نظرية_الصراع
الصراع_الطبقي
الماركسية
الاغتراب
تَخرج المنح دائمًا من رحم المحن، وكأن آلام الحاضر ما هي إلا مخاض لولادة المستقبل! هكذا كانت الثورة الصناعية في تاريخ أوروبا والعالم في أواخر القرن الثامن عشر .. تلك الثورة طغت على اهتمامات بطل قصتنا كارل ماركس
نحتاج إلى العودة قليلًا إلى تلك الفترة لنرى جانبًا مظلمًا من بداية الثورة الصناعية. إن نظرة عابرة في الظروف السائدة تلك الأيام الأولى من انتشار المصانع تكفيك لتعلم أنها كانت فترة مفزعة بدرجة كافية لتجعل رأسك يشيب رعبًا.
في تلك الفترة، كان يتم إرسال أبناء الفقراء إلى المصانع وأعمارهم لا تتجاوز العاشرة بكثير، فأطفال مصنع لودهام Lowdham (مصنع في مدينة إنجليزية) على سبيل المثال كانوا يُضربون بالسياط، لا عقابًا عن أخطاء ارتكبوها، بل كحافز لبذل المزيد من المجهود إذا بلغ منهم التعب مبلغه آخر النهار. أما في مصنع ليتون Litton فكان الأطفال يعملون شبه عراة في برد الشتاء القارس، ليُضطروا للزحف مع الخنازير على أربع لتنظيف النفايات العالقة في الأحواض. في هذا المصنع المرعب، كان الأطفال يتعرضون لكل ما يخطر ببالك من عنف جسدي واعتداء جنسي، من مدير المصنع وصاحب العمل، الذين كانا يتفننان في أساليب تعذيب الأطفال في مشاهد تقشعر لها الأبدان.
كانت الآثار الاجتماعية للثورة الصناعية واضحة للعيان، فالعمال (رجالًا ونساءً وأطفالًا) كانوا مكدسين في المصانع كالعبيد تحت تصرف مالك المصنع الرأسمالي الجشع. إنه عهد رِقٍ وعبودية جديد، لكن في ثوب صناعي بدل الثوب الإقطاعي.
في تلك الظروف بالغة السوء، لم يكن من المتصور أن يعترض أحد على الأجور أو ساعات العمل (كان الأطفال يعملون في بعض المصانع ثلاث عشرة ساعة يوميًا) فضلًا عن الاعتراض عن المساكن غير الآدمية والحياة الكئيبة التي يعيشونها في المدن الصناعية التي تعج بروائح المصانع النتنة.
كارل ماركس – الثورة الصناعية وعمالة الأطفال
صورة تعبيرية: عمالة الأطفال في جورجيا، الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1909
وسط تلك الظروف، ظهر المؤرخ والاقتصادي جون شارلز سيسموندي Jean Charles Sismondi ليكون أول الاقتصاديين الذي تحدثوا عن تقسيم طبقي للمجتمع، فمجتمع الثورة الصناعية كان مكونًا من طبقتين اجتماعيتين تعادي إحداهما الأخرى: الرأسماليين الأغنياء (مُلاك المصانع) والعمال الفقراء.
رغم هذه الصورة القاتمة للنظام الاجتماعي التي أفرزته الثورة الصناعية، فقد كان لهذه الأخيرة الفضل في أكبر تطورات الفكر الاقتصادي؛ فقد أفرزت الثورة الصناعية اثنين من أكثر الاقتصاديين شهرة على الإطلاق.
الأول: آدم سميث، حيث كان الاقتصادي المتنبئ بمنجزات تلك الثورة وفوائدها.
الثاني: كارل ماركس، حيث كان المنذر بمساوئ تلك الثورة، منتقد السلطة التي أعطتها لملاك المصانع وما سببته تلك السلطة من فقر وقهر للعمال، فقد جاء كارل ماركس ليتلقى تلك الفكرة التي طرحها سيسموندي ويبلورها في إطار فلسفي له أبعاد مجتمعية واقتصادية وسياسية
ما لا تعرفه عن كارل ماركس !
ولد كارل ماركس Karl Marx عام 1818 في مدينة ترير Trier بألمانيا، حيث كان الابن الثاني لأسرة يهودية غنية لم تلبث أن تحولت إلى المسيحية ليحتفظ الأب هينريتش Heinrich بشهرته الواسعة في المحاماة! وعلى الرغم من انحدار كلا الأبوين من نسل أحد أشهر الحاخامات اليهود إلا أن كارل ماركس كان دائم المعاداة لتلك الأصول. كان البارون الغني ويستفالين Von Westphalen أحد جيران ماركس، وكان هذا الأخير يعتبره بمثابة عمه، أدت هذه الجيرة والعلاقة القوية بين العائلتين لزواج ماركس من ابنة البارون: جيني Jenny!.
تشرب عقل كارل ماركس العقلانية (أي الاحتكام إلى العقل والمنطق كمصدر للمعرفة والتفسير) وكذلك الرومانسية (وهي حركة فكرية نشأت كرد فعل على الثورة الصناعية، تدعو للتحرر من قيود العقل والواقع) منذ صغره، فقد نهل، من جهة، من عقلانية والده المتأثرة بمفكري فرنسا وإنجلترا، ومن جهة أخرى عرَّف البارون المثقف ماركس على روايات شكسبير وكتب المدرسة الرومانسية، كما عرَّفه على الاشتراكية المثالية.
