هناك كذبة ساذجة تشيع في الأوساط العلمية الغربية مفادها أنّ الإمام أبا حامد الغزالي (450-505 هـ) كان صاحب دور كبير في انحطاط الأمة الإسلامية علميّا وفكريّا، والسبب أنّه حارب الفلسفة، هكذا بهذا التعميم!
يخرج علينا عالم الفلك الأمريكي نيل ديجراس تايسون (Neil deGrasse Tyson) ليزعم بأنّ الإمام الغزالي كان يقول إنّ الفلسفة والرياضيات من عمل الشيطان ويحرّمها، ولينسب له سبب انهيار الحضارة الإسلامية! وليزعم في محاضرة أخرى أنّ للغزالي تفسيرا للقرآن (ولا يوجد للغزالي تفسير) وأنه قال في هذا التفسير إنّ التعامل مع الأرقام هو من عمل الشيطان، وأنّ هذا قد قطع الطريق على أي تقدّم في الرياضيات!
وبغضّ النظر عن كون تايسون يسرد الكثير من الأكاذيب؛ كتحريم الغزالي للرياضيات وكلامه عن الأرقام وأنّ له تفسيرا للقرآن وغير ذلك.. بغض النظر عن هذه الأكاذيب التي لا حقيقة لها، فقد كان للإمام أبي حامد الغزالي تعاملٌ علمي جدّا مع الفلسفة، بدأه في كتابه “مقاصد الفلاسفة” والذي حاول فيه عرض مضمون الطرح الفلسفي في عصره بشكل موضوعي قبل نقده، ثم أكمل هذا الجهد العلمي في كتابه “تهافت الفلسفة”، الذي ذكر فيه ما للفلاسفة من علوم: هندسية ومنطقية وطبيعية وإلهية، ثم بيّن أنّ مجال النقد هو علومهم الإلهية حيث قال: “..انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردّا على الفلاسفة القدماء مبيّنا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلّق بالإلهيات”.
“
بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف
“
وليتأكد لدينا أنّ الغزالي لم تكن لديه مشكلة مع علوم الفلاسفة الرياضية، بل مشكلته مع الظنّ والخبط في مجال الإلهيات، نجده يقول في كتابه بعد ذلك عنهم: “ويستدلّون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقيّة عن التخمين كعلومهم الحسابية؛ لَما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية”.
لم يكن الغزالي إذن عدوّا للرياضيات، بل واضحٌ ممّا نقلنا عنه أنّه كان يعتبر علوم الفلاسفة الحسابية “متقنة البراهين نقيّة عن التخمين” كما وصفها. ومن يقرأ الغزالي في الحقيقة سيعلم أنّ هذا الاتهام له لا يخرج إلا ممّن لم يقرأ للغزالي ولم يعرف أنّه أحد عباقرة الأمة الإسلامية، فقد كانت له ثقافة علمية ممتازة قياسًا على عصره، ينبئ عنها ما ذكره في كتابه “المنقذ من الضلال” حين كان يحكي تجربته في الشك بالمحسوسات، حيث قال: “وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار، ثم الأدلّة الهندسية تدلّ على أنه أكبر من الأرض في المقدار”.
وقد بيّن الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” خلاصة رأيه في الفلسفة وأقسامها، فلم يجعلها شيئا واحدا كما يُخيّل لمن يجهل كلامه، بل ميّز بين أقسام علوم الفلاسفة فجعلها ستّة أصناف: الرياضية والمنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية والخُلقية. وقال عن علومهم الرياضية: “وليس يتعلّق شيءٌ منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها”.
بل قدّم لنا درسًا علميّا مهمّا حين تحدّث عن إحدى الآفات المتعلّقة بقسم علومهم الرياضية، والتي وصفها قائلا إنها: “نشأتْ من صديق للإسلام جاهل، ظنّ أنّ الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كلّ علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادّعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أنّ ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشكّ في برهانه، لكن اعتقد أنّ الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبّا وللإسلام بغضًا. ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”. اه.
فكيف يُقال بعد قراءة هذا الكلام للغزالي إنّه كان سببًا في انحطاط العلوم وإنّه كان يحرّم الرياضيات ويقول إنّها من عمل الشيطان كما يزعم تايسون؟! إنّ تايسون وأمثاله يعتمدون على أنّ الناس ينسبون الفلسفة للعقل والتفكير والإبداع، ولذلك يُعتبر كل ناقد للفلسفة في عداد المتخلّفين المتحجّرين من أعداء العقل والتفكير والإبداع! وهي نظرة موغلة في السطحية والتفاهة، لا يحملها إلا أصحاب الثقافة الضحلة.
