إن سبينوزا، بعد أن كان قد انتهى من كتاب “الأخلاق” ربما أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان “حيواناً سياسياً”، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات “الرسالة السياسية”، موطداً العزم، كما فعل في تحليل الانفعالات، على أن يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أو الفيزياء:
رغبة في بحث مادة هذا العلم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أو أرثى لها، بل على أن أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو(162). ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة علم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي أن تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا أن نتصور الإنسان قبل أن يعدل التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر أن تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في “حالة الطبيعة” إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في “اللواياثان” تقريباً. وفي “جنة الشر” هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أو ظلم، صواب أو خطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا “كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً.. ولا تقاوم الصراع أو الكراهية أو الغضب أو الخيانة أو بصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة(163)”. وبمقتضى “حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أو الاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أو لغذائه(165).
ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، ربما كان يعيش بالفعل في جماعات اجتماعية. ومن حيث أن الخوف من الوحدة كان في كل الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي(166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما حدث هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أو قوتها من “الحق الطبيعي” للفرد أو من قوته. ولا ريب في أن الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل “النزوع للمحافظة على الذات(167)”- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليشمل أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. أن التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، كل هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها. ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:
دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، فعلى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه… والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون(168).
ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم “لا قانون”-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:
إن العقل يستطيع حقاً أن يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا…. أن الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً أن يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة الذهبية الوارد ذكرها في الأشعار، أو برواية مسرحية(169).
وينبغي أن يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من أن يحيوا حياة العقل:
ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه…. أن غاية الدولة حقاً هي الحرية(170).
ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أو على الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل أن تحدد الدولة أي المذهب الدينية يلقن للناس. وينتقل سبينوزا إلى بحث الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزو لويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:
المظنون أن التجارب تعلمنا أن وضع السلطة في يد رجل واحد مدعاة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يكتب له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام التركي، على حين أن أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أو الديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة… إن الاسترقاق. لا السلام، هو الذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها(171).
وقد تكون الأرستقراطية “حكومة الصفوة” ممتازة، لو لم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أو الأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أو الأشراف من كل الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن أن تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تعلمنا علم اليقين أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي أن الأمور تجري على عكس ما نريد(172).
وهكذا شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهو على سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. أن الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أو أولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على كل شيء، وما أيسر أن يفسدها الجشع والترف(173). ومع ذلك “أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية(174)” واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم(175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا “أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح(176)”. وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره(177). وما ينبغي أن يكون هناك إلا ضريبة واحدة:
الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها أن تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين مقابل إيجار سنوي… وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم(178).
وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.
سلسلة من التأثيرات
في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا أن ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بن جرسون وأورييل أكوستا. ولا بد أن دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة “الأخلاق” معبداً ممتازاً للعقل. قال سبينوزا “أن بعض الناس” يبدءون فلسفتهم من الأشياء المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله(179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.
إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التقاليد على أشد الاعجاب بهم ولو أنه في تمييزه بين عالم الأشياء العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو “الأخلاق” عند نيقوماخوس(180). ولكنه قال لأحد أصدقائه “لم يكن أفلاطون وأرسطو وسقراط كبيرون عندي(181)”. أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً كل الإنسجام مع أبيقور. أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في “الرسالة الجامعة” الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. أن قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما قال به هو تعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.
وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو (كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانو بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير والفكرة عن كتاب برونو “المحافظة على الذات(182)” وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم المعرفة الأسمى، بمعنى رؤية كل الأشياء في الله-ولو أن المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.
وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت أن يجعل الفلسفة تتمشى مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في أن أية فكرة لا بد أن تكون صادقة، إذا كانت “واضحة متميزة”. وقبل وعمم رأي ديكارت في أن العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات(183).
وواضح أن “لواياثان” هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. أن الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهو قابل لمجرد خلود غير ذاتي، أو لا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في “لواياثان” تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشتركة “للحالة الطبيعية” و “الميثاق الاجتماعي” انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من “دوائره الملكية” إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هو الذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه “الفلورنسي البالغ الذكاء”، ومرة أخرى بأنه “أعظم عبقري… بعيد النظر(184)” ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في “حالة طبيعية” وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.
وخفف سبينوزا من كل هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق(185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مفصل يتسم بالدقة الألمانية(186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولو أنه مبني على خبرة شخصية، عبارة عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إن وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التوقع الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أو الحقيقة الأساسية أو القانون الكوني، وكم من مرة أعلن عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق كل شك أو جدل أو غموض أو لبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان كل المنطلق وسيلة عقلية أو آلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم؟ وهكذا يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أو آلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يبدو حقيقياً، أو شيء يبدو مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد أن قال المنطق كلمته.
وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من كل معنى ورحمة وأمل، بل أن المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في أن كل الأشياء وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أو العلة الواحدة أو الله، وحينئذ-كما قال بيل-فإن الله هو العامل الحقيقي في كل الأفعال، والعلة الحقيقية في كل الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هو الذي قتل نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على أن هذا “أسخف وأبشع فرضية(187)” وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676-1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. أن نظرية “الجواهر الروحية المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية)” قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعلن لبينتز يوماً أن شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أو تدابير العناية الإلهية في عملية الكون(188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد “الحاد” سبينوزا انضم إليها ليبنتز “حماية لشخصه”. أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكاد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بمذهب الجبرية عنده، “وبأخلاقه” القائمة على المذهب الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أو المذهب الباطني البارز في كتاب “الأخلاق”، وقد نتخيل رد الفعل في فولتير أو ديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هو لباخ، لعبارات مثل “أن الحب الروحي العقلي لله هو نفس الحب الذي يحب به الله نفسه(189)”.
وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه “لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا(190)” أن التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على مذهب وحدة الوجود، هو بالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد أن جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل “فلسفة الوجدان” الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هو نوفاليس، أطلق على سبينوزا “الثمل بحب الله”. وقال هردر بأنه “وجد في رسالة الأخلاق” التوفيق بين الدين والفلسفة. وكتب شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن “سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس(191)” و “وارتد” جيته الشاب عندما قرأ “الأخلاق” لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جو الهدوء في كتاب “الأخلاق”، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه “لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول أن تكون سبينوزياً”، وعبر من جديد عن إله سبينوزا بأنه “العقل المطلق” وربما تسرب شيء من “نزعة المحافظة على الذات” عند سبينوزا إلى “إرادة الحياة” عند شوبنهور، و “إرادة القوة” عند نيتشه.
ولمدة قرن من الزمان عرفت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة “مؤلفاً متأخراً أسمع منه أن تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد”. وكتب الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن “حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة”. وتحدث سيرجون ايفليف عن “الرسالة اللاهوتية السياسية” بأنها “كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة” أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، قال أنه “زعيم كبير للكفرة الحديثين(192)”. وفي 1739 ارتاع هيوم-وهو من أتباع مذهب اللاأدرية-في حذر من “الفرضية البشعة” التي جاء بها “ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في كل الأنحاء(193)”. ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من “الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في “ملكة الأحلام كوين ساب” وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. ووقع جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فقال عنها “تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً”. وترجم جورج اليوت “الأخلاق” بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيو آرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدو أن الدين والفلسفة أثبت كل نتاج الإنسان على مر الزمان. أن بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.
أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما كتبها. أن الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته كل الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة أن يصور الله على أسس يمكن أن يسيغها العلم. أن نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على أن نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في كل جيل، وفي كل مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في مقابل هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال العلم والفلاسفة والقديسين. أن ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هو الذي كتب روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون “وقواعد” نيوتن. و “أخلاق” سبينوزا، وهو الذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهو الذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولو أنه صلبه، أن الإنسان فعل كل هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.