العجيب أنني اكتشفت أثناء قراءتي في السيرة الذاتية لبوبر أن كارل بوهلر، وهو عالم نفس ولغوي ألماني، وأحد أساتذة مدرسة الجِشطلت، كان أستاذه في معهد التعليم بفيينا، وكان مشرفًا على رسالته للدكتوراه! وإن كان واضحًا أن بوبر قد أخذ بتقسيم بوهلر الثلاثي حول وظائف اللغة (التعبيرية- الإشارية- الوصفية)، قبل أن يضيف إليه وظيفة المُحاججة التي هي أساس النقد، إلا أنه من الواضح أيضًا أن بوبر لم يقتنع بنظرية الجشطلت نهائيًا أثناء دراسته الجامعية؛ فأهم أفكاره جاءت انطلاقًا من رفضه لمباديء الجِشطلت؛ فموقف كارل بوبر من الكشف العلمي القائم على الحَدْس، والتعلم من خبراتنا وتعثرنا في حل المشكلة هو في حقيقته مناهضة لأفكار الجِشطلت الأساسية؛ فالمحاولة والخطأ معاكسة تمامًا للاستبصار عند الجشطلت.
فهل كان بوبر شخصًا متمردًا إلى هذا الحد؟!، فقد تمرد على دائرة فيينا الفلسفية الوضعية المنطقية، وتمرد على فكر أدلر الذي عمل في مستشفاه في شبابه، وتمرد كذلك على مباديء الجِشطلت. الرجل يكاد يكون تمرد على كل ما كان أمامه في شبابه في فيينا.
وكذا فإن رفض الاستقراء هو رفض للتسليم بمبادئ الإدراك الحسي الجِشطلتي؛ فالعقل الإنساني عند بوبر يتميز بالوعي والتركيز الشديد، وليس مجرد الإدراك الحسي. كما أن الاستقراء هو رفض لنظرية الإدراك العام Common sense في المعرفة، فالفلسفة تبدأ من نقد الإدراك العام. وبوبر يرفضها لأنها ذات طابع ذاتي وليس موضوعيًا، يختلف باختلاف ذوات ومشاعر واعتقادات أصحابه؛ بينما المعرفة عند بوبر هي معرفة مستقلة دون ذات عارفة، وهي موجودة، بغض النظر عن إدراكنا لها.
والاستقراء كما نعلم يبدأ بالمُلاحظات المرتبطة بالإدراك الحسي للمُلاحظ. وكان بوبر يركز على أن إدراكنا الحسي مهما تكرر فإنه قد يقودنا إلى استنتاجات خاطئة، مثل إدراكنا لشروق الشمس يوميًا، والذي اعتقد البشر لآلاف السنين أنه يعني أن الشمس تدور حول الأرض من الشرق إلى الغرب، بينما حقيقة الأمر أن الأرض تدور حول الشمس من الغرب إلى الشرق، فتبدو الشمس تشرق.
لكن هذا لا يمنع أن بوبر كان لا يقف في عداء تام مع معطيات الحِس بقدر ما يؤكد على ضرورة نقدها والتدقيق فيها وعدم التسليم بها كما تبدو لنا، ولكنه في الوقت ذاته ينقد نظريات الإدراك لعدم أخذها الحَدْس العقلي في الاعتبار، والذي يراه لبنة التفكير العلمي. كما أنه يلفت إلى أن مدركاتنا الحسية تكون كثيرًا هي المشكلات وليست ملاحظات قابلة للاستقراء منها! كما أن تلك المدركات تكون مرتبطة بآرائنا ومعارفنا السابقة، وبالتالي يراها بوبر تفسيرات للبيئة.
الانتخاب الطبيعي (دارون)
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
مع تحفظي الشديد، ورفضي الشخصي على أسس علمية لنظرية دارون، فإنه من الملحوظ في حديث بوبر المتكرر عن نمو المعرفة الإنسانية وتطورها، تأثره الواضح فيه بأفكار دارون عن عملية التطور الحيوي.