“
كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية
“
لقد كان الغزالي واعيًا بطبيعة الفلسفة في عصره، ولم يكن يناقش كلام الفلاسفة في الإلهيات عن جهل منه، بل بعد دراسة كلامهم وتقسيم علومهم على النحو الذي ذكرناه، وقد أخبر بهذه الدراسة للفلسفة في كتابه “المنقذ من الضلال” قائلا: “فعلمتُ أنّ ردّ المذهب قبل فهمه و الاطلاع على كنهه رميٌ في عماية، فشمّرتُ عن ساق الجدّ في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرّد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنوّ بالتدريس والإفادة لثلاثمئة نفر من الطلبة ببغداد. فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرّد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكّر فيه بعد فهمه قريبًا من سنة، أعاوده وأردّده وأتفقّد غوائله وأغواره، حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل، اطلاعا لم أشك فيه”. اه.
قارن الآن بين كلام الغزالي هذا وكلام تايسون السطحي في محاضراته، لتعلم مقدار الهوّة بين من تكلّم بعلم وعدل وبعد دراسة وتدبّر استمرّت لثلاث سنين، وبين من لم يكلّف نفسه قراءة صفحة واحدة من كتاب للغزالي حتى يعلم أنّ ما يتّهمه به لا حقيقة له!
لقد كان الغزالي في الواقع أكثر علميّة في تعامله مع الفلسفة من الكثير من فلاسفة الإسلام الذين وُصفوا بالعقلانية والإبداع. وإنّها لظاهرة غريبة جدّا أن توصف العقلية العلمية للغزالي، وهي الأقرب لمنهج التفكير العلمي، بالجهل والتخلّف، وأن يُنسب إليها انحطاط العلوم الإسلامية، بينما يوصف بالعقلانية مَن ابتلع كلام الفلاسفة السخيف في الإلهيات، كابن سينا والفارابي وأمثالهم ممّن سُمّوا زورًا “فلاسفة الإسلام”!
سبب ذلك في نظري هو تلك النظرة الساذجة الشائعة بأنّ الاشتغال بالفلسفة دليلٌ على العقلانية، وأنّ معارضتها دليل على التخلّف. ولو اطلع أصحاب هذا التفكير السطحي على ما تابع به الفارابي وابنُ سينا فلاسفةَ الإغريق في نظرية الفيض، وكلامهم عن العقول العشرة، وأنّه قد فاض عن العقل الأول عقلٌ ثان ونفس فلكية وجرم سماوي، وعن العقل الثاني فاض عقلٌ ثالث ونفس فلكية وجرم سماوي.. هكذا وصولا إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال في العالم، وكلامهم عن تسلسل الموجودات، ومحاولاتهم الساذجة في التوفيق بين هذا الهراء كلّه وبين العقائد الإسلامية.. أقول: لو اطلعوا على كتابات هؤلاء الفلاسفة في المسائل الإلهية لهالَهُم مدى السخف المتمثّل في البتّ بأمور غيبية دون دليلٍ من علم أو وحي!
“
إذا كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات
“
ولقد درسنا بعض نصوص الفارابي في الجامعة قديمًا، فتعجّبنا ممّا حشا به كتابه من زعمٍ لأمور غيبية حول نشأة الخلق والفيض وتسلسل الموجودات دون أي دليل عليها، فحاصل كلامه فيها أنّه يدّعي هذه الأمور الغيبية ولا يجلب دليلا عليها، لا دليلا علميا ولا دليلا من الوحي، ولا شكّ أنّ هذا الكلام مخالف للمنهج العلمي. ومن هذا المنطلق كان الغزالي معارضًا شديدا للفلاسفة، لا لعلومهم المستندة إلى براهين علمية كالرياضيات، بل لخبطهم وتخليطهم في الإلهيات، ولذلك وجدناه يقول عنهم في “تهافت الفلاسفة” إنّهم “..لا تثبّت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنّهم يحكمون بظنّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين”.
لقد كان منظور الغزالي للفلسفة أقرب للعلم من الفلاسفة الذين انتقد مذاهبهم، وكانت له مع ذلك فلسفته الخاصّة التي عرضها في عدّة كتب لعلّ أهمها رسالة “المنقذ من الضلال”، والتي يستعرض فيها تجربته العلمية والروحية، وما انتهى إليه من يقين.
مع التأكيد على أنّنا وإنْ كنّا ندافع عن الغزالي في موقفه من العلوم، فهذا لا يعني أن نقبل منه كل ما أنتجه من معرفة، فقد وقع هو كذلك في بعض ما عاب الفلاسفة من أجله، ونافح كثيرا عن قبوله لكلام الفلاسفة في الأخلاقيات، ورأيناه يحشو كتبه بالأحاديث الموضوعة والقصص المنكرة، فنتج عن ذلك أنّه استند إلى مصادر غير علمية وبعيدة عن الوحي في بناء فلسفته وتصوّره الإيماني والأخلاقي.
لكنّا نردّد مقولة الإمام الغزالي ردّا على تايسون وأمثاله ممّن يتّهمونه بمحاربة العلوم: “ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرّضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرّضٌ للأمور الدينية”.