الاشتراكية المثالية (الخيالية) هي أول تجربة اشتراكية، نشأت على يد رجل الأعمال البريطاني روبرت أوين Robert Owen في مصانع نيو لانارك New Lanark، حيث لا عقاب للأطفال، مع توفير مدارس لتعليمهم والسماح لهم باللعب وسط ظروف عمل أكثر آدمية وساعات عمل أقل. ترى الاشتراكية المثالية مواجهة الرأسمالية والحصول على حقوق العمال ولكن باستخدام طرق سلمية كنقابات العمال، فهي اشتراكية خالية من الصراع الطبقي حيث تسعى لجعل الفقراء منتجين بطرق سلمية.
سافر ماركس وهو ابن السابعة عشرة إلى جامعة بون University of Bonn لدراسة الفلسفة والأدب، لكن ضغوط والده ألزمته دراسة القانون، وخلال دراسته في الجامعة انضم ماركس إلى نادي الشعراء (وهي مجموعة تحتوي على الشباب المنشغلين بالسياسة) وكعادة التجمعات السياسية في تلك الفترة، فقد كانت الشرطة لهم بالمرصاد.
في هذه الفترة الزمنية، سبَّب ماركس لأبيه خسارة الكثير من الأموال بسبب طيشه، فقد كان كارل يشرب الخمروينفق الأموال بسفاهة، ما جعله يتعرض للسجن أكثر من مرة بسبب السُكر والثمالة في زنزانة خاصة بالجامعة. رغم ذلك أكسبت تلك المرحلة ماركس بعض الخبرات العملية والقانونية وحققت له أول انتصار سياسي خوله أن يكون رئيسًا لمجتمع الحانات في البلدة!
أما فيما يتعلق بالدراسة، فعلى الرغم من أن درجاته كانت جيدة في الفصل الأول من الدراسة الجامعية، إلا أنها سرعان ما تدهورت بعد ذلك، مما أجبر والده على نقله إلى جامعة برلين University of Berlin لأنها أكثر صرامة، ولكن محاولات الأب اليائسة لم تغير شيئا، بل على العكس فقد اضطر كارل للتنقل عشر مرات خلال الخمس سنوات التي قضاها في برلين هروبًا من القضايا المرفوعة ضده من الدائنين، وانحدر حال كارل لدرجة أنه كان مثالًا لطلاب الكلية غير المغتسلين القذرين، وانحرف عن دراسة القانون والفلسفة وأصبح طالبًا لا يرى في الجامعة سوى معسكر للتخييم!
تزامنت هذه الفترة الزمنية التي قضاها ماركس في جامعة برلين مع اكتساح جدل فلسفي كبير لجامعات ألمانيا المحافظة التي اختلفت في تقييمها لمذهب جديد كان نتيجة الإنتاج الفكري الغزير للفيلسوف الألماني فريديريك هيجل (Friedrich Hegel).
كارل ماركس – لوحة لفريديريك هيجل رسمها فنان مجهول – ويكيبيديا
لوحة لفريديريك هيجل رسمها فنان مجهول – ويكيبيديا
ماركس الفيلسوف!
أطلق هيجل نظامًا فلسفيًا ثوريًا لا يؤمن بالثبات، حيث أن فكرته قائمة على اعتبار أن التغيير هو السنة الكونية التي تُسيرالحياة، كيف ذلك؟ عن طريق مبدأ فلسفي أطلق عليه المنطق الدياليكتيكي (المنطق الجدلي)، وهو ينبني على ثلاث مبادئ:
أن كل فكرة (thesis) لها نقيض (antithesis) يعارضها وينتقدها.
أن هذا النقيض يتفاعل مع الفكرة عن طريق الحوار أو الصراع.
أن تفاعل الفكرة مع نقيضها يؤدي إلى ظهور فكرة جديدة (synthesis) .
على هذا الأساس، فكل الأفكار ستتغير عاجلًا أم آجلًا، وتُعدُّ الأفكار الاقتصادية أكبر دليل على ذلك، فكل مدرسة من الفكر الاقتصادي تؤدي إلى ظهور مدرسة معارضة لها، والحوار والصراع الفكري بين هاتين المدرستين يؤدي إلى ظهور مدارس اقتصادية جديدة تضم أفكارًا من كلا المدرستين المتصارعتين.
انقسم الفلاسفة الذين تأثروا بأفكار هيجل بعد وفاته سنة 1831 إلى قسمين:
اليساريون الراديكاليون: الذين انشغلوا بالسياسة والدين وأطلق عليهم حينها “شباب الهيجليين”، حيث انتقدوا تصورات هيجل المثالية وحرفوا فلسفته إلى منحى مادي تماما.
اليمينيون المحافظون: والذين أبقوا على أغلب أفكار هيجل المثالية بدون تحريف.
وعلى الرغم من أن هيجل توفي قبل أعوام قليلة من بدء ماركس لحياته الجامعية، إلا أن فكره أسر عقل ماركس ليصر على أن يصبح فيلسوفا، مما دفعه لتعلم الفلسفة بمفرده ليلتحق بعدها بشباب الهيجليين الذين كانت تدور بينهم نقاشات حادة حول الشيوعية النظرية باستخدام أسلوب هيجل الدياليكتيكي. وعلى الرغم من حصول كارل ماركس على شهادة جامعية من كلية الحقوق، إلا أنه كان قد فتن بالفلسفة !