ولا أصدق للبرهنة على ذلك من قول بوبر إنه لا فارق بين معرفة الإنسان ومعرفة الحيوان، لأن البداية المعرفية لهما واحدة، إلا أن الإنسان أكثر تطورًا. فالإنسان وفقًا لبوبر يُعدِّل ويُطوِّر توقعاته وفرضياته ونظرياته، فتزيد المعرفة. وكما أسلفنا فهو يتبنى نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ، وهي نظرية توحد طريقة التعلم بين الحيوانات الدنيا والعليا.
ملمح آخر لتأثر بوبر بالداروينية، وهو فكرة الفروض الجريئة الجسورة التي يجب أن يحْدِس بها العالم دون انتظار لملاحظات الواقع من حوله، فهي عنده أقرب للطفرات التي تفترض الداروينية –في مرحلتها الثانية بعد دارون- أن الأنواع الحية تحدثها لأجل التكيف والتطور. ونلاحظ أن الأنواع الحية هي التي تُحدث التغيير ولا تنتظر أن تفرضه البيئة! وكذا الفروض عند بوبر تسبق الملاحظة وليس العكس.
والحقيقة أن هذه النقطة تحديدًا تبدو غريبة في فلسفة بوبر، فهو رغم أنه يسمي منهجه منهج الكشف العلمي، يتحدث أحيانًا كما لو كان العالِم عندما يحْدِس بالفرض كأنه سيفرضه على الطبيعة، ويصير قانونًا!
بوبر أيضًا لم يعط اهتمامًا لمصادر المعرفة، وكان حديثه منصبًا عن كيفية نموها، وهو في هذا يشبه دارون الذي لم يحاول نهائيًا تفسير بداية الحياة، واقتصر على الحديث عن تطورها!
والقابلية للتكذيب وصولًا للنظرية الأكثر صحة ليس فقط تأثرًا من بوبر بنظرية التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، بل يظهر فيها أيضًا تأثر بوبر بفكرة الانتخاب الطبيعي لدارون، فاستمرار اختبار الفرضيات سيُطيح بالفرضيات غير الصحيحة أو يُعدِّلها لتبقى أصح فرضية، والتي هي بدورها قابلة للتطور، وهذا بشكل ما مرادف عقلي لفكرة البقاء للأصلح الداروينية البيولوجية.
فكرة أخرى يظهر فيها تأثر بوبر بتطور الأنواع الحية، وهي تسلسل المشاكل وتعدّلها وتغيّرها أمامًا وخلفًا، فنحن نبدأ بـ P1، وننتهي بـ P2 جديدة، والتي تشكل بعد ذلك بداية جديدة، ننتهي منها إلى P3، وهكذا. والعكس، فإن المشكلة التي بأيدينا نفترض أن هناك مشكلة سابقة عليها وقد تعدّلت منها، وهكذا، وهو نفس ما يفترضه التطوريون بخصوص الأنواع الحية.
كذلك كان مدخل بوبر في معالجة مشكلة علاقة العقل بالجسد مدخلًا تطوريًا. فاللغة، وهي أهم منتجات العقل، ترقّت بالإنسان من الوصف إلى النقد ثم العلم. كذا افترض بوبر أن البداية لترقِّي الوعي تكون شعورًا غامضًا عندما يواجه الفرد مشكلة متطلب حلها، ثم يتقدم ويتطور تدريجيًا، فينمو وعيه شيئًا فشيئًا من خلال تفاعل الفرد في خطوات حل المشكلة.
موقف بوبر أيضًا من التنبؤ وعدم لزومه كشرط على صدق النظرية العلمية كان له ارتباطه الواضح بنظرية التطور. كما أن رفض بوبر لتقييم النظرية العلمية على أساس درجة احتماليتها المنطقية هو تأثر بالجو العلمي في وقته، والذي وُجِّهت فيه سهام النقد للداروينية لأن درجة احتماليتها وفقًا لحساب الاحتمالات صفرية.
