يُعدْ أبن رشد من الفلاسفة التوفيقين الذين اجهدوا أنفسهم للتوفيق بين الدين والفلسفة أو بين (النقل) و (العقل) فهو يرى أن ثمة توافقاً قائماً بين (الحكمة) وبراهينها العقلية وبين(الشريعة) المستندة على الوحي والنص، وفي هذا المنهج تتأخى (الحكمة) و (الشريعة) ويتزامل (العقل) مع (النقل) .
وأبن رشد يؤكد هذا المنهج بقوله: »اذا كانت الشريعة حقاً، وداعية الى النظر المؤدي الى معرفة الحق ، فأنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لايؤدي النظر البرهاني الى مخالفة ماورد في الشرع فأن الحق لايضاد بالحق بل يوافقه ويشهد له« .
وقد استخدم ابن رشد التأويل لرفع التعارض والتناقض بين النصوص الشرعية وبين الحقائق اليقينية التي تجئ ثمرة البرهان عند أهل النظر والمشتغلين بصناعة الحكمة. وهو يقطع بصلاحية التأويل في كل المواطن والمواقف التي يبدو فيها التعارض بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان، والتأويل عنده: »هو أخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهة أو بسببه او لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الاشياء التي عددت في التعريف اصناف الكلام المجازي« .
ورغم أيمانه بأستخدام التأويل لرفع التناقض بين النصوص الشرعية والبراهين الفسفية، الا أنه لايتوسع في التأويل كثيراً الى الحد الذي يؤدي الى الغاء معنى النص القرآني، ذلك أنه كان راسخاً في العلوم الشرعية والعلوم العقلية معاً لذا لم يقع في مثل ماوقع غيره كالفارابي وابن سينا من مخالفات صريحة لقواعد التفسير وأصوله حين أسرفوا في تاويل النص الالهي، وبذلك تقول: »والفلسفة تفحص عن كل ماجاء به الشرع فأن أدركته استوى الادراكان، وكان ذلك اتم في المعرفة، وان لم تدركه اعلمت بقصور العقل الانساني عنه وان يدركه الشرع فقط .
ويبدو لي أن أبن رشد في قوله بالتأويل حاول رفع التداخل بين المصطلحات اللفظية واتجاهتها وبين مضامينها وابعادها، واعطاء كل لفظ مضمونه الخاص به على مستوى البحث المطلوب والغاية المنشودة منه، أي أنه ادخل المجازات اللغوية للحد من الاشكالية الفكرية والمنهجية للتوفيق بين (النقل) و (العقل)، وزواج بين المباحث الفلسفية والمباحث اللغوية في البرهنة الطبيعية، والالهية، والكلامية، والتفسيرية، ولايسقط الاتصال بينها نظراً للتداخل بين هذه العلوم ، لذا استخدم التأويل باعتباره السبيل الوحيد لازالة التعارض الذي يبدو احياناً بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان العقلي، وهو يؤكد ذلك بقوله: »ونحن نقطع قطعاً ان كل ما أدى اليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضية لايشك فيها مسلم ولايرتاب فيها مؤمن« .
وابن رشد لايخرج من ضوابط النص الشرعي لذا فالتأويل عنده ماشهدت له (الفاظ) الشرع وظواهر نصوصه وبذلك يصرح في كتابة فصل المقال: »أنه ما من منطوق به الشرع مخالف بظاهره لما أدى اليه البرهان، الا اذا اعتبر وتصفحت سائر اجزاءه، وجد في الفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التاويل، او يقارب ان يشهد، ولهذا المعنى اجمع المسلمون على انه ليس يجب ان تحمل الفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا ان تخرج كلها عن ظاهرها بالتاويل« .
وهو بالتزامه بالضوابط الشرعية في تفسير النصوص انما ينطلق من اصول عقيدته الاسلامية وباستخدامه المقدمات العقلية الموصله الى النتائج البرهانية انما يؤكد ايضاً بان الشرع بذاته قد اوجب النظر الفلسفي واعمال العقل، فالاعتبار الشرعي يقضي باستخراج المجهول من المعلوم، لذا فهو يرى ان التاويل والاستنباط في حالة الدلالة افضل الوسائل لمعرفة الله سبحانه وتعالى فيقول »واذا تقرر ان الشرع اوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس اكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، او بالقياس، فواجب ان نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.
وبين ان هذا النحو من النظر، الذي دعا اليه الشرع، وحث عليه، هو أتم انواع النظر باتّم أنواع القياس، وهو المسمى برهاناً« .