ملاحظة: يجب علينا هنا أن نفرق بين مصطلحين يخلط بينهما العديد من الناس، الاشتراكية والشيوعية، فالشيوعية هي حالة مثالية يريد معتنقوها تحويل المجتمع لها، هذا المجتمع يجب أن تتوافر فيه الخصائص التالية:
أولا: المجتمع الشيوعي هو مجتمع يتساوى فيه الجميع بشكل مطلق، فلا يفرق بينهم فكر أو دين أو حالة اجتماعية، المجتمع الشيوعي هو مجتمع مثالي بلا طبقات.
ثانيا: بما أن الناس متساوون، فلا سلطة لأحد على أحد، ولا وجود لسلطة سياسية أو دولة تُسيِّر شؤون الناس.
ثالثا: لا وجود لمفهوم الملكية الخاصة في المجتمع الشيوعي؛ فكل الموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج من مزارع ومصانع في المجتمع الشيوعي هي ملكية عامة.
السؤال هنا: كيف يمكن الوصول إلى هذه المجتمع المثالي؟ كيف يتم الانتقال من مجتمع مكون من طبقين تملك إحداهما (البرجوازيين – الأغنياء) وسائل الإنتاج في حين تعمل الأخرى (البروليتارية – العمال) في المصانع كالعبيد في ظروف مأساوية إلى مجتمع شيوعي يتساوى فيه الجميع؟
كيف تنتقل الملكيات الخاصة (المصانع والمزارع والشركات) إلى ملكية عامة؟ كيف ننتقل من حالة الدولة إلى حالة اللا دولة؟
الجواب هو: عن طريق الثورة! ثورة يقودها العمال.
ثورة تُسقط الدولة وتُؤمم (التأميم هو نقل الملكيات الخاصة إلى ملكية عامة) جميع أملاك البرجوازيين، ثم تضع على رأس السلطة نظامًا سياسيًا يقود الفترة الانتقالية التي تمتد بين المجتمع الرأسمالي الطبقي إلى مجتمع شيوعي مثالي، نظام نعرفه باسم: النظام الاشتراكي.
الفرق بين الشيوعية والاشتراكية، هو أن الشيوعية هي الحالة المثالية التي يريد المفكرون الشيوعيون الوصول إليها، بينما الاشتراكية هو النظام السياسي الذي سيحول المجتمع إلى مجتمع شيوعي، ببساطة الشيوعية هي الهدف بينما الاشتراكية هي الوسيلة التي ستحققه.
جاء عام 1838 بحدث غيَّر حياة ماركس بشكل كبير؛ حيث توفي والد ماركس الذي كان يدعمه ماليًا، وأدى ذلك إلى انخفاض حاد في دخل أسرته، فلجأ ماركس إلى كتابة الروايات لزيادة دخله، لكنه لم يُنشر له أي منها خلال حياته، مما أقنعه بإتمام دراسته والحصول على شهادة أعلى ومستقبل أفضل، فبدأ في عام 1840بالتعاون مع أستاذه السابق برونو باور Bruno Bauer في تحرير كتاب “فلسفة الدين” الذي جمع أفكار هيجل التي وضحها في محاضراته، وساعده ذلك في إتمام أطروحته التي كان يرغب في الحصول عن طريقها على الدرجة الأكاديمية الأعلى، وكان موضوع هذه الأطروحة هو “الفلسفة اليونانية”.
لم تلق هذه الأطروحة إعجاب الجميع، فقد كانت مثيرة للجدل، وخاصة بين الأساتذة المحافظين في جامعة برلين، لذا قرر ماركس بدل ذلك تقديم أطروحته إلى جامعة جينا University of Jena الأكثر ليبرالية، وبالفعل منحت هيئة التدريس له درجة الدكتوراه في أبريل 1841.
اتجه ماركس بعد حصوله على درجة الدكتوراه للعمل بالصحافة، فعمل لصحيفة راينيش زايتونج Rheinische Zeitung الليبيرالية الموجهة للطبقة الوسطى، لكن عمله بها كان نذير شؤم لتغلق الصحيفة بعد عمله بها هناك بخمسة أشهر فقط لانتقاده قيصر روسيا، ليتوجه بعدها ماركس لباريس ويختلط إثر ذلك بالشباب الشيوعيين، وليبدأ في مغازلة الشيوعية بكتاباته، ويلتقي بفريديريك إنجلز Friedrich Engels لتبدأ بعدها أكبر التحولات الفكرية في حياته.
كان فريدريك إنجلز أحد هؤلاء الشباب، وكان ابنًا لأحد الأثرياء ملاك مصانع النسيج. كانت حياة إنجلز مليئة بالتناقض، فهو في الصباح رأسمالي من طبقة الأثرياء يعمل مديرًا في مصنع والده ويتقاضى راتبًا كبيرًا، أما المساء فله شأن آخر، فقد كان يمضيه وهو يقرأ لهيجل والأدب الشيوعي، هذا التناقض لم يزعج إنجلز كثيرًا، فلم يكن يمانع أن يحتسي كأسًا من أجود أنواع الخمر في صحة الطبقة العاملة. وعندما لم يكن يطارد الثعالب في صيده كما يفعل بنو جلدته من الأثرياء، كان يطارد النساء!
كان تأثير إنجلز على ماركس كبيرًا، فقد بدأت فلسفة ماركس تتخذ شكلًا أكثر قوة ووضوحًا، حيث دمج ماركس المنهج الديالكتيكي المستمد من أفكار هيجل عن كيفية التغيير، مع المنهج المادي (والمبني على أن الأفكار تستمد قوتها من واقعيتها).