ولكن رغم محاولاته الكثيرة للتماهي مع نظرية التطور فقد فشلت النظرية في التلاؤم مع مقتضيات منهجه، وأهمها نمو العلم والقابلية للتكذيب. على سبيل المثال:
بوبر كان قد أسرف في الحديث عن القضايا من نوع تحصيل الحاصل، المعروفة بمغالطة الدور أو الاستدلال الدائري، وقال إن أيًا منها ليس علميًا، ونظرية دارون إحدى فرضياتها الرئيسية لا تخبرنا أكثر من أن “البقاء للأصلح ومن الواضح أن الأصلح هو الباقي”!، كما أن هذه الفكرة هي توقف لنمو العلم، ولا يوجد ما يمكن أن يُبنى عليها وفقًا لمنهجه.
كذلك فإن نظريته الأثيرة لم تنجح في تجاوز معياره الأهم لتكون نظرية علمية، وهو القابلية للتكذيب! لقد كانت غير قابلة للتكذيب في وقته، وجعل دوكنز وجماعته فرضياتها غير موجهة ومتعاكسة، فزادوا الطين بلّة، بحيث يستحيل تخطئتها، وليس هنا موضع التفصيل في ذلك.
نظرية الكم [اللا حتمية (بُور) واللا يقين (هايزنبرج)]
الاستقراء في جوهره اعتراف بإطراد الحوادث في الطبيعة، وسيطرة القوانين، حيث يمكن التعميم من قضايا مفردة وصولًا لقضية كلية. رغم قبول بوبر للإطراد في الطبيعة، لكن رفضه الاستقراء هو تعبير عن اعتقاده باللاحتمية تأثرًا بــــــــنيلز بُور وثورة ميكانيكا الكم.
إيمان بوبر باللا حتمية ظهر في كثير من المباحث في فلسفته، فرفض مصادر محددة للمعرفة. ومنهج الكشف العلمي ذاته هو تعبير عن حرية العالم في الافتراض، والتي سبق وأن ألمحنا أن بوبر يتحدث أحيانًا كما لو كان العالم سيفرض قانونه الذي حدس به على الطبيعة.
ومعروف مبدأ عدم التأكد “عدم التعين” لهايزنبرج، وهو أيضًا في إطار نظرية الكم، والذي على أساسه يستحيل أن نحدد موضع وكمية حركة الاكترون في وقت واحد.
وكان من تأثر بوبر بنظرية الكم، والتي تؤكد على اللاحتمية واللا يقين أن قدم نظريته في النزوع الطبيعي ليقدم من خلالها تفسيرًا لنظرية الكم.
بل إن بوبر يرفض حتى استخدام لفظ “اعتقادات” التي ترتبط دومًا بالاستقراء، ويرى أن الأصح استخدام لفظ “توقعات”، كونها مؤقتة ومتغيرة. فهو يبحث في الأفكار والفرضيات والنظريات ولا يرى ضرورة للاعتقاد بها.
ويصل الأمر أن يعتقد بوبر أن التنبؤ ليس من أهداف العلم، لأن النظريات العلمية عنده لا نستنتجها من الملاحظة والتجريب كما هو الحال في منهج الاستقراء، بل تُكتشف بالاستنباط من فروض العلماء، كما كان يؤكد بوبر على أن المعرفة مستقلة غير قصدية، نحاول اكتشافها دون تعمد ومن غير تنبؤ منا. لكنه في كتاباته الأخيرة لم ينفِ القدرة التنبؤية للنظريات. والنزوعات هي محاولة للتفسير والتنبؤ ولكنها قابلة للتعديل أيضًا. وكما قلنا فعنده هناك إمكانية للتنبؤ، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث. ولكن كان تأكيده الدائب على مبدأ نمو المعرفة، وإن كان يصعب التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه المحتوى المعرفي بعد نمائه.
وبوبر فوق ذلك لا يرفض السببية كما أنه لا يقبلها، وفقط هو يستبعد مبدأ السببية بوصفه مبدأ ميتافيزيقيًا.
النسبية (أينشتين)
◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
كان استبدال بوبر التوقعات بالاعتقادات ليس فقط رفضًا للحتمية، بل هو تعبير عن تصوره لنسبية المعرفة، وهو بهذا ابن عصره، ابن عصر أينشتين.