ورغم اعتماد ابن رشد منهج التاويل في تفسير الالفاظ التي لايمكن حملها على ظاهرها الا انه كان يتبع قواعد التفسير المعروفة ولايتعسف بأستخدام التأويل بأدخال تأويلات بعيدة عن الجو البياني للأيات القرآنية وأنه يفسر تلك الايات كما هو المتبادر في فهمها في أول نظرة. وهو يرى أن تلك الطريقة هي الطريقة المثلى في فهم معاني الايات القرآنية، لذلك فهو يطلق على هذه الطريقة أسم (الطريقة النظرية)، وهي التي أمر الله تعالى بها الناس في كتابه الكريم لأنهم يدركونها بنظرهم وهي طريقة الجمهور والخواص معاً، فالجمهور يفهمون ظاهرها والخاصة من العلماء والحكماء يتعمقون في معانيها، فالاختلاف بينهما في التفصيل ليس الاّ .
وابن رشد في كلامه عن فهم الناس لمعاني الالفاظ الشرعية والبرهانية يذكر ثلاثة أصناف منهم :
الاول: الخطابيون، وهم الجمهور الغالب ممن ليسوا من أهل التأويل، وهؤلاء تستجيب للوعظ والارشاد والادلة الخطابية وأنها غير مهيأة للاستدلال المنطقي المنظم، وتلك العقول موجودة في جميع الناس وهم السواد الاعظم الذين لايستجيبون الا للخيال والعاطفة.
الثاني: الجدليون، وهم اصحاب التأويل الجدلي سواء كان ذلك بالطبع فقط أو بالطبع والعادة، وهؤلاء اصحاب العقول المنطقية التي تكتفي بالبراهين الجدلية.
الثالث: البرهانيون، وهم أهل التأويل اليقيني بالطبع والصناعة، أي صناعة الحكمة، وهؤلاء اصحاب العقول القادرة على الاستدلال بالادلة البيانية المحكمة للوصول الى نتائج يقينية ضرورية، وهذه العقول لاتتوفر الا لقلة من الناس اصحاب الموهبة وهم الخواص.
أن فهم القرآن الكريم ووجوه اعجازه في رأي أبن رشد ميسر للاصناف الثلاثة فكل منها يتبين الحق فيه بمايتفق مع قدرته العقلية فليس هناك مشكلة في فهم الايات المحكمة فالجميع يفهمونها ويدركون معناها بشكل واضح، أما الايات المتشابهة فلا يفهمهاالا الفلاسفة وحدهم لما فيها من أمثال ومجازات فهم اصحاب العقول الذين يستطيعون أدراك التسلسل الدقيق للاستدلال، وهم الذين يفهمون المعنى الاعمق، أما الجمهور فانهم يفهمون ظواهر النصوص ومعناها الحرفي فقط، وهؤلاء لايسمح لهم بالنظر الى المعنى البعيد الخفي لتلك الايات لانهم لا يستطيعون سبر اغواره فيتزعزع ايمانهم .
ويتضح ان منهج ابن رشد يقوم على التوفيق بين (الشرع) و (العقل) لاثبات وحدانية الله تعالى والوهيته الحقة، وانه استخدم المجاز اللغوي والتأويل المنضبط لتفسير النصوص المقدسة، لذا فانه لم يجار الفلاسفة وطريقتهم بأثبات الوحدانية عن طريق نفي الكثرة المتعددة، وأنه تعالى لايتركب من أجزاء، اذ انه تعالى لو كان كذلك لاحتاج الى كل جزء من أجزاءه للضرورة أذ لايوجد الكل الا بوجود اجزاءه. والاحتياج علامة الحدوث، والله تعالى منزه عن ذلك. والفلاسفة بذلك نفوا أن يكون مع الله الهاً آخر .
كذلك فأن أبا الوليد لم يتابع المتكلمين في برهانهم لأثبات الوحدانية في الذات الالهية عن طريق : نفي ( الكم المتصل)* و( الكم المنفصل)**، وأثباتهم الوحدانية في الصفات بنفي (الكم المتصل) و (الكم المنفصل) أيضاً وأثبات الوحدانية في الافعال بنفي (الكم المنفصل) فقط .
وأبن رشد أنما أستخدم مسلكه التوفيقي وأستدل بذات الآيات القرآنية الكريمة التي أستدل بها الطرفان (الجمهور والمتكلمون) لكنه أخضع تلك الآيات للتأويل العقلي المنضبط بضوابط الشرع واللغة، منتقدا طريقة المتكلمين خاصة في الاستدلال لما أدت اليه من تفريع لامبرر له.
وهذا ماسنبحثه فيما بعد، بعد استعراض أدلة الجمهور والمتكلمين لأثبات وحدانية الله تعالى والوهيته وهي ذات الادلة التي أستدل بها وبرهن عليها وفق منهجه التوفيقي.