أطلق ماركس على هذا المزيج الجديد: مصطلح المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية ! ومن هنا قام ماركس وإنجلز، باعطاء البشرية فهما ماديًا للتاريخ، من خلال وضع مذهب وفلسفة شاملة عن التطور لتشمل الحياة الاجتماعية وتطبيقها على تاريخ وتطور المجتمعات، وكان أكبر تعبير عن هذا المذهب الجديد هو ما حدث بعدها.
كارل ماركس والبيان الشيوعي: ثورة بلا قائد
أصدرت عصبة الشيوعيين Der Bund Kommunisten (حزب سياسي شيوعي أنشئ في لندن عام 1847) عام 1848 بيانًا بأهدافها وأطلقت عليه اسم “البيان الشيوعي” حيث كتبه اثنان من أبرز قادتها وهما ماركس وإنجلز وتزامن صدور هذا الكتيب مع اندلاع ثورات كبرى شملت أغلب القارة الأوروبية.
استهل البيان بكلمات حماسية تنذر بالخطر:
“إن شبحًا يطارد أوروبا، ذلك هو شبح الشيوعية، وقد عقدت الدول الكبرى حلفًا مقدسًا لإبعاد هذا الشبح: وهو حلف يشترك فيه البابا والقيصر“.
وقد كان عام 1848 فعلًا عامَ رعب بالنسبة للنظام القديم السائد في أوروبا (القائم على الملكية الخاصة والنظام الإقطاعي) حيث هب العمال في باريس في ثورة بلا قائد ولا تنسيق، وكذلك كان الأمر في في إيطاليا وبرلين وعدد من دول أوروبا التي انتفضت فيها الجماهير!
وانطلاقًا من تحليل مادي للتاريخ، يشرح البيان أن الطبقات الاجتماعية هي نتاج التطور الاقتصادي وأن مسار التاريخ كله يقوم على الصراع بين الطبقات، ففي مجتمعات الرقيق القديمة، كان هناك صراع بين العبيد وملاكهم، ثم انتقل الصراع في النظام الإقطاعي بين الفلاحين وملاكِ الأراضي، ثم أنتجت الثورة الصناعية صراعًا آخر، لكن هذه المرة كان صراعا بين العمال وملاك وسائل الإنتاج، هذا الصراع ضروري ولا يمكن تجنبه، أما نتائجه فتكون إما تغييرات ثورية لصالح طبقة ما أو خراب مشترك للجميع.
لذلك كانت ألفاظ البيان واضحة:
“إن الشيوعيين يحتقرون إخفاء آرائهم وأغراضهم، إنهم يعلنون في صراحة أنه لا يمكن تحقيق غاياتهم إلا بقلب جميع العلاقات الاجتماعية القائمة وبقوة، فلترتعش الطبقات الحاكمة من الثورة الشيوعية، إذ ليس لجماهير البروليتارية (العمال) ما تفقده سوى أغلالها“.
لكن شيئًا لم يتغير!
فلم يثمر هذا البيان ثورة شيوعية كما كان المتوقع، بل كانت نتيجته مجرد صيحة تولدت من خيبة الأمل واليأس! فكان النظام القديم القائم على حق الملوك المقدس هو المسيطر والمتغلل في أنحاء أوروبا بل وفي روسيا نفسها التي كانت تعتبر حجر الزاوية في الاستبداد الأوروبي!
كانت الثورات التي قادها العمال ثورات بلا قادة تفتقر إلى التنظيم والهدف؛ لذا فقد حققت انتصارات مبدئية ثم وقفت لا تدري ما الخطوات القادمة، فاستجمع النظام القديم قوته وعاد ليحتل مكانه بقوة لا تقهر. انتهت الثورات وضربت الجماهير بالمدافع، كانت أحداثًا دامية وعنيفة! فقد كان الفكر الماركسي تحديًا خطيرًا للطبقات الحاكمة لأنه يستهدف تغيير الواقع، خاصة مع الانتشار السريع له نتيجة التحرر من القيود الكنسية في الدول الصناعية المتقدمة كروسيا وألمانيا.
رأس المال : ملحمة لا كتاب
في خمسينيات القرن التاسع عشر، أصاب الفقر ماركس وعائلته، حيث عاشت أسرته في شقة رخيصة بواحدة من أفقر مناطق لندن. نقل بؤس تلك المعيشة مخبر الشرطة المكلف بمراقبته قائلًا: “كل شيء قذر، كل شيء مليء بالتراب، أصبح الجلوس عملًا خطيرًا في ذلك المنزل، حيث أن الكراسي لها ثلاثة أرجل فقط!“، وعن ماركس نفسه قال: “مضياف للفقراء، يحيا حياة الغجر، الاغتسال وتغيير الملابس الداخلية من الأمور النادر القيام بها، دائم السُّكر والتسكع إلا إذا كان لديه عمل يقوم به فكان يصل الليل بالنهار”.
العجيب أن ماركس لام الطبقة البرجوازية على الحال المتردي الذي وصل إليه بالرغم أن الأموال التي كانت تأتيه من صديقه إنجلز ومن عائلة زوجته جيني وكذلك من مقالاته المنشورة كانت تكفيه لحياة رغيدة وسط الطبقة الوسطى! في تنصل كامل من المسؤولية.
كتاب الرأسمال لـ كارل ماركس
كتاب الرأسمال لـ كارل ماركس
على إثر ذلك، لم يجد ماركس مهربًا إلا دفن نفسه في أكوام من النصوص الاقتصادية بالمتحف البريطاني في لندن، فقرأ ماركس كل ما وقعت عليه يداه من كتب اقتصادية، وطوال ثمانية عشر عامًا (1850-1867) كان يكتب مسودات كتابه الذي أسماه: “رأس المال”Das Kapital .