يعترف بوبر في سيرته الذاتية أن نظرية أينشتين هي التي ألهمته لوضع فلسفته في العلم. وافتراضه أن أي نظرية نقبلها الآن هي ولا شك عرضة للتغير بعد ذلك وأن يطرأ ما يُكذبها غالبًا قد تأثر بما أحدثته نظرية أينشتين عندما قلبت المفاهيم النيوتينية التي كانت راسخة رسوخ الجبال رأسًا على عقب. كما أعتقد أن فكرة القابلية للتكذيب تحديدًا تبدو من بنات أفكار أينشتين، وإن كان بوبر هو من صاغها. فأينشتاين كان قد حدّد تنبؤات في ضوء نظريته، إن لم تتفق مع حساباته، فمعنى هذا أن النظرية النسبية ستكون خاطئة.
كما ان أينشتين إضافة لذلك يُنسب إليه القول بأنه لا يوجد سبيل منطقي يؤدي إلى القوانين الكلية العامة، وإنما سبيلنا إلى ذلك حَدْس يعتمد على الشغف العقلي. وهي مقولة تعكس اتفاقًا مع أفكار بوبر، فالانطلاق يكون من حَدْس، والاستدلال عن طريق الاستنباط، وليس من ملاحظات متجمعة كما في الاستقراء. فطالما اعتقد أينشتين أن القوانين يخلقها عقل الإنسان ولا يستنتجها استقراءً من الخبرات الحسية. ومعروف عن أينشتين أنه كان يضع الفروض قبل جمع الملاحظات.
وقد التقى بوبر بكلا الرجلين؛ أينشتين وبور، في رحلته لأمريكا أوائل الخمسينات وعبّر عن سعادته بهذا اللقاء.
وأختم بأن أقول إنه ولا شك كانت لأفكار كارل بوبر أثرها الكبير في مسيرة فلسفة العلم، وأثرها على النظرة لطبيعة العلم؛ بحيث أصبحت لا تعطي قيمة كبيرة للإطرادات في الطبيعة، فهي تطورية غير ثابتة، تحْدِس بالنتائج دون البحث في المقدمات!، وقابلة للتكذيب.
بل وكان لأفكاره أثرها على الفكر البشري بوجه عام، وأعتقد أن نزعته التشككية وعدم قبوله استقرار أي معرفة مهما كانت، ورفضه الخروج بتعميمات كلية من قضايا مفردة وغيرها كان له أثر كبير في انتشار الإلحاد.
لكن، وحتى يومنا هذا، لا زال المنهج الاستقرائي الذي هاجمه بوبر فاعلًا، ولا زال الاستقراء مع الاستنباط يُشكلان معًا جناحي الاستدلال العقلي.
جج بشأن الدور الرئيسي الذي تلعبه الملاحظات، والتجارب في العلم، والذي يكمن في محاولات نقد النظريات الموجودة وتفنيدها.
وفقًا لبوبر، تطرح مشكلة الاستقراء، كما نتصورها عادة، السؤال الخاطئ: إنها تسأل عن كيفية تسويغ النظريات المقدمة، والتي لا يمكن تسويغها من خلال الاستقراء. حاجج بوبر أن التسويغ غير مطلوب على الإطلاق، وأن السعي وراء التسويغ هو «طلب لإجابة استبدادية». قال بوبر بدلًا من ذلك، ما يجب القيام به هو البحث عن الأخطاء وتصحيحها. نظر بوبر إلى النظريات التي نجت من النقد باعتبارها مؤكدة بشكل أفضل، بما يتناسب مع مقدار وقوة النقد، ولكن على النقيض تمامًا من النظريات الاستقرائية في المعرفة، فليس من المرجح أن يكون ذلك صحيحًا بشكل كبير بالنسبة إلى تلك النظريات. رأى بوبر أن السعي وراء نظريات ذات احتمالية كبيرة في أن تكون صادقة، هو هدف خاطئ يتعارض مع البحث عن المعرفة. يجب على العلم أن يبحث عن النظريات التي تكون خاطئة على الأرجح، من ناحية (وهذا هو القول ذاته أنها قابلة للتكذيب إلى حد كبير، ولذا هناك العديد من الطرق التي قد يتضح أنها خاطئة)، لكن ما زالت كل المحاولات من أجل تكذيبها فاشلة حتى الآن (مؤكدة بدرجة كبيرة)