كان ماركس دقيقًا وبطيئًا جدًا في الكتابة، فرغم تشجيع إنجلز له على تغييره لإيقاع كتابته البطيء إلا أن ذلك كان بلا جدوى، فقد استغرق ماركس عامين كاملين ليصدر المجلد الأول من كتابه، ليفارق الحياة عام 1883 قبل أن ينشر باقي أجزاء الكتاب، لكن لحسن الحظ، فقد جمع صديقه إنجلز الكثير المسودات التي لم ينشرها ماركس بعد، لينشر المجلد الثاني من كتاب صديقه الراحل عام 1885 والمجلد الثالث عام 1894، أما المجلد الرابع والأخير فلم ينشر إلا في عام 1910.
كتاب رأس المال ضخم عظيم يضم 2500 صفحة، استشهد فيها كارل ماركس بأكثر من 1500 كتاب، وتتنقل في صفحات كتابه بين أسلوب رياضي مليء بالدقة، وآخر عاطفي مليء بالغضب والضيق!
كان الكتاب ملحمة يقف فيها بطلا دراما الثورة الصناعية وجهًا لوجه: العامل والرأسمالي.
قسم الكتاب إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول: مدخل إلى الرأسمالية
يوضح فيها ماركس فكرته عن السُّخرة، في تحليل نقدي للاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي المتجذر في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
القسم الثاني: قواعد الحركة الرأسمالية التي ستؤدي حتمًا لانهيارها
حيث شرح فيه هذه القواعد وكذلك الأفكار الرئيسية المؤسسة لاقتصاد السوق، حيث فسَّر كيفية تحقيق القيمة والفائض، وهو ما يُمثِّل أهمية كبيرة لفهم البناء النظري لحجة ماركس بأكملها.
القسم الثالث: التكاليف النفسية للرأسمالية
حيث فسِّر فيها كيف يزداد بؤس الطبقات العاملة في النظام الرأسمالي
المصدر: أحمد عبدالعزيز /موقع abeqtisad.com
إسهاماته الفكرية
مقال: فارس عبد الاله النعيمي / المصدر: الحوار المتمدن
كان كارل ماركس من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع وصاغ نظرياته في حقبة شهدت تطور السوسيولوجيا تطورا لم يُعهد له نظير من قبل. ونظريات ماركس متعددة الاهتمامات بقدر تعلق الأمر بمادة موضوعها ، وذات طابع مركَّب لكنها رُغم تنوعها فهي في مجملها نسيج متكامل ومتسق. وأنتج ماركس أعماله في فترة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة. ففي اواخر القرن التاسع عشر كانت الثورة الصناعية قوة الدفع الرئيسية في التغيرات التي امتدت آثارها الى الشطر الأعظم من القرن العشرين. وراح ماركس يمارس نشاطه النظري في غمرة هذه التحولات. وانطلقت بتأثير نظريته حركات اجتماعية واسعة في عموم اوروبا ، وباسمها دُشنت فترة من البناء الاجتماعي مع انتصار الشيوعية البلشفية في روسيا القيصرية وجيش التحرير الشعبي بقيادة ماو تسي تونغ في الصين.
هذا المقال محاولة لتقييم واحدة من أهم نظريات ماركس ومساهمتها في السوسيولوجيا المعاصرة ، تلك هي نظرية الاغتراب (أو الاستلاب). ولقد صاغ ماركس نظريته بدراسة اغتراب الانسان في اطار عملية الانتاج. وتهدف هذه المحاولة الى ان تبين ان نظرية ماركس في الاغتراب ما زالت تحتفظ بصحتها في مجتمع اليوم حيث تسببت التطورات الاجتماعية والتكنولوجية في اتساع الاغتراب ليشمل نواحي اخرى من حياة الانسان والمجتمع الى جانب عالم العمل والانتاج.
لفهم النظرية الماركسية فان على عالم الاجتماع ان يتناول بالدرس والتقييم أوسع واهم ما كتبه ماركس في تحليله لقوانين التطور التاريخي لا سيما نظرية انقسام المجتمع انقساما تراتبيا الى طبقات وما يترتب على ذلك من لامساواة. ويشير عمل ماركس في هذا المجال الى المبادئ العامة التي انطلق منها لصوغ الجوانب الاخرى من نظريته. ولقد شخص ماركس طبقتين صاعدتين في زمنه لكنهما طبقتان مشتبكتان في صراع من خلال الدور الذي تتولاه كل منهما في عملية الانتاج. ويقول ماركس ان نمط الانتاج الرأسمالي نمط دينامي بما أثبته من قدرة على التجديد والابتكار واستخدام التكنولوجيا لحل ازماته ، ولكنه نمط انتاج مدمِّر في الوقت نفسه ، بما تسببه الرأسمالية ، بوصفها الطبقة المهيمنة في هذه العلاقة ، من فقر في نوعية الحياة الاجتماعية وانحطاط على المستوى الأخلاقي. ويؤكد ماركس ان ميدان الصراع بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الذي درس قوانينه ، هو علاقات الانتاج حيث العامل خالق الثروة والرأسمالي مَنْ يتصرف بها ويدفع للعامل الأجر الذي يحددِّه مقابل ما يبذله من عمل. وهذه العلاقة بين العامل والرأسمالي علاقة تناحرية وذات طبيعة استغلالية وهي الاساس الذي تنهض عليه نظرية وجود طبقات ذات مصالح متناقضة ، وأهم من ذلك أخطر ما يترتب على هذه العلاقة غير المتكافئة: الاغتراب.
يميط ماركس اللثام عما يصفه بالآثار المدمِّرة لنمط الانتاج الرأسمالي على الانسان. وهي آثار تطاول قدرات الفرد الذهنية والعلاقات التي يدخل فيها مع الآخر. ويوضح ماركس ان الاغتراب هو انفصام كينونة الانسان عن ذاته ، وعن عملية الانتاج ، وعن الآخر وعن المنتوج الذي يخلقه بقوة عمله. فان حرية الانسان في الاختيار وطبيعته الانسانية الحقيقية تتعرضان الى التشوه ، وتُضفي الرأسمالية على نشاطه طابعا انسانيا كاذبا بما تعيد انتاجه من علاقات غير متكافئة. وما يبقى من الانسان بعد هذه العملية هو قشرة من ذاته الأصلية ولا يعود يمارس نشاطه الحياتي الطبيعي بل يصبح الانسان المغترب “تجريدا”.
يغدو الانسان “تجريدا” عندما يفقد كل معنى واحساس بما هو حقيقي وملموس ، ويقع في خواء مطلق حيث يُختزَل نشاطه الطبيعي الى عمل من أجل لقمة العيش فيما يُحكِم الرأسمالي سيطرته على مصير مَنْ يبيعه قوة عمله. وفي موقع العمل يصبح الانسان العامل أسير عمليات رتيبة تجرده من انسانيته. وينطوي هذا عادة على انتاج جزء من كلٍ أكبر ، ليس له أي معنى عند العامل لأنه لن يملك الجزء ولا الكل ولن يكون قادرا على استخدام نتاج عمله وثمرة مجهوده. وهذا هو الاغتراب الاقتصادي وأحد العناصر الرئيسية في نظرية الاغتراب الماركسية.
الشكل الآخر من الاغتراب هو الاغتراب الناجم عن علاقة الانسان بالانسان. ويقول ماركس في “مخطوطات 1844″ ان موضوع العمل يصبح….تشييء حياة البشر”.
بفصم موضوع العمل عن تحكم الانسان به يُفصَم الانسان عمليا عن واقعه الذي لا غنى عن التعاطي معه ليطور الانسان نفسه في مجرى هذه العلاقة بوصفه كائنا بشريا. ولولا هذا الشكل من الاغتراب لكان بمقدور الانسان ان يصنع منتجاته في حال من الانسجام والتناغم معها ومع نشاطه المنتج لها لأن امكانات العقل البشري لا تتحرر وطاقاته الابداعية لا تتفتح إلا بخلق اشياء رائعة الجمال وبتنوع لا محدود ، كما يقول ماركس.
ويمتد الاغتراب الى علاقة الانسان بالانسان نظرا الى ان ما يُنتَج من سلع في موقع تفاعلهما خلال عملية الانتاج ، يكون هو الصنم الذي لا يعلو عليه اعتبار آخر سوى الربح. وبانخراط الانسان في هذا العمل الرتيب المخدِّر لقواه الفكرية ، المُهين للعقل والجسد على السواء ، نظرا الى الاقدام عليه بدافع القسر وغياب الخيارات الاخرى ، لا بد ان يكون ناتج عمل الانسان غريبا عن العامل الذي خلقه ومُلك الرأسمالي الذي يشتري قوة عمله. وبذلك يُسهم العامل في اعادة انتاج العلاقات الاجتماعية ذاتها التي تظلمه. والرأسمالي نفسه ايضا يكون موضوع اغتراب في موقع العمل حيث صلته الوحيدة بالنشاط الانتاجي هي ما يحققه من ربح في الحصيلة النهائية. وبما ان العمال لا يستطيعون ان يقيموا علاقة انسانية طبيعية مع الرأسمالي فان الرأسمالي ايضا لا يستطيع ان يقيم علاقة كهذه معهم. وهذا الاغتراب ناجم عن حقيقة ان الرأسمالي هو الذي يدفع اجور العمال ويحدِّد ساعات عملهم.
من اسباب القوة في نظرية الاغتراب التي صاغها ماركس انها تسلح العالم السوسيولوجي بفهم للعمليات والعلاقات التي تشكل لحمة المجتمع وخاصة في موقع العمل. وماركس يُسلط الضوء على القيم الاجتماعية والاخلاقية التي تحدِّد كيف يُعامَل الانسان المنتِج وكيف يتصرف في موقع الانتاج. كما تشدد النظرية على ان انهاء هذا الاغتراب سيحرر امكانات الانسان وطاقاته ويتيح له ان يستعيد تلك العلاقات التي تجعله مخلوقا فريدا ، وينتشلها من انحطاطها في ظروف الرأسمالية الحالية. وفي الوقت الذي يحتفي فيه ماركس بمساهمة التصنيع في تطوير حياة الانسان المادية ومستواه الفكري فانه يلعن العلاقات الرأسمالية التي حولت العمل الى نشاط يجرد البشر من انسانيتهم ويهدد فرديتهم المتميزة وتقدم الانسانية عموما. ولكن محلليين ينتقدون هذا الجانب من نظرية الاغتراب بوصفه عنصرا متناقضا فيها منطلقين من الموضوعة القائلة ان فكرة التقدم والفردانية ذاتها ازدهرت تحديدا في حقبة التصنيع مع صعود الرأسمالية ، وان المجتمع المنتِج بات مجتمعا أكثر دينامية في انتاجه الذي يدلل عليه ما شهده العالم من ابتكارات واختراقات في اطار الثورة التكنولوجية منذ مطالع القرن الماضي.
رغم الصورة القاتمة التي ترسمها نظرية ماركس عن اغتراب الانسان بجريرة العلاقات الرأسمالية فقد صاغها صاحبها ايمانا منه بأن الانسان الذي صنع اغترابه بنفسه قادر على اقصائه من حياته بتغيير العلاقات الكامنة في اساس الاغتراب. ولا أقل من ثورة اجتماعية عالمية ، بحسب ماركس ، قبل ان يبلغ الانسان مستوى من الوعي يقنعه بالغاء العلاقات اللامتكافئة والفوارق الاجتماعية ليعود الانسان الى حالته الطبيعية. وحينذاك سيبزغ نمط انتاج جديد ومعه حياة جديدة. وما شهده العالم في القرن العشرين من تجارب لم يُكتب لها النجاح ، لاسيما في الاتحاد السوفيتي السابق ، كان حالة من الجمود نشأت بعد تدمير العلاقات السابقة دون بناء العلاقات التي حدَّد ماركس معالمها لالغاء الاغتراب. فلم ينشأ مجتمع المساواة اللاطبقي وحرية الخيار والاشتغال على موضوع الانتاج بانسجام معه ومع الذات ، وبالتالي لم يتوفر العلاج المطلوب لاقصاء الاغتراب من حياة الانسان.
من نقاط الاختلاف بين ماركس والقطبين الآخرين في مدرسة علم الاجتماع ، ماكس فيبر واميل دوركهايم ، العقلانية التي اعتمدها كل منهم ، وخاصة فيبر. فعقلانية ماركس تقوم على ما يفعله الانسان ليحقق هدفا ما في الحياة في حين ان عقلانية فيبر تقوم على الحساب البارد والتقنية الصرفة. يضاف الى ذلك ان إعلاء القيم الانسانية واضح التأثير في طرح ماركس لنظرية الاغتراب في حين يجادل فيبر بأن عملية الانتاج مباحة قانونا ما دامت هناك علاقة تعاقدية بين طرفين حرين هما العامل ورب العمل. كما ان النقد/رأس المال هو عند فيبر أداة شديدة الدقة للحساب الاقتصادي والتجارة ، وبالتالي ليس هناك اغتراب إذا كان العمل خيارا حرا وعملية العمل نشاطا يُمارَس بالتراضي.
تتمثل مساهمة نظرية الاغتراب في سوسيولوجيا العصر بتوفيرها اطارا منهجيا يمكِّن عالِم الاجتماع من ممارسة نشاطه البحثي بتطبيق هذه الفكرة على مجتمع القرن الحادي والعشرين ، ليبين بصفة خاصة كيف وَجَد الاغتراب طريقه الى نواحي عديدة من مجتمع اليوم ، وليس في موقع العمل وحده. فالمجتمع الرأسمالي محكوم بمواضعات ومعايير وهيمنة ايديولوجية تتعامى عما تخلقه علاقاته من مشاكل فيما تعمل قيمه على تمويه معضلات حقيقية بواجهات زائفة. وأحدى المعضلات المتأصلة في الرأسمالية ، الاغتراب الذي لا يقتصر في مجتمع اليوم على علاقات الانتاج بل يعمل على تعهير ثقافة المجتمع ذاتها. ومن الامثلة على ذلك الاغتراب الذي يتعرض له الشباب. فان قوى الثقافة السائدة من الفاعلية بحيث إذا تمرد الشباب والمتعلمون من افراد المجتمع على واقع مجتمعهم نتيجة لارتفاع درجة وعيهم ، تكون لدى الايديولوجيا المهيمنة القدرة على تحويل هذا السخط والتمرد الى سلعة تسوِّقها بدافع الربح. وهنا تبدأ اقتصاديات الاغتراب بالعمل من خلال استثمار هذه المادة الخام واستغلالها. ويصح هذا بصفة خاصة على صناعة الموسيقى الغربية حيث تظهر مجموعات وأنماط فنية وتمثيلات ذات اسماء تعبر دلالاتها عن التمرد والغضب ومشاعر الاحباط بسبب عجز الشباب واغترابهم عن الأجيال الاخرى وعن بعضهم بعضا تحت وطأة العلاقات اللاانسانية السائدة. وبهروب الشباب الى الموسيقى بحثا عن وسيلة تُنسيهم اغترابهم فانهم يصنعون صورة جديدة للواقع مادة بنائها الأسماء والعلامات والصرعات الموسمية التي تنتجها موسيقاهم. وبلغ اغتراب الشباب مبلغا باتت معه الموسيقى صاحبة الكلمة الحاسمة في إملاء سلوكهم وتكوين قيمهم وتحديد ملبسهم وحتى ارساء مبادئ اخلاقهم. وحصيلة هذا الاغتراب عند الشباب صورة عن الواقع والحياة تبدو هي الطبيعية على حساب الحقيقة التي ينزل عليها ستار الاغتراب فتغيب عن انظارهم. وسواء أكانت نقمتهم على العلاقات الاجتماعية السائدة جذرية او عابرة فان هذا لا يعود هو القضية بعد ان شفطتهم في فلكها دورة حياة لا تعمل إلا لتحقيق مزيد من الربح للشركات التي تسيطر على صناعة الثقافة. وأزمة الشباب في مجتمع اليوم تسلط الضوء على اتساع رقعة الاغتراب الذي تحدث عنه ماركس وتؤكد ان مساهمة نظريته تتيح لعالم السوسيولجيا دراسة نواحي من المجتمع كان يُعتَقَد انها افلتت من قبضة الاغتراب. ولكن هذا لا ينتقص من تركيز ماركس على شكل الاغتراب الذي عالجه في نظريته ، أي الاغتراب الناجم عن علاقات الانتاج.
في دراسة ميدانية لأحد معامل الحديد والصلب أظهر البحث السوسيولوجي استمرار الاغتراب من خلال علاقة العمال مع بعضهم بعضا (Mollona, 2005). ففي هذه الحالة الملموسة كان العمال موزعين في مجموعات منفصلة حسب الوظائف المناطة بهم. فكانت مجموعة تمارس عملا متخصصا واخرى تؤدي عملا رتيبا على خط التجميع. ولا يتبدى التعارض بين طبيعة عمل المجموعتين في تقسيم العمل والاجور (أجور اعلى للعمال المتخصصين) فحسب بل وفي الامتيازات والصلاحيات الممنوحة للعمال المتخصصين تجاه اقرانهم غير المتخصصين وفي التعامل مع المتدربين. وتوصلت الدراسة الى ان هذا يخلق تراتبية واحساسا بالتنافر والتنافس غير الصحي بين العمال. وعمليا فان هذا الوضع يخلق شريحتين من العمال المغتربين عن بعضهم بعضا والمغتربين كلهم عن الحقيقة رغم اشتراكهم في بيع قوة عملهم وتشاطر البؤس الناجم عن حياة الكدح لحساب الرأسمالي دون مقابل يعادل مجهودهم. وبالتالي فان هذه الدراسة تبين ان الاغتراب شرط مقيم على امتداد تاريخ الرأسمالية بصرف النظر عن تغير الظروف التي يحدث فيها.
ثمة سوسيولوجيون يرون ان الماركسية عاشت دهرها وعفا عليها الزمن وان التحولات الجذرية التي اقترنت بالثورة التكنولوجية واساليب الادارة دفعتها الى أزمة لم يفلح الماركسيون في حلها. ولكن سوسيولوجيين آخرين يؤكدون انه حتى على افتراض وجود أزمة في الماركسية فلابد ان يكون لها علاج وحل مثلها مثل نقيضها الرأسمالية التي اثبتت قدرة لافتة على ايجاد الحلول لأزماتها الواحدة تلو الاخرى.
ويمكن القول ان نظرية الاغتراب والأشكال الحديثة التي يتبدى فيها تؤكد ان الماركسية ليست حية فحسب بل وان هذا الجانب من النظرية يواصل تطوره ويحقق اختراقات جديدة في ميادين السوسيولوجيا. ولعل السوسيولوجيين الذين يقولون بأزمة الماركسية ، أنفسهم يعانون من الاغتراب ازاء ما يظهر من نظريات جديدة تفكك فكرة الحقيقة ذاتها مثل ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ، الخ. ويتحمل هؤلاء السوسيولوجيون مسؤولية الانتقاص من الحقيقة وطبيعة الانسان بتشكيكهم في جدوى تطلعه الى حياة افضل وقدرته على بناء مجتمع يقرِّبه من هذا الهدف. وهم عوضا عن اداء رسالتهم بتشخيص العقبات التي تعترض طريق الانسان في مسعاه النبيل هذا ، ينظرون الى المجتمع على انه بلغ نهاية تاريخه والى التاريخ نفسه على انه وهم. وتذهب محاجَّة هذه المدرسة الى ان من العبث محاولة صوغ سرديات كبرى تطمح في فهم العالم وتفسيره ثم تغييره. ويؤكد سوسيولوجيون مثل غيدينز Giddens وهابرماس Habermas وكاستيلس Castells وبيك Beck على سبيل المثال لا الحصر ، ان نظريات مثل الماركسية تدفع عجلة التقدم وتحفز التغيير الايجابي في المجتمع.
ثمة حقيقة لا مراء فيها بصرف النظر عما قاله ماركس وما آلت اليه محاولات ترجمة ما قاله في الواقع ، وهي ان لا وجود لمجتمع طوباوي مع الاغتراب أو من دونه. ولكن السؤال هو ما إذا كان اليأس والاغتراب قد باتا بلاء ملازما لحياة البشر بحيث لم يعد الانسان يؤمن بقدرته على تغيير العالم نحو الأحسن أو الحلم بمثل أعلى في اقل تقدير.
المصادر
Ollman, B. 1971, Alienation: Marx’s conception of man in capitalist society, 2nd edition, Melbourne, Aus. Cambridge University.
Johnson, F. 1973 Alienation: Concept, term and meaning. New York, USA, Seminar Press Ltd.
Joachim, I. 1968. Alienation, from Marx to modern society. Boston, USA, Harvester Press.
Ratansi, A. 1982. Marx and the division of labour. Hong Kong, China. Macmillan Press Ltd.
Abercrombie, N. 2004. Sociology. Cambridge, UK. Polity Press Ltd.
McLelan, D. 1977. Karl Marx selected writings. New York, Oxford University Press.
Mandel, E. Novack, G. 1970. The Marxist theory of alienation. New York, Pathfinder Press Inc.
Journals
Tacussel, P. 1989 (spring). Criticism and understanding of everyday life. Current sociology, the sociology of everyday life. Vol 37 (1), pp. 61-70.
Halnon, K. B. May 2005. F****the mainstream music, in mainstream. Current sociology. Vol 53 (3). P. 441-464.
Mollona, M. Jun 2005. Steel production and technological imagination in an area of urban deprivation. Critique of anthropology. Vol 25 (2), pp. 177-198.